25‏/03‏/2013

الإطار الفلسفي للتوفيقية: محاولة في تحليلها وتعريفها




الإطار الفلسفي للتوفيقية: محاولة في تحليلها وتعريفها


محمد جابر الإنصاري




لعلّ من أبرز الوظائف الحياتية للفكر _دينياً كان أم فلسفياً أم اجتماعياً _ هو التصدّي لظاهرة الثنائية في الحياة الإنسانيّة والوجود الكوني، وما يتفرّع عنها من نقائض وأضداد ومتعارضات؛ ومحاولة تحليلها وتفسيرها، ثمّ حسمها وحلّها، بالتوصل إلى صيغة تركيبية تستوعب صراع الأضداد وتلطّفه _بصورة أو بأخرى بحيث تضحي معاناة هذا الصراع، والتعايش معه، من قبل الأفراد والجماعات أمرا في حدود الإحتمال الإنساني، إذ يستحيل التعايش مع فوضى الأشياء واصطراع العناصر؛ هذا مع ما تفرضه تلك النظرة الاعتقادية الجامعة من مجاهدة عملية ومعنوية من أجل تجاوز الثنائية والتضاد مستقبلا وتحقيق هدف الخلاص النهائي.


ولعلّ في الأشارات النافذة للفيلسوف الفرنسي بليز بسكال (1623_1662) إلى صميم هذه الظاهرة ما يلقي الضوء على جوهر حقيقتها بصورة كاشفة. تتلخّص فلسفة بسكال حول الوضع الإنساني الوجودي في التحليل التالي: “هناك تضاد في الإنسان … فالإنسان عظيم لأنّه يعمل لسعادة لا يمنحها العالم. والإنسان شقي لأنّه لا يلقى السعادة في نفسه… ولكن هناك ما هو أخطر من التضاد ذاته، وهو ان الانسان يحاول الجمع بين الأضداد فيختلط الأمر عليه ولا يبلغ سعادة ولا راحة… فهل من وسيلة نفهم بها هذا التنقّل المستمر بين الأضداد؟ وهل من وسيلة نخرج بها من هذه الحركة المستمرّة (يقصد حركة الانتقال من ضد إلى ضدّ) وهل من وسيلة تنقذنا من حيرة الباطل وتهدينا إلى يقين الحقّ؟ ليذهب (الانسان) في التحليل ما شاء، وما شاءت أدواته. الإنسان وسط بين الكلّ والعدم، بين كلّ يحيط به، وعدم يتّجه إليه، بين كلّ يريد إدراكه فلا يبلغه، وعدم صدر منه وابتعد عنه. إنّه وسط بين لا متناهٍ في الكبر، والا متناه في الصغر. وسط بين الجزئيّات وبين الموجودات. وسط متنقّل تائه.


ويخلص بسكال من الثنائية العامّة للحياة إلى ثنائية المعرفة وما يكتنفها من تضاد نابع من الوضع الوجودي للإنسان، فيصل إلى المشكلة الأزليّة، مشكلة الصلة بين العقل والقلب بين المنطق والإيمان وهل يتّفقان أم يتعارضان أم ينفصلان: “إنّا نعرف الحقيقة لا بالعقل وحده، بل بالقلب أيضاً، فالقلب يعرف المبادىء الأولى، والبرهان (العقلي) عاجز عنها… وعجز الإنسان هذا عجز في العقل لا في اليقين (يقصد: بالإيمان) (ففي) العقل عجز لا علاج له، وذلك في ناحيتين مختلفتين: عجز عن البرهنة على جميع القضايا والمبادىء، ثمّ عجز عن الادراك والوصول. أمّا المعرفة بالقلب فمحدودة. وربّما كان أسمى ما يتطلّع إليه الإنسان تلك المعرفة التي يتّحد فيها العقل بالقلب، عقل يوجّه المعرفة ويتقدّم فيها وقلب يلمس وينظر ولكن الإثنين فينا منفصلان، فما نعرفه بالقلب لا ندركه بالعقل وما نبرهن عليه لا نراه ولا نلمسه. وهذا الإنفصال علامة على أمر خطير في الطبيعة البشرية.. إنّ الغريزة والعقل علامة على طبيعتين .. (و) ان التضاد قائم في المعرفة ذاتها وفي قلب اليقين. يقين القلب لا حجّة عليه (= لا حجة تثبته). وحجج العقل لا يقين فيها. وهذا التضاد خطير يهدّد اليقين كلّه. وعلى هذا التضاد قام النضال بين الفلاسفة، بل قام تاريخ الفلسفة كلّه في مظهر من أهمّ مظاهره.
إذن فهي مشكلة الثنائية وما ينجم عنها من تناقض وصراع وتضاد وتمزّق في الحياة الإنسانية كلّها ثمّ تبلور هذه المشكلة مكثفة على صعيد نظرية المعرفة بالذات حيث يعمل “الوعي” الانساني على إدراك أبعادها ومحاولة تقديم الحلول المؤدية إلى التخفيف من حدّتها الوجودية القاسية على اختلاف صور تلك الحلول بين فلسفة وأخرى.

