27‏/09‏/2013

الحق في قتل الجسد: الزومبي جسد/نص ما بعد كولونيالي



عن موقع : جدلية 
عبد البياري

الجسدُ البَشري يُشحنُ بدلالاتٍ متغيرةٍ وغَير مستقرةٍ، على مَدى تاريخِه
في جَانِبيه المُطلق/ المَعنوي والنِسبي/ المَادي؛ كَما في دلالةِ زمنيةِ أَكل
التُفاحةِ من شجرةِ المَعرفة.وبالتَالي فَالنتيجةُ منذُ تِلك اللحظةِ الوجوديةِ
الهًامة والمُعبرة في الوَعي الإِنساني أَنتجت الحاجة لـ"ترويض الجسد
الإنساني" –في اللغةِ والخطابِ والمادةِ-، وبَاتَ ذلكَ "الترويضُ" أَساسياً
فِي الحفاظِ على المُواجهاتِ وبينةِ الأَدوار الإجتماعيةِ والعلاقاتِ الإجتماعية
وعَلاقاتِ القُوى والسيطرة، بل وحتى إنتاج المعرفة (أنظر دور الجسد في
زمنية دفن قابيل لهابيل، و"الحجاب" وتحويراته في الأديان التوحيدية
وطقوس القرابين في الأديان الوضعية والثقافات البدائية،وطهارة الجسد
في الطقوس التعبدية، وكلها تمظهرات لـ"ترويض الجسد")، بِإعتِبار
الجَسد يتوَّسط العَلاقةَ بين هُوية الفردِ الذَاتية بمختلفِ تمظهراتها والهُوية
الإجتمَاعية من نَاحية، ومابينَ الذات/الأَنا والهُوية الفَردية بمختلف
صِراعاتها، من ناحيةٍ أُخرى.
الجَسد هُو "حَامل" للقِيمة (فَردياً ومُجتمعياً)، حيثُ تُدمج تِلكَ القِيمة فِي تَحليلِ الجَسد كَظاهرةٍ مَاديةٍ تُشكل وتَتشَكل بِفعلِ قُوى المُجتمع وآَليات الخِطاب. وَلذا فَمع الحَداثة والثَورةِ الصِناعية حَدث تغَيير في هَدف الخِطاب (بِاعتبار "الخطاب" فِئة مِن المَباديء التَحتِية المُستبطَّنة، المُدمَجة في شَبكةِ دلالاتٍ تُؤسسُ وتُنتجُ وتُكرس و/ أو تُضعفُ العَلاقات بين القَول والفِعل أوالفِكرةِ والإِنتاجِ أوالذَاتِ و المَوضُوع). حيثُ أَفسحَ الجَسدُ المُكون مِن لحمٍ ودمٍ الطريقَ أَمامَ العَقلِ بوَصفه مَركز الإِنشغالِ والإهتمامِ الحَداثي الأَسمى. (أنظر عمليات نقلِ الأَعضاء وزِراعتها والإِستِنساخ والهَندسةِ الوِراثيةِ و غَيرها). وعليه باتَ الجَسدُ الإِنساني مُعرضاً بِشكلٍ أَكثرَ تَكثفًا للعُنفِ الحَداثيِ، إذ لا تَبدأُ صِناعةُ العُنف بالتَسميةِ، وإِنما تَتكاثفُ بمُمارساتِ التَصنيف، التِي تَحتوي "التسميةَ" كفرعٍ مِنها. فَالعُنف –صِناعةً و مُمارسةً- هُو فِي أَساسِ كلِ نظامٍ إجتماعيٍ، أَي أَنهُ فِي أَساسِ كُل إسمٍ، والمَجازُ الأَساسيُ المُكون للعُنفِ، كَمُحاولةٍ أَدّاتيةٍ لفَرضِ "النِظام" يَحتوي حَالتَينِ كَيانيَتينِ:

الأُولى أَن المَجموعات البَشرية المُختلفة تَعيش حَالةً ماقَبل إِجتماعية، أو كَما إصطُلحَ على تَسمِيته (حالةً طبيعيةً)، يَجب نَقلُها إلى الحَالةِ الثانيةِ وهِي الحَالة الإِجتماعية. وَفي الانتِقالِ بينَ الكَيانِينِ جَرى تَرتيبُ الوُجودِ كَكلٍ، مِن خلالِ هَندسةٍ حديةٍ لثُنائيةٍ أنيقةٍ تُعيدُ صِياغةَ الوُجودِ الإِنسانيِ فِي مُعسكَرينِّ غيرِ قَابلينِ للتَعايشُ المُتشاركِ (إما/ أو)، فبَاتت الحَالةُ الأُولى (الطَبيعِية) بشِقَيها الفَردِي والجَمعِي تُفهم كحَالةِ عُنفٍ، وبالتَالي وَلكي تَتوائم تِلك الحالةُ مَع ما هُو "أَرقى حضاريًا" (!)، بَات توجيهُ العُنفِ واستحواذِه بِأشكالهِ المُمأسسة والدلالية ضَرورياً لِحمايةِ "قداسة المُجتمع".
فَنجدُ أَن المُقدسَ الحدَاثِي قد أَعادَ إِنتاجَ نَفسِه في العَديدِ منَ الصُورِ، بهندسةٍ ذاتيةٍ، وأُخرى مُقابلةٍ للآخر المُدنس. فَأزاحَ ذَاتهُ مِن نطاقِ الدِينيِ إلى الحَيزِ الإِجتمَاعي (أنظر مثالاً لتَغيرِ لونِ بَشرةِ السَيدِ المَسيح فيِ أِفريقِيا)، ذلكَ الحَيز الإِجتمَاعِي المُكوِن لعَلاقَاتِ الإِنتاج والمِلكيةِ الخَاصة والمُتكَون من خِلالِهما، فنرَى أَن إنشاءَ المَصانعِ جَرى محايِثاً لإِنشاءِ دُورِ صِناعةِ العُنفِ والمُقدس. (أُنظر كَيفَ استغلَ الإِسبان "المُقدس" في ثَقافات حَضاراتِ أَمريكا اللاَتيِنية لتقديمِ الرَجُلِ الأَبيض وكَأنهُ بشعره الأصفر المشابه لأشعةِ الشَمسِ، وعَيناهُ الزَرقاوانِ المُشابَهان للون المَوجِ، ابنُ إلهِ الشَمس/ رَسولُ الشَمسِ، ليُبررَ نهبَ ثرواتِ تِلكَ الشُعوبِ وأَيديها العاملة لصَالحِ إِسبانيا).

الزومبي:

فِي أَكثرِ الصُور تَعبيرًا عن وَضعيةِ الجَسدِ الإِنساني فِي العَلاقةِ الإِجتماعيةِ العُنفية وعَلاقات القُوى النَاتجةِ من تَلاقحِ الإِجتماعِي والمُقدس، يَظهرُ لَنا "الزُومبِي" مِثالًا شَارحًا، بِما يُؤسسُ لَه مِن "حَقِ قَتل الجسد/إِلغاؤُه". وَهيَ المرحلةُ الأَعلى مِن آلياتِ السَيطرةِ الحَداثيةِ: الهَندسةِ والرَقابةِ والعِقابِ – بالمنطقِ الفُوكوي - عَلى الجَسد، بِما يُحققُ مَقولة جوديث باتلر: "لا جَسد لا سِياسة".

إذ يَتم تَوظيفُ فِكرة "الزُومبي" في الثَقافةِ المُعولمةِ ضِمنَ ما أَسماهُ الراحِل إِدوارد سَعيد "إرثْ الرَجل الأَبيض" وواجبه التَخليصي – نسبة لفكرة "المُخلص" - اِتجَاه الحَضارةِ الإِنسانيةِ كَكل. وَهُو ما أُريد له أن يَكونَ المَعنى الظَاهر للخِطاب، في حِين أَن ذَلك التوظِيف يُغفل مُتقصدًا تارِيخَانية الجَسدِ الزُومبيي، وبالتَالي يَضمن عَملية "غسيلٍ بيضاءَ" لجَرائمِ الرَجُلِ الأَبيض الحدّاثية الإِستعمَارية، وهُو ما يَستدعي إِضاءاتٍ على الزُومبي/ الجسد كَنصٍ تَاريخِيٍ مَابعد كُولونيالي.

يتمُ تَقديم "الزومبي" باِعتبارهِ "جِسدًا ماديًا خاليًا منَ الروحٍ والعقلٍ"، وبالتَالي فَهو كيانٌ بيولوجيٌ لا يَحوزُ عَقلاً بالمَفهومِ الإِجتماعيِ. لذا، فغيابُ ذَلكَ العقلِ، وعدمِ قُدرته على تَحليلِ المُؤثر الخارِجي بِشكلٍ أكبرَ مِن الإِستجابةِ الجَسديةِ المُوجهةِ للقتلِ، يجعلُ من ذلكَ "الجسدِ" جَسداً "غيرَ معقلنٍ" (إذ لا يحوزُ على "وعيٍ ذاتيٍ"، نظرًا لحَركتِه الغيرِ مدركةٍ لذاتِها وكميةِ التَشوهِ الوَاقعِ عَليهِ دونَما أي تأثر. ولا "مقصدٍ" إذ أن وُجودَه وجودٌ سلبيٌ فقط، ولا "لغةً"، فَهو لا يَتفهمُ أيَّ محاولةٍ لغويةٍ – بالمنطق السيميولوجي حتى! - للتَواصلِ مَعه) أي أنه "جَسدٌ بهيمي". مما يُسقطُ عنه قِيميَّته الأَكثر بدائيةً: المادية الجَسدية، بالمَنطقِ التَطوري الدَاروِيني – على الأَقل - ويَجعل قَتلهُ فعلًا مُبرراً ومَشروعاً مَهما كانت عَمليةُ القتلِ في ذَاتِها دَمويةً، ومهما كانَ عددُ القَتلى.
"الزُومبي" كمُصطلح/ مُسمى – وتلكَ تَسمية لَيسَت عَربية ولم تُعَّرْب، بَعد - يَعودُ إلى فَترةِ الإِستعمار الكُولونيالي الفَرنسي فِي هَايتي، إبان القَرنِ الـ17-18، حَيثُ كَانت زِراعةُ السُكر قَائمةً على "العَبيد" مِن السُكانِ الأصلييِن، الذِينَ كَانوا يَذوقونَ سُوءَ المُعاملةِ والِاستغلالِ الجَسدي والتَعذيبِ والقَمع لاستغلالهم ضِمنَ تِجارة الرَجلِ الأَبيض. فَكانَ مِن المَنطقيِ أَن يُمثلَ "المَوتُ/ الإنتحارُ" لهؤلاءِ المُستعبَدين رَاحتَهم وطريقَ عَودِتهم إِلى "الجَنة/ غِينيا الجَديدة/ إِفريقيا الأُم"، بِكلِ ما يَحملُه ذَلكَ مِن خوفٍ إنسانيٍ طبيعيٍ، إلا أَنه مَهربٌ ناجع لمعادلةِ الحياةِ الصَعبةِ. بَينما كانَ الموتُ إنتحارًا بِالنسبةِ للمُستَعِمر الفَرنسي خسارةً فادحةً، ليسَ فقط لأنه يَخسر يداً عَاملةً، ولكنهُ يَخسر أَيضاً فرداً/ إنسانًا/ جسداً مِن ثروته من العبيد، عن طريق إِنتزاعِ مِلكيةِ الجَسدِ (المُستَعمَر) عن الفرنسي (المُستَعمِر).
كُل ذلكَ استَلزمَ تَواطؤًا بَين علاقاتِ القُوى والإِنتاجِ في بينةِ النظامِ الإِجتماعيِ وبِنية المُقدس. يُدارُ بِعقليةِ "العَالمِ الجَديد" الكولونيالية الرأسمالية، لِخلقِ مانعٍ يَحولُ دونَ هَذا النَوعِ من الهدرِ فِي العَبيدِ كَرأس مالٍ وليسَ كبشرٍ حُريتُهم حقٌ مكفولٌ. فكانَ تَخليقُ حالةِ "الزُومبي"، وَهوَ الشَخص الذي تَرفض الجَنة/ إفريقيا/ غِينيا الجَديدةُ استقبَالهُ لشَنيعِ صنيعه، ليسَ "الإنتحار" إِنما الخُروجُ عن طاعةِ الرَبِ الأبيضِ المُستَعمِر، صاحبِ العقلِ الأَسمى والأَقوى. وَهُو ما يُعطي الحَداثةَ في صُورتِها الكُولونياَلية صفةً من صِفاتِ الأُلوهةِ والقداسةِ، بمنحِ الحَقِ فِي الجَنةِ أو النَار والسيطرةِ على الحَياة المتجاوزةِ بعد السَيطرة عَلى الحياةِ الآَنيةِ وأَجسادِ من فِيها، وبالتالي فَيكونُ عِقابُ هَذا "الزُومبي" هُو إنتزاعُ رُوحِه وعقلهِ من جسدهِ الذِي ظنَ بِه خَلاصهُ، وتركِهِ هَائمًا على غَيرِ وُصولٍ للجنةِ، المَتروكةِ بيدِ ربهِ الأَبيض.

 "الزومبي" كَخطابٍ ثَقافِي (في السينما):
 يُلاحظُ فِي الأَعمالِ السِينمائيةِ التِي تَناولت فِكرة "الزُومبي"، وَهي أَعمال مُستندة إِلى دِينامياتِ الصُورةِ التِلفزيونيةِ الثلاثةِ: التَذكِير(التَفحيل)/ العُنف/ الجِنس، أَنها تَعامَلت مَع "الزُومبي" باِعتبارِه نَتيجةً لحالةٍ مَرضيةٍ عَامة، تُفقِد الجَسدَ الإِنسانيَ عَقلهُ المُتحضر(!) (وَلعلَهُ هُنا وَجبت الإشارةُ إلى آَلياتِ هَندسةِ الجُنون مُجتمعيًا بِحسبِ مَبحث المُفكر الفَرنسِي مِيشيل فُوكو "تاريخ الجُنون")، تَاركةً لفَضاءِ المَعرفة الحُريةَ في تنفيذِ حَقلِ قُوتِها الغَير بَريء. (لاتُجيب ولا تَتعرض الأعمال السِينمائيِة عامةً عَن سببِ تَفشي هَذا المرض أو ذَاك، أو خلقِ بطلٍ نَتيجةً لِتعرُضِهِ لحادثٍ مهندسٍ جينياً مِثلَ الرجُل ِالعَنكبوت، ولا الغَرض مِن هَندسةِ هَكذا مَرض، تاركةً حقلَ القُوةِ العُنفية للمَعرفةِ بعيدًا عَن المُساءلةِ أو حتى التَخيُل، تماماً مِثلما هُو الأمرُ بشأنِ الأَسلحةِ الكِيماوية /أو الجُرثومِية، فَيسهُل عَلى المَعرفةِ التَضحيةُ بالجَسدِ، بمَنحِ الحياة أو مَنعِها دون مُساءلة).
كَما يُلاحظ كَذلكَ أنَ كُلَ التَناولات السِينمائِية للـ"زُومبي" حَصرت البُطولة فِي بَوتقةِ مُزاوجةٍ حصريةٍ للذُكورةِ والبَشرةِ البَيضاء، إِذ لا يُمكنُنا مُلاحظة دُور بُطولة أُنثوي مُباشِر، وَكذلكَ الأُمرُ بالنسبةِ لبطلٍ أَسمرِ البَشرة، وَهُو ما يضمنُ غَسِيلاً أَبيضاً لإرثِ الرَجلِ الأَبيض مِن اِستغلال "الزُومبي" لِصَالحه.
ولَكن يَظلُ فِيلم WORLD WAR Z بُطولة النَجم الأَمرِيكي براد بيت وإِخراج ريدلي سكوت (2013) النَقلة الأَكثر صَلفًا فِي بِناءِ الخِطابِ الثَقافِي للرَجلِ الأَبيض الكُولونيالي بشأن "الزُومبي"، إِذ يُمكن القولُ مِن التَسمِية أَن القَصد هُو آَخرُ حُروبِ العَالِم الأَبيض، بِاعتِبار أَن اللُغة هِي أَساس التَسمية، والتَسمِية أَولُ أَدواتِ العُنفِ الحَداثي، وَأن الحَرف (زِد/Z) هُو آخِرُ حُروفِ اللُغةِ، واللُغةُ –في عُمومِها، والإِنجليزية لَيسَت اِستثناءًا- هِي مُؤسسة ذُكوريةٌ، واللُغةُ الإِنجليزية لُغةٌ بَيضاء.

