21‏/02‏/2013

لماذا يخلط المثقفون العرب بين الليبرالية والديموقراطية؟





برهان غليون
عن ( النهار )

يعكس الخلط بين مفهومي الديموقراطية والليبرالية رغبة بعض قطاعات المثقفين العرب في تفسير الديموقراطية، بما يساعد على مواجهة القيود والضغوط التي تمارسها المجتمعات التقليدية على الفرد في ما يتجاوز مسألة الرد على تحديات السلطة الاستبدادية، ويثير في المقابل مخاوف كبيرة لدى قطاعات الرأي العام الواسعة التي تخشى ان يكون مضمون الديموقراطية الاباحة الكاملة لكل ما يمكن ان يشكل خرقا للقيم والتقاليد والعقائد الدينية.

الديموقراطية لا تتناقض بالاساس مع الليبرالية التي شكلت حاضنتها الفلسفية والسياسية الرئيسة، الا انها لا تتطابق معها، بل هي تنزع الى الاستقلال اكثر فأكثر في مفهومها ومنظومة ممارستها عنها. وفي هذه الحقبة التي تشهد عودة قوية للفلسفة الليبرالية عموما، وفي عالم الجنوب والشرق بشكل خاص (كما يتبين من صدى افكار فوكوياما، على اثر الانحسار، ان لم نقل التلاشي، الذي شهدته الفلسفات المناوئه، في سياقات انهيار الفكرة الشيوعية وتراجع الايديولوجيات القومية وانبعاث افكار وحركات المجتمع المدني وحقوق الانسان) يصبح من المفيد اعادة فحص هذين المفهومين المترادفين الديموقراطية والليبرالية، والسعي الى ابراز المستويات المختلفة لتطابقهما وانفصالهما.

ينبغي بالتأكيد الحذر من معاملة المفاهيم الفكرية كما لو كانت مفاهيم جامدة وجاهزة، فمضامينها تتطور وتتبدل باستمرار. لكن برغم ان المفاهيم لا تحتفظ بدلالاتها من دون تغيير لفترات طويلة وان مضمونها التاريخي يرتبط في النهاية بالسياق الاجتماعي الذي تعاود الظهور فيه الا ان استخدامها في فترات متباعدة وفي سياق مجتمعية متعددة يؤكد ان للمفاهيم الاجتماعية بعض الدلالات الثابتة التي من دونها لا يستقيم معناها.

تنطوي الليبرالية على اعتقادات ثابتة اساسية لا تستقيم من دونها:

اولها، مبدأ الانسجام الطبيعي الذي يقضي بأن لا يتناقض بحث الفرد الحر عن مصالحه الخاصة، مع تحقيق المصلحة العامة للجميع، بل هو على العكس يشكل ضمانته الحقيقية. ويعني ذلك انه اذا تركنا كل فرد يبحث بحرية عن مصلحته الخاصة، سنصل الى انسجام حقيقي في المصالح اكثر بكثير مما لو سمحنا للدولة بأن تتدخل لضمان مثل هذا الانسجام او لاختراعه.

ثانيها، ان حقل الحرية السياسية يتطابق مع حقل الحرية الاقتصادية، ولا يعني هذا مجرد الافتراض بأن الاقتصاد الحر هو شرط للحرية السياسية او الديموقراطية فحسب ولكن اكثر من ذلك ان الحريات الاقتصادية المجسدة في اقتصاد السوق الحر تقود مباشرة وتلقائياً الى نشوء الحريات السياسية وتأكيدها.

وثالثها، ان الديموقراطية والليبرالية متطابقتان تماما فلا ديموقرطية من دون ليبرالية ولا ليبرالية من دون ديموقراطية وبالتالي فالليبرالية تضمن بشكل تلقائي تكافؤ الفرص وآفاق الارتقاء الاجتماعي والمشاركة السياسية لجميع الافراد بقدر ما تضمن النمو والتقدم الاقتصادي.

النيوليبرالية التي تشكل الايديولوجية الجديدة لحقبة ما بعد الحرب الباردة في مركز العالم الصناعي والتي تنتشر بسرعة في بقية بقاع العالم، هي مذهب العودة الى اصول الليبرالية، وتعني اذاًً تحريرها من القيود التي ادخلت عليها منذ العقود الاولى من القرن العشرين، كرد على الازمات الكبرى التي واجهتها ومنها ازمة الكساد الكبرى في نهاية الثلاثينات. وكما مع كل عودة للاصول مبالغة في التركيز على المبادىء والقيم الاساسية التي يتضمنها المذهب او النظام المستعاد. لا تكتفي النيوليبرالية بالتأكيد على ضرورة التراجع عن تدخل الدولة المباشر والواسع في النشاطات الاقتصادية والانتاجية بما في ذلك قطاع الخدمات العامة واخضاعها جميعا لقاعدة المنافسة وقانون العرض والطلب، بل هي تسعى اكثر من ذلك الى تجاوز نظام السوق الرأسمالية القومية او الوطنية الذي ساد في المراحل السابقة وما يعنيه من ممارسة الدولة حقها في السيادة الاقتصادية ووضع التعريفات الجمركية الحمائية وتنشد بناء سوق رأسمالية على امتداد الكرة الارضية، وهو ما يندرج اليوم تحت اسم العولمة.

وفي السياسة تعني النيوليبرالية التخلص من دولة الرعاية والدعم التي نشأت في الحقبة الماضية. انها تنظر الى الخدمات التعليمية والصحية والضمانات الاجتماعية المختلفة التي وفرتها هذه الدولة في السابق على انها معوقة للمجتمع الحر لأنها تقيد اختيارات افراده مثلما هي معوقة للتقدم الاقتصادي بقدر ما تفرض اكراها وكوابح على سوق التداول الحر للسلع والخدمات والمهارات.

لا يقبل الفكر الديموقراطي المعاصر بالمسلمة القائلة بأن احترام الحريات الفردية يقود حتماً الى تحقيق القيم الانسانية المطلوبة، وينتج تلقائياً العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص لأبناء المجتمع الواحد ولا يؤمن تاليا بالانسجام الطبيعي بين حقلي الحرية الاقتصادية والسياسية.

الحرية لا بد ان تترافق مع سياسات اجتماعية واقتصادية تضمن حدا ادنى من استقلال الافراد بما يمكنهم من ممارسة حرياتهم "الشكلية". الحرية وحدها ليست مبدأ كافيا لقيام نظام ديموقراطي واجتماعي صالح وناجع بالرغم من انها تبقى قيمة اساسية فيها. فأي معنى للحرية من دون عدالة ومساواة قانونية فعلية. ومن هنا لا يعتبر الفكر الديموقراطي المعاصر عدم تدخل الدولة في العملية الاقتصادية مذهبا مقدسا وشرطا لقيام اقتصاد سوق ناجح ومنتج.

من هنا سيتبلور عبر التجربة التاريخية الطويلة مفهوم للديموقراطية يتقاطع مع الليبرالية في مناح عديدة. المنحى الاول هو التمييز بين المظاهر السطحية والشكلية للممارسة الديموقراطية وتحقيق القيم العميقة للفلسفة الليبرالية. وكان ماركس اول من كشف عن هذا التناقض العميق بين الحريات الشكلية التي وعدت بها الليبرالية والعبودية التي ينتجها ويفرضها تحكم رأس المال على الطبقات الشعبية. وبالرغم من الانجراف الذي قادت اليه هذه النظرية الصحيحة والذي اتخذ شكل معارضة نظام الحرية السياسية اي الديموقراطية "الشكلية" (كما كان يقول الماركسيون) بنظام المساواة الاجتماعية او الديموقراطية "الشعبية" التي تقوم على عدالة توزيع الثروة، الا ان تطور التجربة الليبرالية نفسها قد اسفر عن رؤية تكاد تكون موضع اجماع على امرين: الاول ان الديموقراطية، بما تعنيه من ضمان حرية الافراد ومشاركتهم السياسية واستقلالهم، لا يمكن ان تتحقق من دون حد ادنى من العدالة والانصاف في توزيع الثروة. والثاني ان نظام السوق، بالرغم من قانون المنافسة الذي يضبطه، يقود حتما وبصورة تلقائية الى تركيز الثروة وبالتالي ايضا السلطة والمعرفة بيد فئات قليلة.

ومن هنا طورت جميع البلدان الليبرالية الاوروبية التقليدية مع الزمن سياسات اجتماعية اساسية لتجاوز هذا التناقض الى ضوابط سياسية واقتصادية واجتماعية تمنع اصحاب الرساميل من السيطرة المتزايدة على مصادر الثروة والسلطة في المجتمع وتقضي على الديموقراطية باسم الحرية.

وهكذا صار من الممكن الحديث، من دون فقدان الاتساق المنطقي، عن ديموقراطية مسيحية او اشتراكية تستمد شرعية القيم الانسانية التي تعمل من اجلها عقائد او فلسفات اخرى. وفي تركيا الراهنة يمكن الحديث عن ديموقراطية اسلامية تؤكد على الالتزام بقواعد الديموقراطية وقيم العدالة والمساواة والحرية، انطلاقا من ومع التمسك ببعض القيم الروحية والاجتماعية والثقافية الخاصة، بما في ذلك ربما التأكيد على اهمية التضامن داخل الأسرة او تشجيع المؤسسات الاهلية والخيرية... الخ.