فما هي أنواع الإستجابات الفكرية التي لجأ إليها الفكر الإنساني، وما موضع الفكر العربي الإسلامي منها؟

يطرح مفكّر عربي معاصر الإجابة على النحو التالي: “.. أحسب أن لو تعمّقنا ضمائرنا (نحن العرب)، لوجدنا هناك مبدأ راسخا، عنه انبعثت _وما تزال تنبعث _ سائر أحكامنا في مختلف الميادين، وأعني به مبدأ الثنائية التي تشطر الوجود شطرين، لا يكونان من رتبة واحدة ولا وجه للمساواة بينهما، هما الخالق والمخلوق، الروح والمادّة، العقل والجسم، المطلق والمتغيّر، الأزلي والحادث، أو قل هما السماء والأرض إن جاز التعبير.ولكي نضع هذه النظرة الثنائية وضعها المفهوم، نقول: إنّ الفلاسفة _على مرّ العصور، وفي مختلف الثقافات _ حين ارادوا أن يضمّوا أشتات المعارف والقيم في مبدأ واحد يجمع شملها كانوا في ذلك على أربعة أوجه رئيسيّة: فمنهم من جعل الوجود كلّه كائنا واحدا متجانسا جميعه في أنه روح صرف، فإذا وجدنا فيه كائنات نظنّ انّها ماديّة، وجب أن نترجم حقيقتها إلى لغة تجعلها روحيّة في جوهرها، ومنهم من جعل الوجود كلّه كائنا واحدا متجانسا جميعه كذلك، ولكنّه متجانس في انّه مادّة صرف. فاذا وجدنا فيه كائنات نظن أنّها روحيّة وجب أن نترجم حقيقتها إلى لغة تجعلها مادّية في جوهرها. ومنهم من شطر الوجود إلى شطرين، كلّ منهما متجانس لكنّه مستقلّ عن الآخر، وذلك بأن شطره إلى روح ومادّة معا، لكن هؤلاء الثنائيين قد يجعلون هذين الشطرين على مستوى واحد من الأصالة والأولوية. فلا الروح خلقت المادّة، ولا المادّة سبقت الروح، بل هما أزليان معا، يتلاقيان في الكائنات كما نراها. ومن الفلاسفة فريق رابع يردّ الوجود إلى كثرة من عناصر لا داعي لتجميعها تحت مبدأ واحد أو مبدأين.

وأمّا نحن (العرب) فأحسب أننا أميل بفكرنا إلى الثنائية _كما ذكرت _ غير أنّها ثنائية لا تسوي بين الشطرين، بل تجعل للشطر الروحاني الأولويّة على الشطر المادّي، فهو الذي أوجده وهو الذي يسيّره، وهو الذي يحدّ له الأهداف.
وهكذا تراوح الاستجابات الفكريّة الإنسانيّة بإزاء تحدي الثنائية إما بمحاولة فكّها وإلغائها وحسم التأرجح بين قطبيها عن طريق تغليب الروح على المادّة واعتبار الأولى أصل الوجود، كما في الفكر الهندي القديم مثلا، أو بتغليب المادّة على الروح واعتبارها أصل الأشياء واعتبار الروح انعكاسا لها ووظيفة من وظائفها، كما في بعض تيّارات الفكر الأوروبي الحديث وعلى الأخص الماديّة الجدلية. وإمّا بإبقاء المقابلة بين الشطرين، كما في المانويّة والمسيحيّة والإسلام، على اختلاف في تحديد نوعيّة العلاقة بينهما. أو بإرجاع الوجود إلى تكثّر لا يرتبط بمبدأ وحداني أو ثنائي كما في الفلسفات النسبيّة والتعدّدية التي تزدهر في ظل الفكرة “الليبرالية” الغربية.