لَيسَ ما سَبق فَقط هُو مَا يُميزُ السَردَ الثَقافِي للفِيلم/ الصُورة عَن غَيره، وَلكن اِستحضَاره لِبنيةٍ كُولُونياليةٍ لَم يَتم إستحضُارها سَابقاً فِي هَذا النَوعِ مِن الأَفلام وَهِي : التَهجِين/ Hybridity، فَالتهجينُ هُو مرحلةٌ مِن مَراحل الإِنتاج البَينيِةِ بَين المُستَعِمر والمُستَعمَر، حَيثُ أَن المُستَعمِر يُعرِّف نَفسهُ رَأسِيًا بآخَرِهِ المُستَعمَر، فَلا يُمكن بِحالٍ مِن الأَحوالِ أَن يَقبَلَ بِوجودِ تَرادفٍ بَين النَموذَجينِ، وإِلا انهَارت مَنظومةُ التَعريفِ السَلبيِ الخَاصِة بالسَيطرة. وَعَليهِ فَقد ظَهرت الحَاجةُ لِخلقِ (بِطَانةٍ وُسطَى، لَها درجةٌ من دَرجاتِ الرَخاوةِ بين المُستَعمِر والمُستَعمَر) بحسبِ فرانز فانون، وَهيَ عبارةٌ عن مَنظومةٍ مِن آلياتِ الإِنتاجِ وَالقُوى المُؤسسَاتِيةِ/الأداتّية الخَارجةِ مِن وَسطِ بِينة المُستَعمَر الثَقافِية والإِجتماعِيةِ والوَطنيةِ، إلا أَنها تَدينُ فِي بِنيتِها الحَاكمةِ إلى النَموذجِ الحَداثيِ الكُولونيالِي الرَأسمَاليِ ولِذا فوُجودُها من وُجوده عُضويًا، فَتعمل على خَلقِ كَيانٍ وَسطيٍ بينَ "عِرقينِ" غير متمازجين (بالتَعبيرِ الفِيكتُوري اليَميني)، وَظيفةُ ذَلكَ الكَيانِ "الوَسطي/الهَجينِ" هُو شَرعنةُ وُجُودِ المُحتَل خِطابيًا ومُؤسساتيًا فِي داخلِ فَضاءِ البِنية المَحلية المُستعمَرة (أو مايُعرَف بـ"المَكانْ" بالمَنطق المُتجاوز). وهُو مَا يُمكن تَعيينُه عَلى مَدى التَاريخِ الكُولونيالي. ولَنا في فرانسوا دُوفالييه الدِكتاتُور الذيِ كَان رئيسًا لهَايتِي بَعد زوالِ الإِستعمار الفَرنسِي، والذِي كَان وجهًا أسمراً لسياسياتٍ بَيضاءَ كُولونيالِية ضَمِنت عن طَريقِه إِستمرارَ علاقاتِ السَيطرةِ والإنتاجِ فِيها، حَتى بَعد الزَوالِ المُباشرِ للبِنيةِ الكُولونياليةِ البَيضاءَ ("الكولونيالية الجديدة" كما أَسماها سَارتر) خَيرَ مثال. كَما يُمكن مُماهاة ذلكَ مع النَموذجِ الفِلسطينيِ تَحتَ الإِحتلالِ الإِسرائيليِ، فِي مَابعدَ "إتفاقيةِ أوسلو" التِي خَلقت تَلك الطَبقةَ المُهجنةِ إِسرائيليًا، وَزرعْتها فِي دَاخلِ الفَضاءِ المَعرفي والسياسيِ والثَقافيِ الفِلسطيني، كوَسيطٍ للسِياسَات الإِحتِلالية، وَلعلَ أَبرزَ تَجلِياتها الوَاضحةِ هو"التَنسيقِ الأَمنيِ" معَ الإِحتلال، فَبات الإحتلال مُدبلجاً للفلسطينيةِ، إسماً ورسماً.
تلكَ الطبقةُ المُهجنةُ هِي التِي يُراهنُ عَليها المَعنى المُستَبطن للسَردِ الثَقافيِ للفِيلمِ مُستفيدًا مِن الطُغيانِ والسَطوةِ الحَاصلَينِ حَاليًا للمَعرفةِ الصُوريةِ التِليفِزيُونيةِ (نسبة إلى الصورة)، وَالتِي تَنبَنِي على الصور كخِطاب وَتَراكُمَاتِها ولَيسَ عَلى الوَاقِع، مؤسسةً للحُكم المَعرفِي على الصُور وَليسَ عَلى الواقِع، فيُقدم الفِيلمُ الجَدارَ العَازل الإِسرائِيلي باِعتبارهِ حَاميًا للحَضارةِ البَيضاءَ فِي حَربِها الأَخيرةِ ضدَ الوَحشيةِ بِتعاونٍ مُثمرٍ بينَ الرَجلِ الأَبيضِ المُحتل وطبقتِةِ الهجينةِ مِنَ المُستَعمَر، تِلكَ الطَبقة التِي تُشفِقُ عَلى قَومِها مِن غِيابِ العَقلِ فِي مواجهةِ الحَضارةِ البَيضاءَ (فلنَنظُر لتَصريحَاتِ قَادةِ التَنسيقِ الأَمنيِ وَسلطةِ أُوسلُو عَن عَبَثِيةِ "المًقاومةِ" وَلامَنطقِية فِكرة العَودةِ – صَفَدْ مِثالاً -).
وَأَن سُقوطَ الجِدارِ لَم يَأتِ نَتيجةً لِسقُوطهِ الإِنسانيِ وَالقِيميِ، باعتبارِ صَيرورةِ –أَغلِبِ - النُظمِ الكُولُونيالية، وَلكنْ يَسقط نَتيجةَ تَدافُع أَعدادٍ غَفيرةٍ مِمن فَقَدوا عَقلَهُم وبَاتُوا فِي حَالةٍ بَيهيميةٍ دُونيةٍ، إِستلزَمت تَخليصَ العَالمِ المُتحضرِ الأَبيضَ مِنهُم.

"الزُومبي" هُوَ جَسدٌ/ نَصٌ مَابعدَ كُولُونياليِ، يُمكنُ التَضحيةُ بِه لِحمايةِ الحَداثةِ الرَأسماليةِ – وَموارِدها الثَقافِيةِ وَالإِنسانيةِ وَالجَسديةِ - التي كَانتِ الكُولُونيالةٌ إِحدى تِجلِياتها. هُو جَسَدٌ يُستدَعى مَتى أَرادَ الرَجلُ الأَبيضُ تَوظيفَ ذَلكَ الجَسدْ فِي خِدمةِ إِرثهِ إِتجاهَ الإِنسانيةِ وَدَورُه كمُخلصٍ لها، فَنَرى قَتلَ الأَجسادِ الإِنسانيةِ فِي فِلسطين(غَزة) والعِراق وغَيرهُم لَم يَمس حَمِية الرَجلِ الأَبيض إِتجَاه الإِنسانيةِ، كَما بَات يَفعلُ الآنَ بَشأنِ الحَدثِ السُوريِ، لِيَظل الرَجُل الأَبيضُ هُو المُخَلص طَالَما ظَلت عُقولُنا بِيدِه يُعقلِن بِها أَجسَادَنا.  

14‏/09‏/2013

من هو المتطرف ؟


الكاتب: عبدالخالق مرزوقي


اعتقد ولا اجزم ان الانسان يولد بميل ما تجاه اشياء معينه
بعض هذا الميل برمجة مسبقة وبعضه بفعل عوامل وراثية جينيه
وبعضه تاثرا بسلوكيات وممارسات الأم خلال فترة الحمل وفي
سنوات الطفولة الأولى، فنولد ولدينا ميل تجاه سلوك ما ليكن
التشدد مثلا في الكثير من الامور، الدين لم يتدخل لحد الآن

ثم يأتي دور التربية والاسرة في تعزيز هذا الميل او التقليل منه
وهنا يتبين الفرق في التربية بين الاسرة الواعية وغير الواعية
والدين الذى نتلقاه في هذه المرحلة هو الاتجاه الذى تسلكه الاسرة
تجاه الدين كما تتلقى الاخلاق والقيم التي تقولها وتمارسها الاسرة
فيزيد لديك هذا الميل او يضعف ثم يأتي دور المدرسة والمسجد
والمجتمع العام، هم ايضا يلقنونك وترى منهم الدين والاخلاق
والقيم " السائدة " اي تتلقى التطبيق وليس النظرية في الدين
والاخلاق والقيم كل هذه المدخلات تتفاعل داخلك مع كل مالديك قبلها.


ونتيجة لهذا التفاعل العقلي والنفسي تبدأ في تكوين سيرتك الخاصة
مع استمرارك في التلقى والتفاعل طوال حياتك

بعضنا يعيش داخل دائرة مغلقة ذهنيا. فيبقى يتلقى ذات الافكار
والتصورات وتتفاعل داخله مع اخرى شبيهه بها فيكون الناتج دائما
هو ذاته ومن ينفتح ذهنيا تبدأ المدخلات تتغير نسبيا. يلي ذلك تغير
في طريقة التفاعل العقلي النفسي معها

اسوأ نتيجة لتفاعل ممكن ان نحصل عليها هي عندما يجتمع لديك
ميل للتشدد. داخل اسرة متطرفة ومدرسة ومسجد ومجتمع عام
يعززان كل ذلك، لا يمكن ان تخرج من هذه الدائرة إلا بعد صدمات
فكرية متتالية.عقلك ومحيطك الجديد سيجعلك تسلك احد اتجاهين
إما تشدد او تطرف مضاد للاتجاه الاول، أو اعتدال وهو الاتجاه الاصعب
الدين اي دين في نصوصه الاساسية يتمايز بين التشدد - التشدد
هو غير التطرف - وبين الانفتاح. بحسب النص ومتى انزل؟
وسبب نزوله؟ وهل حكمه عام ام خاص مطلق ام مقيد ، منسوخ
أم لا . كيف طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم

لا اعتقد ان الدين جاء لنا ويفترض منا أن نكون مثاليين بل هو سبحانه
يعلم واقعنا كبشر وهو يريد منا ان نحاول أن نقترب ما استطعنا من
تحقيق غايه النص، والاستطاعة تختلف من فرد لآخر
هذا امر شديد الاهمية ان ندركه ويغفله المتطرفون سواء من يدعي
انه يطبق النص او يدعي العكس

كيف يتعامل المتطرف مع النص ؟ والحديث هنا عن اي نص سواء
كان نصا دينيا أم غير ذلك

المتطرف يأتي للنص غالبا بتطرفه المسبق على القراءة، وليس ليستمد
التطرف من النص. بل ليقنع ذاته اولا، وليؤكد أن النص يقف في صفه
وهو يقف في صف النص. غير المتطرف ايضا يفعل ذلك فيأتي للنص
بايجابيته وانفتاحه

لذا قال الامام علي رضي الله عنه : القرآن حمال اوجه
وهي تفهم هنا بمعنى ايجابي منفتح اذا كنت انت ايجابي منفتح
وتفهم بمعنى سلبي ضيق اذا كنت انت سلبيا ضيق القلب والعقل
لذا نرى عمليا اختلاف الفقهاء مثلا في مسائل معينة رغم انهم
يستندون في اوقات كثيرة لذات الادلة

النص ايضا اي نص يتحول إلى عدة نصوص، أولهما النص
الأساس ثانهما ما قرأناه حول النص، وثالثهما الذى خرجنا به نحن
بعد كل تلك القراءات

والنص الثالث اي النص الذى خرجنا به من القراءة يحتوي اضافة
للنص الاساس والقراءات السابقة علينا له، على افكارنا نحن تجاهه
كمفردات وجمل ومعاني، اضافة إلى نمطنا في التفكير ومستوى عقولنا
ووعينا وحالتنا النفسية وخبراتنا

06‏/09‏/2013

ريجيس دوبريه : يهاجم التنوير السطحي ويدعو إلى تدريس الأديان في المدارس العلمانية الفرنسية



ريجيس دوبريه: لا نريد عقلانية مسطحة تستبعد الدين 
ولا أصولية متعصبة

 تكفر الآخرين


عرض : هاشم صالح
ما الذي حصل لريجيس دوبريه؟ هل انقلب من النقيض إلى النقيض كما حصل لبعض المثقفين العرب عندما انتقلوا من الماركسية الى الأصولية قبل أن يتوب بعضهم أخيرا؟، سوف يكون من قبيل المبالغة أن نقول ذلك. لكن كتابه الذي صدر اخيرا في باريس، صدم الكثيرين بعنوانه على الأقل: «الأنوار التي تعمي»!. كنا نعتقد أن الأصولية الظلامية على طريقة بن لادن والزرقاوي هي وحدها التي تعمي الابصار، فإذا بنا نكتشف اخيرا بأن الحق على فولتير وعصر الأنوار. لكن لا ينبغي الاعتقاد بأن ريجيس دوبريه قد غير موقفه وأصبح أصولياً مسيحياً متعصباً وانقلب كلي
اً على فلسفة التنوير!.

صرح ريجيس دوبريه بعد صدور كتابه المثير للجدل «الأنوار التي تعمي»، ربما للتخفيف من وقع أثره على القراء، بأنه لا يزال ابن التنوير وعصره الذي لا يمكن الخروج منه لأنه أسس كل هذه الحضارة التي تحيط بنا من كل الجهات: حضارة الحداثة، وبالتالي فلا ينبغي أن نتهمه أكثر من اللزوم أو أن نتسرع في إدانته كما فعل بعض المثقفين الفرنسيين الغاضبين.