وهذا يعني ان من الممكن تماما ان تكون هناك ديموقراطية لا تقاس سعادة المجتمع ورفاهه فيها بحجم او بعدد الحريات الفردية الممارسة. وان تكون الاسبقية فيها لقيم العدالة والمساواة والحرية، انطلاقا من ومع التمسك ببعض القيم الروحية والاجتماعية والثقافية الخاصة، بما في ذلك ربما التأكيد على اهمية التضامن داخل الاسرة او تشجيع المؤسسات الاهلية والخيرية... الخ.

وهذا يعني ان من الممكن تماما ان تكون هناك ديموقراطية لا تقاس سعادة المجتمع ورفاهه فيها بحجم او بعدد الحريات الفردية الممارسة، وان تكون الاسبقية فيها لقيم العدالة او المساواة بين المواطنين او بين الجنسين او بين الطبقات او الاقاليم والجماعات المختلفة، خاصة عندما تكون الفوارق بينها ذات طبيعة خطيرة واستثنائية.

تحرير الفكرة الديموقراطية من الفلسفة الليبرالية شرط تعميمها

في العالم العربي المعاصر لا تبرز فلسفة الليبرالية، كتعبير عن ولادة روح فردية قوية ومستقلة بالفعل ومبادرة، بقدر ما تعبر عن خيبة امل قسم من الرأي العام بأنظمة حكم انبثقت خلال نصف القرن الماضي وفرضت نفسها باسم القومية والاشتراكية واتسمت بما يشبه عبادة الدولة وتقديس دورها الاجتماعي على حساب الفرد وحريته واستقلاله وكرامته. ولذلك فهي لا تبدو كفلسفة اوسع من الديموقراطية، ولكن كتيار فكري مكمل لها او كالجناح الراديكالي في الحركة الديموقراطية.

ومن يقرأ الادبيات السياسية العربية الاحدث، يدرك بسهولة الاختلاط العميق الذي يسيطر على الثقافة السياسية العربية في ما يتعلق بمفهومي الديموقراطية والليبرالية واحيانا عن استخدامهما بمعنى واحد. بيد ان الامر لا يتوقف على مجرد الخلط بين المفهومين وعدم إدراك الفرق بينهما وإنما يذهب ابعد من ذلك فيطابق بين الديموقراطية والليبرالية او ينزع الى تفسير الديموقراطية تفسيراً ليبراليا. ولا يحصل ذلك بسبب معرفة قيم الليبرالية، بل نتيجة الاعتقاد بأن هذه القيم هي جزء لا يتجزأ من الديموقراطية اي من تأكيد قيم الحرية والعدالة والمساواة بين جميع الافراد بصفتهم افرادا احرارا واسياد انفسهم خارج اي اكراهات مجتمعية او حكومية.

من نتائج هذه المطابقة السلبية والمضرة بالديموقراطية نزوع من يطلقون على انفسهم اسم الليبراليين العرب، وانطلاقا من جعل الحرية، الى التضحية بقيم اساسية لا تستقيم الى الديموقراطية العربية من دون احترامها. ومن هذه القيم: العدالة الاجتماعية والمساواة القانونية الوطنية المرتبطة بها والتضامن الاجتماعي. ومنها، بالنسبة للمجتمعات العربية التي لم تنجح بعد في الخروج من سياق الهيمنة الاستعمارية، القيم الوطنية المرتبطة بمهمات تحقيق او حماية الاستقلال والسيادة الوطنية التي ركزت عليها النظم السابقة وبشكل خاص تجاه الدول الكبرى وفي طليعتها الولايات المتحدة الاميركية واوروبا. ومنها ما يتعلق بمسائل التأكيد على الهوية العربية وما ارتبط ويرتبط بها من نزوعات الى بناء مشاريع الوحدة او الاتحاد او التعاون الاقليمي الخاص بين البلدان العربية. ومنها ايضا واحيانا التضامن مع قضايا الامة العربية وفي مقدمها القضية الفلسطينية.

نلاحظ ان الليبراليين العرب الجدد انما يتخلون عن هذه القيم الانسانية العميقة وفي مقدمتها التطلعات الاقليمية والوطنية بتأكيد قيم احترام التنوع العرقي والديني والتركيز على قضايا المعيشة وتحسين مستويات الدخل والتنمية والتعاون مع الدول الاجنبية من دون ايلاء اهتمام كبير لمسائل السيادة والحساسيات الشعبية التاريخية. ويخشى ان تتماهى الليبرالية اكثر فاكثر في البلاد العربية مع التأمرك او حب التماثل مع اميركا والاقتداء بنموذجها الاجتماعي.

لا شك في ان قيم الليبرالية الجديدة، كما يعيد اكتشافها فريق من المثقفين العرب في سياق صراعهم المشروع ضد النظم الاستبدادية القاسية، وفي مواجهة القيود التي تفرضها التقاليد الاجتماعية والدينية المحافظة، تميل الى وضع نفسها في مواجهة مباشرة مع القيم السائدة. ويخشى ان يكون مصير التيار الليبرالي العربي الجديد، ومن ورائه مصير النخب المثقفة العربية، في هذا الربع الاول من القرن الحادي والعشرين شبيهاً بمصير التيار الماركسي، الذي نشأ وتصاعد نفوذه في اوساط المثقفين في الخمسينات والستينات من القرن الماضي.

فكلا التيارين ينزع الى ان يعكس تمرد فئات من المثقفين على القيود المجحفة التي يضعها المجتمع والدولة على حرية الفكر والاعتقاد والمشاركة السياسية ويهدد، لهذا السبب ذاته، بدفع المثقفين او جزء منهم الى تبني موقف يشبه موقف المنشقين على الدولة والمجتمع. ومن شأن هذا الموقف ان يقود ايضا الى تفاقم شعور المثقفين بالعزلة والتهميش، فهو يشجع لدى بعضهم المراهنة بشكل متزايد على التعاون مع القوى الخارجية، لا بل على التدخلات الاجنبية في سبيل تحقيق تحولات ديموقراطية فعلية داخل مجتمعات تبدو غير قادرة في نظرهم على تحقيقها بعناصرها الذاتية.

ان التطلع الى بناء الذاتية الفردية الحرة والمتحررة من القيود، ومواجهة الاطراف الاجتماعية المختلفة التي تشكل مصدر سلطة او صلاحية خاصة، سواء أكانت مجتمعا شاملا ام طبقة ام قبيلة ام طائفة ام عائلة، قد يفتح الباب امام التقليل من قيمة الذاتية الجمعية ومن مسؤولية الدولة والمجتمع معا تجاه الفرد. وقد يقود التطرف الليبرالي، الى عكس ما يهدف اليه، اي الى تهديد الذاتية الفردية، وفرض الوصاية وخلق الظروف التي تحول دون تعميم الحريات، دون تنظيم الحياة الاجتماعية على أسس من العدالة والمساواة والاعتراف بمركزية الانسان وقيمة وجوده الاصيلة.

ان الديموقراطية لم تعد رديفا لليبرالية، ولكن نموذجا للحكم الصالح الذي يشمل تحقيق مجموعة من القيم الانسانية الرئيسة. الى جانب قيم اخرى تعكس خصوصية المجتمعات وظروف تطورها. هناك ثلاث رؤى مختلفة ومتباينة تنمو اليوم في العالم العربي لطبيعة الاهداف والمهمات التي يتعين على الديموقراطية الآتية ان تعمل عليها: ديموقراطية اجتماعية وديموقراطية اسلامية وديموقراطية ليبرالية.

فالديموقراطية الاجتماعية تعتبر التحويل الديموقراطي، وإعادة إشراك الشعب في السياسة، وإقامة سلطة تعددية على أسس الشرعية الانتخابية، وسيلة من أجل تحقيق مساواة أكبر بين الأفراد أمام القانون وفي مجالات الحياة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وشروط المعيشة. فنظام التسلط والديكتاتورية لا يعمل اليوم بشكل واضح لمصلحة تركيز الثروة المتزايد فحسب، بل يضاً لمصلحة تهميش الشعب وإخراجه من دائرة القرار كما يعمل لمصلحة تعميق الإفقار الثقافي والفكري وجعل المعرفة والعلم والتربية والتعليم حكرا على الخاصة من المجتمع.

فالخيار الديموقراطي الاجتماعي يجعل من التنمية الاقتصادية والاجتماعية الغاية الأولى للسلطة السياسية وبالتالي ينظر بعين أكثر استعجالا الى تحقيق الوحدة والتعاون الإقليمي والدفاع عن القيم الوطنية. وهناك ديموقراطية إسلامية تريد أن تكون التعددية المنتظرة وما تتضمنه من اعتراف بالحريات والحقوق الاساسية للفرد المواطن وسيلة لإضفاء طابع القيم الإسلامية واحترام الطقوس والتقاليد الشعبية على الحياة العمومية وبث درجة أكبر من الأخلاق في حياة الأفراد والجماعات، في الدولة والحياة الخاصة معا. أي بناء العلاقات والحياة العمومية على أسس أخلاقية.

