28‏/12‏/2012

الأسس الإقتصادية للقوة العسكرية : دراسة في فكر ادم سميث (3/2)



أسس القوة العسكرية في "ثروة الأمم" 

عندما نشر آدم سميث كتابه “ثـروة الأمــم” في عام 1776, كان الوقت مناسباً في بريطانيا,للنقد السليم لنظريات وأسس السياسة المركنتيلية. كانت ثورة المستعمرات الأمريكية قد إجتذبت الأنظار والإنتباه الى أصول الأساليب والقوانين والنظم التجارية التي جاءت في أعطاف سياسة بريطانيا الإستعمارية. والواقع أنه كانت هناك مشاعر قوية تعارض هذه الحروب التى بقيت قائمة لعدة قرون, كما توافرت مشاعر السخط على هذا العبء الثقيل من ديون الحرب, هذا فضلاً عن أنه, بعد إنتصار بريطانيا على فرنسا في حرب “السبع السنين” La guerre de Sept Ans ). لم يعد هناك من ينافس إنكلترا لا في القوة التجارية, ولا في القوى البحرية. على أنه بسبب التزايد في الدراسة التشكيكية للفلسفة السياسية والإقتصادية و “التي تعلّمت بها الأمم أن مصلحتها الخاصة تتوقف على إفقار جيرانها”, فقد بدأت المشاعر تنمو وتتزايد مشيرة إلى أن بريطانيا قد وطّـدت مركزها كقـــوة عالمية. ولهذا فإنه من الممكن أن توجد سياسة أكثر تحرراً وأن "ثروة أي أمة مجاورة * مهما كان خطرها في الحرب والسياسة * لها بالتأكيد فائدة أكبر في التجارة".

وكان هناك أيضاً الشعور المستفيض بمضار هذا النظام السائد والذي مكّن من أن تنتفع الحقــوق الموطدة للطبقـــات بإتحادهـــا وتناسقهــا مع المصالح الحقيقية بل وحتى المصالح المتوقعة للأمة. وقد وجه سميث حملته ضد هذه المضار عندما هاجم طبقة التجار عامةً والشركات التجارية خاصةً؛ لما تقوم به من إحتكار يوفر ويخـــدم مصالحهـــا الخاصة فقط ويضر بألف طريقة مختلفـــة بالمصلحــة العامة للوطن؛ ولإستخدامها كامل سلطات الحكومة, وإفساد سير العدالــة من أجل أعمـالها, ولتشجيعهـا الحرب, لأنهـا أمــــة يحكمهــــا رجـال دولـــــة من أصحــــاب الحوانيت أو تحت سطوتهم, رجال من هذا النوع فقط, يكون بإمكانهم إستخدام دماء مواطنيهم وثروة بلدهم من أجل بناء إمبراطورية مركنتيلية والدفاع عنهـا. ويضيف سميث في وصفـــــه المـوضوعي للـروح الإحتكـاريــــة الضيقة التي يمارس بها التجار أعمالهم : “إن الأطماع الشخصية للملوك والوزراء لم تكن ــ في القرنين السابق والحالي ــ أكثر إضرراً بهدوء وسلم أوروبا من هذا التنافس وهذه الغيرة من جانب التجار والمنتجين الصناعيين. إن عنف وظلم الحكام شر قديم, ولكن هذا الجشع الرخيص وهذه الروح الإحتكارية التي تبدو واضحة في التجارMerchants)) والمنتجين Manufacturers) )الذين ليسوا ولا ينبغي أن يكونوا حكاماً للجنس البشري, هذا الجشع الرخيص يمكن بسهولة جداً أن نحول دون تسببه لأي ضرر إلا لهؤلاء التجار والمنتجين الصناعيين وحدهم”.

وقد نقد سميث مبادىء “النظام المركنتيلي” بشكل عنيف, ووجه حملته على نظريات التجاريين الخاصة بالنقد Currency) ) بما في المبدأ القائل إن “كل وطن في وضع يتوقع فيه حرب يجب أن يحاول, في وقت السلم, أن يراكم الذهب والفضة, والإحتفاظ بهما لوقت الحاجة من أجل دعم حربه” بما يسميه لاحقاً “صندوقاً للحرب”. ولكن آدم سميث تقبَّل أن على بريطانيا أن تستعد للإنفاق على الحرب, ذلك لأنها كدولة متحضرة وغنية تكون أكثر تعرضاً لأن تُهاَجم أكثر من أن تُعرض غيرها من الأمم للهجوم؛ ولم يغفل سميث كذلك عن أن بريطانيا, بسبب مستعمراتها الكبيرة ولمصالحها التجارية الواسعة ما وراء البحار, تحتاج إلى الإحتفاظ بقوات عسكرية ومنشآت بحرية, ولكنه رفض إعتبار صناديق الحرب ضرورية أو حتى نافعة للدفاع عن الوطن؛ ذلك لأنه “لا يُحتفظ بالأساطيل والجيوش بواسطة الذهب والفضة بل بالسلع الإستهلاكية. فالوطن الذي من دخله السنوي المنتَج من صناعته الوطنية ومن دخله السنوي المنتَج من زراعة أرضه ومن يده العاملة, ومن سلعه الإستهلاكية المنتَجة محلياً والذي يستطيع أن ينتج فائضاً يدعم به شراء السلع الإستهلاكية من ممالك بعيدة؛ هذا الوطن يستطيع أن يقوم بالحروب خارج أراضيه”. وقد ثبت هذا بما قامت به بريطانيا من إعداد لحرب السبع سنوات (1756*-1763) من فوائد إتساع نطاق صناعاتها, ومن الزيادة الكبيرة في منتجاتها الخارجية. بطريقة أخرى, فإن آدم سميث قد إعتقد بأن قدرة أمة ما على الإنفاق على الحرب إنما تقاس أحسن ما تقاس بقدرتها الإنتاجية.

وإذا ما ربطنا هذا التفكير بعصرنا الحالي, فإن بناء إقتصاد قوي يعني أن يكون هذا الإقتصاد ذا هيكلية تعطيه القدرة على إنتاج فائض لتصديره إلى الخارج. وهذا هو الهدف المنفعي المفترض من التجارة الخارجية, وليس العكس أي بناء سياسة إقتصادية تشجع الإستيراد إن كان من سلع وخدمات أو تحويلات من الذهب والفضة (التحويلات النقدية في عصرنا الحالي) وهذا ما قاله أيضاً آدم سميث حين تحدث عن الفوائد الرئيسية للتجارة الخارجية.