وإذا كانت النظرة العربية الإسلامية من النظرات التي تشطر الوجود شطرين، فأي نوع من العلاقة تقيمه بينهما؟ أهي علاقة صراعية أم وفاقيّة أم انفصالية؟
لعلّ في اللمحة المقارنة التالية ما يوضح طبيعة تلك العلاقة في الإسلام وفكره.
تضع المانويّة الفارسية، التي قدّر للإسلام ان يصارعها في حربه ضدّ الزندقة، طرفي الثنائية على صعيد واحد من القوة والأولويّة وتفترض وجود صراع أزلي عنيف بينهما. إنّها تضع النقيضين في مواجهة دراميّة مأساوية وجها لوجه وتعطي للشرّ وجودا ميتافيزيقيّا مستقلاً بذاته. ولكنّها تطلب _فقط _ من الإنسان أن يقف إلى جانب الخير لترجيح كفّة الصراع.

أما المسيحية، في شكلها الأوروبي خاصة، فإنّها تفصل بين جانبي الثنائيّة فصلا يكاد يكون تامّا. إن العالمين _الإلهي والتاريخي يتجاوران ويتماسّان ويؤثّر أولهما في الثاني ولكنّهما لا يتداخلان في نظام عضوي على وجه هذه الأرض (عدا في الحادثة الفرديّة الاستثنائية عندما اتحد _حسب التصور المسيحي _ اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح). حقا، إنّ الشطرين لا يتصارعان، كما في المانويّة، (وإن كان يقوم بينهما نوع الجفاء كجفوة “الرهبنة” بإزاء الاستمتاع “بطيبات الحياة”)؛ ولكنّهما لا يتطابقان ولا يتفاعلان بصورة متداخلة متشابكة كما سيحدث في الإسلام. إنّ ما يقوم بينهما هو علاقة تجاور اضطراري كاضطرار الروح في البدن.

وعليه، فالإسلام يرفض الثنائية المطلقة لدى المانوية باعتبارها شركا، كما أنّه يتجاوز الفصل المسيحي الثنائي بين الدين والدولة، بين الروحي والزمني، وبين الرهبنة والمتاع الدنيوي المباح؛ إلى تحقيق نوع من الدمج بينهما. ولمزيد من إيضاح الفرق على صعيد الفكر بين فصل المسيحية بين المجالين ودمج الإسلام بينهما، لربّما جاز لنا أن نضع على سبيل المقارنة الفكرة التالية في الجمع بين العقل والإيمان للشيخ محمد عبده إلى جانب فكرة بسكال المشار إليها في الفصل بين الجانبين: “إياك أن تعتقد… أنّ فرقا بين العقل والوجدان (القلب) في الوجهة، بمقتضى الفطرة والغريزة، فإنّما يقع التخالف بينهما عرضا عند عروض العلل والأمراض الروحيّة على النفوس. وقد أجمع العقلاء على أنّ المشاهدات بالحسّ الباطني (الوجدان أو القلب) من مبادىء البرهان العقلي كوجدانك أنّك موجود (لعلّها إشارة إلى الكوجيتو الديكارتي)، ووجدانك لسرورك وحزنك وغضبك… ونحو ذلك. منحنا العقل للنظر في الغايات، والأسباب والمسبّبات. والفرق بين البسائط والمركّبات _والوجدان لإدراك ما يحدث في النفس والذات من لذائذ والآم، وهلع واطمئنان وشماس وإذعان ونحو ذلك ممّا يذوقه الإنسان ولا يحصيه البيان، فهما عينان للنفس تنظر بهما، عين تقع على القريب، وأخرى تمدّ إلى البعيد، وهي في حاجة إلى كلّ منهما ولا تنتفع بإحداهما حتّى يتم لها الانتفاع بالأخرى. فالعلم الصحيح مقوّم الوجدان، والوجدان السليم من أشدّ أعوان العلم.