وهناك مشروع الديموقراطية الليبرالية الذي يريد التعددية لجعل الحرية قيمة أساسية وذات أسبقية في الثقافة الوطنية وتقديس الفرد وضمان استقلاله امام مختلف السلطات التابعة للدولة او للمجتمع او للأجهزة الأمنية والبيروقراطية.

لقد اظهرت التجربة التاريخية أن فصل مسألة الحرية، التي هي مسألة جوهرية في الديموقراطية، عن القيم الإنسانية الأخرى التابعة من التضامن الاجتماعي وفي مقدمها قيم العدالة والمساواة، يقود لا محالة الى تفريغ الفلسفة الليبرالية نفسها من روحها الإنسانوية التي كانت هي الأصل في نشوئها. وفي هذه الحالة يمكن الليبرالية ان تتحول، وهي تتحول بالفعل، الى عائق امام الديموقراطية ليس فقط بسبب ما تفترضه من تطابق تلقائي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية فحسب، وإنما أكثر لأنها تنزع الى تجاهل قيم العدالة والمساواة التي لا يمكن ان تستقيم من دون تدخل الدولة الممثلة لعموم الشعب وإرادته العامة. إنها باسم السعي الى أقصى درجة من الحرية الفردية، توشك ان تقضي على شروط انبثاق الحرية الحقيقية وتعميمها وتهدد بان تصبح فلسفة لا إنسانية ولا أخلاقية.

14‏/02‏/2013

كتاب المذاهب الأخلاقية الكبرى : (1)






من كتاب : المذاهب الأخلاقية الكبرى
تاليف : فرانسوا غريغوار
ترجمة : قتيبة المعروفي








الأخلاقية العلوية ( العلمانية)



1- العصور القديمة
أ- اخلاق افلاطون 

الأخلاق الأفلاطونية هي المثال الأول في الفكر الغربي للأخلاقيات المبنية على
أساس العلوية ولكنها تشكل من بعض نواحيها مع ذلك تركيبا من التأثيرات السابقة
كما يتضح فيما يلي :
عن الفيثاغورثيين : اقتبست الأخلاق الأفلاطونية عن الفيثاغورثيين كما يبدو فكرة
أن النظام الإلهي الذى يهيمن على الكون ذو طبيعة رياضية , وأن الروح حبيسة
في سجن هو الجسد فلا تستطيع منه فكاكا ذلك بعد تقمصات عديدة كما يؤكد الفيثاغورثيون) إلا عن طريق قاعدة للحياة منسجمة مع هذا النظام قوامها الطهارة والتنسك واحترام التضامن (المتناسق) الذى يوحد بين الكائنات وكذلك ضبط النفس والعدالة , أي كل الفضائل التي يمكن تحديدها ضمن نطاق العلاقات, فالعدالة هي المساواة , والإعتدالهو القياس إلخ .

عن سقراط : سقراط الذى لا نعرفه إلا من خلال (المحاورات) الأفلاطونية فقد
اقتبس منه افلاطون دون ريب فكرة أن الأخلاق علم ومن الممكن تعليمه وذلك
أولا = لأن الإرادة مستقيمة دائما عندما تكون مستنيرة (هذا تاكيد محفوف بالشك)
ثانيا = لأن الخير هو مجموع القضايا التي تحقق التوفيق بين المرء ونفسه من ناحية وبينه وبين الاخرين من ناحية اخرى وهي قضايا عامة وبالتالي شبيهه بقضايا العلم


وما تهدف إليه الديالكتيكية السقراطية ( أي فن توليد العقول الشهير لدى سقراط) هو استخراجها عن طريق جهد تأملي جماعي وودي منصب على المفاهيم المقبولة من المجتمع بوجه عام ... هذه المفاهيم الجزئية والمتناقضة غالبا فيما بينها. وهكذا
فحسب يمكن عن طريق النقد العقلاني للآراء اكتشاف (القوانين غير المكتوبة)
الكلية والملزمة أي النظام الألهي .

وقد عرف افلاطون كيف يوسع مجددا مدى هذه الإتجاهات الأخلاقية وذلك عن طريق اسنادها إلى ميتافيزياء عامة أو بالأحرى عن طريق استخلاص المبادئ الميتافيزيائية التي تفترضها هذه الإتجاهات, وهذا مصدر مفهومه عن الكون ككل منسجم تهيمن
عليه (سماء) من المثل الخالصة غير المخلوقة وغير القابلة للتغير, وليس العالم المحسوس إلا تدنيا لهذه المثل منقوص وفان , أما الروح البشرية فهي من اصل إلهي
وقد عرفت (في السابق) نظام الجواهر هذا ثم انحطت إلى الجسم المادي الذى
يحيطها بالعتمة ويزيفها وهي تحتفظ بالحنين إلى ذلك النظام, وهكذا فإن طريق
السعادة والحكمة واضح إذن كل الوضوح أمامها ويقوم على نبذ المظاهر المحسوسة والفوضى المادية والجسدية, لأجل العودة بالروح إلى طبيعتها الأصيلة, وتحقيق
السيادة ( في داخل الروح وفي المجتمع) للفضيلة, التي هي ليست سوى صورة
المقاييس العلوية المتمركزة حول مثال( بالمعنى الأفلاطوني) للخير والتي ينظمها
مثال العدالة .

ويتم هذا (الهرب) الذى يقود إلى ( تقليد للإله) أي إلى الخير عن طريق سبر عقلاني بحت فهو يبدأ بجدل القلب والنفس ثم الجهد العقلاني للتخلص من ربقة العالم
المحسوس هذا الجهد الذى ينتقل بالروح من حقائق ناقصة إلى حقائق اكثر كمالا
حتى يقودها إلى حالة من التوازن الداخلي والوحدة أي بالتالي السعادة بل لعله
قد يتيح لها أن تنظم بعد الموت خالدة إلى (عالم المُثُل, ويعني ذلك بصورة عملية
أن يحقق المرء في نفسه أولا ثم في الجموعة تناسقا "متناسبا" مستوحى من النظام
الذى يكشفه الجدل العقلي(الديالكتيك) كما يلي :

-- لما كانت الروح مركبة من ثلاثة عناصر(الشهوات الفجة, الهوى الكريم لكن
العنيف, العقل ) فإن الإنسان الفاضل يدخل إليها - شبيها في ذلك بالموسيقى - توازنا صحيحا , وهكذا فإن الحوذي (العقل) يكبح جماح "حصان الهوى" الأبيض
ويستخدمه كمساعد له ضد "حصان الرغبات الأسود", هذا التوفيق صعب يتطلب
توترا مستمرا ولا يسمح بأية تسويات , يشير افلاطون إلى فضيلة التكفير والعقوبة
أما إذا اختل التوازن فإن اعادة النظام تستوجب الشدة- بالنسبة إلينا وإلى
الآخرين- كما تستوجب اعادة الصحة المختلة الكي والبتر (غورجياس)


-- كذلك الأمر بالنسبة للمجتمع حيث يجب اخضاع العدد الغفير لنظام وحيد
مما نجمت عنه " الأوثوبيا" الشهيرة التي بحثت في الجمهورية ....أي ذلك
التنظيم الإجتماعي الصارم الذى تتسلسل فيه طبقات ثلاث صعودا ( الصناع  والمحاربون والحكام) ويسوده مبدأ جماعي يميل إلى إلغاء أية نزعة إلى الفردية
الأنانية لدى المشتركين في المجموعة ,وهذا نوع من " الطغيان الفلسفي" بحسب
جانيه وسياي يهدف إلى اقامة انعكاس على الأرض للعدالة "الرياضية" التي تسود
العالم المثالي بحيث يتجلى هذا الإنعكاس بصورة ولاء شمولي للدولة ( يخفف
افلاطون في "القوانين" من صلابة اخلاقه الإجتماعية النظرية اخذا بعين الإعتبار الطبيعة البشرية العملية الناقصة ).