تمويل مصاريف الحرب ومعارضة سميث للإستدانة
بالإضافة إلى معارضة سميث لإنشاء "صناديق الحرب"


which maintained the foreign wars) (The Fundsفإنه عارض أيضاً قروض الحرب, كوسيلة أساسية لتمويل الحروب. وقد فضل بدلاً من هذا فرض الضرائب الفادحة ؛ إن الحروب التي تدفع نفقاتها تدريجياً تتم من وجهة عامة بسرعة أكبر, كما أنها تنفذ من جانب الحكومات بأسلوب تدريجي نظراً لأنها بدون دافع قوي, ثم إن الأعباء الثقيلة للحرب التي لا يمكن تجنبها تعطل الناس من تطلبها عندما لا تكون هناك أية مصالح حقيقية للقتال من أجلها.

ويحظر آدم سميث اللجوء إلى الإستدانة, حتى في زمن الحرب, لما لذلك من إنعكاسات سلبية على النمو (croissance La ) الإقتصادي وعلى السيادة الوطنية قائلاً: “إن إزدياد المديونية التي تسبب إضطهاد الوطن في الحاضر وربما القضاء عليه على المدى الطويل, كانت متشابهة بنتائجها في الأوطان الكبيرة الغابرة في أوروبا”. وقد كشف ســميــث * مستبقاً بذلك تجربة نيكــــر * عن حال الركود الذي “تنوء تحت ثقله فرنسا ... على الرغم من أهمية ثرواتها الطبيعية كلها”. غير أن سـميـث لم يكن يدرك بالتأكيد أن الدولة سوف تلجأ إلى الاقتراض. “عندما تقع الحرب, ليس لدى الحكومات القدرة ولا الوسائل لزيادة عائداتها على قدر ازدياد حجم إنفاقها ... سهولة الإستدانة تخلّصها من التعثر الذي يمكن أن يتسبّب به في تلك الحال هذا الخوف وهذا العجز”. وللعديد من المواطنين المتفرجين من بعيد على الصراع, هذه الحرب ليست سوى استرسال مسلٍ طالما أنه لا يكلف الكثير.

“في الإمبراطوريات الواسعة الأرجاء, فإن سكان العاصمة, والذين يعيشون في المقاطعات البعيدة عن مسرح العمليات الحربية, قلما يشعرون, بغالبيتهم, بمخاطر الحرب. غير أنه تستهويهم لذة القراءة في الصحف عن الحملات التي تقوم بها أساطيلهم وجيوشهم. وهذه السلوى تمثل بالنسبة اليهم تعويضاً مقابلاً للفرق البسيط بين الضرائب التي يدفعونها بسبب هذه الحرب, وتلك التي اعتادوا أن يدفعوها في زمن السلم”.

يكفي أن تتمكن هذه الضرائب الإضافية من تغطية فوائد الدين العام كي يصبح تمويل الحرب أمراً ممكناً. وتغدو المسألة وكأن للضريبة “أثر عمل الرافعة

Un effet de lier) ) ــ كما نقول في علم الإقتصاد المعاصر ــ على مجموع الموارد التي يُمكن أن تتوافر للدولة. الفكرة هذه, عبر عنها سميث بكل وضوح حين ذكر بأن السلطات الحاكمة” تجد نفسها قادرة على رفع مداخيلها النقدية سنوياً الى أكبر مبلغ, عبر فرض أقلّ زيادة ممكنة من الضرائب”. عند ذلك يصبح مفهوماً تماماً كيف يمكن, بشكل مصطنع (Artificiellement ), تخفيف العبء الضريـبي.

في كافة الأحوال, ينبغي أن يتم تسديد الدين يوماً ما بشكل أو بآخر..., حتى لو كانت له صفة الاستمرارية. إذ إن الفوائد المترتبة والمتصاعدة باستمرار, سوف تشكّل في النهاية مبلغاً من الضرائب لا يستهان به. ومن الممكن عندئذ اعتبار هذه المدفوعات بدون تأثير “إقتصادي*كلي” Macroéconomique) ) طالما أن ذلك عبارة عن تحويلات بين مجموعتين من قطاع العائلات في البلد نفسه (هذا بالطبع إذا اعتبرنا أنه لا يوجد دائنون من خارج الإقتصاد الوطني). بتعبير آخر, ليست الديون العامة, كما وصفها ميلون , “إلاّ نوعاً من الديون التي تدين بها اليد اليمنى لليد اليسرى”. إلا أن آدم ســميــث من جهته, ينتفض بعنف ضد وجهة النظر هذه, واصفاً إياها “بسفسطة” النظام المركنتيلي المضلِِّلَة(54)؛ ففي رأيه, إن إنتزاع الأموال من الملاّكين وأصحاب الرساميل لصالح أصحاب الإيراداتRentiers) ) أو “المرابين”, يُعتبر مجازفةً بالثـــروة الوطنية: “إن أي إجراء, أو عملية انتزاع من أصحاب المصدَرين الكبيرين للدخل (الأرض ورؤوس الأموال), أي من الطرفين اللذين لهما بشكل مباشر مصلحة بأن تكون كل قطعة أرض صالحة للزراعة بصورة دائمة وكل جزء من رأس المال موظفاً بأفضل وجه, إذ إن القسم الأكبر من المداخيل الوطنية تأتي من هذين الموردين؛ إن إنتزاع الأموال من هذين الموردين, أي دائني الدولة, لمصلحة طبقة من الناس, الذين لا يهمّهم مصادر الدخل الوطني؛ إن عملية من هذا النوع سوف تؤدي بالضرورة مع الوقت إلى إهمال الأراضي وإلى تشتت رؤوس الأموال وهروبها إلى الخارج”.

وبالرغم من أن كتاب “ثروة الأمم” قد بات المرجع المقدس للمدرسة الإقتصادية الكلاسيكية, وأن آدم سميث قد إستمر منبعاً للتبصر لهذه المدرسة خصوصاً ولعلم الإقتصاد عموماً, فالحقيقة أن آدم سميث, في الواقع, لم يتنكر لأسس معينة من المدرسة المركنتيلية, إذ إعترض على بعض وسائلها أو أساليبها, ولكنه وافق على الأقل على واحدة من غاياتها هي الحاجة لتدخل الدولة في المسائل الإقتصادية إلى المدى الضروري اللازم للأمة. وكان أولئك الذين إتبعوه أكثر إيماناً بحرية التجارة من سميث نفسه, والمقصود المدرسة الليبرالية. وقد كتب سميث يقول: “إن الواجب الأول للملك هو حماية المجتمع من عنف وغزو وتسلط المجتمعات المستقلة الأخرى, ومن الممكن الوصول إلى هذا فقط بواسطة القوة العسكرية. ولكن تكاليف ووسائل إعداد هذه القوة في وقت السلم وإستخدامها في وقت الحرب تتباين وتتغير بتغير الأحوال المختلفة للمجتمع في كافة مراحل تطوره”.

