30‏/01‏/2013

دعوة لقراءة الفكر الغربيّ على ضوء الفكر الصيني




نابليون بونابرت تنبأ بأن يقظة الصين سوف تهز العالم

بلال عبد الهادي


كثيرون يعتبرون ان شمس الصين سوف تشرق على الغرب وتنثر شعاعها على العالم، مع كل ما يعنيه ذلك من انعكاسات اقتصاديّة وثقافيّة وسياسيّة على مستقبل القرن الحادي والعشرين. كان نابليون بونابرت قد تنبأ بأن يقظة الصين سوف تهز العالم، والناظر اليوم في المكتبات الغربية تسترعي انتباهه وفرة الكتب التي تتناول الصين. ومن الكتب المهمة والممتعة كتاب _la pratique de la chine_، (الممارسة الصينيّة)، الصادر عن دار «غراسيه» الباريسية، ولهذا الكتاب ميزة خاصّة لكونه بقلم كاتب صينيّ وهو أندريه شيانغ الذي ولد في مدينة مرسيليا الفرنسية وعاش وترعرع في ربوع الحضارة الغربية وفهم آليات تفكيرها، كما عاش أيضا ثقافته الصينية وتشرّبها عن طريق العائلة. هذا التزاوج بين الغرب والشرق نلحظه في اسمه الهجين الذي يربط بين وجهتي نظر العالم.

يعتبر أندريه شيانغ في كتابه «الممارسة الصينية» ان معرفة الآخر أكثر من ضرورة، بل انه يتبنى وجهة نظر الفيلسوف الفرنسيّ المتخصّص في الفكر الصيني فرنسوا جوليان الذي اهتم بالحضارة الصينية بغية إعادة التفكير في الفلسفة الغربية من منطلقات الفكر الصيني، لقراءة المهمل والغفل في الثقافة الغربية نفسها. ويرى أندريه شيانغ ان المعبّر الكامل عن الفكر الشرقي هو، تحديدا، الصين لأسباب يعرضها في مقدمة كتابه فيقول ان الهند لا تعبر عن الفكر الشرقي لأنها والغرب من سلالة لغوية واحدة هي «الهندوأوروبية». قارئ الكتاب يلحظ الأهمية التي يضفيها أندريه شيانغ على العلاقة الحميمة بين اللغة وطريقة التفكير، أي انه يتبنى نظرية «وورف وسابير» اللغوية التي ترى ان الشعوب لا ترى العالم رؤية موضوعية وإنما تراه من منظار بنيتها اللغوية. ويعتقد المؤلف ان الفكر العربي، على اختلافه من وجوه كثيرة مع الفكر الغربي، يتلاقى وإياه في محطات كثيرة، منها الانتساب إلى الديانات السماوية، والتجاور الجغرافي والتفاعل مع الفكر الإغريقي. وهكذا يعتبر الكاتب ان الأنموذج المتبقي الصالح لمقاربة الشرق هو الفكر الصيني لا سيما ان جذور الاختلاف مع الغرب ترسّخت عبر آلاف السنين بسبب النأي الجغرافي والرمزيّ «سور الصين»، وبسبب التباين الكلي على صعيد اللغة المكتوبة والمنطوقة.

والكتاب يتوقف عند جملة من المفاهيم التي يختلف النظر إليها لدى كل من الحضارة الغربية والصينية منها مفهوم «الحقيقة». ففي فصل يحمل عنوان «الحقيقة والمواربة» يبدأ الكاتب بالأفكار الشائعة في الغرب منها أنّ الصينيّ كذّاب، لا يقول الحقيقة، ويمارس اللفّ والدوران، وهذا ما يحيّر الغربيين ويثير سخطهم بل وأحيانا تكون له انعكاسات اقتصادية سيئة كأن لا يفهم الغربي كيف يتعامل مع الصيني لإبرام صفقة. إلا ان الكاتب يعتبر هذه التهمة نتيجة تسرع وعدم تبصر بالفكر الصيني أو «حكمته».