وإذن فما الذي حصل بالضبط؟، لكي نفهم ذلك ينبغي أن نموضع الأمور ضمن سياقها الفرنسي لا العربي، لأن دوبريه يتحدث انطلاقاً من هموم وحاجيات ثقافية أخرى غير همومنا وحاجياتنا نحن العرب. ينبغي أن يعلم القارئ العربي أن تعليم الدين ممنوع منعاً باتا في المدارس العلمانية الفرنسية، بل إن الدين غائب كلياً تقريباً عن الحياة العامة للمجتمع وعن الساحة الثقافية. وحتى على مستوى الجامعات ما عادوا يدرسون علم اللاهوت أو التيولوجيا كما كان يحصل سابقاً. هذا في حين ان كلية اللاهوت او العلوم الدينية لا تزال تجاور كلية الفلسفة في الجامعات الالمانية. وبالتالي فرد فعل ريجيس دوبريه مفهوم ضمن هذا السياق فقط. فهناك هيمنة طاغية للتنوير في فرنسا، كما ان هناك هيمنة طاغية للاصولية المتزمتة عندنا، وبالتالي فالحالة معكوسة تماما، وكل هيمنة تثير بمرور الزمن رد فعل عليها، والشيء اذا زاد عن حده انقلب الى ضده، كما يقول المثل، هذا قانون تاريخي. فالتنويريون عندنا وجودهم ضعيف وخائف، والكثيرون منهم لا يجرأون على البوح بأفكارهم، وبالتالي فلو كان دوبريه يعيش في أفغانستان أو العالم العربي أو الباكستان، لما ألف كتاباً بعنوان: «الأنوار التي تعمي»، إنما بعنوان: الأصولية التي تعمي..

هكذا نلاحظ أن السياق التاريخي هو الذي يفرض على المفكر نوعية تفكيره واهتماماته، وبالتالي فلا ينبغي ان يستغل المثقفون العرب كتاب دوبريه هذا للانقضاض على التنوير، كما فعل بعضهم بنوع من التسرع وسوء الفهم. فلو ان الرجل عرف بأنه سوف يستغل في هذا الاتجاه، لما ألفه، واكبر دليل على ذلك ما قاله في نفس الكتاب بعد زيارته لمصر وهو ما سنتعرض له لاحقا.

هذه نقطة أولى.. أما النقطة الثانية، فإن ما يدينه المؤلف ليس الأنوار بحد ذاتها، إنما الصورة القدسية الاطلاقية التي شكلها الفرنسيون عنها. وهي صورة أصبحت متكلسة ومتحجرة بمرور الزمن كما يحصل لأي تراث ثقافي عندما ينجح وينتصر ويسيطر. والأنوار منتصرة في فرنسا وعموم أوروبا منذ قرنين، كذلك العلمانية. والمثقف الفرنسي يستطيع ان يناقش اكبر رجل دين على شاشة التلفزيون معلنا اعتراضه على معظم العقائد الدينية من دون ان يحقد عليه رجل الدين او ان يكفره، ومن دون ان يتهيج الجمهور العام لكي يحقد عليه ويهدده. هذه اشياء انتهت في اوروبا ولم يعد لها وجود، يضاف الى ذلك ان الحياة في الغرب أصبحت مادية استهلاكية قائمة على فلسفة المتعة والملذات. أما كل ما عدا ذلك من قيم ميتافيزيقية وروحانيات، فلا وجود له أو لا معنى له في نظر اغلبية الناس.

بل وحتى الشعر اختفى تقريباً، لأنه لا مردود إنتاجي له في عصر التكنولوجيا والصناعة والمنفعة المادية المباشرة والمحسوسة، وبالتالي ففلسفة الحياة انقلبت رأسا على عقب عما كانت عليه في العصور الوسطى.

اعتقد شخصياً، بأن ريجيس دوبريه يفرق بين التنوير العميق على طريقة جان جاك روسو او كانط، والتنوير السطحي على طريقة فولتير أو بالاحرى الفولتيريين الضيقي الأفق، وهو لا يهاجم إلا التنوير الثاني. وفكرته الأساسية تقول ما يلي: تنقصنا المنهجية المتوازنة التي تعرف كيف تصالح بين المتضادات. فنحن لا نريد عقلانية جافة مسطَّحة تستبعد الدين كليا بحجة أنه ظلاميات. ولا نريد أصولية متعصبة تكفِّر الآخرين وتدعو إلى ذبحهم. إن دراسة الدين أو الاهتمام به لا يعني أنك أصبحت شيخاً أصولياً متعصباً مكشراً عن أسنانك!، فلماذا تمنعنا العلمانية المتطرفة من تدريس الدين في المدارس كظاهرة ثقافية وتاريخية كبرى؟، وهنا يوضح ريجيس دوبريه أنه ليس ضد العلمانية المنفتحة المتسامحة، إنما ضد العلمانوية الضيقة والسائدة في أوساط المثقفين الفرنسيين أو قسم كبير منهم.

وبالتالي فالشيء الذي ينفجر ضده دوبريه هو التالي: إن نوعاً ما من أنواع العلمانية والتنوير يمنعنا من دراسة الأساطير، والرموز، والخيال الجماعي، وكل ما هو لا عقلاني في حياتنا. فالإنسان هو بحاجة أيضاً إلى العواطف والمشاعر والشطحات الهائجة واللاعقلانية. وليس بالعقل وحده يحيا الانسان!. وضمن هذا المعنى يدعو للاهتمام بالدين ودراسته أو إعادة تعليمه في المدارس الفرنسية بعد أن سحب منها منذ تشكيل النظام العلماني قبل مائة سنة أو يزيد (1905، تاريخ فصل الكنيسة عن الدولة في فرنسا). لكن لا ينبغي تدريس الدين بشكل اعتقادي طائفي أو عبادي شعائري، إنما كظاهرة ثقافية أثرت في حياة المجتمعات الأوروبية طيلة قرون وقرون قبل انتصار الحداثة والتنوير. فالطالب الفرنسي الحالي لم يعد يفهم مسرحية لراسين أو كورنيه أو نصاً لباسكال أو سواه، لأنه يجهل المرجعيات الدينية المسيحية التي تقف خلفها جهلاً كاملاً. ومعلوم أن ثقافة العصور السابقة من أدب وتاريخ وفكر كانت مغموسة بالمسيحية ومطبوعة بطابعها.

لكن مع ذلك، فإن العلمانيين المتطرفين لم يغفروا له ما حصل أخيرا: وهي أن الدولة كلفته بتقديم تقرير عن امكانية تعليم الظاهرة الدينية في المدرسة العلمانية. فالكثيرون من أصدقائه القدامى أداروا له ظهرهم ، بل وأصبح بعضهم يتحاشى مصافحته أو السلام عليه إذا ما التقاه فجأة في الطريق أو في أحد الأماكن العامة. وقال له بعضهم صراحة: لقد خيبت آمالنا يا ريجيس دوبريه. فهل تريد أن تعيدنا إلى الخلف؟ أما كفانا ما عانيناه سابقاً في فرنسا من حروب الطوائف والمذاهب المسيحية؟ وهل تريد أن تعيد اطفالنا إلى هذه المشاعر الطائفية والمذهبية لكي يكرهوا بعضهم بعضاً على مقاعد الدرس؟، لا، ما كنا ننتظر ذلك من مثقف عقلاني تقدمي مثلك!. والواقع أن بعض مواقف هؤلاء مفهومة ومشروعة. فإعادة تدريس الدين إلى المدارس الفرنسية، قد توقظ العصبيات النائمة وتذكر التلاميذ بأصولهم المختلفة دينياً ومذهبياً. وعندئذ يأخذون بالنظر إلى بعضهم بعضاً شذراً. ومن هنا تبتدئ المشاكل الطائفية التي عانت منها فرنسا كثيراً في السابق، والتي لم تستطع القضاء عليها إلا بفرض النظام العلماني بعد جهد جهيد. فلماذا يريد دوبريه أن يعود بنا إلى الوراء اذن؟، لكنه يرد قائلاً بأنه لا يريد تدريس مادة التربية الدينية او الشعائر والطقوس، إنما مادة الظاهرة الدينية بصفتها إحدى الظواهر التي أثرت على تاريخ البشرية، فلماذا يكون إذن تدريس مفهوم الظاهرة الدينية يعني أننا أصبحنا متدينين أصوليين؟!. ثم يطرح المؤلف الإشكالية العريضة للتنوير على النحو التالي: نحن لسنا من أعداء التنوير ابدا، لكننا لسنا من مؤيديه من دون شروط وبخاصة إذا كان تنويراً سطحياً. والدليل على ذلك هو أن دوبريه يرفض موقف بعض مثقفي اليهود الذين حقدوا على التنوير بعد حصول المحرقة اليهودية إبان الحرب العالمية الثانية، وراحوا يندبون ويولولون قائلين: كيف يمكن التفكير بعد المحرقة؟ كيف يمكن أن نؤمن بالتنوير بعد المحرقة؟ لعنة الله على التنوير والمتنورين! أليس التنوير هو الذي قادنا الى كل ذلك؟ أليست الحضارة العلمانية الالحادية او القومية المتطرفة هي التي ولدت معاداة السامية بشكلها الحديث؟، هذا ما تورط به بشكل من الأشكال كبيرا مدرسة فرانكفورت الفلسفية: هوركهايمر وأدورنو عندما اتهما فلسفة التنوير بأنها تحمل في طياتها بذور الاستبداد التوتاليتاري. يحصل ذلك كما لو أن كانط أو هيغل مسؤولان على هتلر! على هؤلاء يرد دوبريه قائلاً بأن هذا كلام سخيف ومتسرع ولا يصدر إلا عن تلامذة المدارس الابتدائية!، وهذا نقد عنيف لهوركهايمر وأدورنو. فالمعادلة التي تقول بأن التنوير = التقدم العلمي التكنولوجي، وهذا الأخير يؤدي لا محالة إلى غرف الغاز الهتلرية، هي معادلة عبثية لا يصدقها شخص فيه ذرة عقل.. كل هذا هراء. ثم يردف ريجيس دوبريه قائلا بما معناه: هل الإيمان بالله والتدين الكبير للشعب الفرنسي في العصور الوسطى او حتى في القرن السادس عشر منعه من ارتكاب مجزرة سانت بارتيليمي الطائفية والمذهبية! هل حال بينه وبين الدخول في حرب اهلية طاحنة لم تقم منها فرنسا إلا بعد سنوات طويلة؟، وبالتالي فهناك نوع من التدين أخطر من عدم التدين على الإطلاق. هناك الايمان الذي يقتل والايمان الذي يحيي وينعش.. ولحسن الحظ، فإن فرنسا أو أوروبا كلها، خرجت من الاول بعد التنوير. فهو إيمان ضيق، متعصب، مذهبي، ونحن لا نأسف عليه. فالحداثة التنويرية أدت إلى توحيد الشعب الفرنسي والقضاء على العصبيات الطائفية او المذهبية التي مزقته على مدار القرون، وهذا من أكبر إنجازات الحداثة. يضاف إلى ذلك أن الحداثة قضت على الملاريا والطاعون وبقية الأوبئة المعدية عن طريق تقدم الطب. ومعلوم أن هذه الأمراض كانت تحصد الأطفال والناس بمئات الآلف أو حتى بالملايين. ولا تزال تحصدهم في الدول المتخلفة. يضاف إلى ذلك أن الحداثة العلمية والطبية زادت من متوسط عمر الإنسان إلى الضعف تقريباً.. فهل نأسف على كل ذلك؟ هل نندم على كل التقدم الذي حصل بفضل حضارة التنوير والعلم؟، لا، وألف لا. هكذا نلاحظ ان ريجيس دوبريه لا ينضم إلى جوقة أعداء التنوير، وإن كان يوجه ضربات لئيمة وموجعة أحياناً لبعض فلاسفة التنوير، وبخاصة فولتير. كما ان هجومه على المفكر الرائع ذي النزعة الانسانية العميقة تودوروف، غير مفهوم وغير مقبول على الاطلاق.. لكن لنواصل استعراضنا لأفكاره ومحاجّاته لكي تتوضح لنا الصورة بشكل افضل. فأفكار الرجل مرنة ومعقدة اكثر مما نتصور.

يقول ريجيس دوبريه بما معناه: إن أهمية القرن الثامن عشر، أي عصر التنوير، تعود إلى تحريرنا من السلاسل والأغلال: أي سلاسل الأصولية الدينية، والإقطاع الأرستقراطي، والاستبداد السياسي. وكلها أشياء مرتبطة ببعضها بعضا. لكن لا نستطيع أن ننسى أنه تفصل بيننا وبينه مصائب وأهوال ليس أقلها: المحرقة اليهودية، هيروشيما، ناغازاكي، الحروب العالمية، الحروب الاستعمارية، المجازر الشيوعية والستالينية.. الخ، وبالتالي فعلى الرغم من أن أوروبا شهدت التنوير ومرت به وأصبحت حضارية، إلا أن كل هذه الأشياء المرعبة قد حصلت. فلماذا لم يستطع التنوير أن يحمي أوروبا المستنيرة من السقوط مرة أخرى في وهدة الهمجية والبربرية الوحشية؟، وهنا تكمن المعضلة الكبرى والمحيرة. لكن ألا يمكن أن نرد على هذا الاعتراض قائلين بأن المسؤول عن ذلك ليس التنوير بحد ذاته، إنما الانحراف عن مبادئه وقيمه العليا؟، فالفاشية والنازية، على حد علمي، ما كانتا من انصار فلسفة التنوير والنزعة الانسانية التي بلورها الفلاسفة الكبار من ديكارت الى هيغل مرورا بجان جاك روسو وفيخته وشيلنغ وكانط.. وبالتالي فلماذا نجرِّم التنوير؟ ولمصلحة من؟، هنا اجد ان محاجة دوبريه ضعيفة جدا، بل وواهية وفيها ارتداد على مواقفه السابقة من دون شك.

ثم يحكي ريجيس دوبريه قصة زيارته إلى القاهرة بعد غياب طويل ويقول بما معناه: لقد اصطحبني آلان منار، رئيس رابطة مراسلين بلا حدود، معه إلى العاصمة المصرية لكي نجتمع بالصحافيين والمثقفين المصريين بعد أزمة الصور الكاريكاتورية والمظاهرات العنيفة في كراتشي ودمشق.. الخ، وقد فوجئت بمدى التغير الذي طرأ على المشهد الثقافي المصري. فقبل عشرين سنة عندما زرتها لآخر مرة، لم تكن هناك محجبات كثيرات في الشارع، أما الآن فالحجاب يطغى في كل مكان. فهل انتهى عهد هدى شعراوي يا ترى؟، كان المثقفون المصريون يبدأون كلامهم ببعض الاستشهادات من ماركس أو غارودي أو سارتر او عبد الناصر، فماذا حصل لهم يا ترى؟ هل انتهى عهد لطفي الخولي ومحمد سيد أحمد؟ أين ذهبوا وتبخروا؟.

ثم يعترف المؤلف بأن زيارته الأخيرة لمصر تعود إلى عام 1976: أي قبل ثلاثين عاماً بالضبط. وفي أثناء هذه الأعوام الثلاثين اجتاحت الموجة الأصولية بلاد النيل مثلما اجتاحت العالم العربي والإسلامي. ثم بعد ان اجتمع بمثقفي مصر في رابطة الصحافيين المصريين، راح ريجيس دوبريه يتجول لا على التعيين في شوارع القاهرة. وفجأة يقع على بعض الكتب التي تزعج المثقف الغربي أيما إزعاج حتى ولو كان ثورياً ماركسياً مؤيداً للعرب مثله. فجأة يرى في واجهة المكتبات كتاب «كفاحي» لهتلر، ثم كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» الشهير!، وعندئذ يلتفت إلى مرافقه المصري المترجم ويقول له: ما هذا؟ هل يعقل أن تهتموا بمثل هذه الأدبيات الرثة؟، فيتلعثم المرافق ويحاول التقليل من أهمية الأمر بأي شكل، لكن من دون جدوى. وهنا تكمن الهوة السحيقة بين مثقفي الغرب والمثقفين المصريين والعرب عموماً.