لقد باتت الحرب ــ وهي أنبل الفنون على الإطلاق ـ أكثر تعقيداً وأكثر نفقات تبعاً للتقدم الصناعي للمجتمعات, وتبعاً لإختلاف التنظيم العسكري ووسائل تدعيمه وإمداده في الدول التجارية والصناعية عن هذا التنظيم ووسائل تدعيمه في المجتمعات الأقرب الحال إلى البدائية. بمعنى آخر, فإن صور التنظيم الإقتصادي هي التى تقرر ما يستخدم من آلات الحرب كما تقرر طبيعة العمليات الحربية, ومن أجل هذا لا يمكن تجنب القول إن القوة العسكرية تبنى على أسس إقتصادية.


سياسة القوة وقوانين الملاحة

بما يتعلق ببريطانيا, فان عقد السياسة المركنتيلية كان “قوانين الملاحة” ولربما كانت السياسة المركنتيلية في مظاهرها الأخرى لازمة ضرورية في فترة مبكرة من تطورها الإقتصادي. ولكن في نهاية القرن الثامن عشر أصبحت إنكلترا متقدمة صناعياً بدرجة كبيرة, وكانت الإجراءات الوقائية أقل أهمية بالنسبة لها مما هي بالنسبة لفرنسا أو للولايات الإلمانية, وكانت تستطيع, إذا لزم الأمر, ألا تفرض أي رسوم على معظم الصناعات؛ ذلك لأنها لم تكن تواجه منافسة قوية لا في أسواقها المحلية ولا في أسواقها ما وراء البحار. والواقع أنها في ما بعد, واعتباراً لمصلحتها الخاصة, قد نفضت يديها من هذه السياسة الوقائية ؛ ذلك لأنها عرفت أن التجارة الحرة هي سلاح الأقوى, ولكن القوة البحرية شيء آخر, وكان من الواجب أن ينظر الى كل ما يتعلق بها تبعاً لمبادىء أخرى تكون هي الأساس للحكم والتقدير. كان أمن بريطانيا ثم أمن إمبراطوريتها يتطلبان أن تتوافر لها على كل خطوط الملاحة في المحيطات سيادة غير مهددة, بل وأن تعمل في غير هوادة ضد أية قوة تحاول تهديد هذه السيادة. وبالإضافة إلى هذا, فان التكوين الصناعي والمالي والتجاري قد قام على أسواقها وموارد تموينها من وراء البحار, وكانت البحرية التجارية تعتبر بالنسبة لبريطانيا رأس مال إقتصادياً كما أنها كانت عاملاً ضرورياً في أمنها العسكري وعلى الأخص في عصر كان من الممكن فيه أن تحول السفن التجارية إلى سفن حربية بسرعة. فالأسطول والتجارة البريطانية مرتبطان معاً بصلة وثيقة قوية ويؤثر كل منهما بالآخر تأثيراً تعاونياً كبيراً, ولا يمكن أن يُفصل أيهما عن الآخر. فتجارة بريطانيا كانت هي الأم التي ترعى رجال بحريتها, ورجال بحريتها هم عصب الحياة لأسطولها, وأسطولها هو وسيلة الأمن والوقاية لتجارتها, والاثنان معاً كانا الثروة والقوة والأمن لبريطانيا.

ولهذه الأسباب فان الإختيار الحقيقي لوجهات نظر آدم سميث في السياسة المركنتيلية وسياسة القوة, انما يقوم على أساس موقفه من قوانين “الملاحة والمصايد”, وقد نص سميث : “ان الدفاع عن بريطانيا يتوقف بدرجة كبيرة على عدد سفنها وملاحيها Its Sailors and Shipping) ), ولهذا فان قانون الملاحة كان جهداً موفقاً لإعطاء بريطانيا وملاحيها حق إحتكار تجارة بلادهم”. ويتابع سميث فيقول: “عندما صدر قانون الملاحة, قام بين بريطانيا وهولندا عداء عنيف بالرغم من انهما لم تكونا في حالة حرب معاً, لقد بدأ هذا في حكومة البرلمان “الطويل الأجل” الذي وضع الأسس الأولى لهذا القانون, ثم لم يلبث أمر هذا العداء أن اشتد في عهد كرومويل وشارل الثاني, ولهذا فانه ليس من الخطأ بأن نقول بأن نظم هذا القانون قد جاءت نتيجة للكراهية والعداء الشعبي, انها مليئة بالروية والعقل وكأنها قد جاءت كلها من المعين الذي لا ينضب من الحكمة. ان الكراهية الشعبية قد هدفت في ذلك الوقت الى الغرض نفسه الذي لا بد وأن تكون الحكمة قد أوصت به, ألا وهو اضعاف القوة البحرية الوحيدة التي كانت تستطيع أن تعرّض أمن بريطانيا للخطر”.

“ان قانون الملاحة ليس في جانب التجارة الخارجية, ولا الى جانب اطراد الرخاء أو الثراء الذي يمكن أن ينتج عنها, ولكن لما كان الدفاع أكثر أهمية من الرخاء فان قانون الملاحة ربما كان أكثر النظم التجارية البريطانيا حكمة”.

وقد اتخذ بالتبعية الإتجاه ذاته بالنسبة للمصايد البحرية : “ولكن بالرغم من أن ضريبة الحمولة لسفن الصيد لا تتوافق مع رخاء الأمة الا أنها ربما تتوافق مع الدفاع عنها تبعاً للزيادة المستمرة في عدد السفن التي تعمل فيها, وعدد الملاحين الذين يعملون في هذه السفن”.


الحمائية بواسطة الرسوم الوقائية

وقد وافق آدم سميث على القوانين التي فرضت الرسوم على إنتاج المحطات البحرية في المستعمرات الأمريكية التي نصت على تحريم تصدير منتجاتها من أمريكا إلى أي بلد آخر عدا بريطانيا. وكان هذا التنظيم التجاري عادلاً من وجهة نظر آدم سميث, ذلك لأنه يُمكِّن من جعل بريطانيا مستقلة عن جيرانها وغيرهم من البلاد الشمالية في الإمداد بالإحتياجات الحربيـــــة, كما أنه يسهم في الكفايـــــة الذاتية للامبراطوريـــة .