وان كان الغرب أحيانا يطالب بالحقيقة مهما كان الثمن فان الصيني يعرف ان البحث عن الحقيقة يكون أحيانا في منتهى الخطورة مما يولد مفهوم «اللافعل» الذي يكون، في بعض الأحيان، أهم من الفعل. فيتحدث الكاتب عن مواجهة «الثورة الثقافية» باللافعل (واللافعل مفهوم تاويّ لا يعني السلبية كما قد يتبادر إلى الذهن) أي بعدم البحث عن حقيقة ما جرى، حيث الكلّ في الغرب كان يتوقع حملة تطهير واسعة بعد الثورة الثقافية ولكن ذلك لم يحدث، لان الاستقرار أو التناغم في الفكر الصيني أهمّ من قول الحقيقة. ولعلّ هذا ما يسمّى بالحكمة الصينية كما يقول المؤلف. من هنا غنى اللغة الصينية بالمجازات والتوريات والإجابات المعلقة. فالمجاز بنظر الصيني يمنح الفكرة فضيلة الظهور بأشكال مختلفة.

ويستشهد الكاتب للتعبير عن الفكر الصيني القائم على التعرّج بالطريقة الهندسية التي بنيت بها الجسور في حدائق الصين. يقول أندريه شيانغ ان ما يدهش الغربيّين حين يقومون بزيارات للصين هي الجسور المتعرجة التي ليس لاعوجاجها أي مبرر هندسي، وحين يسأل أحد الغربيّين عن السبب يقولون له إنّ هندسة الجسور هي تعبير عن طريقة تفكير الصيني لأنّ من شأن الجسر المستقيم ان يحصر النظر في وجهة واحدة مما يعني عمليا حرمان العين من تنوّع المشاهد. أمّا تعرّج الجسر فيعني ان الإنسان وهو يمشي ينبسط أمامه، مع كل التفاتة، مشهد مختلف. ولكن الكاتب يقول ان البعض يعطي تفسيرا آخر يعود إلى التراث الخرافي للصينيين الذين يؤمنون بالأشباح. فالشعب الصيني قديما كان يخاف من الأشباح وكان يعتقد انها لا تحسن السير إلا في الطرق المستقيمة ومن هنا كان البناء المتعرج وسيلة لمنع الأشباح من تحقيق أهدافها الشريرة. ويعلق الكاتب بالقول: أين الحقيقة هنا؟ أليست الحقيقة هي بنت وجهة النظر؟

والاختلاف يطال أيضا مفهوم حقوق الإنسان. فالصيني بسبب عدم إيمانه بالمفاهيم المطلقة التي يلحّ عليها الغربيّ يرى ان حقوق الإنسان مرتبطة بالسياق والظروف والأوقات، وعليه فهي لا يمكن لها ان تكون واحدة وثابتة، من غير ان يكون هذا الخلاف وليد تمييز عنصريّ، فضلا عن كون الصينيّ يعتبر الإيمان بالمطلق مجلبة للكوارث.

ويسرد الكاتب عدة أمثلة عن اختلاف النظر بين الغربي والشرقي ومنها «فضيحة التماثيل» في سبعينيات القرن الماضي حين تم الاتفاق بين الصين وأحد المخازن الكبرى في باريس على عرض «تماثيل محاربي الإمبراطور». ولاقى المعرض نجاحا كبيرا وطلبت لندن من الحكومة الصينية استضافة التماثيل، وهنا أشارت الصين إلى أنها أحضرت نسخا عن التماثيل وليس الأصل. وكانت الملكة البريطانية قد قررت مشاهدتها ولكنها حين علمت بأنها مجرد نسخ ألغت مشروع الزيارة. ولم تتصرف الصين بخبث كما يقول الكاتب وإنما لأن مفهوم الأصل عندها مغاير لما هو عليه في الغرب، وحتى لا يظن القارئ ان الأمر لعبة ماكرة ضد الغرب يشير المؤلف إلى علاقة الصيني نفسه مع هذا المفهوم من خلال «المدينة المحرمة» أو «القصر الإمبراطوري» الذي يعود بناؤه إلى القرن الخامس عشر وأغلب مواد بنائه من خشب. والبناء الخشبي يعبر عن الفكر الصيني الذي يريد ان يجسد عبر مادة البناء هشاشة الكائن البشري وآنيته. وأغلب أجنحة القصر أعيد بناؤها إلى حد انه لم يبق ربما من البناء الأصلي التاريخيّ أي شيء، ومع هذا فان الصينيين يقولون ان بناءه يعود إلى «أسرة مينغ» ولا يقصدون بذلك الخداع، لاعتقادهم ان القيمة تسكن روح الأشياء لا مادتها.