وأخيراً ماذا يمكن أن نقول عن كتاب دوبريه هذا؟ ألا يبدو موقفه تناقضياً ومحيراً؟، فهو عندما يذهب إلى القاهرة يصبح من اكبر المدافعين عن التنوير، وعندما يعود إلى باريس يهاجمه؟، في الواقع إنه لا يوجد أي تناقض كما قلت سابقاً. فما ينقص الساحة المصرية هو عكس ما ينقص الساحة الفرنسية. الأولى بحاجة إلى المزيد من التنوير، والثانية بحاجة إلى التخفيف من طغيان التنوير الذي اكتسح في طريقه كل شيء، بل واستأصل حتى مفهوم الدين ذاته!.. وبالتالي فينبغي أن نموضع الأمور ضمن سياقها الطبيعي لكي نفهمها بشكل صحيح. فنحن متعاصرون مع مثقفي الغرب زمنياً، لكن ليس معرفياً. وحاجياتنا الثقافية غير حاجياتهم وهمومهم، بل إنها معاكسة لها تماماً في ما يخص المسألة الدينية. هم أغرقوا في الإلحاد المادي إلى درجة أنهم قضوا على فكرة التعالي الروحاني او الاخروي من أساسها وحولوا الإنسان إلى مجرد كائن استهلاكي وفيزيولوجي محض. ونحن أغرقنا في الأصولية الدينية، وقضينا على الحرية الفكرية المتضمنة في الآية القرآنية: (لا اكراه في الدين).


27‏/07‏/2013

ماهية اللغة ؟ خلاصة نقاشات حول اصل اللغات مستقبلها



 
يورغين ترابانت
من كتابه : " ماهي اللغة؟"
ترجمة: عدنان عباس علي
معهد غوته 



مع أن من حقائق الأمور أن جميع البشر، تقريبا، يستخدمون اللغة باستمرار وأن 
الباحثين المتخصصين في مسائل اللغة قد نجحوا في إعطاء الجواب الشافي على 
الكثير من الأسئلة المتعلقة بها، لا يزال الكثير من الظواهر اللغوية يتسم بالغموض 
ويثير جدلاً عريضاً. فعلاوة على ما تثيره اللغة من مسائل علمية بحتة، هناك 
أيضاً المواقف العقائدية أو وجهات النظر الشخصية. فهل من حسنات الأمور أن 
يتحدث بنو البشر بهذا الكم الكبير من اللغات المختلفة؟ وألا يتعين علينا أن 
نفزع من انقراض هذه اللغة أو تلك؟ في هذه المقالة يلخص يورغين ترابانت 
النقاشات الدائرة حالياً 

حول موضوع اللغة معرفة كاملة باللغة ولكن؟


لم نكن في يوم من الأيام نمتلك هذا الكم من المعرفة عن اللغة كما هي حالنا اليوم

 فمع أن مئات اللغات لم تُحدد خصائصها بنحو دقيق لحد الآن، إلا أن واقع الحال 
يشهد على أن البحث العلمي قد نجح في سبر غور أكثرية اللغات التي يتحدث بها 
بنو البشر. فقد تمت مقارنة جذور بعضها بالبعض الآخر وذلك للتعرف، من ناحية
 على السلالات التي تنتمي إليها اللغات المختلفة، ومن ناحية أخرى، على 
خصائصها البنيوية المشتركة؛ كما سلط البحث العلمي الضوء على ما يسمى 
بلغات الثقافات الحية وراح يتتبع كل طور من أطوار نشوئها وكل صيغة من 
الصيغ التي تبدو بها في اليوم الراهن. على صعيد آخر، قطعنا شوطاً كبيراً في 
التعرف على الأسلوب الذي يتعلم به الأطفال لغاتهم الأم. كما أخذ البحث العلمي
 يطبق طرق بحث متطورة وماهرة للتعرف على ما يجري في المخ عند الكلام.
 لا بل تحقق ما هو أكثر من هذا وذاك، فمن خلال الاكتشافات الأثرية ذات 
الأهمية في شرح المسائل الخاصة بالأنتروبولوجيا، ومن خلال المعارف الجديدة
المتعلقة بالتطور البيولوجي وبعمل الجهاز العصبي، صار الباحثون قادرين على 
وصف طريقة نشأة اللغة. وحين نشير إلى هذه النجاحات، لا يغيب عن بالنا 
طبعاً أن البحث العلمي لا يزال لم يقل القول الفصل والأخير في مختلف 
المناحي التي تحدثنا عنها، أي أن البحث العلمي لا يزال مطالب ببذل جهد 
أكبر لتمحيص هذه المناحي. وتبقى هذه الحقيقة قائمة حتى إن أخذنا 
بالاعتبار أن المعارف بشأن اللغة قد تضاعف كمها أضعافاً مضاعفة منذ صار
 البحث في اللغة تخصصاً علمياً قائماً بحد ذاته.


وبرغم كل هذه النجاحات، لا مندوحة لنا من الاعتراف بحقيقة مفادها: أن السؤال 

البسيط عن معنى اللغة، يبدو الجواب عليه أكثر صعوبة وتعقيداً، كلما كنا 
أكثر علماً باللغة. ولا تكمن جذور هذه الظاهرة، فقط، في أن المعارف 
المتعاظمة تزيد من أبعاد المشكلة وتعقيداتها، بل تكمن، أيضاً، في أن المعارف 
الأكثر دقة تسبب رجة قوية للمعارف الجيدة التي ركن إليها البحث العلمي في
 الأزمنة السابقة. فما اطمأن إليه المرء في سابق الزمن وصار من مسلمات الأمر
 يغدو فجأة أمراً مثيراً للجدل والنقاش: أعني مسائل من قبيل ما إذا كانت 
اللغة وسيلة للتواصل ولتبادل المعلومات، ما إذا كانت اللغة ظاهرة صوتية
 ما إذا كانت اللغة ظاهرة ثقافية أو أنها ظاهرة طبيعية بنحو ما، أي ما إذا كانت
 "جهازاً" بنحو أو آخر أو "غريزة" جبل عليها الإنسان إلى حد ما. وما هي 
العلاقة بين التفكير والتكلم؟ وهل من حسنات أم من سيئات الأمور أن تتوافر
البشرية على هذا الكم الكبير من اللغات المختلفة؟ على صعيد آخر، تدفعنا 
النقاشات الدائرة في الساحة الحالية إلى ضرورة البحث في علاقة اللغة بالأدب
أي في علاقتها "بفن" المقالة المكتوبة أو الحديث التحريري، المتعارف عليه 
في الثقافة اللغوية المتطورة بنحو متسارع. وهكذا، فإن الجواب المقتضب
التالي على السؤال عن معنى اللغة، ليس سوى محاولة أخذت على عاتقها 
أن لا تجيب على هذا السؤال أو ذاك بأسلوب جازم، أكيد، وأن تترك الباب 
مفتوحاً لأكثر من جواب واحد. أما المسائل الجزئية المتعلقة بهذا الجانب 
أو ذاك من اللغة، فإننا سنتحدث عنها بإسهاب في هذا الكتاب، وذلك في 
الفصول التي خصصناها لها.



اللغتان الداخلية والخارجية

وربما تصور البعض منا أن القول بأن اللغة هي في الأساس خاصية يتميز بها 

بنو البشر هو من مسلمات الأمور. وهؤلاء يعتقدون بأن البشر يستطيعون 
أن ينطقوا بأصوات معينة حين يريدون إبلاغ الآخرين فكرة أو إحساساً أو
 "مضموناً" معيناً وأن هؤلاء من ناحيتهم يسمعون هذه الأصوات بآذانهم 
و"يفهمون" المراد تبليغه، وأنهم بدورهم يحفزون للنطق بأصوات مشابهة 
كرد فعل على الأصوات التي تناهت إلى أسماعهم. بيد أن واقع الحال يشهد 
على أن هذا القول يثير الكثير من الجدل والشكوك في اليوم الراهن. وليس 
ثمة شك في أن لا أحد منا يشكك في انتهاج بني البشر هذا التصرف 
حينما ينطقون بأصوات معينة للتواصل وتبادل المعلومات. إن كل ما في 
الأمر هو أن البعض منا يشير إلى أن التواصل وتبادل المعلومات هو في 
أفضل الحالات، وظيفة ثانوية من الوظائف التي تؤديها اللغة – وأن هذا 
التواصل وتبادل المعلومات ليس خاصية تميز بني البشر وحدهم، فكل حيوان
 لا بل أن الحياة برمتها، في تواصل مستمر وتبادل دائم للمعلومات. كما يشير 
هؤلاء إلى هذا أن ظهور اللغة بمظهر الأصوات المنطوقة يشكل خاصية 
عرضية في أفضل الحالات فاللغة يمكن أن تتجسد من خلال وسائط أخرى
من خلال الإشارة باليد على سبيل المثال. من هنا يؤكد البعض على ضرورة 
التمييز بين "اللغة الخارجية" أو Speech وبين "اللغة الداخلية" 
أو language. فالظاهرتان تجسدان، بحسب رأيهم، أمرين انفصل الواحد
 منهما عن الآخر، في سياق ذلك التطور أيضاً، الذي مر به الإنسان عبر الزمن
 فبالنسبة للغة (كنظام نحوي معجمي)، أي بالنسبة لما أطلقنا عليه language
 يكمن الأمر الحاسم إذاً في مناحي أكثر عمقاً؛ يكمن خلف تلك العمليات 
المرصودة كأمر ذهني، كنظام معرفي: "فاللغة" هي ما يكتسبه الإنسان بحكم 
الوراثة من قابلية على تركيب الموضوعات الذهنية في المخ بنحو لا قابلية لأي
 كائن حي آخر على مضارعته فيها. ومعنى هذا، هو أن الأسس العامة لهذه
القابلية التركيبية، لهذه القاعدة النحوية الشاملة التي جُبل عليها كافة بني البشر
تنبع من أمر غريزي، من أمر فطري؛ وأن هذه النواة فقط – وبالترابط مع
قاموس من الزاد الذهني – هي وبكل معنى الكلمة، ما نقصده حين نسأل عن
معنى "اللغة". ويكمن البرهان الأساسي لانفصال هذه اللغة الداخلية المجبول
عليها الإنسان غريزياً (عن اللغة الخارجية) في حقيقة أن الطفل يكتسب 
اللغة ليس من خلال مدخلات لغوية رخوة، سيئة النظام مصدرها التواصل
مع المحيط الكائن من حوله، بل من خلال مبادئ نحوية مجبول عليها غريزياً.


وليس ثمة شك، أن بالإمكان، فعلاً، الاعتقاد بأن هذه النواة المعرفية هي الجانب 

الإنساني في اللغة، أي أنها ذلك الأمر الذي يميزنا عن باقي فصائل الثدييات 
( فتأسيساً على تطور المخلوقات عبر الزمن، فإن الشروط البيولوجية التي انطلق 
منها الباحثون حتى الآن، أعني وقوف الإنسان على قدميه وانتصاب قامته ونمو 
حجم مخه وتخصصه، أي المخ، بوظائف معينة وهبوط حنجرته إلى مستوى أدنى
 وما شابه ذلك من تحولات مر بها الإنسان عبر التاريخ، تكتسب أهمية ثانوية
بالنسبة لنشأة اللغة). ومع أن وجهة النظر أعلاه ملاحظة ذكية فعلاً ومنطقية
إلا أنها أبعد ما تكون عن العلم الموثق الذي لا يطوله الشك. فالجهود، التي بذلها 
العلماء، من أجل عزل هذه النواة المعرفية، التي يقلل المرء من شأنها فيعتبرها
مجرد "جهاز اللغة" نعم من أجل عزل هذه النواة المعرفية عن الذكاء المعتاد 
أو الذهاب إلى ما هو أبعد من هذا، أعني محاولة تشخيص "جينة مختصة" بهذا
الجهاز، باءت بالفشل على طول الخط أو تبث أنها ليست سوى تضليل متعمد. 
ولكن، وحتى وإن افترضنا أن بالإمكان تحقيق هذه المرامي، فإن الكثير من 
الدراسات – في حقل اكتساب اللغة – تشير إلى أن اللغة، بوصفها تقنية معرفية
ترتبط بتبادل المعلومات وبالصوت والسماع، أي أن أنه لا يمكن الفصل بين
language(أي اللغة كنظام نحوي، معجمي) و Speech(الخطاب)، ففي وقت 
مبكر، أي حينما لا يزال الأطفال أجنة في أرحام أمهاتهم، فإنهم يسمعون اللغة
التي تتحدث بها أمهاتهم، أي أنهم يكادون أن "يستغرقوا" في رنين ونغم هذه
 اللغة وفي إيقاعها وجرسها. بهذا المعنى، فإن بني البشر يعيشون منذ أول 
ساعات وجودهم، في الكلام الذي يسمعونه يتعالى من المحيط الذي يعيشون
 في كنفه، هذا الكلام الذي يردون عليه، بدورهم، بالجواب المنطوق. وكما هو 
ثابت من خلال لغة الصم، يمكن للمرء أن يسأل ويرد رمزياً أيضاً؛ من ناحية 
أخرى، فإن وجود إشارات يستطيع المرء ملاحظاتها بنحو مادي، أمر حتمي
لاكتساب اللغة أو - وحذراً من أن تكون عبارة "اكتساب" مصطلحاً زائفاً - دعنا
 نقول: أن وجود هذه الإشارات أمر حتمي "للتمرن" على اللغة. ففقط من خلال 
التفاعل مع بني البشر الذين يشرفون على تربية الأطفال، يكتسب هؤلاء 
الأطفال – وفق خطة زمنية محددة بيولوجياً – اللغة أو لغات العالم الذي 
يعيشون في كنفه. بهذا المعنى، فإن تأكيد فلهلم فون هومبولدت على أن "عمل 
العقل" هو اللغة، يعني أن هذا "العمل" يتم دائماً وأبداً من خلال التواصل مع
الإنسان الآخر. من هنا، فإنه أمر منطقي أن يركز المرء منظوره، عند الحديث 
عن اللغة، على الاستخدام اليومي للغة، فهذا الاستخدام يجمع بين اللغة "الخارجية" 
وبين ما يفهمه المرء عادة من "اللغة": أعني أنه يعكس اللغة "الخارجية" 
و(مَلَكَة) التفكير (ووظيفة) تبادل المعلومات. بهذا النحو لا تجسد اللغة خاصية 
واحدة، بل خصائص مختلفة.