غير أنّ هذا التقريب والدمج والمطابقة بين الثنائيات والمتعارضات في الإسلام لا يقضي على تميّزها بصفة مطلقة ولا يذوّبها نهائياً. بل يبقى تنوّع على وحدة، وتعارض مع اتفاق، وتعدّد ضمن توحّد. إنّ المقابلة تبقى بين شؤون الدنيا وشؤون الآخرة، وبين نصّ “المنقول” وتسليمه ومنطق “المعقول” وتأويله. هناك جانب التأمّل والنظر يقابله جانب الجهاد والعمل. وهناك جانب التقوى والزهد يقابله جانب الإقبال على الدنيا وطيّباتها. (وعندما تصاب الحياة الإسلامية بالاختلاف ينفكّ التوفيق ويتغلّب “التوكّل” على “السعي” في عصور الإنحطاط). أي إنّ الإسلام لا يلغي الثنائية ومتعارضاتها، وإلاّ لما كان ثمّة دور فيه للتوفيقية. فالتوفيق ينطلق من مبدأ وجود تعارض _ولو ظاهري _ بين جوانب الحياة ثمّ يتقدّم لإزالة الفوارق واكتشاف التماثل فيما بينها حتّى يحقّق أقصى قدر ممكن من الوحدة، على أقصى قدر ممكن من التوازن بين الجانبين.

إن الإسلام يقبل بواقع الثنائية في الوجود الإنساني ولكنّه يعمل على تعديلها وتخفيفها ورأب الصدع الوجودي القائم بينها _لا على زيادته وتأكيده كما في المانويّة القديمة والجدليّة الحديثة _ وقد برزت التوفيقية على صعيد الوعي الفكري لتقوم بتحقيق هذه النزعة المتأصلة في النظرة الإسلاميّة. وبذا يصح القول أنّ الفكر العربي الإسلامي إذ: “يفصل… بين السماء والأرض، بين المطلق والنسبي بين اللانهائي والمحدود، بين خلود الآخرة وفناء الدنيا، (فإنّما) يفصل بينهما ذلك الفصل الذي لا يجعل لكلّ عالم من العالمين أهلا غير أهل العالم الآخر، بل عنده ان أهل هذا هم اهل ذلك، غير أنّ الواحد تمهيد للثاني، كما تكون المقدّمة للكتاب. فإذا أساغ غير العربي أن يكون لقيصر عالم ولله عالم، وأن تكون مملكة الأرض غير مملكة السماء، فالعربي يفضّل أن يجعل العالمين كليهما لله ولقيصر. ليكون الله حاكما في كليهما، وقيصر محكوما في كليهما”.

وهكذا يصحّ القول أن الاستجابة الإسلامية لمشكلة الثنائية تتمثل في محاولة التوفيق بين متعارضاتها، توفيقا يبقي العناصر المختلفة ضمن بوتقته ولا يذيبها كليا؛ بحيث يمكن وصفه بأنه وحدة على تنوّع. فالعقيدة الإسلامية تقوم اساس على مبدأ الوحدانية المطلقة، والتوحيد يمثل الركن الأول من إيمانها. وهي عندما تواجه نقائض ومتعارضات في هذا العالم فإنّها تسلّم بها بتأثير نزعة عمليّة واقعية في نظرتها، ولكنّها تعمل بحذق وحذر على التقريب بين تلك المتعارضات لتصبّها في بوتقة أقرب ما تكون إلى الإنسجام تطلعا لمثلها الأعلى في التوحيد. إنّها تتحرّك من واقع الثنائية القائمة في هذا العالم، وتقيم التوازن بين أطرافها وتضمّها في صيغة اقرب إلى التكامل والتوحد منها إلى التصارع والتضاد سعيا لرفع الإنسان من مستوى الثنائية إلى ما يقرب من وحدانية الله وما هو أكثر انسجاما مع وحدة الحقيقة المنبثقة عنها؛ وأملا في الإرتفاع النسبي المتدرج من واقع التضاد إلى مثال التوحّد في مسيرة تبدأ من الواقع التاريخي بثنائيّاته القائمة وتتجه صعدا _من خلال الصيرورة التاريخية الطويلة وبتبعاتها، لا رفضا لها أو زهدا فيها _ إلى توحّد الكينونة الربانية المنشودة الموعودة: “يا أيها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحا فملاقيه…” (سورة الإنشقاق، آية6) إن مسيرة “الكدح” الإنساني عبر ثنائية الخير والشر نحو وحدانية الخير المطلق المحض تلطّف النظرة الإسلامية من حدّة معاناتها باستجابة توفيقية هي فوق مستوى الثنائية ودون مستوى الوحدانية؛ لأنّ مستوى الوحدانية لا يمكن بلوغه على الصعيد التاريخي والإنساني بصورته المطلقة، وإن كان يمكن التطلّع إلى شيء يقرب من كمال مثاله حسب الطاقة الإنسانية وطبقا لما تبيحه الضرورات الوجوديّة. ومن هذا المنطلق جمعت النظرة الإسلامية بين الدين والدولة وبين الفرد والجماعة في نظام عقيدي شمولي واحد، وجمعت الحضارة الإسلامية بين العناصر والثقافات والأقوام في وحدة عالميّة تتخطّى الحدود والحواجز. ذلك سعي للاقتراب من مثال التوحيد في عالم تنقسم عناصره على ذاتها ولا تتوحّد بفعل طبيعتها، فتعمل النزعة الموحّدة على إخضاعها لنظرتها بمسعى التوفيق والجمع والتقريب.