واغلب الخلافات بين الغرب والصين يعود إلى الاختلاف في دلالات المفاهيم، وما يغيظ الغرب اليوم هو مفهوم الصين للحقوق الملكية والقرصنة والتزوير وغيرها إلا ان مفهوم التزوير ليس هو نفسه في الصين والسبب لغوي محض، لأن مفردة «التعلم» هي نفسها مفردة «النسخ»، وعليه فان ممارسة النسخ أو التقليد لا تحمل في الصين الصفة السلبية التي تحملها في الغرب.

والغرب لا يفهم كيف ان الصيني لا يلتزم بالعقود والاتفاقات والعهود والسبب هو نظرة كل واحد إلى معنى العقد، ففي الصين بناء على فكرة انعدام الثبات (وهي فكرة من صميم المعتقد الديني في الصين) تنعدم فكرة الالتزام بالعقد الثابت، المبرم، الذي لا يتغير. ان الصيني يعتبر ان سبب استمرار الفكر الماركسي هو هذه الفكرة بالذات. فالصينيّ لا يؤمن بالنصّ الحرفيّ المتحجر في معناه ولا بالقراءة الحرفية لأنها تعارض فكره التاويّ. ان النص متغير كالفصول ومرن كالماء. ويعتبر الصينيّ الإخلاص للنص هو تحريره من أغلاله الحرفيّة لان التمسك بحرفية نصّ غباء كما يقولون، وجريمة يرتكبها القارئ بحقّ النص وكاتب النصّ.

والخلافات كثيرة على صعيد المفاوضات، فالغربيّ إلى اليوم لم يفقه طريقة الصينيّ في المفاوضات وهو، في نظر الصينيّ، عجول، يريد الوصول إلى الهدف بأسرع طريقة. والصيني، بخلافه، متمهل يعتبر انه لا بد للمفاوضات، حتى تؤتي ثمرتها، من أن يسبقها تعارف وأجواء ودية. والأولويات في المفاوضات ليست واحدة فهي من المنظور الغربي الذي يقوم على المنطق المغلق يفترض ان تبدأ بالأهم وهو عادة ما يكون مثار خلاف، وهذا يعني لدى الصيني احتمال نسف المفاوضات من أساسها لذا فهو يفضل البدء بما لا خلاف حوله أي بالبسيط والسهل وربما السخيف الذي يستفز أعصاب الغربي ولكن لا يلجأ الصيني إلى هذه الاستراتيجية بهدف إضاعة الوقت وإنما بهدف تأمين الأجواء الملائمة. وحين يتم الاتفاق على النقاط البسيطة يصير بالإمكان تناول القضايا الشائكة لأنه يكون قد امّن الأرضية الصالحة للتسويات والتنازلات.

والكاتب يعلق على «ثقافة الوقت» عند الصيني وهي ثقافة مغايرة لثقافة الغربيّ. ان الصيني يعرف ان الفعالية هي عملية استثمار أو وليدة استثمار صالح للوقت، أي انتهاز الفرص ويروي الكاتب حكاية صينية قديمة ذات دلالة على فكرة انتهاز اللحظة المناسبة لحل النزاعات، وهي بعنوان ـ زوارق القشّ لتأمين السهام» وهي تحكي عن جنرال واسمه «زوغ ليانغ» تعرضت مملكته لحصار وكانت تنقصه السهام لخوض المعركة فطلب من جنوده بدلا من صنع السهام تجميع حزم من القش. استغرب الجند تصرف الجنرال لكنهم أذعنوا لرغبته، أما هو فقد أمضى وقته في كتابة الأشعار وحين انتهوا من تحضير حزم القشّ بقي ينتظر حتى هبط الضباب على المدينة حينئذ طلب منهم إنزال الزوارق إلى النهر ونشر حزم القشّ على الجسر. وحين رأى الجيش الذي يحاصر المدينة ذلك قام برمي حزم القشّ بالسهام ظنا منه أن زوغ ليانغ بدأ بالهجوم. ثم طلب من جنده سحب الحزم واستخلاص السهام منها وهكذا أمّن الجنرال حاجته من السهام بسبب الاشتغال على الانتظار واستثمار الضباب لتأمين الفرصة.

والكاتب في كل فصل من فصول الكتاب يتوقف عند حكاية قديمة، أو مشهد من فيلم صيني، أو حكمة تعبر عن الفكر الصيني ليحولها إلى أداة يعالج بها القضايا الثقافية الخلافية بين الشرق والغرب للتأكيد على فكرة واحدة وهي ان العالم أكثر من وجهة نظر.