تبادل المعلومات والتواصل مع الآخر

"التواصل مع الآخرين وتبادل المعلومات معهم" هو إذاً، وبنحو شديد العمومية

 مصطلح عام للعمليات المختلفة التي ينفذها بنو البشر من خلال اللغة. فنحن 
لا نكشف للآخرين حقائق موضوعية فقط، (حين نقول لهم: الشمس مشرقة)، بل 
نحن نناشدهم القيام بأمر معين ونعاهدهم على أن نفي بما تعهدنا به ونبادرهم 
بالتحية ونُعّمِد الأطفال ونعلمهم أصول الدين ونروي القصص ونسلي أنفسنا 
بالأحاديث والألعاب ونكتب الشعر. على صعيد آخر، ومع أن الحيوانات تتواصل
 فيما بينها وتتبادل المعلومات أيضاً، إلا أن هذه الحقيقة لا يجوز أن تحجب عن 
ناظرينا أن الاختلافات بين السلوك الذي يسلكه بنو البشر عند تبادل المعلومات 
بين بعضهم والسلوك الذي تسلكه الحيوانات لم يفلح المرء في تقديرها بالنحو 
المطلوب 
وسبر غورها بالقدر المناسب لحد الآن؛ فمن مسلمات الأمور أن الحيوانات يناشد 
بعضها البعض الآخر بفعل عمل معين، أن بعضها يحذر البعض الآخر، أن 
بعضها يكسف للبعض الآخر معلومات معينة. ولكن، هل تتعاهد الحيوانات على 
الوفاء بشيء معين؟ هل تُعَّمِد الحيوانات أطفالها وتسميهم بأسماء معينة؟ وهل 
تروي الحيوانات القصص وتصنع التحف الفنية من خلال إشاراتها وإيماءاتها؟
 ومع اعترافنا بأواصر الأخوة المتينة القائمة بين الإنسان، من ناحية، وباقي ا
لمخلوقات من ناحية ثانية، يظل بين الجنسين فارق عظيم تكمن حقيقته في أن
 السلوك الذي يسلكه بنو البشر عند تبادل المعلومات هو سلوك مقصود، متعمد
 هو سلوك يأتي تجسيداً لفعل بالمعنى الضيق لهذا المصطلح (وهنا لا يجوز أن 
يغرب عن بالنا طبعاً أن وجود الفعل المقصود قد جرى التشكيك فيه في سياق
 الجدل الدائر حول حرية الإرادة؛ وتبقى هذه الحقيقة قائمة حتى وإن اعترفنا 
بأن هذا الجدل قد فقد، ثانية، شيئاً من عنفوانه في الآونة الأخيرة). من هنا، فإننا 
أحرار أيضاً فيما إذا كنا نريد تبادل المعلومات أو لا نريد؛ فأفعالنا الرامية إلى 
تبادل المعلومات يمكن أن تكون نفاقاً متعمداً؛ أضف إلى هذا أن الواجب يحتم 
علينا أن نكون مسئولين عن الفعل الذي نسلكه عند تبادل المعلومات: فنحن 
ملزمون بالوفاء بما تعهدنا بفعله، وشهادة الزور قد تترتب عليها عقوبات 
عظيمة، وتوجيه الشتائم يقود المرء إلى المثول أمام القضاء. بهذا المعنى
 فإن تركيز النظر على القاعدة النحوية الشاملة، القاعدة التي جبل عليها كافة 
بني البشر، يتجاهل، كما هو بين، الجانب الإنساني في اللغة.


ومن يرى أن اللغة ليست سوى تقنية تفصح، من خلال الأصوات، عما يريد
الإنسان الإدلاء به من معلومات معرفية، ما عليه إلا أن يضيف إلى هذا أن
 بني البشر ينهجون هنا أساليب غاية في الاختلاف. فظهور اللغة بصيغ صوتية
 متباينة (لا يزال) يشكل إحدى أدق الظواهر الملموسة وواحدة من أكثر الحقائق
 المثيرة للبلبلة والحيرة. وليس المقصود بهذه الحقيقة الاختلافات الطبيعية بين
الأصوات، أي حقيقة أن لكل شخص نبرته الخاصة به، أن رنين نفس الكلمات
 يختلف عند الرجال عنه عند النساء، يختلف عند الشبيبة عنه عند الطاعنين
 في السن. المقصود هو، في الواقع، الاختلافات القائمة بين الكلمات ذاتها، تباينها
 الثقافي. فبنو البشر ينطقون بأصوات مختلفة الترتيب ليس بحكم ما بينهم من
اختلافات طبيعية، بل لأنهم ينتمون إلى جماعات مختلفة ولأنهم تعلموا التحدث
بلغة هذه الجماعة أو تلك من خلال ترعرعهم في كنف جماعة معينة. انطلاقاً
من وجهة النظر هذه، تبدو اللغة، في المنظور العام، المجموع الكلي للغات
المختلفة التي عرفها التاريخ.


علاوة على ذلك، فإن التنوع المرصد لا يرجعه الكثير من بني البشر إلى الأصوات 

فقط، بل هم يؤكدون أيضاً على أن البشر الذين يتكلمون بلغات مختلفة يفكرون 
بنحو مختلف. وفي أغلب الحالات، فإن من الصعوبة بمكان الحصول على جواب
 أكثر دقة بشأن المجال الذي يظهر فيه هذا "التفكير" المختلف. فالجواب الذي 
يحصل عليه السائل سيكون على شاكلة ذلك الرد الذي يقول بأن الفرنسيين 
يعبرون من خلال كلمةesprit (خفة الروح، ظرافة)، عن معنى هو فرنسي 
محض حقيقة. وقد يشير المرء هنا إلى شعوب الأسكيمو؛ فهذه الشعوب تعبر عن 
الظاهرة التي لدينا اسم واحد لها لا غير: "جليد"، بأسماء لا حصر لها. ومع 
الاعتراف بأنه لا مندوحة للمرء من أن يمعن النظر في هذه الأمثلة بنحو 
مستفيض وأن يأخذ كل مثال بمفرده عند تتبع تداعياته، إلا أنها، أعني هذه 
الأمثلة، تبين بجلاء الأمر المقصود: فوجود خلفيات خصوصية تحدد طرائق
 "التفكير" في كل لغة، يؤكد، في الواقع، على وجهة النظر القائلة بأن اللغات 
تشكل العالم (من خلال دلالات وتطور الألفاظ) بنحو متباين ذهنياً.




علم اللغة وطرق التفكير والتعبير

إن اكتشاف اختلاف طرائق "التفكير"، من لغة إلى أخرى، إنما هو واحد
من أعظم الاكتشافات التي توصل إليها الباحثون في العصر الحديث. ففرنسيس
بيكون الفيلسوف الإنجليزي الذي يُعد عن حق واضع أسس العلم الحديث، يؤكد
تأكيداً جازماً على أن الكلمات تتضمن "تفكيراً" معيناً (تتضمن تفكيراً سيئاً، تفكيراً
هو شعبي وغير علمي). من ناحية أخرى، كان هردر Herderقد أشار إلى أن
الأفكار "ملتصقة" التصاقاً وثيقاً بالكلمات. وبعد زمن قصير من ذلك، أشار
جون لوك إلى أن الكلمات الدارجة في اللغات المختلفة ترتبط بـ"الأفكار" ارتباطاً
وثيقاً حتى وإن بدت هذه الكلمات تعبر عن ذات الأمر كما هو بين عند المقارنة
 بين الكلمات الإنجليزية foot(قدم) وhour(الساعة الزمنية) ومرادفاتها
اللاتينية pes(القدم كأداة لقياس الطول) وhora(ساعة العبادة في الكنيسة
 الكاثوليكية). وكان لوك، من ناحيته قد أشار إلى أن هذا الوضع لا يناسب، أصلاً
 متطلبات البحث العلمي ومتطلبات حركة التنوير. إلا أن أهم الشارحين لأفكاره
أعني لايبنتز Leibniz، كان قد رأى في التباين القائم بين مدلولات وتطور
الألفاظ في اللغات المختلفة "تنوعاً عظيماً ينتاب العمليات التي ينهض بها
العقل الإنساني"؛ ولهذا السبب أيضاً، ناشد لا يبنتز المتخصصين أن يتولوا تقديم
وصف لكافة لغات العالم. ولا غرو في أن هذه المناشدة كانت بمثابة شهادة الميلاد
 بالنسبة لنشأة علم اللغة الحديث.


بيد أن علم اللغة لم ينقب عن التنوع العظيم الذي ينتاب العمليات التي ينهض بها 

العقل الإنساني في متن اللغة فقط، بل وفي القواعد النحوية، أيضاً، أي في المادة 
المميزة لكل واحدة من لغات العالم: فالعمليات الفكرية التي ينتهجها بنوالبشر 
تختلف باختلاف اللغات التي يتحدثون بها. فالناطق بالفرنسية، أعني الشخص الذي 
لا مندوحة له من استخدام أزمان الفعل المختلفة عند روايته لقصة معينة، لا "يفكر"
 بنفس الطريقة التي يفكر بها الناطق باللغة الألمانية، الذي يستخدم عند روايته 
لقصة معينة زمناً واحداً، الفعل الماضي فقط. أضف إلى هذا، أن من يروي 
بالفرنسية قصة معينة، يميز بين ما هو المقدمة التمهيدية في القصة وما هو 
الموضوع الأساسي فيها: فالفرنسي يستخدم عند الحديث عن المقدمة التمهيدية 
الماضي المستمر ، هذا في حين أنه يستخدمالماضي البسيط عند روايته للحدث 
الأساسي.


وربما لن يستطع أحد أن يضاهي فلهلم فون همبولدت من حيث قوة إشادته 

بالاختلافات الفكرية القائمة بين اللغات، فهو رأى في هذه الاختلافات ثروة 
عظيمة تتميز بها الطاقة العقلية البشرية. فقد كتب قائلاً:



"إن تعدد اللغات لا يعني أننا إزاء تسمية للشيء الواحد بعدد اللغات المعنية؛ إننا 
هنا إزاء وجهات نظر مختلفة بشأن ذات الشيء.... بهذا المعنى، فإن تعدد اللغات 
يشكل بنحو مباشر، نمواً مضطرداً في ثروة العالم وفي تنوع ما نلاحظه في 
هذا العالم فمن خلال هذا التنوع، تزداد اتساعاً، دائرة الوجود الإنساني أيضاً
 وهكذا، تظهر لنا أنواع جديدة من طرائق التفكير في سجايا محددة وواقعية."


أسطورة التحدث بلغة واحدة!

إلا أن أنصار الفكرة القائلة بأن آلية التركيب المعرفي سجية غريزية يتصف بها
كل بني البشر يعترضون على هذا الاكتشاف الذي صار من مسلمات الأمور
بقدر تعلقه باللغة. فالاختلافات القائمة بين اللغات من حيث دلالات وتطور
الألفاظ ما عادت بالنسبة لهؤلاء اختلافات في طرائق "التفكير". من هنا
 لا مندوحة للمرء من أن يسأل هؤلاء: ماذا نقول إذاً، حين يميز الفرنسيون بين
 المقدمة التمهيدية في القصة وبين متنها؟ أو حين يفرق الإنجليز بين لحم الخنزير
 المقلي في المقلاة فيسمونه pork والخنزير الحي، فيسمونه pig، خلافاً للألمان
الذين لا يجرون أي تمييز من هذا النوع؟ إن اعتراض دعاة النظرية الشمولية
 محق في تحذيره من مغبة الإعلاء من شأن هذه الاختلافات بأكثر مما ينبغي
وإساءة استخدامها لاستخلاص مزاعم أيديولوجية منها (بشأن "عقلية" بعض
المتحدثين بلغات معينة على سبيل المثال). فهذا المسلك ضار ويثير الفزع والريب
 فعلاً.


إن المرء في أوربا، والعالم الغربي عامة، كان ولا يزال يعتقد بما ذهب إليه
الثوار الفرنسيون: اختلاف اللغات عقوبة نزلت ببني البشر كما تروي ذلك الأسطورة 

المذكورة في العهد القديم. فلمعاقبة الإنسان على تكبره، نزل الرب وبلبل
 لسان بني البشر؛ فحتى ذلك الحين كان بنو البشر، بحسب هذه الأسطورة، شعباً 
واحداً ولساناً واحداً، أي أنهم، جميعاً، كانوا يتكلمون في الجنة بلسان واحد. بهذا 
المعنى، فإن اختلاف اللغات كان يُراد منه الحيلولة دون توافر كافة بني البشر 
على لسان واحد للتواصل وتبادل المعلومات. وهكذا، وعلى خلفية هذا المنظور
 صار إلغاء هذه العقوبة، المذكورة في العهد القديم، أعني العودة ثانية إلى التحدث
 بلغة واحدة – في داخل الدولة الواحدة على أدنى تقدير – يعني السعي إلى العودة
 إلى نعيم الجنة.


وعلى خلفية هذه الأسطورة بعيدة الأغوار في ثقافتنا، هذه الأسطورة التي تعكس 

حنين بني البشر إلى التحدث بلغة واحدة، لغة يفهما الجميع، يواجه أولئك، الذين 
يتمنون وجود لغات كثيرة، مصاعب جمة. وكما سبق أن بينا، فإن لايبنتز كان 
واحداً من أولئك الذي يتمنون وجود لغات كثيرة. ففي سياق رده على شكوى 
مفكري حركة التنوير - والأصوليين المسيحيين – من تعدد اللغات، يدعو لايبنتز 

إلى ضرورة تقبل تنوع اللغات عن طيب خاطر، فهذا التنوع شاهد على ثراء 
العقل الإنساني. بهذا المعنى، فإن بلبلة اللسان في بابل كان قد جسد فرصة طيبة 
وحسنة عظيمة!


ولكن، ما هي خلاصة كل ما قلناه؟ أتنطوي تعددية اللغات على ثراء أم على بلوى؟ 

على حسنة أم على عقاب؟ إن واقع الحال يشهد على أن تعددية اللغات تنطوي على 
كل هذه الأمور المتناقضة. فتعدد اللغات ينطوي على إثراء للفكر، إنه ثروة لثقافة 
بني البشر، وهو في الوقت نفسه، عقبة في طريق التواصل وتداول للمعلومات.
 إنه كلا النقيضين في آن واحد.


وأبان لنا لايبنتز أيضاً الطريقة الصائبة لاجتثاث جذور هذا التناقض. فبرغم
غبطته الكبيرة ببلبلة اللسان في بابل، كان لا يبنتز من محبي الجنة: فمن أجل الوفاء 

بمتطلبات البحث العلمي والتبادل بين الدول على سبيل المثال، رأى لايبنتز أن توافر
 بني البشر على لغة عالمية أمر مستحسن بكل تأكيد. وأبدى لايبنتز اهتماماً كبيراً 
بالجنة من حيث أنها كانت ظاهرة من ظواهر الماضي السحيق. وفيما انحدر كافة 
بني البشر من سلالة الإنسان العاقل (Homo-sapien)الذي نشأ في أفريقيا، كما 
يؤكد على ذلك الانثروبولوجيون المتخصصون في التاريخ القديم، يعتقد لايبنتز 
أيضاً- وبالاتفاق مع العلماء المتخصصين بتاريخ اللغات - أن البشرية كانت تتحدث
 بلغة واحدة لا غير في الماضي السحيق، أي أن كافة لغات العالم مشتقة من لغة 
واحدة: من لغة اشتركت فيها مختلف الشعوب والأقوام. ومعنى هذا هو أن لايبنتز
 واثق كل الوثوق من أن كافة بني البشر يتماثلون تماثلاً تاماً فيما يتعلق اللغة 
وطرائق التفكير. وتبقى هذه الحقيقة قائمة، بحسب وجهة نظره، حتى وإن أخذنا 
بالاعتبار التنوع الذي طرأ على كلتيهما عبر التاريخ. وتصور الأسطورة اللغوية 
الثالثة الواردة في الأناجيل، أعني أسطورة يوم العنصرة (Pfingsten)، بنحو 
جميل قصة ائتلاف النقائض: ففي يوم العنصرة لا تتلاشى التعددية اللغوية البابلية
 ولا ترجع البشرية إلى الفردوس المنشود، بل تتغلب على العائق الذي 
يعيقها عن التواصل وتبادل المعلومات، وذلك لأن المرء صار يتكلم بلغات أخرى
 غير لغته الأم (فقد ورد في الكتاب المقدس/أعمال الرسل: "... فامتلأوا كلهم من 
الروح القدس وأخذوا يتكلمون بلغات غير لغاتهم، على قدر ما منحهم الروح 
القدس أن ينطقوا" وهكذا، فلكي تتوافر البشرية على طرائق تفكير موحدة، فإنها 
ليست بحاجة إلى "لغة موحدة" أبداً. فالروح (القدس) الواحد، الروح (القدس) 
العالمي، يتجسد في كافة الأصوات المنطوقة وفي أرواح كافة الشعوب. إن يوم 
العنصرة يبين لنا أن الظاهرتين متلازمتان ويتبع بعضهما بعضاً: أعني أن وحدة 
اللغات التي تتحدث بها البشرية واختلافها أمران مترابطان ترابطاً وثيقاً.