ب - اخلاق ارسطو



يقدم ارسطو المولود في مستعمرة يونانية في تراقيا صورة عن العقلية
اليونانية بمثله الأعلى الثلاثي ( القياس , العقل , الجمال ) تفوق في
دقتها - كما لوحظ غالبا - تلك التي يقدمها الأثيني افلاطون , فليس لدى
ارسطو شيء من ذلك المزيج الفريد الذى اختصت به الأفلاطونية أي
مزيج الشاعرية الصوفية بعض الشيء والتصلب الأخلاقي ( هذا ما جعل
افلاطون يبدو احيانا وكانه يتحدث منذئذ اللغة المسيحية وجعل من السهل
بالتالي على آباء الكنيسة الأوائل تقبله ), وكانت الخطوة الأولى في ميتافيزيائه
إلغاء مفهوم سماء "المثل" الصوفية :
فليست الحقيقة خارج عالمنا ولكن تحت ابصارنا في الكائنات وفي الأشياء
الأرضية غير أن ذلك لا يعني أن هذه الأشياء والكائنات خالية من النظام
ومن المعنى , فالكون يبدو لأرسطو كطبقات ( مستويات) من الواقع ينتظمها
تسلسل عظيم الإتساع تبطنه وتوجهه وتمتصه حركة جامعة نحو الكمال, وكل
فرد مزدوج التكوين فهو مركب من مادة ( هي قدرة على التغييرغير محدودة
ومبهمة ) ومن صورة أو قالب ( هي ميل إلى التنظيم والتحقيق البنياني للميزات
الطاقية للمادة) , ويستند كل مستوى من مستويات الواقع هذه إلى السابق مشكلا
في الوقت نفسه قاعدة للمستويات التالية , وهكذا يرسم الكون سلما مستمرا
يرتفع من حد إلى حد نحو المستويات العليا , واخيرا فإن هناك صورة الصور
( الإله أو المحرك الأول أو الخير )

أما قاعدة السلوك الإنساني التي ينتج عنها بشكل غير مباشر بلوغ المرء
السعادة فلا يمكن أن تكون بالتالي سوى انجازه ل "صورته" الخاصة به
على خير ما يمكن وتحقيقه ل "جوهره" وطبيعته إلى الحد الأقصى , ولما
كان المميز الإنساني هو العقل فإن الفاعلية الفاضلة تقوم على العيش طبقا
للعقل وهذا ما يعني انها ليست متوقفة علينا بشكل كلي بل يجب أن تكون
الظروف الخارجية ملائمة , أي يجب توفر (رضى الآلهة) ويعني ذلك
ايضا أن هذه الفاعلية تختلف بحسب الأفراد وبحسب استعداداتهم العقلانية .
وبالنتيجة فإن الفضيلة كما يحددها الكتاب الشهير "الأخلاق إلى نيقوماخوس"
لأرسطو هي عادة واستعداد راسخ مكتسب لتجنب أي تطرف والحفاظ في
كل شيء على "الوسط الصحيح" فلا ينبغي إلغاء الأهواء ( لأنها جزء من
طبيعتنا كما انها محركنا الداخلي) كما لا ينبغي اطلاق العنان لها( لأنها ستطغى
على العقل إذ ذاك , وهذا مظهر آخر من مظاهر طبيعتنا)ويطبق ارسطو
هذا المثال الأعلى للنظام والقياس والإنسجام على تحليل ما يجب أن تكونه
فضائل الحياة العملية :
السماحة : وهي المرحلة المتوسطة بين البخل والإسراف
العدالة: التي تقوم على الحفاظ على التوازن الإجتماعي بصورة متعاوضة احيانا
( العدالة الصارمة في المبادلات ) , وبصورة توزيعية احيانا اخرى ( التناسب
مع استعدادات كل واحد من ناحيتي العقاب والمكافاة )
الصداقة : وهي ان يهب المرء نفسه بشكل نزيه ومطلق , ولكن ايضا أن يكتسب
خير ما لدى الطرف الآخر اخلاقيا .

غير انه إلى الأعلى من هذه الأخلاق العملية تقع الحياة التأملية التي لا يمكن
بلوغها إلا للحكيم وحده , وتقوم على الإنصراف إلى الفكر المحصن وإلى
المعرفة النقية من كل شوائب الإعتبارات الأرضية وهي الوسيلة التي يقترب
بها الإنسان من الإله ويخلد نفسه ما امكنه الخلود خلال وجوده على قيد الحياة
وهذا ايضا حد متوسط بين الفضيلة اليومية وبين المشاركة المستقبلة في
الألوهية في الذكاء الأبدي .

وتكتمل هذه المفاهيم بسياسة اكثر "انسانية" بما لا يقاس من سياسة افلاطون :
الإنسان حيوان خلق لكي يعيش في مجتمع , وهو بالتالي درجة متوسطة بين
البهيمة والإله اللذان يوجدان منفردين , ولكن المجتمع - تلك الظاهرة
الطبيعية - ذو غاية واضحة ودقيقة هي تنمية الفضيلة لدى اعضائه ولذلك
فإن جميع الدساتير التي تميل إلى "تدعيم العقل بدون الهوى" لدى الفرد
صالحة , لكن تفضيل ارسطو ينصرف إلى الديموقراطية المعتدلة حيث
تعتدل الثروات في انسجام صحيح وكذلك الأمر بالنسبه للكفاءات كما هو بالنسبه للرغبات الخاصة , وهذه نتيجة منطقية لهذا التأمل الأخلاقي الذى يشكل
قاعدة لكنها" قاعدة رصاصية" قابلة للتشكل بحسب كل قالب من قوالب
الجزئيات الإنسانية كما انها رمز لما يجب أن تكون عليه الحياة الأصيلة :

أي التناسب المعقول بين النظام الكلي وبين المحل الذى يشغله فيه
الإنسان تبعا لطبيعته النوعية .


ج - الرواقية


هي مدرسة عرفت نجاحا كبيرا , فقد تأسست بحسب القول التقليدي من
قبل “زينون السيتيومي” حوالي عام 300 ق. م ووضع نهجها “كريسيب”
حوالي 250 ق. م وامتدت حياتها بصورة فعالة حتى القرن الثاني بعد الميلاد
عبر افكار “سينيك” و “إيبيكتيت”و “ماركوس أوريليوس” حوالي 160 ب. م
واثرت الرواقية في تأملات مختلفة عن بعضها كل الإختلاف كتأمل كل من
“ديكارت” و”باسكال” و “كانت” و “مين دي بيران” وذلك فضلا
عن غير الفلاسفة من امثال “كورناي” و ” فوفنارغ” و ” فينيي” و ” ميتيرلينك” .
وقد يميل المرء للوهلة الأولى إلى ربط هذه المدرسة بالمذهب الطبيعي
نظرا لكونها مبنية على اعتبار ” فيزيائي” خاص للعالم وتؤدي إلى هذه
القاعدة العامة : ( يجب العيش وفقا للطبيعة ) , ولكن من السهل أن نلحظ أن
“فيزياءها” المذكورة هي ماهيتها “ميتافيزياء دينية تقريبا” تنتمي إلى
ميتافيزياءات النظام المنسجم للكون , وإن “الطبيعة” فيها ( سواء في ذلك
طبيعة الفرد أو طبيعة العالم ) هي الفاعلية العقلانية الشاملة الوجود والتي
تبعث الحياة في كل ذرة من “الكل”, فالكون بالنسبة للوراقي “إلهي” بأكمله
لأنه وليد ” نفخة” أو ” نار”هي في الوقت نفسه الإله والعقل والحياة معا وكل
كائن ( ولا سيما الإنسان وروحه ) شرارة جزئية منها , اما المادة فليست
سوى تثاقل انتقالي في هذا “التوتر الخلاق” فهي ليست مبدأ يعارض الذكاء
الأعلى ولكن مجرد حالة دنيا لهذا الذكاء .

ولعل المفهوم القديم للوحدة الداخلية للأشياء يسود على أوضح ما يكون في
الرواقية وهي تلك الوحدة التي تجعل الكون يشكل جسما واحدا عظيم الإتساع
أو تكتلا منظما “يتضافر” كل ما فيه في سبيل هدف واحد ويتلاءم كل عنصر
فيه مع مجموع العناصر الاخرى تبعا لنظام عام , فالحكمة والحالة هذه تعمي
فهم هذا النظام وتقبله وما هو خير من ذلك المشاركة فيه طواعية واختيارا
من صميم الفؤاد , وأن يعثر المرء من داخل نفسه على الوحي الإلهي الذى
يتولد عنه كل شيء ثم يطور هذا الوحي ويقيه من كل هوى أو انانية أو رغبة
أي من كل ما هو “مادة” , وينبغي أن يكرر القول بأن المادة ليست سوى تخدر
موضعي في النار الكلية شبيه ( وهذه حالة من يرفض التعاون مع النظام , أي
الكافر أو الفاجر ) بالدوامات التي تتشكل في مجرى النهر وتحاول أن تجعل
من نفسها “افرادا” مستقلة .