27‏/01‏/2013

الأسس الإقتصادية للقوة العسكرية : دراسة في فكر ادم سميث (3/3)



هل كان سميث متناقضاً أم مخادعاً ؟

على أن التناقض الذي يُتهم به سميث لا يعود إلى فكره وحده, ولكن يعود إلى معاصريه وإلى من بعدهم الذين في كلتا الحالتين أجادوا في إستعمال نظرياته لمصلحتهم. فكما أن مريدي سميث ـ وبخاصة أولئك الذين عاشوا في انكلترا ابان القرن التاسع عشر ـ مسؤولون عن تقديمه كصاحب آراء في حرية التجارة, كان في الحقيقة يقف في منتصف الطريق فيتراجع عن جانب من اتجاهاته الأصلية تبعاً لظروف خاصة, وبهذا المعنى طغت الصرخات العالية المنادية بحرية التجارة على بقية تعاليم سميث. وهكذا كان سميث يُعتبر في بعض المحافل مخادعاً في حين كان في البعض الآخر مواطناً رأى بلاده تزيد من نمو ستراتيجية وتكتيكات السياسة المركنتيلية, هذه السياسة التي مكنتها من أن تكون قوة لا تبارى, فكان اذ ذاك على استعداد لأن يوصي بأن تنفض الدول الأخرى الأقل منها ثروة أيديها من هذه السياسة؛ أما أن سميث كان في قرارة نفسه مواطناً صالحاً فهذا مما لا يمكن إنكاره, وأما القول بأنه كان مخادعاً فهذا بلا شك إتهام لا يستحقه إطلاقاً. فهو ليس مخادعاً ولا متناقضاً, بل ما نقوله إنه كان مفكراً إقتصادياً بصيراً لقوة بلده وتقدمها, كرس كل فكره ونظرياته لخدمة تدعيم قوة بلاده الإقتصادية والسياسية والعسكرية.

وما هو صحيح وله القيمة نفسها في عالمنا المعاصر ويعكس الطبيعة الإنسانية وخصوصاً عند مفكر لا يُشك في إلتزامه لمصالح بلاده, فإن رأي سميث ونظرياته تعتبر عملية عادية مليئة بالمهارة, وهي أن أي فرد يصل الى ذروة العظمة لا يتردد في أن يدفع بعيداً بالسلم الذي ارتقى عليه, وذلك ليمنع غيره من الناس من الوصول الى درجته وليحرمهم من وسيلة للصعود في أثره ؛ وفي أعطاف هذه الحقيقة يكمن سر العقيدة العالمية التى كان آدم سميث يدعو إليها, كما تبدو حقيقة هذه الإتجاهات المماثلة التي جاء بها ويليم بيتي(William Petty ) ـ مدافعاً بشراسة عن الحرية التجارية ـ ومن بعده خلفاؤه ممن عملوا في ادارات الحكومة الإنكليزية والذين رددوا ما قاله بيتــــي جاعلين من الإقتصاد السياسي المدافع عن حرية التجارة أدباً مبتذلاً يبرر التوسع الإستعماري البريطاني؛ وهذه الفلسفة ليست لزمن غابر ولم تفقد أهميتها ولكنها ما زالت تتمتع بحقيقة خالدة وتجد كل معانيها في معادلة حالية يختزلها الإقتصاديون والسياسيون بكلمة واحدة لا غير: العولمــــة.

وما ينطبق على الأفراد بما يخص طبيعتهم الإنسانية ينطبق أيضاً على الأوطان والأمم في علاقاتها الإقتصادية الدولية الماضية والحاضرة, فإن أي وطن أو أمة استطاع بالتدابير والرسوم الوقائية وبالتحديد من حرية الملاحة, أن ينهض بقوته الصناعية وبحريته وملاحته الى الدرجة التي لا يمكن أن يصل إليها وطن آخر, فيستطيع منافسته منافسة حرة, مثل هذا الوطن ليس أمامه ما يفعله ـ ويكون حكيماً في عمله ـ الا أن يلقي بعيداً بالسلم الذي مكنه من الوصول الى العظمة ليحرم الدول الباقية من الصعود في أثره, بل وأن يبشر الأوطان الأخرى بفائدة ونفع التجارة الحرة وأن يعلن بنغمة مليئة بالشعور بالخطأ بأنه قد تخبط في الطرقات الخاطئة, وأنه قد نجح لأول مرة في إكتشاف الحقيقة المطلقة.