ولم يقف سميث موقف الإعتراض من الرسوم الوقائية عندما كانت ضرورية لازمة لأغراض الأمن العسكري, وقد قال : “انه من النافع والمفيد, من وجهة عامة, أن يُلقى جانب من العبء على الصناعات الأجنبية بقصد تشجيع الصناعات المحلية عندما تكون هذه الصناعات ضرورية للدفاع عن البلاد”. فقد منحت مثل هذه الوقاية لصناعة السفن بواسطة قوانين الملاحة, ولكن سميث كان راغباً في فرض رسوم ووضع حواجز جمركية لصالح الصناعات الأخرى ولغير هذا من الأغراض العامة, ذلك لأنه “من الاهمية بمكان ألا تعتمد الدولة الا لأقل ما يمكن على جيرانها من ناحية الصناعات اللازمة لدفاعها عن نفسها, فاذا لم يكن هذا مستطاعاً في أرض الوطن فمن المنطق اذن أن تفرض الضرائب على كل الصناعات الأخرى لمعاونة هذه الصناعات الضرورية للدفاع”. أي أن المعاونة تكون عن طريق الحصيلة التي تتجمع من الرسوم المفروضة على الصناعات الأخرى.

لقد كان سميث من أصحاب مبدأ “حرية التجارة” عن ايمان قوي بصدق نظريته, ولهذا فقد دحض تماماً بعض النظريات التي كانت من أسس السياسة المركنتيلية بالصورة التي عرفتها بريطانيا في أيامه, والتي كانت في نظره غير مقبولة. كان يشك في تدخل الدولة في أعمال وجهود الأفراد, ولم يكن محباً لسلطة الدولة من أجل اظهار هذه السلطة وحدها, ولكن السؤال لتقدير صلته بالمدرسة التي كانت تعنى برسم السياسة التجارية, هذه الصلة لم تكن في السؤال حول صحة نظريات التجاريين, بل في هل يجب ـ عند الضرورة ـ استخدام القوة الإقتصادية للدولة كوسيلة سياسية؟

ومن الواضح أن إجابة سميث على هذا السؤال, في “ثروة الأمم”, كانت بالإيجاب وأن القوة الإقتصادية يجب أن تُستخدم بين الوسائل السياسية التي تستخدمها الدولة.

25‏/12‏/2012

الأسس الإقتصادية للقوة العسكرية : دراسة في فكر آدم سميث (3/1)






د. زكريا فوّاز أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية
( عن مجلة الجيش اللبناني)


             
أوضح تطوّر صورة الحرب أن التخطيط للستراتيجيـــة يتطلب دقّــة المعرفــــة بعدة عوامــل أخرى ليست ذات طابع عسكري بالرغم من التأثير العسكــري الذي لها, هـــذا التخطيط الذي يستهـــدف إضعاف مقاومة العدو وتعطيله بشل تجارته وتدمير إقتصادياته, أو بالتحديد تدمير بنية الإقتصاد المعادي التحتية infrastructures économiques) (Les وقدرته الإنتاجية, وإن هذا جديداً في طابع إستخدامه ولكنّه ليس جديداً في أصل وجوده.والواقع أن الناس قد عاشوا لأمد طويل وهم يظنون أن الحـــرب صناعة تحترفها جماعات خاصة من الناس هي التي تكون وحدات المقاتلين, سواء أكانوا مأجورين أم مواطنين مجنّدين, وأن الحديث عن الحــرب بمختلف نواحيها النظرية والعملية, وبتباين صورها وألوانها و “أشكالها التي لا يمكن إحصاؤها, من حرب الإفناء إلى حرب الإنتظار التي نقوم بها ضد إرادتنا, تنفيذاً لإتفاق تحالفي موقع بالإكراه, أو غير ثابت”. وكل ما يؤثر في هذه أو تلك من العوامل وما يتحكم فيها أو يسيطر على توجيهها من أصول ومبادىء, إنما يرجع إلى الكتاب العسكريين الذين خرجوا من صفوف الجيش أو الذين عاشوا على هامش الجندية وان لم يكونوا أصلاً من طلاب المعاهد العسكرية.

ولم يكن هذا كل شيء, بل إن كل الكتب التي تحدثت عن الحرب من الناحية الفنية والتي تعرضت للحديث عن الستراتيجية, لم تُعنَ إطلاقاً إلا بالنواحي العسكرية بالرغم من أنها كلها كانت تكرر ما قاله كلاوزفيتز من “أن الحرب ما هي إلا إستكمال للمناقشات السياسية ولكنها تجيء فقط بأسلوب آخر”. ولم تتعرض هذه الكتب للعوامل من الناحية البشرية والمعنوية والإقتصادية والتي تؤثر في التوجيه السياسي ثم بالتبعية في التوجيه العسكرية. وإن كان بعض الكتاب العسكريين في مطلع القرن العشرين قد عنوا بمسائل المواصلات البرية والبحرية ومروا سراعاً بعوامل التجارة والمواد الأولية. 

كان يجب أن ننتظر “الإكتشاف” الذي يفخر به الدكتور بلوم الإشتراكي من أن الحرب الحديثة ذات أربعة جوانب تجمع في جملتها طبيعة هذه الحرب, وهذه الجوانب الأربعة هي : الجانب السياسي, الجانب الإقتصادي, الجانب السيكولوجي, وأخيراً يجيء الجانب العسكري * كي تتقدم الدراسات الوثيقة الصلة بالحرب وكي يدرك الناس عن إيمان أنه توجد في الستراتيجية الحديثة بعض النواحي غير العسكرية وأن هذه النواحي يجب أن تُراجــع في دراسات نفر من الأعلام كلّهم من غير العسكريين ؛ هم رجال إقتصاد وعلماء إجتماع, ورجال تاريخ واعلام سياسة ومهندسون. وبرزت إلى الضوء أسماء آدم سميث, وألكسندر هاملتون, وفريدريك ليست وفريدريك إنجلز وكارل ماركس, وهم مجموعة تنتمي في الواقع إلى عدة مدارس من مدارس الفكر في علم الإجتماع بمختلف نواحيه من إقتصاد وسياسة وتاريخ. 