وهكذا فإن الفضيلة تستند بشكل ماهوي إلى فعل وحيد هو التقبل النهائي للنظام
وهو فعل شبيه باللطف “الإلهي” المسيحي من حيث انه يحول طبيعة الكائن
ويمنحه دفعة واحدة ذلك الثبات … ذلك التجانس الداخلي … ذلك التوافق الذى
كان يفتقده مع العالم طالما كانت الأهواء هي التي تقود الكائن .. وقد استنتجت
الرواقية من ذلك (وبصورة منطقية تماما) نتائج تظهر فيها المفارقة كل الظهور
وكثيرا ما كانت الطبيعة المتكبرة ( كذلك الصعوبة الميتافيزيائية فيها : من اين
نبعت البادرة الأخلاقية أي ذلك الإنضمام التلقائي إلى النظام ؟ .. فإن كل مشكلة
الحرية الإنسانية - وهي المشكلة التي لم تستطع الرواقية ابدا اعطاء حل مرهق
لها - تكمن في هذه الصعوبة ) , تضع النتائج موضع الإنتقاد .
ليس هناك قياس مشترك بين الحكيم والاخرين كما لا يوجد ” نصف فضيلة”
فالفضيلة إما أن تكون كلاَ واحدا كاملا وشاملا أو ألا تكون على الإطلاق
( من هو حكيم مجنون ) , أما الفضائل الجزئية فتشكل مجموعة واحدة ومن
لا يمتلكها بأجمعها فهو لا يمتلك أية واحدة منها , كما أن من يمتلك واحدة
منها ما سبق فإن الإقفال أقل اهمية من الروحية التي ترافق القيام بها لأن
اتفاق الإرادة مع ذاتها وثباتها الداخلي العقلاني يشكلان ماهية ما يفرق بين
الحكيم والشخص العادي البسيط , واخيرا فإن المثل الأعلى القائم على
“المشاركة في الإله” يقود الرواقي إلى اللامبالاة المنهجية بكل ماهو
“جزئي” وإلى الإنعزال بالتالي عن العلاقات العائلية والإجتماعية
وهذا الإحساس يبدو للكثيرين غير منسجم مع الطبيعة الأصيلة للأخلاقية .
وفي الواقع فقد خفف الرواقيون عمليا بعض المتطلبات المنطقية لمبادئهم
بغية تسهيل التأثيرعلى معاصريهم , فأدخلوا إليها أولا مفهوم الأفعال
“المفضلة” و “الملائمة” التي تتيح ممارسة سلوك ” شبيه” بسلوك الحكيم
الحقيقي دون أن تشكل الفضيلة الحقيقية , ثم عمدوا بعد ذلك إلى تطوير فكرة
كان منهجهم يحتويها بصورة ضمنية , وهي فكرة أن جميع البشر( بما فيهم
الغرباء والعبيد ) اخوة بإعتبارهم جميعا وليدي نفس النفخة الإلهية , مما كان
من شأنه تعبيد الطريق لأخلاق اجتماعية مستوحاة من نظرة بشرية جامعة
ومحبة للانسانية مختلفة كل الإختلاف عن الإعتكاف المترفع الذى يستنتج
من مذهبهم نظريا لدى اعتباره من زاوية اخرى وألحوا ايضا على الجانب
الديني ( الذى يستطيع شمول جميع العبادات ويأذن بالصلاة , ذلك الفعل المعبر
عن التواضع الواثق تجاه ” الفاعلية المهيمنة” ) وهو الجانب الذى تتضمنه
فكرة العقل الكلي , واشاروا اخيرا إلى المعنى الأخلاقي للإستقلال الذاتي
الداخلي ( لا تتوقف الفضيلة والسعادة الأ على الرأي الذى نحمله عن الأشياء
وهذا الرأي من فعل ارادتنا وحدها ) كما اشاروا إلى باطل الخيرات المزيفة
كالثراء مثلا ( مما يجب ألا يستعمله الحكيم إلا كما يستعمل أثاثا في فندق )
وإلى عظمة الإستسلام الرفيع أمام الشقاء , الموت , الظلم .

وكان هذا المظهر الثلاثي والأخير هو الفكر الرواقي فأثر في 2000 عام
من التأمل الأخلاقي وهو الفكر المغلق من ناحية اخرى أمام مشكلة الإمكانيات
الواقية للإنسانية المتوسطة الضعيفة


د - الأفلاطونية المحدثة

شهدت القرون الأولى للمسيحية تطور تيار جديد في التأمل الفلسفي مركب
من الوحي الأفلاطوني , الفيثاغورثية , الميول التأملية والصوفية للحكمة
الشرقية . وتجسد هذا التيار ( حوالي عام 250ب. م) بتأسيس مدرسة
"أفلوطين" في الإسكندرية ( أثينا ذلك العهد)

وبحسب هذه الشمولية الإلهية أي وحدة الوجود ( الله هو الكل) الغامضة
والشاعرية فإن أصل كل شيء هو "الواحد" أي "الإلهي" .... وهو الخير
في كماله وتمركزه الأعليين ولكن فيه ميلا خلاقا داخليا جارفا يدفعه إلى
الإشعاع التلقائي متشعبا إلى قدر لا نهائي من "المُثُل" الخالصة , ثم إلى
التكرار في قدر لا نهائي من الأرواح الجزئية تحتفظ كل منها بجزيء من
ماهية "الكائن المطلق" ويرافق هذا التكرار بالضرورة تدن قوامه المادية
وظهور أفراد موجودين في الزمان وفي المكان .

أما الشر فهو التالي الإبتعاد عن " الإلهي" الأصلي , وأفدع من ذلك الإنغلاق
داخل هذه "النهائية" وهذا الإنحطاط وارتضائهما . وأما طريق الخلاص
فهي في حركة " تحول عكسي" هي عودة الروح تدريجيا نحو الإله حتى يتم
استغراقها فيه من جديد , وهذا ما تنجم عنه المراحل المختلفة للحياة الأخلاقية
وهي أولا ممارسة الفضائل المتواضعة ( التعفف , العدالة .... إلخ) التي تطهر
الروح بتحريرها إياها من الروابط المادية , ثم الحياة التأملية بعدئذ , أي البحث
في داخل الذات بواسطة " العين الداخلية" عن الحضور الإلهي , وهو بحث
صادرعن وحي جمالي أكثر منه عن وحي عقلي , لأن الجمال يشكل بحسب
"أفلوطين" الإنعكاس الأرضي للخصب الحي واللامتناهي للخير ويدل أخيرا
( لأن هذه المراحل ليست سوى تأهيل للحياة الإلهية ) نصل إلى الوجد
وهو الإتحاد العميق مع " الأحد " حالة الكمال والسعادة الكلية التي تُمنح
للحكيم وحده دون أن يتمكن من بلوغها إلا في العارض النادر , فهي تُمنح
له بنوع من اللطف الإلهي لا يستطيع هذا من أجله إلا انتظارا
( كما تنتظر العين المتجهة نحو الأفق الشمس التي ستشرق ) فيما يكون
قد علق في داخله كل فكرة وكل ما يتضمن تمييزا لذات أو لموضوع .

10‏/02‏/2013

كي لا تفقد ثوراتنا العربية




الثورات العربية اثارت اسئلة لا يمكن الإجابة عليها الآن

نحن أمام حراك شعبي تاريخي لم يحدث أبدا في هذه المنطقة من العالم
من قبل , وكل من يزعم أنه مؤامرة غربية إما غير واعي أو يتهم الشعوب
كلها بأنها تتآمر مع الغرب ضد نفسها

هذا الحراك التاريخي في المبدا هو ايجابي جدا وكان ضروريا
وحتميا ولو لم يحدث في 2011 كان سيحدث بعدها بقليل
لأن الأوضاع وصلت لمرحلة من السوء على كل المستويات
مما كان يحتم قيام حراك ما

كيف سيستمر ؟
إلام سيؤول ؟

لا احد يملك الإجابة. لأنه لا احد يمتلك توجيه هذه الموجات حتى
من الحركات السياسية والأحزاب المشاركة فيها , وكل تحرك يومي
يخلق معه اتجاهات ومسارات جديدة

الثورة الفرنسية لم تحقق اهدافها إلا بعد سنين طويلة من قيامها
وبعد الكثير الكثير من الدماء ومنها في مراحل لاحقة دماء الثوار
انفسهم من قبل رفقاء الطريق.

الخوف على هذا الحراك ينبع من انه كما بدا من الشارع ويستمد
زخمه منه فإنه يُترك للشارع ليتحكم فيه

اليوم نحن بحاجة لزعماء سياسة وزعماء فكر ورجال دولة حقيقيين
ليس وفق الفهم العربي السائد للقائد الذى يتولى كل الأمور بل بحاجة
لمن ينقل هذا الحراك من من مستوى الشارع لمستوى المؤسسات على
المستوى السياسي بتجرد وبحزم وقوة ودون مطمع مكاسب سياسية
شخصية او حزبية ويستطيع بناء توافق وطني حول هذه المؤسسات
كذلك نحن بحاجة لزعماء فكر يقودون الشعوب لمفاهيم جديدة ولمستوى
جديد من الوعي السياسي والفكري يمنع هذه الحراك من يتحول من
حراك سياسي سلمي إلى فوضى مجتمعية.

وهذا ما يحدث في مصر وفي تونس الآن للأسف حيث تحولت الحركات
الشبابية الثورية من كونها حركات تغيير سلمي إلى حركات فوضى
ورفض، واحيانا فقط من اجل الفوضى والرفض، وهذا سيهدم كل ما تحقق
وسيجعل البلدان دولة فاشلة وسيسهل التدخل المخابراتي لزيادة الفوضى
والتخريب وبإسم تحقيق اهداف الثورة , ويسهل عودة افراد الأنظمة السابقة
لزرع التخريب واعادة رجالهم إلى الواجهة وبإسم الثورة ايضا ولم استمر
هذا فإن الحركات الإرهابية هي من ستستفيد من هذا المشهد كله وتسيطر
على المجتمعات وقد يسبقها العسكر للإستيلاء على هذه الدول بإسم حفظ
الأمن والإستقرار وهنا سيكون العسكر مؤيدا من نسبة كبيرة من الشعب
بسبب الخوف على الأمن الشخصي والأمن الإجتماعي.