بيد أن الزمن الحاضر يحابي ظهور لغة واحدة تلبية، من ناحية، لمتطلبات
المنظور العلمي، ومن ناحية ثانية استجابة لمتطلبات المنظور السياسي؛ وربما من
 ناحية أخرى، لأن المشاريع البابلية الطابع - بناء على تعددية اللغات وعلى خلفية
 ما حل ببابل من بلبلة لسان بني البشر – قد بلغت النهاية في كلا المنظورين:
فبعدما انتهت العلوم اللغوية من وصف الاختلافات اللغوية، راحت تتساءل عما
إذا كان ثمة أمر مشترك بين هذه اللغات عظيمة العدد. على صعيد آخر، صار التجزؤ إلى أمم 
وشعوب مختلفة من حيث اللغة، مشروعاً سياسياً يتسم بإشكاليات لا يستهان بها
 مشروعاً يمكن الخلاص منه عبر المنظورات العولمية، المتخطية كافة الانتماءات الدولية. بهذا المعنى، فإن النظرية الشمولية السائدة في الدراسات اللغوية، هذه 
النظرية التي تقلل من شأن التباينات وتؤكد على الوحدة، تلبي بنحو عظيم جداً
 متطلبات العولمة اللغوية والثقافية. أضف إلى هذا، أن هذه النظرية الشمولية تحابي
 حالياً الاهتمام العظيم الذي يحظى به السؤال عن أصل اللغة، تحابي السؤال الذي 
هو، هيكلياً، سؤال عن الجنة دائماً وأبداً. (أي التحدث بلغة واحدة في العالم برمته).
إن اختلاف اللغات، إن بلبلة لسان بني البشر – سواء كانت هذه البلبلة نعمة أم
عقاباً – لم يجر التغلب عليه حتى الآن طبعاً: فالتقديرات تشير إلى أن ثمة 6000
لغة. وعند إمعان النظر في هذا الرقم الكبير لا مندوحة للمرء من أن يأخذ
بالاعتبار أن من الصعوبة بمكان تحديد أين تنتهي حدود هذه اللغة وأين تبدأ حدود
اللغة الأخرى، وما إذا كنا حقاً إزاء لغة قائمة بذاتها أم إزاء لهجة أو لهجات
دارجة في هذه اللغة. ومع ضخامة الرقم المذكور، فإن من مسلمات الأمور هو
أن الكثير من هذه اللغات ستنقرض في المستقبل المنظور. فالنظام المتحكم بالعالم
 الراهن يحتم ذوبان الجماعات الصغيرة في الجماعات السياسية الأكبر حجماً
وتسري هذه الحقيقة، أيضاً، على اللغات التي تتحدث بها الجماعات الصغيرة
 وكان البعض قد رأي أن انقراض اللغات على شبه كبير بتراجع تنوع الكائنات
الطبيعية في البيئة التي يعيش بنو البشر في كنفها. وليس ثمة شك في أن انقراض
اللغات يقلص ثراء العقل الإنساني، هذا الثراء الذي حظي باهتمام لايبنتز
واهتمام فلهلم فون هومبولدت من بعدُ. فمع انقراض كل واحدة من لغات العالم
 تنهار منارة من منارات الفكر الإنساني؛ تخسر الإنسانية أسلوباً من أساليب
التفكر بالعالم الذي يحيط بنا. فكما أن مياه النهر تجتاح، عند تشييد سد جديد القرية
 القديمة والمعبد العظيم والمدينة الرومانية المهمة، كذلك تدك لغات الجماعات
 الكبيرة لغات الجماعات الصغيرة وتسحقها. ولكن، هل يحق للمرء فعلاً
أن ينصح المزارع البريتاني بعدم التحول صوب اللغة الفرنسية وبضرورة أن
 يبقى أطفاله يعيشون في ظلال الصورة التقليدية التي تتطلبها الحياة في كنف
المجتمع البريتاني؟ وعلى ما يبدو، فإن البريتانيين يعتقدون بأن المكسب الذي
يحققونه من جراء تخليهم عن لغتهم أكبر بكثير من الخسارة الذي سيتكبدونها
من جراء تحولهم صوب اللغة الفرنسية. فتحولهم إلى اللغة الفرنسية يعني أنهم
 صاروا يتحدثون بلغة ثقافية عظيمة المكانة، صاروا يتمتعون بفرصة الارتقاء
اجتماعياً، صاروا ينتمون إلى أمة أكبر. وخلافاً لهذا كله، فإنهم سيخسرون طبعاً
 شيئاً من "هويتهم الوطنية"، سيخسرون تاريخهم وقصصهم وأناشيدهم وطرائق
"التفكير" التي تحددها لهم لغتهم (وهذا هو بالضبط، أعني الخطاب العتيق
 (oldspeak)، أي التفكير العتيق (oldsthink)، هو الأمر الذي كان ينبغي محوه
 نهائياً بحسب تصورات ثوار عام 1789 ومساعيهم الرامية إلى توحيد الجميع
في بوتقة واحدة). بيد أن اللغات (الكبيرة) لن تبق بمعزل عن هذه الديناميكية بكل
 تأكيد؛ فهي أيضاً سيغمرها المد العالمي العظيم الذي تتمتع به بعض اللغات. حقاً
لا تزال هذه اللغات (الكبيرة) تقاوم هذا المد كما لو كانت جزراً تقف شامخة في
مواجهة أمواج البحر المتلاطمة. ولكن، هل بمستطاعنا، فعلاً، رفض المشاركة في
 عملية الاتصالات وتبادل المعلومات عالمية الأبعاد؟ لن يكون بوسعنا هذا بكل
 تأكيد. ومع هذا، لا مراء في أن انضواءنا تحت راية الانفتاح السائد في العالم
الفسيح، أن انتقالنا إلى الجنة، سيعني أننا سنخسر – مثلنا في ذلك مثل المزارع
البريتاني – هويتنا، سنخسر خصوصيتنا وأننا سنخسر، بالتالي، الفرصة أيضاً
لأن نفكر ونحيا "بنحو مختلف".


وهذا هو معنى الحياة في الجنة، فهاهنا ليس المرء بحاجة لأن يفكر أو يحيا بنحو
مختلف عن الآخرين؛ فالخيارات الأخرى لا ضرورة لها هنا. بهذا المعنى، لن
 يكون هناك وجود للمتناقضات. ولكن، وبما أن الأمور لا تزال لم تصل بعد
إلى هذه الحال بالكامل، سنواصل افتراض استمرار وجود الأمور المتناقضة
التي أشرنا إليها أعلاه.

13‏/07‏/2013

ثلاثة نماذج معيارية للديموقراطية عند هابرماس


ثلاثة نماذج معيارية للديموقراطية عند هابرماس

بقلم : زهير الخويلدي



" الديمقراطية هي مرادفة للتنظيم الذاتي السياسي للمجتمع"

لعل الهاجس الأكبر للفيلسوف الألماني يورغن هابرماس هو اعادة بناء نسق الحقوق ومنظومة المواطنة المعاصرة بحيث يخلصها من القيمة الإستعمالية ويمنحها قيمة تداولية ويتجاوز الهوة التي تفصل الملكية الخاصة مع حرية المجتمعات ويتخطى التوتر القائم بين حقوق الانسان وسيادة الشعوب. وقد ترتب عن ذلك تدشين حقبة جديدة يلعب فيها الباراديغم الاجرائي دور البطل في المشهد السياسي مع الحاجة للاستنجاد بإتيقا المناقشة والكليات التواصلية التي وقعها بنفسه في الفضاء العمومي والعقل التواصلي.
من المفروض اذن أن تحدد قيمة المواطنة الشروط الأنثربولوجية للحياة السياسية الديمقراطية وتضغط على توجه كل حياة مدنية ممكنة نحو العيش المترك واحترام التعددية وتؤسس بطريقة جذرية انتماء الفرد الى جماعة سياسية معينة وتضع الحق والأخلاق والسياسة في الواجهة التمهيدية لكل فضاء مجتمعي.

على هذا النحو خصص هابرماس قسما من فصل في كتابه "الإندماج الجمهوري" للتساؤل عن ماهية السياسة التداولية وأقر بوجود احالة الى تصورين للسياسة كلاهما يتأسس على أنماط مثالية، هما التصور الليبرالي والتصور الجمهوري، ويشير الى أن الجبهة التي يثار فوقها هذا النقاش هي جبهة الجماعاتيين. ويرجع الى فرانك ميشالمان الذي وصف النموذجين ويعارض بينهما بشكل سجالي واعتبرهما يختلفان حول تحديد المواطن ومفهوم الحق وحول الطريقة التي يتصورها بها المسار الذي تتكون به الارادة السياسية. لهذا السبب ينفتح هابرماس على عالم العقلانية التواصلية ويقوم بنقد الحمولة الإتيقية للنموذج الجمهورياتي ويطور تصورا ثالثا للسياسة يسميه سياسة تداولية وهو من طبيعة اجرائية.

ان الذي يصنع الفارق بين النموذجين هو وظيفة المسار الديمقراطي. ان دور المسار الديمقراطي في النموذج الليبرالي هو برمجة الدولة لكي تحقق مصلحة المجتمع وان الدولة الليبرالية تمثل هنا جهاز الادارة العمومية ويمثل المجتمع نظام العلاقات بين الشغل الاجتماعي والأشخاص المستقلين والذي يتم هيكلتهم بواسطة اقتصاد السوق. لذلك تعمل السياسة هنا على تشكيل الارادة العامة للمواطنين وترتكز وظيفتها على التجميع وتأكيد المصالح الخاصة بالمقارنة مع جهاز الدولة الذي تكون وظيفته الخصوصية هي الاستعمال الإداري للسلطة السياسية من أجل انجاز وبلورة الأهداف الجماعية. في المقابل لا يمكن اختزال السياسة في التصور الجمهوري عند باب وظيفة التوسط التي قد تقوم بها بين القوى المتصارعة ، وإنما هي جهد تكويني لمسار الاجتماعية في مجموعه.
ان السياسة هي الشكل التفكيري للسياق الذي تندرج ضمنه الحياة الإتيقية. وهي كذلك الحاضنة التي يتكون داخلها أفراد المجموعات المتضامنة بصورة تلقائية ويحرصون على المحافظة على استقلاليتهم المتكاملة بوصفهم مواطنين وعلى تنمية وتطوير بواسطة الارادة والضمير الشروط الموجودة للتعارف المتبادل من أجل تأسيس شركة ذوات حقوقية تتمتع بالحرية والمساواة. يترتب عن ذلك أن التنظيم المعماري الذي تقترحه الليبرالية للدولة والمجتمع يخضع الى تحولات هامة في الفلسفة المعاصرة وأن الأدوار الجديدة التي تنضاف الى الدولة الى جانب التنظيم التراتبي والسلطة السيادية هي التنظيم السوق بطريق غير مركزية والاهتمام بقيمة التضامن بوصفها مصدر الاندماج الاجتماعي زيادة على سلطة الادارة وتحقيق مصلحة كل فرد. هذا الحرص على بناء الارادة السياسية بطريقة أفقية يكون الهدف منه بلورة التلاقي وصناعة التوافق بواسطة التواصل ويمتلك الأولوية من وجهة نظر تكوينية ومن وجهة نظر معيارية.
ان الواقع البديهي الذي يقره هابرماس بالنسبة الى ممارسة المواطنين للتحديد الذاتي هو الاقرار بوجود قاعدة اجتماعية مستقلة عن الادارة العمومية وعن التبادلات الاقتصادية الخاصة ولا يقدر جهاز الدولة على ابتلاعها ولا تتفق مع بنية السوق. والحق أن النموذج الجمهورياتي يعطي مفاهيم الفضاء العمومي السياسي وبنيته التحتية والمجتمع المدني معان استراتيجية ويجعلهما يضمنان الالتقاء بين المواطنين ويقوي لديهم تجارب الاندماج والاستقلالية. هكذا تقوم السلطة التي تتأسس على التواصل وتحرص على تشكيل الرأي العام والإرادة السياسية على الارتباط العضوي بالسلطة الادارية وتتجاوز القطيعة القديمة بين التواصل السياسي والمجتمع الاقتصادي.

أ‌ - مفهوم المواطن :
في البداية هناك اختلاف حول تحديد مفهوم المواطن. اذ تتحدد منزلة المواطنين بواسطة الحقوق الذاتية التي تعطى لهم من طرف الدولة ومن خلال احترامهم لحدود الملكية الخاصة التي يضبطها القانون مع التزام الدولة بحمايتهم وعدم تعدي على ممتلكاتهم الشرعية بطرق غير شرعية. عندئذ تكون الحقوق الذاتية هي حقوق سلبية حيث تمنح الدولة هامش من الاختيار داخلهم وحيث يكون الأفراد مستقلين على كل ضغط خارجي. والحقوق السياسية هنا تسمح للمواطنين بأن يؤكدوا ملكياتهم الخاصة وأن يكونوا ارادة سياسية وقوة ضغط تحافظ لهم على مصالحهم وأن يكون لهم من يمثلهم في الانتخابات وفي البرلمان وفي الادارة. ان الايمان بقيم المواطنة هو الحل الذي يجب تقديمه كبديل عن انغلاق العالم السياسي في الدولة الشمولية وان التوجه نحو الاندماج والسلم والتعايش والتسامح هي الطريق الشرعي نحو الديمقراطية.

أما في النموذج الجمهوري فنجد أن منزلة المواطنين لا تتحدد وفق الحريات السلبية وإنما من خلال الحقوق المدنية وخاصة حق المشاركة والتعبير والممارسة العمومية وتحمل المسؤولية في الجماعة السياسية. كما أن المسار السياسي لا يتوقف عند مراقبة المواطنين لنشاط الحكومة وذلك بممارسة حرياتهم والمحافظة على حقوقهم الخاصة وإنما يمتد نحو ايجاد أرضية ديمقراطية للتجاذب بين الدولة والمجتمع والنظر الى السلطة الحكومية على أنها قدرة أصلية تتأسس عن طريق التواصل بين المؤسسات وممارسة القدرة على التحديد الذاتي لدى المواطنين ومن خلال حماية الدولة لهذه الممارسة عن طريق مأسسة الحرية العامة. لذلك لا تستمد الدولة مشروعيتها من حماية الحقوق الذاتية ومن تمكين المواطن من الدفاع على مصلحته الخاصة وإنما من ضمان مسار تكوين الرأي والإرادة من طرف المواطنين الأحرار والمتساوين باعتبارهما المصلحة المشتركة بالنسبة الى الجميع. هكذا يكون المواطن في النموذج الجمهوري أكثر فاعلية في تحقيق المصالح المشتركة من المواطن في النموذج الليبرالي الذي يظل حريصا على المصالح الخاصة والفردية ومؤثرا حياة اقتصادية خالية من ضجيج السياسة.