غير أنّ النظرة الإسلامية، وإن تجنّبت ظاهرة الإنشطار في هذه الحياة الدنيا بنزعتها التوفيقية المستلهمة من عقيدتها التوحيدية، فإنّها واجهت انفصالاً أساسيا آخر بين مفهوم الله ومفهوم الإنسان بين العالم الماورائي والعالم الطبيعي، بسبب طبيعة تلك العقيدة التوحيدية المجرّدة المنزّهة. فبمقدار ما يتمّ التأكيد على وحدانية الله المطلقة، يتمّ التباعد بين الواحد الأحد المطلق من ناحية، وبين الإنسان والكائنات الأخرى من ناحية ثنائية. وعلى الرغم من ورود بعض الإشارات القرآنية الموحية بأنّ الله أقرب إلى عباده “من حبل الوريد”، فإنّ الواحد المطلق ظلّ في المعتقد الإسلامي الجماعي متساميا في عليائه فوق كلّ ما في هذا العالم من حيّ وجماد.

تلك الهوّة السحيقة ستتقدّم التوفيقية الإسلاميّة أيضاً لردمها والتقليل من تباعد طرفيها. فالقول بالتوفيق بين الإيمان والعقل يعني في تحليله النهائي الرغبة الدفينة في التقريب بين الله والإنسان _فالله مصدر الإيمان والوحي والشريعة، والإنسان مستودع العقل والتبصر والحكمة. وهكذا فالإشادة بقدرات العقل تتضمّن الإشادة بالإنسان المتميّز بهذا العقل المختص به، القادر على الوصول إلى الحقّ الأعلى ومعرفته بقوّته الناطقة المتميّزة هذه، حتّى لو لم يسعفه الوحي بالهداية المباشرة.

وباستثناء التصوّف الذي يمثل تجربة ذاتية خالصة، فإنّ الفلسفة التوفيقية الإسلامية كانت صلة الوصل العقلية الموضوعية والجسر الذي امتد فوق الثنائية القائمة بين مفهوم الوحدانية المطلق ومفهوم الإنسانيّة المحدود. حيث أمكن _خلال عصور التفتح العقلي _ أن يرتفع صوت الإنسان متمثلا في العقل إلى جانب صوت الوحي، فتتقلص _ولو إلى حين _ تلك المسافة القائمة بين الأرض الهابطة والسماء البعيدة. ويكاد الإنسان الفيلسوف بنفاذه العقلي للحقيقة الكونية أن يصبح في مستوى المرسل، من حيث القدرة على تلقي تلك الحقيقة الكونيّة؛ ويرقى العقل المتأمّل إلى ما يقرب من مستوى الوحي المنزل في التعبير عن تلك الحقيقة.