فلا عجب أن المفكرين الذين صنعوا علم الإقتصاد أكثرهم من الأطباء وقد مارسوا مهنة الطب إلى آخر حياتهم, أمثال وليم بيتي, باربون, ماندفيل وفرونسوا كيني * ولا عجب إذا لعب علماء الإقتصاد دوراً في تطور الفكر العسكري وستراتيجيته. والوقائع التاريخية تدل على تلازم العلمين ووجود علاقة ترابط (Corrélation) بينهما, إذ أن أفضل خبراء مالية فرنسا في “العهد القديم” كان جنرالاً في الجيش الفرنسي وقائداً له, والمقصود فوبان (VAUBAN, 1633-1707) ماريشال فرنسا.

أما في العصر الحديث, فثمة منهجان رئيسيان يتنازعان دراسة “الحرب”, منهج المدرسة الوقائعية البحتة (التاريخية والقانونية) والتي ترى في الحرب مجرّد عمل من أعمال الحاكمين, ومنهج علم الإجتماع الذي يرى في الحرب ظاهرة إجتماعية, تكمن حقيقتها في طبيعة علاقاتها بغيرها من الظواهر.

أوّلاً: المدرسة الوقائعية.

تبدأ من فرضية قوامها “إن الحرب عمل إرادي من أعمال السياسة الخارجية للدول”, وهذا يعني ربط السلام بإرادة الحاكمين. إنها الفرضية التي تشكل المقدمة التي ترتكز عليها شتى الدراسات التاريخية وشتى الدراسات القانونية للحرب والسلام, تلك الدراسات التي تنظر إلى الحرب منعزلة عما عداها من ظواهر واقعها الإجتماعي, بل منسلخة عن طبيعة أطرافها. 

وخلاصة القول إن هذه المدرسة ترتكز في تفسيرها لعلاقات الحرب والسلام إلى قناعات فكرية مضمونها: إن الحرب عمل إرادي بحت, إنها مجرّد قرار سياسي, ومن ثم تخضع لسلطان العقل وحده. وما يهمنا أن نقولـــه هنا, إن من هذه المدرسة خرجت “نظرية الحرب المستحيلة”. وهذه النظرية تبدأ من فرضية هشة, إنها عمل إرادي يحكمه العقل وحده, كما قلنا, بينما هي في حقيقتها فعل تتحكم فيه غريزة بشرية ملحة والمقصود غريزة القتال, ومن ثمة قادر على أن يفلت من كل رقابة عقلية. وزيادة على هذا الدحض, فإن نظرية الحرب المستحيلة التي كانت سائدة (وما تزال) خلال كل فترة الحرب الباردة, لم تمنع قيام عشرات الحروب المميتة بنتائجها, وأيضاً بعد سقوط القطب الإشتراكي, شهد العالم, بين العامين 1990 و1992, إنفجار 92 حرباً في كافة أنحاء الكرة الأرضية

إنّ الحديث عن الحرب, لا هو وهم سيكولوجي ولا مرتبط “بعقدة أبراهام”, في حين أن الحديث عن السلم الدائم هو الوهم. فالعلاقات الدولية هي ـ بالضرورة وعلى طول تاريخها ـــ علاقات ما بين الأعداء اللهم إلا ما يقتضيه العداء ذاته من مهادنة ليست البتة من طبيعة هذه العلاقات. وما فكرة المجتمع البشري العالمي المتخلّص من أسباب التصادم ومن ثم الذي ينعم بالسلام الدائم, إلا من نسج الخيال البحت, إنها تنتمي إلى عالم “ما يجب أن يكون” ولا صلة لها البتة بعالم ما هو كائن. إن “السلام” كالمحبة, قيمة أخلاقية جمالية, لا مكان لها في الواقع الدولي.

ليس من الضروري أننا نقدر أن حرباً طاحنة وشاملة لابد وأن تقع في أي لحظة, وأنه يجب أن نعيش في إستعداد دائم للحرب, ولكن الحرب هي دائماً مستمرّة طالما نحن نعيش في كيان مستقل. ولكن هذه الحرب تأخذ شكلاً أو عدة أشكال من الجوانب الأربعة التي ذكرناها. ومن دون أن تأخذ شكل القتال العسكري الشامل.

ثانياً: مدرسة “علم الإجتماع”

يبدأ منهجها, ومنهج علم العلاقات الدولية المعاصر, ـ في ما نحن بصدده ـ من أن الحرب ظاهرة إجتماعية مرتبطة بالطبع الإنساني, وبظروف أوضاعه الحياتية, وبطبيعة البيئة الدولية, وأن في هذا الإرتباط تقبع حقيقتها ومنه تنطلق شتى الدراسات العلمية للعلاقات الدولية. وفي هذا الصدد, إن للأوضاع الإقتصادية المقام الأول في تشكيل إتجاهات الدول في علاقاتها الخارجية, وعلى مقتضياتها تتحرك الدول نحو الحروب وعليها تعتمد في تحقيق النصر.

ومن هنا كان التجاريون les mercantilistes) ) ـ وهم أتباع أول مدرسة فكرية تأسست في علم الإقتصاد ـ الذين يرفضون التمييز بين التفوق التجاري من جهة والتفوق السياسي والعسكري من جهة أخرى. فلقد كانوا يتصورون أن من يحكم المحيط يحكم تجارة العالم, ومن يحكم تجارة العالم تدين له ثروته, ومن يسيطر على ذلك كلّه يحكم العالم وأنه, تبعاً لذلك, فإن “ميزان القوة مرهون بالميزان التجاري”

ولكن هل يعني تصور التجاريين هذا أن ثمة علاقة إرتباط (Corrélation) بين الظاهرة الإقتصادية وظاهرة الحرب ؟
إنّ من أكثر القضايا العلمية إنتشاراً في الدراسات التي تعنى بظاهرة الحروب في عالم اليوم, هي قضية العلاقة بين السياسات العدوانية للدول من جهة, وبين الحالة التي عليها إقتصادياتها وأهدافها وأطماعها الإقتصادية من جهة أخرى. ومن هنا, إن موضوع دراسة الأسس الإقتصادية للقوة العسكرية كان وما زال من المواضيع الأساسية التي تهم المفكرين الإقتصاديين في عالم “البارحة” وعالم اليوم.