دفاع سميث عن بناء وتمويل جيش نظامي

في عهد “النظام القديم”, أي العهود الإقطاعية, كانت أوروبا, وخصوصاً إنكلترا ما قبل الثورة الصناعية, تتخبط في نقاش وصراع وتردد حول بناء جيوش من المحترفين أو من ميليشيا الإقطاعيينـ. وكان التفكير السائد في القرن السادس عشر, ان قدرة الأمة على الدفاع عن نفسها تتوقف على ممتلكاتها المادية بدرجة أقل من توقفها على روح الأهلين, وأنها تعتمد على المدخرات من الذهب بأقل من اعتمادها على عزيمة واصرار التنظيم السياسي فيها. وقد كان هذا الرأي الذي جاء به فرنسيس بيكون هو السائد حين كان آدم سميث أُستاذاً للفلسفة الأخلاقية (Moral philosophy ) في جامعة غلاسكو (1752­- 1764). ولكن سميث كتب رأيه بشكل واضح وعبر عن إعتقاده ـ في كتابه “ثروة الأمم” ـ بأن “أمن كل مجتمع يجب أن يتوقف بدرجة ما كبيرة أو صغيرة على الروح الحربية للأهلين, على أن الروح الحربية وحدها ـ دون أن يعاونها جيش قائم جيد الضبط والربط ـ ربما لا تكون كافية للدفاع عن أي مجتمع ولا لتأمين أمنه. ولكن حيثما تتوافر لكل مواطن روح الجندي فمن الضروري أن يتوافر أيضاً جيش صغير قائم يستند على هذا المجتمع”. وقد سار سميث الى أبعد من هذا في اعتقاده بأنه “وان كانت الروح الحربية للأهلين عديمة النفع في الدفاع عن المجتمع, الا أنه للحيلولة دون انتشار هذا النوع من التشتت العقلي والاضطراب الإجتماعي والتخاذل الذي يكون الجبن أو الخذلان متغلغلاً فيه, لمنع انتشار هذا كله وسط مجموعات الأهلين؛ يتطلب الأمر انتباه الحكومة, بل وأن تعنى الحكومة بهذا في الصورة نفسها التي تعنى بها لمنع انتشار الأمراض والأوبئة وان كان انتشار هذه الأمراض بين مجموعات الأهلين ليس خطيراً ولا قاتلاً ولا مدمراً”, وانما عن طريق “التدريب العسكري الذي تدعمه الحكومة يمكن الإحتفاظ بالروح العسكرية للأهلين بدرجة مؤثرة”, وعلى مدى القرن التاسع عشر, كان الكثيرون من مريدي سميث وأشياع مدرسته, أمثال كوبدن وبرايت, يدعون لحرية التجارة بإخلاص, كما أنهم كانوا مسالمين عن عقيــــدة غير راضين عــــن الحروب. وكان من الطبيعي أن هؤلاء كلهم ما كانوا ـ وهم أصحاب آراء متحررة ـ أن يتبنوا مثل هذه العقيدة التي جاء بها سميث عن التدريب العسكري للاحتفاظ بالروح العسكرية.
وقد كانت هناك مشاعر عميقة بين المجتمعات الأنجلو ـ أمريكية ضد “الجيوش العاملة الدائمة” وإنشائها والإحتفاظ بها ؛ فان الموقع البحري للجزر البريطانية مكن مجلس العموم البريطاني من أن يتخبط طويلاً في مناقشة موضوع الدفاع الأهلي. وقد أدى التنافس الطويل بين البرلمان والملك, “هذا التنافس الذي كان الجيش ـ على مداه ـ آلة في يد آل ستيوارت” من زيادة الإعتقاد بأن الجيش المحترف يعتبر خطراً على الحرية الأهلية. وقد احتفظت الدول الأوروبية التي تنافس بريطانيا بجيوش دائمة كبيرة كدعامة لقوتها, بل واستطاعت أن تصل بالجنود المحترفين الى تقدم كبير في التنظيم العسكري وفي “فن الحرب”, على أن البرلمان مع هذا استمر في وقت السلم يحتفظ بجيش كبير العدد, كما تبع هذا إستمرار النظام غير الصحيح المدمر للقوى المعنوية, من اسكان الجنود مع الأهلين, والإعتماد على الميليشيا لإمداد الجيش بإحتياجاته من الرجال.
وكان الجو السائد بين الطبقة السياسية الإنكليزية مشحوناً ضد إنشاء جيش نظامي إلى درجة أن أي من المسؤولين لم يكن يتصور أن السياسة التقليدية السائدة في إنكلترا يمكن أن تتعايش مع إنشاء جيش دائم Standing Army) ). فمن جهة, كان “الأحرار” يرددون بأن الجيوش الدائمة قد دمّرت التعاليم الليبرالية التي جاءت بها الأمم الأخرى. ومن جهة ثانية, كان “المحافظون” يقولون دائماً إن الجيش الدائم العامل تحت إمرة كرومويل قد حارب الدين وإضطهد النبلاء وأعدم الملك (إعدام شارل الأول في عام 1649), ولم يتجرأ أي زعيم حزب ـ ما لم يعرض نفسه للإتهام بالخبل والجنون ـ أن يقترح بأن يكون الجيش من المؤسسات الدائمة في الحياة الإنكليزية.
كان هذا التفكير هو السائد عندما كان سميث أستاذاً للفلسفة الأخلاقية في جامعة غلاسكو (1752-­1764) وألقى محاضراته القيمة عن “العدالة, البوليس والدخل والأسلحة”. وفي هذه المحاضرات, افترق سميث عن استاذه الشهير فرنسيس هتشنسون الذي عارض انشاء الجيوش العاملة على أساس أن الفنون والفضائل العسكرية قد باتت زينة الرجال الأشراف, وأن صناعة الحرب يجب ألا تكون حرفة دائمة لأي فرد, بل ان الجميع يجب أن يقوموا بها على التوالي, كل بدوره؛ وقد بدا هذا لسميث على أنه برنامج غير عملي, ووقف وقفة قوية للدفاع عن انشاء الجيش المحترف.