وللأسف دور المفكرين والمثقفين الحقيقيين مفقود جدا حاليا

لماذا ؟
هذا يستوجب حديثا آخر

07‏/02‏/2013

"مرتكزات السيطرة الشرقية" : التقدم والاضمحلال



مراجعة : عاطف عطية
عن جريدة النهار



لعل اهم ما يتميز به كتاب فردريك معتوق، "مرتكزات السيطرة الشرقية"(1) اعتماده على معطيات تاريخية لتفسير وتحليل المرتكزات الاساسية للحضارات الشرقية التي تتجلى في الممارسات العملية للحياة اليومية. هذه الطريقة في معالجة السلوك الانساني – المجتمعي جديدة على القضايا الفكرية العربية لأنها تعتمد على معطيات ليس من اجل ذاتها، او اظهار دلالاتها واهتماماتها باعتبارها محطات اساسية في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، بل لاستعمال هذه الدلالات والاهتمامات من اجل الوصول الى مكان آخر: مكامن البنية الذهنية المجتمعية بعناصرها الاساسية وتكويناتها المتراكمة من خبرة طويلة واعية ولا واعية في الممارسة الانسانية، وفي كيفية انتهاج مناهج بعينها في شتى امور الحياة، وربط هذه الممارسات بأفكار هي دائماً في طور التشكل والتبلور. ذلك ان هذه العلاقة الدائمة والمستمرة بين جملة العلاقات الاجتماعية والبنية الذهنية، او المعرفة العامة، الواعية واللاواعية، المشكلة للممارسة العملية، والمعيدة تشكيل نفسها من خلال هذه الممارسة، هي عملية تفاعلية بين ما نحن عليه وما يمكن ان نكون – مجتمعياً - بالمعرفة والممارسة.

ما قدمه فردريك معتوق في هذا الكتاب الذي اوحى به وفرضه كتابه الممتع "مرتكزات السيطرة الغربية"(2) يصب في منحى استنباط مرتكزات الحضارات الشرقية من خلال تجليات تاريخ الشرقيين الحضاري، ان على صعيد التنظيم السياسي وانبثاق السلطة، او على صعيد انتهاجهم سبل المعاش، او العلاقة مع العالم الماورائي، او في كيفية تنظيم الحياة العملية في كل وجوهها، او في علاقات الخصام مع المحكومين، سياسة وموقفاً ونظرة متبادلة.

هذا التوجه في المعالجة فرض على الباحث النظر الى الشرق ليس باعتباره واحداً كما كانت النظرة الى الغرب، بل باعتباره مجموعة من الحضارات الشرقية لها ما يميزها عن بعضها بعضاً، من ناحية، وما يميزها، مجتمعة، ومنفردة، عن الحضارة الغربية. ولكن هذا التميز لم يلغِ ما يمكن ان يكون متشابهاً في عناصر متعددة من الحضارات الشرقية، وخصوصاً ما يتعلق بمسألة الفردانية في الحكم واطلاقيته المتوحدة واهميتها في استمرارية الحضارة المعنية او في إنهائها، في تقدمها، او في دورانها حول الذات، في تراكم معارفها او في تراصف هذه المعارف وانفصالها عن بعضها بعضاً بحيث تبقى من المآثر الفردية او اللمعات المضيئة في فضاءات مظلمة لا تنتهي.

قسّم معتوق المرتكزات الاساسية للسيطرة الشرقية الى خمسة، وخصّ كل حضارة بمرتكز واحد دون ان يعني ذلك عدم وجود هذا المرتكز الى جانب مرتكز آخر في حضارة اخرى. وهذا ما استدركه الباحث في خاتمة قوله في هذه المرتكزات، وفي ما خص كل حضارة منها. فاذا المرتكز، او المحرك الذهني الاول، عند الفراعنة، الهيمنة، مرتكز اساسي ايضاً لدى الهنود من خلال الدين، وعند العرب من خلال المعرفة التي هي دينية في الاساس ومحفزة لكل انواع المعارف الأخرى، قبل ان تكبح الإيديولوجيا الدينية محرك المعرفة ذاته. كما ان منطق الهيمنة نفسه فرض على الترك الاستسلام الى منطق الجباية والالتزام للابقاء على قوة رأس السلطة وديمومته. وهاجس الربح ذاته قضى على استمرارية الدولة، مثلما قضى هاجس الخلود على الحضارة الفرعونية. واولوية المحرك الديني ابقت على الحواجز الطبقية في الهند من اجل تأبيد الوضع القائم. ولم يتفلت من هذا التوجه الا صرامة التنظيم الاجتماعي واولوية منطق الدولة، كمؤسسات، في الحضارة الصينية، حمل المثقفون "الماندرين" لواء استمراريتها، ما ادى الى تقدم المجتمع الصيني، وخروجه عن منطق الدوران والعود على بدء.

ما قدمه فردريك معتوق من خلال التركيز على محركات ذهنية مخصوصة في الحضارات الشرقية التي انتقاها، خصّ منها المصريين القدماء بمحرك الهيمنة والفصل التام بين رأس السلطة والعامة، والتواصل من خلال فئتين تعملان على الهداية والجباية: القيام بالمتوجبات الدينية وتجميع الموارد المادية وما يستتبع ذلك من دقة واحتراف في التنفيذ. كما خص الهنود بمحرك الدين الذي يعلو، بما لا يقاس، على اي معتقد آخر مهما كانت أهميته، ليس باعتباره ديناً كوني الطابع ملازماً للتصور الإيماني برمته في الهندوسية (ص 42)، بل لأنه، بالاضافة الى ذلك، المعبّر عن التقسيم الطبقي الذي لا مجال لمناقشته. وهذا التقسيم، على سبيل الممارسة، يعمل بشكل دائم ومستمر على تداخل المسائل القيمية والدينية والاجتماعية والثقافية بما لا يقبل الفصل، او التفريق.

اما بالنسبة للعرب، فان اعتبار المعرفة هي المحرك الذهني لحضارتهم مسألة في غاية الأهمية، وان كانت تخضع للنقاش. فالمعرفة عند العرب معرفة دينية في الاساس. وكل المعارف مرتبطة بالمسألة الدينية، او منبثقة من الدين ومن الإيمان بأن الله منبع كل المعارف. ذلك ان تقدم الحضارة العربية في المجالات المعرفية كافة، العلمية منها والأدبية، كان نتيجة انفتاح العرب وقوتهم، اللذين لم يتعارضا (الانفتاح والقوة) مع الدين والايمان الديني، ابتداء من القرن العاشر للميلاد، الرابع للهجرة، ونتيجة لتقدم العقل على النقل في الصراع الفكري الذي بدأ بين المعتزلة والاشاعرة، وهو لم يتعارض ايضاً مع الدين، قبل نضوج العقل الفلسفي والقيمي العربي، من جهة، ولدخول عناصر فكرية غير عربية، فارسية وهندية وتركية واندلسية، اغنت المعرفة العربية بعد أن جذبها سطوع حضارة العرب، وساهمت في إضفاء البعد العالمي عليها، وفي تأثيرها على الحضارة الانسانية. وأهمية ما قدمه معتوق في هذا المجال تجلت في اظهار فلتات الشوط العربية عندما خف تأثير بيت الحكمة، وتوقف العمل على تطويره، او على تأ‘مين استمراريته. فاقتصر الأمر، من بعد، حسب معتوق، على ما قدمه المفكر العربي ابن خلدون، وخصوصاً في مسألة ربط المعرفة وتطورها بالعامل الاقتصادي – الاجتماعي، وازدهار الصنائع والفنون، وما قدمه ابن رشد في فلسفته التي يرد فيها كل شيء الى العقل، والى اولويته حتى في المسائل الدينية نفسها.

فلتات الشوط هذه، جاءت، تحت قلم معتوق، كنتيجة لغياب التراكم المعرفي عند العرب في غياب المؤسسات الفكرية الضامنة لهذه العملية والعاملة على استمرارها، او باقفال ما كان موجوداً منها بدل تطويره. ولم يظهر هذا التوجه الا بعد عودة نهج النقل في الدين الى الامساك بزمام المبادرة، كمؤسسات، تاركاً النهج العقلاني والعلوم والبحوث العلمية الى مصيرها. وما ظهر في هذا الاطار العقلاني بقي محكوماً بالتوجهات الفردية (ص 83).