مفهوم القوة العسكرية في فكر المركنتيليين

وفي ضوء هذه الفرضية ـ التي تعني الإرتباط بين الظاهرة الإقتصادية وظاهرة الحرب ـ نستطيع أن نجري تقييماً موضوعياً العقلية التي كانت سائدة في غرب أوروبا لأكثر من قرنين ـ قبل أن ينشر آدم سميثAdam SMITH) )(12) كتابه “ثروة الأمم” عام 1776 ـ والذي كان يُحكم بواسطة نظم وأصول ومعتقدات تُعرف في مجموعها بإسم المركنتيلية أو “السياسة التجارية”.
لقد كان التجاريون (Les mercantilistes) يتصورون إرتباطاً قوياً بين الإقتصاد والسياسة ينطلق من العبارة الشهيرة التي تنحدر إلينا عنهم : “المال عصب الحرب”
L'argent est le nerf de la guerre) ). ولقد كان التجاريون يقصدون بالمال هنا المعادن, فعندهم كانت قوة الدولة مرهونة بما يتحقق لها فعلاً من هذه المعادن. وثمة وسيلتان, في تصور التجاريين, لتحقيق ذلك الهدف : الحرب والتجارة, فعلى الدولة أن تزيد من أسباب قوتها بالعمل على زيادة أحتياطياتها من المعادن الثمينة بالتجارة أو بالحرب, ولا فارق بين هاتين الوسيلتين, فكلاهما ينتمي إلى الطبيعة نفسها. فالتجارة ليست إلا عملاً من أعمال الحرب.

إنّ التجارة هي الدافع إلى الصراع الدائم بين الشعوب في حالتي الحرب والسلم على السواء, ومن ثم فإن إلتزام شعب ما بسلام من أجل ما يحققه من إزدهار لتجارته, هو في ذاته محاربة لأعدائه. ولذا كانت النظم التجارية أساس سياسة القوة, فقد عملت في الشؤون الداخلية العامة لزيادة قوة الدولة ضد التعاليم الموروثة من العصور الوسطى, أما الشؤون الخارجية فقد عملت لزيادة قوة الدولة ضد غيرها من الدول. ولذلك, يبدو حسب أكثر المركنتيليين, “أن العلاقات الإقتصادية الدولية عبارة عن مجموعة من المبادلات تتعاكس فروقاتها حتى تؤول محصلتها إلى العدم (Un Jeu à Somme Nulle): فإثراء بلد ما لا يمكن أن يكون إلا بمضرة دول أخرى. وكذلك العلاقات الإقتصادية الدولية هي إذاً وبالضرورة علاقات نزاعية”, وفي إيجاز, إن أهداف السياسة المركنتيلية كانت التوحيد القومي للدولة وتنمية مواردها الصناعية والتجارية والمالية والعسكرية والبحرية؛ ولإدراك هذه الأهداف تدخلت الدولة في المسائل الإقتصادية, وبذلك وجهت نشاط رعاياها أو مواطنيها إتجاهات خاصة بقصد زيادة القوة السياسية والعسكرية. وكانت “الدولة المركنتيلية” في ذلك العصر, شأنها شأن “الدولة الدكتاتورية” الفردية في عصرنا الحديث؛ دولة تعمل على الحماية التجارية وتتخذ سياسة وقائية, كما أنها تعنى بالإكتفاء الذاتي الإقتصادي وأن تسير الدولة دون أي تبادل تجاري مع غيرها من الدول, كما أنها تهدف إلى الإستعمار والتوسع وتتبع سياسة عسكرية قوية لتنفيذ أهدافها العامة.

على أننا إذا نظرنا إلى الأمر في ضوء المفاهيم الإقتصادية الحديثة, فإننا نستطيع أن نقول إن الغرض الرئيسي للنظم التجارية إنما كان تنمية الإمكانيات العسكرية, أو إمكانيات الحرب, ولهذا السبب توضع الصادرات والواردات تحت سيطرة أو رقابة عنيفة, وتجمع المعادن الثمينة ويحافظ عليها, وتصنّع مستلزمات البحرية أو تستورد على أساس دفع إعانات مالية Subventions) )أو هبات لتشجيع المصانع على الإنتاج, كما يشجع بناء السفن للنقل البحري وصيد السمك كمورد للقوى البحرية, وتنظم المستعمرات كما تعد وسائل حمايتها لإستكمال الثروة وللوصول إلى الكفاية الذاتية للدولة الأم, كما يشجع نمو عدد السكان بغرض زيادة القوى العددية في الرجال. وكانت هذه وغيرها من التدابير بقصد زيادة وحدة الأمة وقوتها.

وقد أدى النظام المركنتيلي بالطبيعة إلى الحرب, شأنه في ذلك شأن أي نظام تكون القوة فيه غرضاً في ذاته, كما تُعبأ فيه الحياة الإقتصادية أساساً للأغراض السياسية. ويعتقد ممثلو سياسة القوة أنه يمكن تحقيق أهدافها بحالة جيدة * ان لم يكن بحالة أحسن* نتيجة لاضعاف القوة الإقتصادية للدول الأخرى بدلاً من تعزيز قوتهم الإقتصادية هم أنفسهم ؛ إن إعتبار الثروة كهدف لهو في الواقع حماقة وان كان يعتبر أمراً منطقياً لا غبار عليه من جهة نظر القوة السياسية؛ وتبدو أية محاولة للتقدم الإقتصادي بجهود الدولة وفي داخل أراضيها وكأنها غير محدودة الهدف إلا إذا إشتملت على إغتصاب أجزاء مما تملك الدول الأخرى ومن النادر أن نجد عاملاً آخر في فلسفة سياسة التجارة يسهم بدرجة أكبر مع تشكيل السياسة الإقتصادية بل والسياسة الخارجية في جملتها وقد كان هذا المنطق السبب الرئيسي للحروب العلنية والمستترة التي قامت في أوروبا من منتصف القرن السابع عشر إلى الحقبات الأولى من القرن التاسع عشر وكان النظام الذي وضعه نابليون لقارة أوروبا, والنظام الإنكليزي الذي قام لمناهضة نظام نابليون, ذروة التطور لسلسلة طويلة من التدابير المماثلة.

وخرجت إنكلترا وحدها منتصرة من الحروب التجارية, وحصلت على وحدة قومية متماسكة قبل أي دولة أوروبية أخرى وتمتعت بالأمن الذي مهد له مركزها البحري؛ وكانت أقدر من غيرها في وضع “قوة أساطيلها وقوانين الملاحة في خدمة المصالح الإقتصادية للأمة والدولة مع السرعة والجرأة ووضوح الأغراض”. وبذلك إستطاعت الوصول الى المركز القائد في الصراع من أجل الزعامة التجارية والسياسية.