وهكذا فإنّ المحاولة التي بدت في إطارها الكلامي _ الفلسفي المحدود وكأنّها مجرّد استعانة بالعقل الإغريقي لدعم مسلّمات الوحي السامي والتراث الإبراهيمي، أصبحت تبدو اليوم من وجهة نظر التاريخ الحضاري مشروعا فكرياً أكبر وأشمل كانت غايته إفساح مكان لإرادة الإنسان وعقله بإزاء القدرة الالهية المطلقة في سلّم الموجودات الكونية: “… إنّ كلّ عقيدة من العقائد الوحدانية جابهت مشكلة التوفيق بين حرية الإنسان وقدرته من جهة، والعناية الإلهية والقدرة الإلهية المطلقتين من جهة أخرى، وتساءلت عمّا إذا كان للإنسان ذاته أثر في الأحداث البشرية وفي التبدّل الحضاري. فكانت تلك الأبحاث والمجادلات والمنازعات حول “الحرية” و “التحتيم”، و “التخيير” و “التسيير” التي لعبت دورها الكبير في تطوّر هذه العقائد، وفي الفرق التي نشأت عنها، وفي الإتجاهات الحضارية التي سلكتها، ولابدّ من التنويه بأهميّة النتائج الحضارية التي تولّدت عن المواقف المتّخذة في هذه القضيّة. فحيثما استطاعت العقيدة أن توفّق بين عناية الله وحريّة الإنسان، وأن تؤمن بقدرة الإنسان على الإختيار وبالتبعة التي يحمّله إيّاها الإختيار، انفسح المجال أمام الأفراد والشعوب للأقدام والفعل في ميادين الفكر والإنتاج. وحيثما سطت فكرة التسيير وضعف الإيمان بحرّية الإنسان وتبعته، تراخت العزائم وقصّرت الأفراد والشعوب عن إثبات ذاتها وعجزت عن إحداث الأثر التاريخي او الإبداع الحضاري. كذلك اختلفت هذه العقائد فيما بينها، في داخلها وفيما بينها، بقدر ما أقرّت من نظام يسود الطبيعة ومن قوانين تسيطر عليها. فثمة اتّجاه يقيم لهذا النظام وزنا ويجعل له مكانا في ترتيب الوجود، وثمّة اتّجاه معاكس يجعل كلّ حدث طبيعي _وإن يكن ضئيلا أو عارضا _ ناتجا مباشرة عن إرادة الله وفعله. وثمّة اتّجاهات بين هذا وذاك تتفاوت في مدى ما تقرّ لعوالم الطبيعة من استقلال داخلي وانتظام خاص. هنا ايضاً، حيثما اتّسع مدى هذا الإستقلال والإنتظام في عقول الناس، كان منه حافز على البحث في اسرار الطبيعة وعلى محاولة استغلالها لفائدة الإنسان، وحيثما ضاق المدى وانتفى معنى النظام أو القانون الطبيعي، فترت الرغبة في البحث الفكري والنشاط العلمي وخفّت القدرة على القيام بأعبائها.

نخرج من هذا التحليل لموقف التوفيقية المتوسّط بين ثنائيّة العالم ووحدانيّة الله، بإيجاز الأسس الفلسفية التالية التي تقوم عليها التوفيقية، هذه الأسس التي يمكن أن تمثل في مجملها منطلقا ومدخلاً للتعريف الفلسفي الذي ننشده لها، والذي سيلي، هذا الاستخلاص التحليلي:

1_ تهدف التوفيقية إلى تأكيد ظاهرة “وحدة الحقيقة” فيما تقوم به من جمع بين المتعارضات لصبّها في بوتقة الإتفاق:
“فقد كانت هذه المسألة (التوفيق بين الفلسفة والشريعة) منذ عهد الكندي إحدى المسائل الكبرى التي أثارت حفيظة المتكلّمين ضدّ الفلاسفة والقت ظلاّ قاتما على نزعة التفلسف في البلاد الإسلامية. على ان ابن رشد استحدث أسلوبا كلامياً صارما فاق أسلوب أي من أسلافه دقة، تمكّن به من معالجة هذه المسألة معالجة فعّالة. كانت نقطة الإنطلاق في هذا الأسلوب النظرية الأفلاطونية المحدثة المتأخّرة القائلة بوحدة الحقيقة، على اختلاف مظاهرها. وربّما كان “إخوان الصفاء” من أول المروّجين لهذه النظريّة في القرن العاشر.