اما في ما يخص الحضارة الفرعونية، فقد أظهر معتوق، بنظرة ثاقبة، كيف عمل محرك الهيمنة من خلال العلاقة المفصلية والوثيقة بين ممثلي المجتمع المصري، فئة الجباة وفئة الكهنة في علاقتهما المترابطة مع صاحب البيت الكبير، الفرعون، من ناحية، ومع عامة الناس والمزارعين، من ناحية ثانية، علاقة مصيرية تربط المجتمع طوعاً بالفرعون باعتباره ممثل قوة السماء في استمرار حياتهم على الأرض، والعامل على زيادة الانتاج المرتبطة بغزارة الفيضان، وبالتالي باستمرارية الاستقرار والبحبوحة، ما يؤدي الى ترسيخ هيمنة الفرعون، والى ترسيخ اقتناع المجتمع بالنظام العام الذي يكفل استمراره واستقرار حياته.

هذا التوجه المعرفي العام خلق لدى المصريين دافعاً قوياً لخدمة الفرعون وترسيخ نفوذه وهيمنته باعتباره من سلالة الآلهة الذي عليه تقع مسؤولية الاتصال بالعالم الالهي كواحد منه. ولأنه كذلك، فعليهم تأمين استمرار الوهته، حتى بعد الموت، من طريق تخليده كإله بواسطة التحنيط، ومن ثم اسكانه في مقره الابدي المبني خصيصاً له: الهرم. لذلك جاء العمل في بناء الاهرام طوعياً وحماسياً من جانب العامة والخاصة على السواء، كما جاء العمل والاجتهاد مضطرداً من اجل زيادة المردود المادي للبيت الكبير. فاقتسم، بذلك، نظرات المصريين عنصران: النظر الى الارض لاستدرار خيراتها لتأمين كل ما يلزم من موارد للبيت الكبير، ومن مواد تحنيط لتخليد الرؤوس الكبيرة في البيت الكبير، والنظر الى السماء باعتبارها موطن الآلهة وموئل توجه الفراعنة، ومكان سكناهم الابدي بعد الانتقال من هذا العالم بواسطة الاهرامات.

استحوذت نظرتا الانسان المصري الى تحت والى فوق على بصره وعلى بصيرته. فلم يجد منفذاً للنظر الأفقي، على حد تعبير معتوق، النظر الذي عليه ان يلحظ امكانات التفاعل الاجتماعي بين المصريين، وامكانات ايجاد المساحة المشتركة التي يمكن ان تجعل من المصريين مجتمعاً واحداً متضامناً ومتعاوناً للخروج من مأزق الولاء المطلق، وان الطوعي، لنظام سياسي اجتماعي يعمل على تأبيد نفسه، وعلى جعل محور الحياة برمتها يدور حول الفرعون، كشخص ونظام.

هذا التحليل القيّم يبين هنا بعض اسباب عدم الاهتمام ببناء الجسور المعمرة على جانبي النيل، وهي اسباب لا تعود، في كل حال، الى قصور ذهني لدى المصريين، وهم الذين بنوا الاهرامات – معجزة البناء في كل العصور – بل لانتفاء الحاجة اليها. فبقي المجتمع المصري متراصفاً ومشتتاً تشغله النظرة الى تحت والى فوق، وهي النظرة التي وصلت في الاخير الى مرحلة العجز عن الاستمرار.

اذا كانت هذه حال المصريين، فان الهنود عملوا منذ البدء على تقاسم الطبقات، وبقوا الى ما لا نهاية اسراها بقيادة العالم الروحي الذي يختصره البرهمانيون. وهم لذلك اسياد النظام والعاملون على تأييده، بحيث تحافظ كل طبقة على كينونتها، وعلى عدم ذوبانها في اي نطاق آخر، ولو كان هذا النطاق الدولة ذاتها، قديمها وحديثها. لذلك جاءت الهندوسية كعقيدة دينية في كل تفاصيلها عصية على الذوبان، او التبعية لأي عنصر مجتمعي ثقافياً كان أو سياسياً. فظهر الدين، هنا، على انه "نظام طبقي ازلي من الأفكار والقيم… (ص 48) غير قابلة للمراجعة والنقاش" (ص 49).

اضاء معتوق على ما ظهر لدى العرب كثورة معرفية بمجيء الاسلام. وصوّر بشكل نافذ البنية المعرفية عند العرب قبل الاسلام، وهي البنية المحكومة بذاتية القبيلة والفرد فيها، مع كل ما يستتبع ذلك من النظر الى الذات والى الآخر في زمن السلم والحرب. وكيفية انتقالها الى فضاء معرفي جديد يستبدل مصالح القبيلة بمصالح الدين الجديد، ويحيل دوافع الحرب القائمة على الغزو والثأر وإعلاء شأن رئيس القبيلة الى دوافع سامية تنطلق من الايمان بالله الواحد وفي سبيله، وتعلي من شأن الدين ونشره في العالم (ص 72). كل ذلك، وغيره الكثير، دل على تقدم العرب المعرفي، وحفزهم على سلوك مسالك مغايرة في المجالات كافة، كان لها ان تنحرف عن مسارها بتعطل المحرك المعرفي لعدم القدرة على مأسسته، والعودة الى محرك العصبية الذي اعاد العرب الى دوران التاريخ تتخلله اضاءات ساطعة في محطات متباعدة.

لم يشذ العثمانيون عن اعتماد المرتكزات نفسها في علاقة السلطان مع المجتمع، وهي علاقة تقوم على الجباية. لذلك كان توجه الدولة واهتمامها ينصبّان بالكامل على ضبط مناطق الواردات وإحصائها بالتفصيل لإبقاء الجباية في أحسن حال ليبقى السلطان في أحسن حال… الى ان بدأ العجز ينخر مفاصل الدولة بملء الخزائن المثقوبة بواردات محسوبة بدقة، دون ان يكون لها شأن في رتق الثقوب لارتباط مفهوم المال العام بمال السلطان. وبفراغ خزائن السلطان انهارت الدولة بانهيار خزينتها. وتبقى شخصنة السلطة سيدة المواقف، اذ "كان السلطان يتحكم بالبنيان المعرفي العام للدولة العلية… (كما) كان محركاً كبيراً عاش طويلاً على التعطيل العام، حتى تعطل" (ص 114).

تجاوز الصينيون الدوران في التاريخ، على ما يوحي به معتوق، من خلال صرامة التنظيم في الدولة، من ناحية، و"انسانية" الملك، لا قدسيته، من ناحية ثانية. ومن خلال وظيفة "المعلمين"، او المثقفين (الماندرين)، صلة الوصل بين الدولة والملك، من جهة، وبين الشعب، صاحب القرار في ايمانه وعلاقاته الاجتماعية، من جهة ثانية. هذه الوظيفة اختصت بتنظيم شؤون الانتاج وتغذية موارد الدولة تقوم بها طبقة من المتنفذين المتميزين بتمثيلهم للامبراطور وبعلمهم الكبير وبأخلاقهم المبنية على فلسفة عريقة أنتجتها الحضارة الصينية (ص 121). وهؤلاء كانوا "المعدل السياسي والاجتماعي للانتظام العام" (ص 122). وهم الذين أطلقوا لأول مرة في التاريخ ما يعرف بمنطق الدولة (ص 123). أتاح لهم كل ذلك السهر على المصلحة العامة من منطلق اقتناعات فلسفية لا من منطلق واجبات ايمانية. وأثمر تضامناً اجتماعياً قل نظيره في التاريخ. لذلك جاء التنظيم الاجتماعي الصيني متماسكاً يقوم على ثوابت انسانية جعلت من كل فرد مسؤولاً عن الانتظام العام ومدافعاً عنه (ص 127). ولهذه الأسباب نفذت الصين، بحكم تغليب منطق الدولة على منطق الشخص، امبراطوراً كان، او ملكاً، أو سلطاناً، من دوران التاريخ والعود على بدء، الى التقدم في مسيرة الانسانية. فحظيت الصين، لذلك، بالاستمرارية، وتتهيأ اليوم لتتصدر العالم المتقدم في كل القطاعات.

ما قدمه كتاب مرتكزات السيطرة الشرقية يتجاوز ما تتصف به كل حضارة من حضارات الشرق المنتقاة الى التعمق في العناصر التي تنبني عليها كل حضارة، مع تأثير ما يمكن ان يحصل مع تغير الاحوال في العمران الذي يمكن ان يؤدي الى التطور والتقدم، او الى التوقف والاضمحلال. رأينا بعضاً من ذلك، سياسياً، في كيفية نشوء العصبية ونزعتها الى الملك، ومن ثم سنّتها في التحلل والاضمحلال لتقوم على انقاضها عصبية جديدة، حسب النظرة النافذة لابن خلدون في ما عرف بدوران التاريخ. ورأينا بعضاً من ذلك، اقتصادياً، في ما عرف بالاستبداد الشرقي عند ماركس، وسوسيولوجياً، في ما عرف بمرتكزات النظام الابوي العربي: الدين والقرابة والعصبية، عند هشام شرابي.

ساهم فردريك معتوق، عبر هذا الكتاب، في تأسيس سوسيولوجيا معرفية لمرتكزات السلطة في حضارات شرقية عريقة ومعتبرة كان لها وجود ساطع، ولا يزال لبعضها، في التاريخ، قديمه وحديثه. وقد أخذ من معطيات التاريخ ما يفيد معرفياً، وما يغني سوسيولوجيا المعرفة العربية.