وفي قرابة عام 1763, كانت إنكلترا قد قضت على الأطماع البحرية والتجارية والإستعمارية لإسبانيا وهولندا وفرنسا, وقد أهلكت في واترلو (1815) فرنسا التي نهضت بها الثورة وإنتقمت من نابليون أيضاً. وفي عام 1815, بالرغم من أن إنكلترا كانت قد فقدت مستعمراتها الأمريكية بعد إستقلال الولايات المتحدة (1776), إلا أنها وصلت في الميدان العالمي إلى درجة من القوة تعيد للذاكرة ماضي الإمبراطوريات العظيمة القديمة.

وصحيح أيضاً أن إنكلترا هي الدولة الأولى التي فرضت سيادتها العسكرية على العالم, بانية سيطرتها تلك على أسس إقتصادية لقوتها العسكرية. “ففي كل العصور كانت هناك مدن ومقاطعات إمتازت على غيرها في الصناعة والتجارة والملاحة, ولكن لم يشهد العالم من قبل مثل هذه السيادة التي لبريطانيا في عصرنا هذا (في القرن التاسع عشر). فقد حاولت الأمم والدول في كل العصور الوصول إلى السيادة على العالم, ولكن واحدة منها لم تستطع أن تنشىء قوتها على مثل هذه الأسس ؛ فكيف ذهبت هباء هذه الجهود التي حاول أصحابها أن يقيموا سيادتهم على أساس القوة عندما نقارنها بمحاولة إنكلترا أن تنهض بصناعتها وتجارتها وبحريتها, وأن تكون لها بين الدول وممالك الأرض مكانة الصدارة بالنسبة للبلاد التي تحيط بها, وأن تتوافر في داخليتها كل الصناعات والفنون والعلوم, وأن تتوافر لها كذلك الثروة والقوة البحرية التي لمركز الثقل في العالم”.

وعلى أساس السياسة المركنتيلية لإنكلترا, وضع آدم سميث A. Smith السياسة الإقتصادية والأسس السياسية العامة للدولة التي هو من رعاياها, ومن الممكن أن نفهم ما أراد أن يقوله خاصاً بالأسس الإقتصادية للقوة العسكرية داخل الإطار العام للعصر الذي عاش فيه وروح الأحوال الخاصة بوطنه. 

03‏/12‏/2012

هيلين كيلر (4 /7)





في اليوم الثالث



وفي الصياح التالي لابد لي ايضا أن استيقظ مع الفجر لأنني ارغب في أن اظل 
على موعد مع اكتشاف المتعة الرائعة التي تتجلى في مطالع الشمس..

إنه من الجدير بأولئك الذين لهم عيون تبصر حقيقة أن يتخذوا من اغنية الفجر 
ومشهد الفجركل يوم وبكيفية دائمة يحتفلون فيها باستقبال هذا الجمال المتجدد..!

إن هذا اليوم سيكون في برنامج رؤياي المتخيلة هو اليوم الثالث والأخير من 
ايامي.. سوف لا يكون لدي وقت اضيعه في التأسف والتمني, هناك كثير من 
الأشياء التي ما تزال تستحق الرؤية.. لقد خصصت اليوم الأول لصديقاتي 
واصدقائي سواء منهم الحيوانات والجمادات بينما كشف لي اليوم الثاني عن 
تاريخ الإنسان وتاريخ الطبيعة..أما هذا اليوم سأقضيه في هذا العالم المتحرك 
المشتغل، عالم الحاضر بين ديار الناس ومتاجرهم, يغدون ويروحون لمشاغلهم 
في الحياة, واين يجد المرء هنا مكانا يحتوي على اكبر قسط من النشاط والحركة 
كما يجده في نيويورك ؟ ولهذا فإني اتجه شطر هذه المدينة في يومي هذا.

سأبدأ انطلاقاتي من بيتي بالضاحية الهادئة الصغيرة ( فوريست هيلس ) لونغ 
ايلاند، هنا حيث الحشائش الخضراء والأشجار والزهور وحيث تنصب بيوت 
أنيقة جميلة حيث اشعر بالسعادة مع الأصوات والحركات التي تنبعث من 
جماعات السيدات والأطفال, حيث ينعم الرجال بالراحة المطلقة بعد رجوعهم 
من عنائهم المتتابع بالمدينة.. سأخترق هذه المجموعة من الأبنية المتراصة من 
الفولاذ التي تكون جسرا غرب الوادي, وهناك سأشعر ببداية جديدة لمشاهدة 
القوة والعبقرية اللتين يتوفر عليهما هذا الإنسان.

سيقع بصري على هذا المراكب الراسية هنا، وفيها ما ينهمك اصحابه في 
الشغل المتواصل به، هناك سفن اخرى نزمجر في محاولة للقيام ببعض 
الحركات لو كانت لدي أيام اخرى طويلة ما تزال تنتظرني لكنت اقضي منها
نصيبا في تتبع هذا النشاط الرائع الذى يجري حوالي الوادي، ارى أمامي ذات 
اليمين وذات الشمال تنتصب المنارات الغربية, ناطحات السحاب التي عرفت 
بها مدينة نيويورك المدينة التي يظهر انها انحدرت من صفحات تاريخ مهول
ما اعظمه من مشهد مثير مرعب يتجلى في هذه البروج اللامعة! في هذه 
المصارف الرحبة الواسعة الأرجاء المشيدة بالصخور والفولاذ، بنايات يخيل 
إليك أنها من صنع جن بنوها من أجل انفسهم هم.. وهذه الصورة الحية هي 
جانب من جانب حياة ملايين الأشخاص كل مطلع شمس.. كم هو يا ترى عدد
الذين يعطونها اكثر من نظرة ثانية! إنهم قليلون فيما ارى إن عيونهم عمياء 
عن هذه المناظر الرائعة، لأنها بالنسبة إليهم أمست أمرا عاديا لا يحتاج لإعادة 
نظر، سأدير الخطى لأصل إلى قمة احدى هذه البنايات الشاهقة الضخمة بناية
إمباير ستيت لقد كنت في أوقات قصيرة خلت " رأيت " مدينة نيويورك ولكن 
من خلال عيون كاتبتي الخاصة، أما الآن فإني في اشد الشوق لأقارن بين 
الخيال وبين الحقيقة الواقعة في أني متأكدة من أنني سوف لا اشعر باكتشاف
مطلقا وأنا هذه المباني المتناثرة أمامي سيكون هذا بالنسبة لي مشهدا من عالم 
آخر.