غير أن العيب الذي يقع فيه النموذج الليبرالي هو اخضاعه دولة الحق الى معايير المجتمع الاقتصادي والحرص على اشباع حاجة المواطنين المنتجين في التمتع بالسعادة الخاصة.

ب‌ مفهوم الحق :
ان معنى النظام القانوني في النموذج الليبرالي هو الذي يسمح بتحديد ووضع الحقوق الممنوحة لبعض الأفراد وان النظام القانوني يبنى بالانطلاق من الحقوق الذاتية، بينما في النموذج الجمهوري تشتق الحقوق الذاتية من النظام القانوني الموضوعي الذي يضمن ويسمح بالاندماج في حياة مشتركة تتأسس على المساواة في الحقوق والاستقلالية والاحترام المتبادل وتعطى الأولوية لمضمون الحق الموضوعي. ان الحق في المشاركة والحق في التعبير السياسي يشكلان البنية التي يتكون منها المسار التشريعي وتغطي مجمل الحقوق الأخرى . كما أن الترخيص الذي يمنحه الحق الخاص من أجل متابعة الاهتمامات الخاصة بحرية واختيار يفرض علينا احترام الحدود الذي تضعها الفعالية الاستراتيجية وتحقيق مصلحة الجميع.
لا يملك التشكيل الديمقراطي للإرادة وظيفة أخرى غير اصباغ المشروعية على ممارسة السلطة السياسية للدولة ولذلك ترتبط مشروعية الدولة باحترام السيادة الشعبية ولذلك تعمد الحكومة الى تبرير استعمالها للسلطة وتدافع على برامجها أمام الجمهور وممثليه في البرلمان. على هذا النحو تمثل الانتخابات فعل تأسيسي للمجتمع من حيث هو جماعة سياسية منظمة بطريقة قانونية وتتصرف بشكل عقلاني وإجرائي.

ان مفهوم السيادة الشعبية قد انبثق على أنقاض السيادة الفردية المطلقة ونتج عنه تملك وإعادة تأهيل لدور المواطنين في تسيير المجتمع وحكم أنفسهم بأنفسهم واحترام دولة الحق والنظر الى الحكومة على أنها المخولة لاحتكار عنف الأفراد واستعماله بشكل مشروع وإعادة توزيعه بشكل متساو على قوى المجتمع.

هكذا يشكل الحق بعد اعادة تأويله على ضوء أخلاق المناقشة ضمان المشروعية التي تحتاجها الديمقراطية الناشئة ويرد بشكل حاسم على مسألة العقلانية العملية ويحمل المواطنين كامل مسؤولياتهم ويبحث عن تأسيس مواطنة ما بعد وطنية وذلك عن طريق التفكير في رباط قانوني مدني ما بعد وطني.

ج- طبيعة المسار السياسي :
ثمة عدم اتفاق جوهري حول طبيعة المسار السياسي وذلك بسبب تعدد التعريفات والوظائف بالنسبة الى المواطن والحق. ان السياسة في التصور الليبرالي تختزل أساسا في مواجهة تكون الغاية منها الاستيلاء على مواقع تسمح فيما بعد بالتصرف في السلطة الادارية. ان مسار صناعة الرأي العام والتعبير عن الارادة السياسية يتمان في الفضاء العمومي وبالتحديد في البرلمان ويكون عن طريق التنافس بين الفاعلين الجماعيين والذين ينخرطون في فعل استراتيجي يقصد الاستحواذ على مواقع السلطة. على هذا النحو تحقق المواجهة نجاحا معقولا حينما تنتج حالة من الرضا من طرف المواطنين على الأفراد والبرامج من خلال عدد الأصوات الممنوحة. هكذا يعبر الناخبون عن تفضيلاتهم عن طريق التصويت وتمتلك القرارات الانتخابية نفس البنية التي تحكم اختيارات الفاعلين في السوق حيث يتأسس الفعل من خلال البحث على النجاح. ان الطموح هنا هو بلوغ بعض مواقع السلطة تتصارع حولها الأحزاب السياسية ويتراكم الفعل ويعود بالفائدة على الفضاء العمومي ويكون المجتمع هو الرابح الأكبر. ان مساهمة الأصوات وإنتاج السلطة يخضعان الى نفس الشكل الذي يرسمه الفعل الاستراتيجي.

في التصور الجمهوري على خلاف ذلك لا يخضع تشكيل الرأي العام والإرادة السياسية في الفضاء العمومي وفي البرلمان الى بنى السوق وقوانين العرض والطلب والإنتاج والتبادل والاستهلاك وإنما الى بنى مستقلة من التواصل الشعبي الموجه نحو التلاقي. ان النموذج في السياسة التي تقوم ممارسة المواطنين لقدراتهم على التحديد الذاتي لا يتأسس على التبادل التجاري في السوق وإنما على المحادثة في التواصل اللغوي. من هذا المنطلق ثمة فرق بنيوي بين السلطة الادارية التي يفرضها جهاز الدولة والسلطة المستخرجة من التواصل السياسي من حيث هو رأي الأغلبية يتشكل عبر أداة النقاش والتفاوض.

على هذا الأساس تتنافس الأحزاب السياسية من أجل بلوغ مواقع السلطة في الدول وتتوخى أسلوب المناقشات السياسية وتتحلى بجودة الروية والتعقل وحسن التدبير وتبحث عن امتلاك قوة الشرعنة. كما تبحث عن الهيمنة السياسية من خلال الكفاءة في الحجاج والمقدرة على الإقناع أثناء جلسات النقاش العمومي الذي تنخرط فيه مع بقية الأحزاب الأخرى التي تتنافس معها على احتلال مواقع السلطة.
ان أساس السياسات ليس استعمال السلطة الادارية بشكل بيروقراطي من طرف القوة المهيمنة على مواقع السلطة في مفاصل الدولة وإنما تجعل من النقاش السياسي هو مصدر الهيمنة السياسية وقوة الضغط على التوجهات العامة للدولة وتتعامل مع التنافس بين القوى الفاعلة والأحزاب السياسية بوصفه أصل الشرعية التي تضع القوانين المتحكمة في المسار الديمقراطي والإطار العام الذي تتحرك ضمنه الخارطة السياسية.

لكن ماذا يترتب عن هذا الفرق الجوهري بين النموذج الليبرالي والنموذج الجمهوري للديمقراطية؟ وما طبيعة الصراع الدائر الآن في المشهد السياسي العالمي بين الليبراليين والجماعاتيين؟

النموذج الجمهوري له محاسن خاصة حينما يقف وراء معنى ديمقراطي جذري للتنظيم الذاتي للمجتمع بواسطة المواطنين المتحدين من خلال التواصل ويرفض اختزال المقاصد المشتركة في رعاية المصالح الخاصة المتعارضة. لكن هذا النموذج الجمهوري يظل نموذجا مفرطا في مثاليته ويجعل المسار الديمقراطي تابعا لفضائل المواطنين المتجهة نحو الخلاص الجمهور. ان الغلط هنا هو اختزال النقاشات السياسية في وصايا اتيقية خاصة وأن السياسة لا تتمثل في طرح مشاكل اتيقية حول الهوية الجماعية.

غير أن النقاش الدائر حول مسألة الهوية الوطنية يظل المشغل الأبرز للسياسيين نظرا لأن المشاركين في هذا النقاش يبحثون عن أسلوب يعبرون به عن انتمائهم لهذه الهوية وعن وعيهم بالتحديات التي تواجهها. لكن كيف تمثل السياسة التداولية تجميعا لمنافع السياسة الليبرالية والسياسة الجمهورية وبديلا عن مساوئهما في نفس الوقت؟ وأين يمكن أن نموضع هذا النموذج الجديد؟ هل ضمن خيارات اليمين الديني والاقتصادي أم ضمن حسابات اليسار الاجتماعي والعمالي المناهض للعولمة؟ ماذا لو يكون النموذج التداولي هو الخيار الثالث الذي تبحث عليه الشعوب الرافضة للبدائل المفلسة؟

د- مفهوم السياسة التداولية :
لا ينال النموذج التداولي أهمية في النقاش السياسي إلا اذا أخذنا بعين الاعتبار التعددية والتنوع وفسحنا المجال أمام مختلف أشكال التواصل بين المجموعات من أجل أن تشكل إرادة جماعية ورأي عام مشترك. ولا يهتم هذا النموذج بالتعاطي الإتيقي مع موضوع الهوية الوطنية بل يبحث عن تحقيق المصالح والاتفاق على حلول وسطى عقلانية تتماشى من الخيارات العامة وتجسد التماسك القانوني والتسويغ الأخلاقي.

ان السياسة التداولية تعتمد على تواصل مؤسساتي وتقوم بالجمع بين سياسة حوارية وسياسة أداتية عبر وساطة تدبيرات مشورية وكيانات تعقلية تحدث جملة من الاجراءات والتسويغات وتجعل من تشكيل الرأي العام مؤسسة قائمة الذات وتعطي للإرادة الجماعية المشتركة قوة المشروعية التي تستحقها.

ان المسار السياسي لا يحقق نتائج عقلانية ولا يتم في شروط من التواصل إلا اذا جرى وفق النموذج الاجرائي وجسد السياسة التداولية على أحسن وجه وسمح بأن يكون الاجرائي هو النواة المعيارية للنظرية الديمقراطية وتباين مع التصور الجمهوري الذي يريد أن تكون الدولة جماعة اتيقية ومع التصور الليبرالي الذي يرغب في تحويل الدولة الى حارس للمجتمع الاقتصادي. ان النموذج التداولي يركز على البعد السياسي الذي تتضمنه عملية التكوين الديمقراطي للرأي وللإرادة عبر الانتخابات العامة وشغل البرلمان.

علاوة على ذلك تقوم نظرية النقاش بزرع العناصر التي تصلح للجمع بين التصور الليبرالي والتصور الجمهوري وتدمج ضمن الاجرائية النموذجية كل من المداولة والقرار وتسمح للديمقراطية الاجرائية ببلورة صلة داخلية بين المفاوضات والنقاشات حول العدالة والهوية الوطنية وحقوق الانسان الكونية.

هكذا يفتح الوصف البنيوي للمسار السياسي الديمقراطي الطريق نحو بناء مفهوم معياري للدولة والمجتمع ويستوجب وجود ادارة عمومية تعقلن أفعال الدولة في علاقة تضامن وظيفي مع قيم السيادة والمواطنة. اللافت للنظر أن المجتمع حسب التصور الجمهوري يجد مركز ثقله في الدولة وذلك لأن ممارسة التحديد الذاتي السياسي من طرف المواطنين تفترض وعي الجماعة بذاتها وقدرتها على الفعل بواسطة الارادة. كما يبدع التصور الاجرائي رؤية جديدة للسياسة تسيد علاقة صراعية بنائية مع أجهزة الدولة وسلطاتها.

والحق أن الحاجة الى النموذج الجمهوري تعود الى مناهضة حالة الحرمان من المدنية التي تعاني منها المجتمعات الممنوعة من ممارسة السياسة والتصدي الى كل من يبحث عن الشرعية من خلال الأحزاب الحكومية ومحاولة لمنح الحياة الى الفضاء العمومي وتفعيل دور المواطنين في حراكهم ضد الدولة. على خلاف ذلك ينحو التصور الليبرالي نحو نموذج دولة الحد الأدني ويفك قيد الرباط بين جهاز الدولة ومؤسسات المجتمع المدني ويترك المجال الى المواطنين لرسم الخطوط العامة ووجهة المسار الديمقراطي السياسي ويسمح لهم بفرص تحقيق مصالحهم الخاصة وفق العناصر التي تضمنها الدستور.

خاتمة:

" العقلنة rationalisation تعني هنا أكثر من مجرد


الشرعنةlégitimation ولكن أقل من تكوين السلطة"



ان نظرية النقاش العمومي عند هابرماس تضيف حمولة معيارية أهم من النموذج الليبرالي وأضعف من النموذج الجمهوري ولكنها تزرع عناصر تكوينية يمكنها أن المسار السياسي الديمقراطي على تكثيف الفعل التواصلي في الفضاء العمومي وتشييد النموذج التداولي والاعتماد على مؤسسات مستقلة ومعقلنة.

لا تقدر نظرية النقاش العمومي على بلورة سياسة تداولية الا في حالة تمكن المواطنون من الفعل التواصلي العقلاني بشكل جماعي ومشترك وصارت الاجراءات والتدبيرات الحقوقية ممأسسة ، وبالتالي لا ينبغي أن يلقي المجتمع بثقله على الدولة ويتنصل من مسؤولياته ودوره وإلا تحولت الدولة الى غول يضم كل شيء ويوجد فوق الجميع وتمركزت السلطة بشكل هرمي ومتعال من جديد. كما يجدر بالمواطنين أن يجعلوا من القوانين الممنوحة لهم مطية لكي يمارسوا حرياتهم بشكل خاطئ ويتحولوا الى ذوات متذرية تمنع من قيام اللحمة بين الجماعة السياسية الواحدة والتعامل معهم ككتلة فاعلة وموحدة.

ان نظرية النقاش العمومي تسرع عمل الشبكات الاجتماعية التي تمتن من عملية التواصل وذلك عن طريق ايجاد البيذاتية التي تتحكم في مسار التلاقي بين المؤسسات النشطة والضاغطة في المجتمع المدني. غاية المراد أن النموذج الليبرالي ينصح بالمحافظة على الحد الفاصل بين الدولة والمجتمع وأن يترك المجال الى المجتمع المدني كقاعدة اجتماعية للفضاء العمومي المستقل، بينما يحرص النموذج الجمهوري على توزيع عادل للثروة والسلطة الادارية والتضامن ويهدف الى ارضاء مطالب الاندماج والتوجيه.

ان التنظيم الاداري العقلاني هو الذي يغير تكوين المجتمع ويحدث تحويلا في العلاقات بين الأفراد والمجموعات وان النسق السياسي هو الوحيد القادر على الفعل في الأشخاص وتغيير الذهنيات وان القرارات الناجعة التي تمس الحياة المشتركة هي التي تقدر على النفاذ الى بنى الفضاء العمومي وتشكيل شبكات تواصلية وتسمح باستعمال مشروع للسلطة ومشاركة شعبية واسعة في ادارة الشأن العام.
هكذا تنبع السلطة الشرعية من التفاعل بين تشكيل الارادة الممأسسة بواسطة دولة الحق والفضاءات العمومية التي ينشطها الفاعلون الثقافيون والجمعيات المجتمع المدني السياسية والاقتصادية والحقوقية.