ولم ينكر سميث أن الجيش العامل قد يكون تهديداً لحرية الأفراد؛ فإن كرومويل قد ألقى بالبرلمانيين من الباب مستنداً إلى الجيش, ولكن سميث كان يعتقد أنه من الممكن ـ بالإحتياطات الصحيحة السليمة ـ أن يكون الجيش عضداً للسلطة الدستورية لا وسيلة للقضاء عليها؛ وعلى أية حال فان الأمن يتطلب قوة مسلحة مدربة تدريباً عالياً وجيدة التنظيم, واذ ذاك فقط تستطيع الدولة أن تطمئن الى جَديتها في خوض المعارك, فلا يمكن للميليشيا ـ مهما دربت ومهما كان ضبطها جيداً ــ أن تحل مكان الجنود المحترفين, وبخاصة في عصر كان لتطور الأسلحة النارية أهمية كبيرة للتنظيم والنظام أكثر مما للمهارة الفردية والشجاعة. ولهذا فان المطالب الأولية للاحتياطيات العسكرية تتطلب أن يفسح كل من الشك التقليدي في الجيش المحترف والإستخدام التاريخي للميليشيا ــ الذي أثبت تفوق الجيوش النظامية عليها ــ الطريق للحاجة الملحة التي وضحت في كل عصر؛ وهي ضرورة إنشاء جيش عامل, ثم ان المبادىء الإقتصادية الصحيحة تتطلب أن تكون الحرب صناعة وحرفة لا هواية.


تقسيم العمــــل والتخصص العسكري

إذا كانت العبارة الأولى التي إستهل بها آدم سميث مقدمة كتابه “ثروة الأمم” بمعنى أن العمل هو مصدر الثروة أو حسب عبارته : “ان العمل السنوي لكل أمة هو المصدر الذي يمدها بكل ضرورات الحياة وإحتياجاتها التي تستهلكها سنويا”, فإن العبارة الثانية ­ عنوان الفصل الأول من كتابه ­ هي “تقسيم العمل” بين الأفراد الذي يعتبر سر إنتاجية العمل.