2_ تعتمد التوفيقية مبدأ التكافؤ أو التوازن بين العنصرين اللّذين تجمع بينهما. إذ لو تقرّرت أفضليّة أو أولويّة عنصر على آخر لانتفت ضرورة التوفيق. فلو قلنا مثلا إنّ الوحي هو السبيل الأفضل لمعرفة الحقّ، لسقط تكافؤ العقل بإزائه، ولاقتصرت المسألة على تفسير مفهومات العقل، وسائر الموجودات، بمعيار الوحي وحده. بينما إذا اعتبرنا العقل مصدرا أوّليا وحيدا أو رئيسا للمعرفة اقتضى أن نفسّر قضايا الوحي كلّها، والوجود كلّه، بمقياس العقل، إذن لابدّ من التكافؤ في التوفيق. وهو ما تنبّه إليه إبن رشد بعد تطوّر طويل للفكر التوفيقي في تاريخ الثقافة الإسلاميّة: “… كان إبن رشد نفسه مؤمنا بعصمة القرآن أيضا، إلاّ أنّه لم يكن أقلّ إيمانا بوحدة الحقيقة كقضية بديهيّة. ولم تنطو هذه القضيّة البديهيّة عنده على ضرورة التذرّع بالتأويل وحسب بل انطوت أيضا على الإقرار بتكافؤ الفلسفة والشريعة أو العقل والوحي، من حيث هما مصدران أوّليان وصادقان للحقيقة المطلقة. وإذا كان بعض الفلاسفة قد جنحوا بداعي إعجابهم المفرط بالفلسفة، كما جنح ابن سينا إلى التفريط بهذا التكافؤ، فإنّ بعضهم الاخر، الكندي مثلا، لم يشكّ به قطّ. ولقد فاق ابن رشد أي فيلسوف مسلم آخر في إيضاح مفهوم التكافؤ هذا واستنبط منه جميع النتائج المنطقية التي انطوى عليها. (وقد) أعان ابن رشد بوجه خاص على اتّخاذ الموقف الصعب الذي دعوناه “تكافؤ الفلسفة والشريعة” أو “العقل والوحي” أمران: الأوّل، التمييز القرآني (سورة آل عمران، آية5)، الذي أقرّه المفسّرون منذ عهد الطبري (توفي 923)، بين الآيات المتشابهات والآيات المحكمات، والثاني الافتقار إلى سلطة تعليميّة عليا في الإسلام (السنّي) تنفرد بحق تحديد مضمون العقيدة الإيمانيّة. فالذي يفترضه الأمر الأول هو الإقرار بأنّ بعض الآيات المنزلة لا يمكن حملها على الظاهر، والذي يفترضه الثاني هو الحاجة إلى سلطة يستند إليها حقّ الفصل في الخلافات العقائدية.

3_ توحي التوفيقية في كثير من معانيها بأنّها فكرة تصالح وانسجام. ولكنّها في الحقيقة لا تخلو من توتّر خفي غير معترف به. فالمظاهر المختلفة في الحياة تلتقي في جوانب معيّنة وتفترق في جوانب أخرى، ولا يعقل أن يكون هناك أيّ مظهرين متّفقين اتّفاقا تاماً متطابقاً في كل شيء وإلاّ أصبحا شيئا واحدا لا مظهرين مختلفين. وعلى ما يوجد بين العقل والإيمان من نقاط التقاء فإنّهما يختلفان ويتمايزان في نقاط أخرى. والسبب في وجود توتّر خفي في التوفيقية هو انها إذ تؤكّد نقاط الالتقاء والانسجام وتبرزها، فإنّها تحاول أن تقلّل من شأن نقاط الاختلاف أو تتجاهلها ممّا يؤدي إلى تسرّب جرثومتها داخل الصيغة التوفيقية، فتصاب أحيانا بافتقاد التوازن وبتغلّب عنصر على آخر أو تباعدهما، أو تحوّل التوفيق الأصيل بينهما إلى نوع من التلفيق والجمع غير المنضبط بنهج ثابت وقواعد محدّدة. وقد يكون السبب وراء حدوث ذلك التوتّر وقوع تغيّر في مفهوم أحد العنصرين، كأن تتجدّد النظرة إلى العقل ووظائفه ودوره _كما فعلت الثورة العقلية _ العلمية _الجدلية الحديثة _ ولا يعود ذلك العقل بمفهومه الأرسطي الكلاسيكي الثابت الذي توافق معه المفهوم الديني أصلا؛ عندئذ تختلّ المعادلة التوفيقية ويتحتّم تطوير مفهوم الدين تبعا لذلك أو التخلّي نهائيا عن موقف التوفيق بينهما، كما فعل كثير من المفكرين الغربيين المحدثين.