كما أن التصور المعياري الذي تقوم عليه السياسة التداولية بالنسبة الى الجماعة القانونية يحصل على نمط من الاجتماعية تتأسس عن طريق النقاش ونظرية معيارية في الحقوق وتصور لامتناهي التعقيد للمجتمع. لهذا السبب لا يملك النسق السياسي لا قمة ولا مركز بل بنية من القوى المتحركة على مستوى واحد وفي تفاعل دائم. ويبدو الهاجس الأخير للسياسة التداولية هي ايجاد مخرج من كل حالات اللاندماج والاستبعاد والتهميش لبعض المجموعات والأفراد وتوفير نظام مشروع من التواصل والتبادل والتضامن. فكيف يعمل النموذج التداولي على قيام ثقافة سياسية تتمحور حول الحرية والاجتماعية؟

07‏/06‏/2013

الله والإنسان في القرآن (علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم )



عرض ياسين رفاعية


تقدم لنا المنظمة العربية للترجمة كتاب توشيهيكو ايزوتسو "الله والانسان
في القرآن ـ علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم" ترجمه الى العربية د. هلال محمد
الجهاد، والمؤلف واحد من أشهر الباحثين اليابانيين المعاصرين، تغطي اهتماماته 

مساحة معرفية واسعة تنطلق من علم اللغة الحديث وعلم الدلالة، لتقترب من
الاسلام ديناً وفكراً وثقافة وتتعمق من ثم، في التراث الروحي والحضاري
للاسلام وللأديان والثقافات الشرقية.

وفي البدء... لا بد من شكر هذه المنظمة التي تترجم لنا هذه الكتب عن لغات
أخرى لندرك عظمة تراثنا وحضارتنا وانتمائنا الى الاسلام العظيم، ونلمح
هنا ما امتاز به مؤلف الكتاب في موقفه الموضوعي من الاسلام وتفاعله الحي
معه، ويتمثل منهج هذه الدراسة في علم الدلالة الذي يعد واحداً من أهم مجالات
علم اللغة الحديث وأكثرها خصوبة وتعقيداً ومما يؤسف له ان الثقافة العربية
الحديثة لم تبد تفهماً حقيقياً ومتعمقاً لهذا الفرع الخصب من علم اللغة، وكان
اهتمامها به مؤقتاً. فتم اهماله او تجاهله. والتوجه الى ما هو اكثر حداثة من
مجالات علم اللغة، ومنهجياته وبالاهتمام السطحي والمؤقت نفسه. لكن قراءة
هذا الكتاب تكشف عن أن فهمنا علم الدلالة كان مبتسراً ومتسرعاً. أدى الى ندرة الدراسات الدلالية الجادة والمتعمقة، وربما بالامكان القول إن الفهم الناقص
جعلنا نعجز على تطوير علم الدلالة وممارسته والافادة منه على نحو مثمر
في استكشاف منجزات ثقافتنا وتحليلها وبنائها. والسبب في ذلك ـ كما هو السبب
دائماً في الحالات المشابهة ـ ان أغلب الذين قاموا بنقل هذا العلم من الباحثين 

والمترجمين ركزوا على ادبياته النظرية البحتة التي يصعب فهمها واستيعابها
دون تطبيق، فضلاً عن عرضهم او تطبيقهم هذه الأدبيات غالباً، بشكل سطحي
ومعقد يزيدها صعوبة.

ويحثنا الكاتب هنا، على عدم تجاهل العمق الفلسفي للمنهجيات او اختزالها
بصورة تخل بأبعادها النظرية والتطبيقية. ذلك ان التبسيط يعكس في كثير
من الأحيان فهماً عميقاً واسعاً وقدرة متفوقة على تطويع النظرية للممارسة
البناءة الخصبة، ولا شك في ان هذا ما ينقص باحثينا في الغالب.

اللغة
وتشكل أهمية هذا الكتاب في انه يتجسد في رؤيته ونتائجه، فهو يكشف لنا عن
مدى أهمية اللغة في حياة البشر ودورها الحاسم في تشكيل رؤية الانسان
لعالمه من خلال اعادة تنظيم المفاهيم (القديمة والمستحدثة) وادخالها في انساق
وعلاقات ذات مستويات معقدة ومتداخلة تشكل نظاماً داخلياً ذا طبيعة مختلفة كلياً
عن النظام الذي كانت المفاهيم تتخذه سابقاً. ويترتب على ذلك فهم جديد للعالم
ودور جديد للانسان فيه. ان ميزة هذه الدراسة تجعلنا نكتشف القرآن من وجهة
نظر جديدة. وكأننا نراه لأول مرة، وتعلمنا قراء ومسلمين ان ننفصل قليلاً عنه
لنراه ونعرفه من جديد معرفة علمية بالمعنى الدقيق لهذا الوصف، وهذا ممكن
دائماً. ما عودنا أنفسنا على تغيير زوايا نظرنا الى القرآن، وتنويعها واعتماد
مناهج علمية متنوعة، والقرآن نفسه يتيح لنا ذلك، من حيث انه نص لا يمكن
استنفاد ماهيته، نص يمتاز بتعدد مستويات المعنى وتشابك علاقاته، ولا يكف
عن التدلال مطلقاً لأن قراءتنا له لن تتوقف.

يشير مترجم الكتاب ان من مميزات هذا الكتاب انه مكتوب بلغة سهلة.
وذو اسلوب مبسط يبتعد عن التعقيد، بشكل عام، ولعل السبب في ذلك حرص
المؤلف على عرض افكاره بأوضح طريقة ممكنة.وهذا ما سهل عليه ترجمته
وقد اعتمد المترجم في ترجمته الطبعة الأولى التي صدرت سنة 1964 عن
معهد كيو للدراسات الثقافية واللغوية. غير انه عدل عنها الى طبعة سنة 2002
التي صدرت في ماليزيا. ولكنه رأى ان الفروق بسيطة، وتضمنت الطبعة
الأخيرة مراجعة للكتاب بقلم فضل الرحمن، ترجمها ايضاً لما تضمنته من
وجهة نظر نقدية لباحث اسلامي معروف في الغرب أكثر بكثير مما لدينا.
وتلقي ضوءاً ساطعاً على بعض نجاحات ايزوتسو واخفاقاته.

اما ما جاء في مراجعة فضل الرحمن، فتشير الى انه منذ البداية اعطانا
د. ايزوتسو فكرته عن علم اللغة او علم الدلالة، التي تمنى من خلالها ان
يفهم القرآن "علم الدلالة كما أفهمه دراسة تحليلية للمصطلحات المفتاحية
الخاصة بلغة ما تتطلع للوصول في النهاية الى ادراك مفهومي لـ"الرؤية
للعالم" الخاصة بالناس الذين يستعملون تلك اللغة...".


مفاهيم مفتاحية

ان دراسة دلالية للقرآن ستكون لها دراسة تحليلية للمفاهيم المفتاحية في
القرآن، اذ يوضح د. ايزوتسو مراراً انه لا يعني بدراسة المفاهيم المفتاحية
مجرد تحليل آلي فقط لهذه المصطلحات او المفاهيم، معزولة او من حيث
هي وحدات جامدة.، بل الأهم فوق ذلك، ان يتضمن حياتها ومعناها السياقي
كما تم استعمالها في القرآن، من هنا، وعلى الرغم من ان المصطلح "الله"
كان مستعملاً عند العرب قبل الاسلام. ليس فقط كإله بين الآلهة، بل حتى كإله
اعلى في تراتبية الآلهة، فان القرآن احدث تغييراً جوهرياً بالغاً في رؤية
العرب للعالم. تحديداً عن طريق تغيير الاستعمال السياقي لهذا المصطلح،
بتحميله معنى جديداً، وذلك باستبعاد كل الآلهة وجلب مفهوم الله الى مركز
ايجادها أنفسها، على المرء أن يعلم قبل كل شيء البنية الاساسية لعالم الأفكار
القرآنية كلها، ان محاولة وصف هذه البنية الاساسية للكل الموحد قد تمت في
الفصل الثالث لان الموقع الخاص بكل حقل مفهوم مستقل، سواء اكان كبيراً
أو صغيراً، لن يكون محدداً بشكل دقيق الا بالعلاقات المعقدة التي يعطيها كل
الحقول الرئيسية بعضها لبعض، ضمن الكل الموحد.

بهذا نحن نقترب من المعضلة الاساسية لمنهجية الدكتور ايزوتسو الدلالية.
إن المصطلحات المفتاحية التي يفترض بها أن تنتج فهماً للنظام ككل إن
فُهمت ـ (إذ يؤكد الدكتور إيزوتسو لنا أن "المصطلحات المفتاحية تحدد النظام")
ـ لا يمكنها أنفسها أن تكون مفهومة أو حتى أن تقر، من دون معرفة مسبقة بذلك
النظام. هذا ما يسمى بالدور= الحلقة المفرغة، ليس ثمة ما هو دور على نحو
أساسي في المنهج (الذي هو بالتأكيد منهج شائع)، فأفضل طريقة لفهم نظام ما هي
دراسة ذلك النظام (الذي في هذه الحالة هو الرؤية القرآنية للعالم) ككل وتركيز
الاهتمام على مفاهيمه المهمة، إنني لهذا، يجب أن أشك في أن الدورية هي نتيجة
الرغبة في جعل علم الدلالة علماً وجعل الادعاءات المتسمة بالمبالغة تنوب عنه.

شكلية
لكن، من وجهة النظر الإسلامية، هذا الأمر هو مجرد صعوبة شكلية، وسوف
نرى الآن وشيكاً أن ما يؤلف البنية الجوهرية لهذه التعاليم القرآنية بالنسبة الى
الدكتور إيزوتسو. هذه التعاليم التي يكشف عنها مؤلفنا، هي في المقام الأول علاقة رباعية الوجوه بين الله والإنسان، أي: أ. الله هو خالق الإنسان. ب. إنه يوصل
إرادته الى الإنسان من خلال الوحي. ج. إن ذلك ينطوي على علاقة الرب ـ العبد
بين الله والإنسان، ود. مفهوم الرب بوصفه رب الخير والرحمة (لأولئك الذين
يشكرونه) ورب العذاب (لأولئك الذين يرفضونه). والمؤمنون في هذه العلاقة
الرباعية بين الله والإنسان يؤلفون جماعة "أمة مسلمة" بأنفسهم ويؤمنون باليوم
الاخر والجنة والنار. إن وصف الدكتور إيزوتسو النشوء التاريخي لهذه المفاهيم
في الجزيرة العربية قبل الإسلام صعوداً حتى ظهور الإسلام غني وقيم للغاية.
والسؤال الرئيسي هو عمّا إذا كانت البنية الأساسية للرؤية القرآنية للعالم، كما
وصفها الدكتور إيزوتسو، متفقة حقاً وبشكل تام مع التعاليم القرآنية؟ لا يملك
المرء إلا أن يفكر في أن المؤلف قد كيّف بعناية وموضوعية بالغة هذه "البنية
الأساسية" لتطابق ما قرره هو نفسه أن يكون "مفاهيم مفتاحية" للقرآن، وهو
ربما قد كشف بذلك على نحو شبه واع عن نظائر من رؤيته الدينية الشخصية
للعالم في القرآن، وإلا كيف نفسر حقيقة أن العنصر الأخلاقي في الصورة الكلية
غائب تماماً؟

يقتبس د. إيزوتسو مصادقاً من البروفسور السير هاملتون غب ليبين أن الفرق
الرئيسي بين أوصاف أمية بن أبي الصلت للجنة والنار وبين القرآن أنها في
القرآن "مرتبطة بالجوهر الأساسي للتعاليم". ولكن من الواضح أن د. إيزوتسو
لا يدرك المعاني الضمنية لعبارة غب، لأنه هو نفسه، يتجاهل تماماً الحقل
الأخلاقي. وكأنه لا يشكل جزءاً من "البنية الأساسية للرؤية القرآنية للعالم"
وفي الحقيقة، فإن د. إيزوتسو بينما يتكلم عن "العلاقة الأخلاقية" بين الله
والإنسان، يربط أفكار الخلاص والخطيئة بالإيمان الشخصي الصرف.
قد يطرح المرء سؤالاً عاماً عن إمكانية تأسيس علاقة أخلاقية بحصر المعنى
بين الله والإنسان، إطلاقاً. بكلام دقيق، إن بإمكان المرء أن يتخذ فقط موقفاً
تقديسياً تجاه الله، وليس موقفاً أخلاقياً أو أدبياً يمكنه أن يتخذه فقط تجاه الناس
الآخرين. لا يمكن للمرء أن يكون طيّباً مع الله بل مع الناس أيضاً. من هنا، وفي
ما يتعلق برؤية عالم كالتي لإيزوتسو، ذات علاقات الله ـ الانسان، ويمكن أن
تتأسس بذاتها، فإن التعاليم القرآنية على الضد من ذلك مباشرة، وبعيدة عن أن
تكون موصوفة على نحو ملائم بواسطة تلك الرؤية للعالم. ذلك أن هدف القرآن
الرئيسي هو خلق نظام اجتماعي أخلاقي، مثبت واقعياً في سيرورة وهي القرآن
إذا درس المرء تاريخياً التحديات الواقعية التي جابه بها الرسول المجتمع المكي
منذ البداية، ولم تكن هذه التحديات موجهة فقط لمقر آلهة المكيين عند الكعبة، بل
الى بنيتهم الاجتماعية ـ الاقتصادية أيضاً، وهذا يظهر تفوق المقاربة التاريخية
على مقاربة علم الدلالة الصرف.

ويشير فضل الرحمن بشكل رائع وصادق ومفهومه العظيم للإسلام،الى أن ثمة
مشكلة واحدة وكبيرة مع مفهوم د. إيزوتسو للتعاليم القرآنية حول علاقة
الله ـ الإنسان، وهي أنه لم يأخذ بالحسبان البيئة المكية. وبالنسبة إليه، ليس ثمة
فرق بين البدوي والمكي في عصر الرسول.
كان البدوي متعجرفاً، متكبراً، مسرفاً، متبجحاً يتجاوز أي وعي خاص بالتحفظ.
كان شديد التنبه الى احترام ذاته المستقلة وتحكمه خاصيته "الجهل"
(ضد "الحلم") لهذا، فإن وظيفة الإسلام تمثلت بالنسبة إليه ـ قبل كل شيء ـ بإذلال عجرفته هذه وشعوره اللامحدود بكبريائه. وقد تحقق هذا على نحو مؤثر بواسطة تصحيح فكرة عن الله، هي قبل كل شيء مخيفة وتثير الرعب، لكن الحقيقة هي أن مخاطبي القرآن المباشرين كانوا المكيين ـ على وجه أخص ـ فئاتهم التجارية
الغنية. هؤلاء الناس لم يروا أي كابح لتكديس الروة، لم يدركوا أي التزام تجاه
مواطنيهم الأقل حظاً، معتبرين أنفسهم مكتفين ذاتياً (مستغنين)، أي أن القانون
وجّه إليهم، وإليهم وجه القرآن تحدّيه الأول وطلب منهم أن يدركوا الحدود على
(حقوقهم الطبيعية). ولم يدعم القرآن طلبه بلاهوت ذي تعاليم عن الجنة والنار
إلا بعد أن رفضوا التحدي.

معالجة الدكتور إيزوتسو قضية الوحي أو التواصل اللفظي من الله جيدة وشاملة.
وختاماً، التأكيد على حقيقة أن هذا الكتاب كتبه باحث آسيوي جاد غير مسلم
وياباني. وبما أن الأمر كذلك نأمل أنه سيكون رائداً لتلقيد متطور للبحوث
الإسلامية في الشرق الأقصى.

الكتاب: الله والإنسان في القرآن
المؤلف: توشيهيكو ايزوتسو
ترجمة: د. هلال محمد الجهاد
الناشر: المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2007