فكما أن تقسيم العمل بين أفراد المجتمع هو سر إنتاجيته, فإن تطور التكنولوجيا والفنون يفرض التقسيم والتخصص في الفنون العسكرية. وقد كتب سميث: “لما كان فن الحرب بالتأكيد أنبل الفنون, فإنه من الضروري أن يجعله تطوره من أكثر الفنون تعقداً. فان الصورة الآلية التي من الضروري أن ترتبط به ­ والتي ترتبط أيضاً ببعض الفنون الأخرى ــ هي التي تحدد درجة الكمال التي تجعل “فن الحرب “ صالحاً لأن تنفذ عملياته في زمن محدد معين؛ ولكن كي يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة من الدقة, من الضروري أن يكون الصناعة الوحيدة والرئيسية لطبقة خاصة من المواطنين, والتخصص هنا لازم للتقدم الفني لصناعة الحرب, كما هو ضروري بالنسبة لأي فن آخر. إن التخصص في الفنون الأخرى يجىء تابعاً لإتجاهات الأفراد بكل جهودهم ونشاطاتهم إلى حرفة خاصة واحدة, فيصلون الى درجة من المهارة في هذا الفن أكثر مما يصلون اليه بتوزع جهودهم بين حرف وصناعات عدة. ولكن حكمة الدولة وحدها هي التي تجعل حرفة الجندية حرفة خاصة منفصلة إنفصالاً تاماً عن غيرها. ان المواطن الذي يقضي الجزء الأكبر من وقته ابان السلم في التدريب العسكري دون أي تشجيع من جمهرة الناس, يستطيع بلا شك أن يصل الى درجة كبيرة من التقدم في هذا التدريب وأن يشبع هوايته ورغبته, ولكنه بلا شك أيضاً لا يستطيع أن يتقدم بمصالحه الخاصة. وهنا تكون حكمة الدولة وحدها هي التي تجعل من مصلحتة أن يعطي الجزء الأكبر من وقته لهذه الصناعة الخاصة ؛ على أن هذه الحكمة لم تكن موفورة دائماً لكل الدول حتى وان كانت ضرورة وجودها تتطلب ذلك”.


المستعمرات ومساهمتها في القوة العسكرية والإقتصادية

من الملاحظ أن كتاب “ثروة الأمم” طُبع في عام 1776, أي في السنة التي حدث فيها “إعلان الإستقلال” للمستعمرات الإنكليزية في أمريكا الشمالية. وقد ناقش آدم سميث طويلاً علاقة بريطانيا بمستعمراتها, وفي ما يختص بالسياسة الإستعمارية, فلقد إعتقد أن السياسة الإستعمارية لا ثمار لها من الناحية التجارية. ومع أنه فكر في أن الأمريكيين لم يقاسوا في الحقيقة بسبب التحديدات التي فرضتها الدولة الأم, أي بريطانيا, مثل هذه التحديدات التي استهدفت منع اختراق الحقوق المقدسة للجنس البشري, كتحريم الإتجار بالرقيق, الأمر الذي فُرض على أمريكا بواسطة الطبقات الرسمية وطبقة التجار في إنكلترا؛ فقد رأى أن قيمة المستعمرات في التنظيم الإستعماري يجب أن تقاس على أساس القوات العسكرية والأموال التي يمكن لهذه المستعمرات أن تقدمها للدفاع عن هذه الإمبراطورية ولمعاونتها في نفقات الدفاع. وعلى ضوء هذه الأراء فان المستعمرات الأمريكية لم تكن ذات نفع مادي لبريطانيا؛ بل أنها كانت تحتاج لقوات إنكليزية للدفاع عنها. وقد جعل هذا “الوطن الأم” يشتبك في حروب عديدة مكلفة الثمن أسماها سميث “حروب المستعمرات”, ولو وضع الأمر على هذا الأساس موازنة مالية تجارية لكان من الأصلح أن تكون بلا مستعمرات.
وهذه وجهة نظر لها قيمتها في أمر الإمبراطورية البريطانية, ولكن سميث لم يقترح أن تتنازل بريطانيا عن مستعمراتها وأن توافق على الإستقلال الذي كان الأمريكان يطلبونه لبلادهم يومذاك, بل كان يرى “أن اقتراح مثل هذا الإجراء لم تتخذه من قبل ولن تتخذه في ما بعد أية أمة في العالم, إذ لم يحدث قط أن تنازلت أمة طوعاً عن سيادتها على أية أرض مهما كانت الصعوبات التي تواجهها لحكمها, ومهما قلّت القيمة المالية التي يمكن أن تقدمها هذه الأرض بالنسبة للنفقات التي تنفق عليها. ومثل هذه التضحيات قد تكون صالحة من ناحية التفكير في المصالح إلا أنها دائماً قاتلة لكبرياء الأمة, هذا فضلاً عن أنها تتعارض مع المصلحة الخاصة للطبقة الحاكمة في هذه الأمة, هذه الطبقة التي ستحرم إذ ذاك من الكثير من النفع والفائدة, بل ومن الفرص الكثيرة للحصول على الثروة والمكانة الأمرين اللذين لا تفشل حتى أقل المناطق نفعاً في تحقيقها”.