والآن سأشرع في تجولاتي عبر المدينة بعد أن اخذت فكرة عنها من فوق 
أعلى بناية بناية, وفي بادئ الأمر سأقف في زاوية جد مزدحمة من المدينة 
يقصدها على الخصوص جمهور الناس وذلك لأحاول عن طريق النظر إليهم
 معرفة بعض الأشياء عن حياتهم وارى البسمات تعلوا الوجوه وأنا بعض 
مسرورة، وأرى العز والنشاط بشع من عيون الناس وأنا جد معتزة، وارى 
كذلك العذاب والعناء وأنا مشفقة.

سأتجول في شارع " فيفث أفنيو" وسأسلط نظراتي على النقاط التي يتجمع فيها
النور وذلك لأتمكن ليس فقط من رؤية الأشياء الخاصة ولكن فقط لمشاهدة 
الألوان الزاهية، إني متأكدة من أن هذه الألوان التي تمتاز بها ملابس النساء 
اللائي يسرن في هذه المواكب المتراصة.. إن هذه الألوان نمثل وحدها مشهدا 
بديعا لا اشكو منه التعب أبدا بيد أنه من الممكن – اذا كان لي بصر – أن اكون 
مثل أولئك النساء الأخريات مهتمة ايضا بالأشكال والأزياء التي تثير انتباه العامة
اكثر لجمالها وبهائها..ولأني مفتنعة كذلك بأن علي أن لقف أمام احدى واجهات 
المتاجر لأرى من خلال النوافذ..سأشعر يمتعة زائدة وعيوني تطوف بين آلاف الأصناف الجميلة المعروضة.

ومن شارع فيفث أفينيو سأطوف على المدينة " بارك افينيو" عبر الأحياء الشعبية
عبر المعاقل وعبر الحدائق التي يقصدها الأطفال للتلهي, وسأقف قليلا لأزور 
الأحياء الأجنبية.. وفي كل هذه التحركات ستكون عيوني مفتوحة على مصراعيها 
كما يجب وعلى كل المناظر التي تقع عليها عيوني , سواء منها الجميل والردئ
وذلك لأتمكن من النظر بعمق لأضيف إلى إلى معلوماتي شيئا حول الطريقة التي 
يعيش عليها الناس ويشتغلون إن قلبي مليء بالصور: صور الأشخاص وصور 
الأشياء ايضا.. وعيوني تمر دون ترو متغاضية عن الأمور الزهيدة إنها تكد 
وتجاهد من اجل أن نلتقط معها وفي انتباه ويقظة كل شيء تقع عليه, هناك بعض 
المناظر مما يدخل السرور على القلب بل مما يملأه انشراحا وغبطة, لكن بعض
المشاهد محزن فعلا.. وبالنسبة إلى هذه أيضا فإني لا اغمض عيني عنها كذلك
لأنها في نظري تمثل جانبا من جوانب الحياة, واعتقد أن صرف العيون عن مثل 
هذه المشاهد, ولو انها محزنة هو بالذات اغلاق للقلب واغلاق للفكر..

إن يومي الثالث من أيام البصر يقترب من نهايته ومن الممكن أن يكون هناك 
عدد من الأشياء الجدية التي تقتضي مني تخصيص بعض الساعات الباقية 
لرؤيتها بيد أني اعتقد أن مساء هذا اليوم الأخير يجب علي أن اقصد فيه ايضا 
إلى المسرح حيث انعم برؤية تمثيلية هزلية مضحكة وذلك ليتسنى لي أن آخذ 
فكرة عن واقع الكوميديا في الفكر الإنساني .

وعند منتصف الليل تكون الرخصة المؤقتة التي قضيتها بعيدا عن ظلمتي قد 
اخذت نهايتها, ويحل الليل البهيم الدائم من جديد ليخيم في ساحتي مرة اخرى
وبالطبع لم أر في هذه الأيام الثلاثة القصيرة كل ما كنت اريد أن اراه، وعندما 
ينيخ الظلام بكلكله علي, هناك سأعرف كم هي الأشياء الكثيرة التي تركتها 
واغفلتها دون أن اتمكن من رؤيتها بيد أن ذاكرتي ستزدحم بالذكريات المشوقة
 التي احتفظ بها منذ ذلك الوقت القصير الذى لآسف على فراقه, ومنذ هذا 
الوقت فإن لمس أي شيء سيحمل معه ذكرى حية عن حقيقة ذلك الشيء


ختاما .. افتحوا أعينكم !

ربما يكون هذا العرض الوجيز عن استعمال الزمن طوال هذه الأيام
الثلاثة من أيامي المبصرة أقول ربما لا يتفق مع المنهاج الذى قد
تختارونه لأنفسكم لو كنتم مكاني, ولكني مع ذلك متأكدة من انكم
اذا واجهتم هذا القضاء فإن عيونكم ستفتح أمام الأشياء التي لم
تروها من قبل مدخرين ذكرياتكم إلى الليل الطويل العريض الذى
ينتظركم..

كل شيء رأيتموه سابقا يمسي بالنسبة إليكم عزيزا.. ينبغي أن ترى
عيونكم كل شيء يدخل في دائرة عملكم..

عليكم أن تبصروا حقيقة الأشياء



إنكم إن فعلتم ستشعرون بأن عالما جديدا من الجمال يكشف نفسه
أمامكم..

أستطيع – أنا الكفيفة – أن اعطي اشارة فريدة لأولئك الذين يبصرون
أعطيهم عظة وتنبيها لأولئك الذين يرغبون في أن يستغلوا هذه النعمة:
نعمة البصر استفيدوا من عيونكم كما لو كنتم مهددين غدا بافتقاد هذه النعمة.

ولأن نفس النصح ينبغي تطبيقه على سائر الحواس الأخرى :
استمعوا إلى الصوت الجميل , إلى هزيج الطير إلى نغمات الموسيقى
كما لو كنتم غدا ستصابون بالصمم.. إلمسوا كل ما يستحق منكم
اللمس.. تنسموا أريج الزهور وعبير العطور, تذوقوا لذة كل طعام سائغ
لذيذ تتناولونه كما لو انكم ستفقدون غدا حاسة الشم والذوق.. تمتعوا
بكل مظاهر الجمال التي تتفتح أمامكم في هذه الدنيا على شتى الأشكال
التي تتقدم إليكم بها الطبيعة الخلابة..

إن كل هذه الحواس هبه تستحق الشكر بيد أن نور البصر
يعتبر من أجمل وأروع ما يدخل البهجة إلى النفوس !..

نهاية .