---------------------------------------------
1- فردريك معتوق، مرتكزات السيطرة الشرقية، مقاربة سوسيو – معرفية، دار 

الحداثة، 2009، بيروت، 144 ص.
2- فردريك معتوق، مرتكزات السيطرة الغربية، مقاربة سوسيو – معرفية، دار

 الحداثة، 2007، بيروت.

04‏/02‏/2013

في ذكرى روزا باركس ( اشهر من قالت لا )



روزا لويس باركس والتي ولدت تحت اسم روزا لويس ماكولي كانت ناشطة من 
أصول إفريقية أمريكية، طالبت بالحقوق المدنية للأمريكان الأفارقة.

اشتهرت روزا باركس عندما رفضت التخلي عن مقعدها في باص عمومي لشخص أبيض، عاصية بذلك أوامر سائق الباص. فأطلق ذلك حركة مقاطعة الباصات في مونتغمري، والتي شكلت بداية عملية إلغاء التمييز العنصري الذي كان سائداً في ذلك الوقت، لتكون إحدى أهم الأحداث في تاريخ الأمريكان الأفارقة.

نشأتها:

ولدت روزا باركس تحت اسم روزا لويس ماكولي في 4 فبراير 1913 م، في بلدة توسكغي في آلاباما. كانت ابنة كلٍ من جايمس ماكولي الذي كان يعمل بالنجارة، وليونا إدواردز التي عملت مدرسة. كما كانت ذات أصول أفريقية أمريكية، شيروكية (من قبائل الهنود الحمر)، وإسكوتلندية إيرلندية.

بعد انفصال والديها عن بعضهما عندما كانت في الثانية من عمرها، عاشت باركس مع والدتها، جديها، وأخيها الأصغر في مزرعة خارج بلدة توسكغي، وتلقت هناك تعليماً منزلياً حتى بلغت الحادية عشرة من العمر، وكانت أيضاً عضوة في كنيسة ميثودية أفريقية. أكملت باركس دراستها في إحدى مدارس مونتغمري التي أنشأت من قبل بعض النساء اللاتي اعتنقن فكراً متحرراً، توافق مع نصائح والدتها في فهم قيمة الشخص نفسه. ثم انتقلت إلى مدرسة خاصة بالأفارقة الأمريكيون لإكمال المرحلة الثانوية، إلا أنها أجبرت على التخلي عن دراستها للعناية بجدتها، ووالدتها بعد أن أعياهما المرض. نشأ لديها إيمان ديني قوي وشعور بالاعتزاز العرقي. تحدثت باركس لاحقاً بفخر عن أن الكنيسة الأسقفية الإصلاحية الأفريقية كانت على مدى أجيال مناصرة قوية لمساواة السود.

مشاهد التمييز العنصري خلال نشأتها:


ذكرت باركس في سيرتها الذاتية العديد من مظاهر التمييز العنصري الذي واجهته خلال نشأتها، خاصة وأنها قد عاشت في إحدى مناطق الجنوب، والذي كان التمييز العنصري فيه أشد من المناطق الأخرى في الولايات المتحدة. بموجب قوانين جيم كرو، فقد كان المجتمعان الأبيض والأسود منفصلين، يحكمهما قوانين تفضل المجتمع الأبيض على غيره، حتى من ناحية وسائل النقل، فقد كان على الأمريكيين الأفارقة التخلي عن مقاعدهم للبيض، أما عن وسائل النقل المدرسية، فقد كانت غير متوافرة للأمريكيين السود -بحسب ما ذكرته باركس- وكانت تلك المرات الأولى التي تمكنت من خلالها فهم الاختلاف الذي كان يجري بين هذين المجتمعين.

كذلك، فقد كانت جماعة الكو كلوكس كلان تمر بشكل مستمر في الطرقات أمام البيت الذي كانت تعيش فيه، وكانت تذكر بأن جدها كان يحرس البيت وبيده بندقية، ومشاعر الخوف الذي كان يتملكها عندما كانت هذه الجماعة تمر أمام البيت في الليل. إلا أن باركس قد صرحت بأن بعضاً من البيض كانوا يعاملونها بلطف واحترام.

تزوجت روزا رايموند باركس، الذي كان عضواً في إحدى الجمعيات المكافحة لمظاهر العنصرية، حيث انضمت إلى هذه الجمعية فيما بعد، وعملت إلى جانب زوجها في تحسين حياة بعض الأمريكيين الأفارقة.

بداية القصة:


كانت روزا باركس في الثانية والأربعين وتعمل خياطة عندما أسهمت في صنع تاريخ الولايات المتحدة. ففي الأول من ديسمبر كانون الأول كانت السيدة باركس تجلس في حافلة في بلدة مونتجمري عندما طالبها رجل أبيض بإخلاء مقعدها له. وقد رفضت السيدة باركس، وتمردت على القواعد التي تفرض على السود إخلاء مقاعدهم والتنازل عنها للركاب البيض. وانتهى الأمر بالقبض عليها وتغريمها 14 دولارا

اصبحت روزا مكولي باركس تعرف اليوم بأنها "أُمّ حركة الحقوق المدنية"، لأن إلقاء القبض عليها بسبب رفضها التخلي عن مقعدها في الحافلة العمومية أشعل فتيل المقاطعة المحورية للحافلات العمومية في مونتغومري، بولاية ألاباما. لم تكن روزا تنوي صنع التاريخ عندما غادرت عملها كخيّاطة لتركب في حافلة عمومية بعد ظهر اليوم الأول من كانون الأول/ديسمبر 1955. كانت مُنهكة وكل ما أرادته هو الذهاب إلى منزلها. وهكذا، عندما طلب منها سائق الحافلة الانتقال إلى المقاعد الخلفية كي يجلس مكانها رجل أبيض، لم تتمكن من حمل نفسها لفعل ذلك.

قالت لاحقاً: "لم تكن نيتي عندما ركبت الحافلة بأن يُلقى القبض عليَّ. ركبت الحافلة وأنا أنوي الذهاب إلى منزلي."

وفي حين أنها لم تكن تعلم بأن عملها هذا سوف يطلق حركة مقاطعة الحافلات العمومية التي استمرت 381 يوماً، فإنها كانت تعرف شيئاً واحداً وهو: أن مقاطعتها الشخصية للحافلات بدأت في ذلك اليوم. وقالت: "كنت أعرف بقدر ما يتعلق الأمر بي، بأني لن أركب ثانية في حافلة منفصلة عنصرياً."

إلقاء القبض على روزا باركس وسجنها لفترة قصيرة، وهي السيدة المحترمة للغاية في المجتمع الأهلي الأسود، ومقاطعة الحافلات العمومية التي تبعت ذلك، أديا إلى صدور قرار المحكمة العليا بحظر التمييز العنصري في الحافلات العمومية للمدينة. كما دفعت هذه المقاطعة إلى الشهرة قومياً قساً شاباً غير معروف كثيراً اسمه مارتن لوثر كنغ جونيور. وضعت المقاطعة تحت قيادته نمطاً من الاحتجاج اللاعنفي المستند إلى المجتمع الأهلي، وهو النمط الذي أصبح الاستراتيجية الناجحة لحركة الحقوق المدنية.

كانت هناك قوى عديدة في المراحل الأولى من حياة روزا باركس التي ساعدت في صياغة نهج نشاطها الهادىء المعارض.

نتيجة أعمالها:

وكانت الاحتجاجات بداية لإلغاء التمييز بين المواطنين على أساس اللون في وسائل النقل. ووصل الذروة في عام 1964 بصدور قانون الحريات المدنية الذي حرم التمييز على أساس العرق في الولايات المتحدة. وقد أدى اعتقالها إلى بدء 381 يوما من الإضراب عن ركوب الحافلات نظمه قس يدعى مارتن لوثر كينج جونير.

وبعد ذلك بسنوات حصل مارتن لوثر كينج على جائزة نوبل لإنجازاته في مجال الحقوق المدنية.

وفي عام 1957، بعد أن فقدت السيدة باركس وظيفتها وتلقت تهديدات بالقتل، انتقلت مع زوجها ريموند إلى ديتروت، حيث عملت كمساعدة في مكتب عضو ديمقراطي بالكونجرس.

وفي حديث لها عام 1992 قالت السيدة باركس عن احتجاجها الشهير: "السبب الحقيقي وراء عدم وقوفي في الحافلة وتركي مقعدي هو أنني شعرت بأن لدي الحق ان أعامل كأي راكب آخر على متن الحافلة، فقد عانينا من تلك المعاملة غير العادلة لسنوات طويلة"

الجوائز:

حصلت السيدة باركس على الوسام الرئاسي للحرية عام 1996، والوسام الذهبي للكونجرس وهو أعلى تكريم مدني في البلاد بعد ذلك بثلاث سنوات

وفاتها:

توفيت زعيمة الحقوق المدنية روزا باركس عن عمر يناهز الثانية والتسعين في 24 أكتوبر 2005 م ويشير محاميها إلى أنها توفيت أثناء نومها في منزلها بمدينة ديترويت بولاية ميتشيغان



* جمعت المادة من عدة مواقع