وقد تنبّأ سميث بأن الحرب لإستقلال أمريكا ستكون حرباً باهظة النفقات طويلة الأمد, بل انه تنبأ بأن من الممكن أن يحصل المستعمرون على النصر, أولئك الذين سيتحوّلون من تجّار وعمّال حوانيت ومحامين إلى ساسة ومشرعين, والذين سيستخدمون لتكوين صورة جديدة لحكومة تخضع لها أرض واسعة, وستكون كما هو من الواضح واحدة من أعظم وأقوى الدول في العالم.

خلاصـــة الدراســــــة

في العصر الحديث ـ مع نشأة الحكومات الوطنية Les Etats-Nations وإنتشار المدنية والحضارة في العالم, والإزدهار الذي جاء به العلم والتكنولوجيا, وهذا التقدم المتسارع في الفن العسكري والتكاليف المرتفعة التي يفترضها إنشاء جيش متطور تكنولوجياً ـ لا يمكن فصل القوة الإقتصادية عن القوة السياسية والعسكرية إلا في المجتمعات البدائية؛ ومن البديهي أنه في مجتمعنا المعاصر, نواجه علاقة متشابكة ومتداخلة للقوى التجارية والمالية والصناعية, من جهة, وللقوى السياسية والعسكرية من جهة أخرى, وهذه العلاقة واحدة من أعقد مشكلات السياسة, ذلك أنها تجعل سلامة الوطن هي التي تحدد مدى ما يتمتع به الفرد من الحياة والحرية والتملّك والسعادة.
ومهما كانت الفلسفة السياسية والإقتصادية للوطن, فإنها لا يمكن أن تتنكر ـ إلا بمخاطرة لها ضررها ـ لإحتياجات القوة العسكرية ومطالب أمن الأمة على المدى القصير والمتوسط والطويل, وهما أساس غيرهما من مشكلات الحكم. ولهذا فمما لا شك فيه أن هناك مبدأً أصبح من المسلمات في فن سياسة الدول ويفترض بأن الأمن والسلامة من الخطر الخارجي هما أقوى موجه للسلوك الأهلي. فحتى الحرية ـ إذا لزم الأمر ـ يجب أن تفسح الطريق لمطالب الأمن والسلامة, ذلك لأن الناس يرغبون أن يكونوا أكثر أمناً حتى لو خاطروا بأن يكونوا أقل حرية.

وكان آدم سميث ـ الذي آمن بأن الرخاء المادي للوطن يمكن أن يوجد بأقل تدخل من الحكومة ضد حرية الفرد ـ راغباً في أن يتقبل وجوب تنسيق هذا المبدأ العام مع غيره من المبادىء الأخرى عندما يكون الأمر متعلقاً بالأمن الأهلي, “ذلك لأن الدفاع أهم من الرخاء والإزدهار”. فالقوة على صعيد الوطن أكثر أهمية من الثروة. ذلك لأن نقيض القوة أي الضعف يؤدي إلى فقد كل ما نملك, لا من الثروة فحسب بل ومن القدرة على الإنتاج. وأن نفقد مدنيتنا وحضارتنا وحريتنا وحتى إستقلالنا, وأن نفقد كل هذا على أيدي أولئك الذين يفوقوننا في القوة.
بالطبع إن تفكير آدم سميث كان يقوم على أساس حقيقة أنه كان مواطناً للإمبراطورية البريطانية ومدافعاً عن مصالحها؛ وهذا لا يمنعنا مطلقاً أن نتبنى ما يناسبنا من أفكاره. وقد فهم ويُفهِم أن القوة العسكرية تبنى على أسس إقتصادية, ووقف إلى جانب تنظيم إقتصادي يواجه إحتياجات وطنه أكثر من أي نظام آخر ؛ ولكن إذا كان العالم قد وصل إلى ما وصل إليه نتيجة للسياسة المركنتيلية المعاصرة فليس من الضروري أن يكون هذا خطأ آدم سميث وغيره من المفكرين الإقتصاديين, لأنه ما دامت الأمم الكبرى ستظل تضع كل إيمانها في قومية غير محدودة وسيادة وتسلط غير مقيدين فإنها ستظل تعتمد على تدابير تكون في رأيها هي أفضل ضمان لمصلحتها وإستقلالها وأمنها