وفي العصر الحديث عندما أقام الشيخ محمد عبده المركّب التوفيقي الجديد بين الإسلام والحضارة الغربية، وبين الإيمان القديم والعلم الجديد، عمل على إقامة التكافؤ والتوازن بين الجانبين لتستقيم فلسفته ولكن التوتّر ظلّ خفيّا فيها إلى أن برز في العلن في صورة تيارين متعارضين انشقّت عنهما توفيقيته على أيدي تلامذته، فسار الشيخ رشيد رضا في اتّجاه سلفي حنبلي النزعة، وسار لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين في اتّجاه تغريبي علماني، تماما كما تفرّع عن المعتزلة قديما اتّجاه الأشعري من جهة واتّجاه السرخسي وابن الراوندي من جهة أخرى فقد: “انطوى تفكير محمد عبده على توتّر دائم بين أمرين لا يمكن فهم أحدهما فهما تاماً بالاستناد إلى الآخر، لكن لكلّ منهما مطلب خاص به لا مفرّ منه: الإسلام الذي يذهب إلى أنه يعبّر عن مشيئة الله… وحركة المدنيّة الحديثة التي لا مردّ لها، المنطلقة من أوروبا، والآخذة الآن في الانتشار عالميا… إلا أنّه لم يعتقد يوما ان بين الاثنين توافقا مطلقا، أي انّ الإسلام يرضى عن كل ما يرضى عنه العالم الحديث، بل كان يعلم بوضوح لأي منهما الأولويّة عند نشوء خلاف حقيقي بينهما… بيد أن التوتّر بين الإسلام والمدنيّة الحديثة كان بحدّ ذاته توتّرا دقيقا، وكان من الصعب… تعيين الحدود بين طرفيه، فنشأت نزعة دائمة لتخفيف حدّته بمحاولة شبه واعية للتوفيق بين وصايا الإسلام، ومفاهيم الفكر الحديث.

غير ان هذا الاختلال في التوازن التوفيقي لا يحدث دائما لأسباب فكريّة خالصة. فاختلال البنية الاجتماعية التي يستند إليهما هذا الفكر يمكن ان ينعكس تأثيره عليه. فقد حدث هجوم الغزّالي على الفلاسفة في وقت بدأ فيه ضغط مزدوج على المجتمع الإسلامي المتحضّر المستقرّ من الأتراك السلاجقة في الشرق، ومن الصليبيين في الغرب. وانهارت توفيقية محمد عبده تحت ازدياد الضغط الأوروبي السياسي والثقافي، كما استعادت هذه التوفيقية توازنها في العقد الرابع من هذا القرن (حوالي 1936) باستعادة الشرق العربي لتوازنه الذاتي في وجه أوروبا. وهذا الملحظ يوحي بأنّ التفويقية ليست فلسفة متجرّدة خالصة تبحث عن الحقيقة أيّا كانت وأيّا جاءت نتيجتها وإنّما هي موقف فكري ملتزم ومنحاز إلى غاية محدّدة منذ البدء. فالتوفيقي ملتزم بتأكيد وحدة الحقيقة



13‏/03‏/2013

العلاج بالتصور



عن مجلة العربي
محمد المخزنجي


تتكون في ذهن كلّ منا يومياً عشرة آلاف صورة، نصفها سلبي التأثير، فهل
يمكننا التحكم في بعضها لأجل التشافي، والتعافي؟!

حتى أوائل السبـعـينيـات ظـل العالم (الأنجلو ساكسوني) (الجديد)، يدير ظهره
لدور المخيلة في معالجة الجسد، لكن طبيباً من لوس أنجلوس متخصصاً في
العلاج الإشعاعي للأورام السرطانية - أي قمة الطب المادي آنذاك - هو الدكتور
(كارل سيمونتون)، صدم هذا العالم الجديد باستخدام علاج قديم جداً، جرى
تحديثه، وطبّقه على 159 مريضاً من المصابين بأورام صُنّفت كسرطانات
غير قابلة للشفاء وقيل لأصحابها إنه ليس لديهم غير عام أو نحو عام للحياة
برغم العلاج. وكانت النتائج مفاجأة.

استخدم الدكتور سيمونتون العلاج بالتصوّر IMAGERY، بمؤازرة
علاجات السرطان الأخرى كالكيماويات والإشعاع، وحدث أن 40% من
مرضى هذه التجربة ظلوا على قيد الحياة بعد 4 سنوات من بدئها، و22%
أظهروا تحسّناً ملموساً، و19% تراجعت أورامهم منكمشة. وكمحصلة عامة
أظهرت الدراسة أن استخدام التصوّر العلاجي جعل هؤلاء المرضى يعيشون
ضعف أقرانهم ممن لم يتلقوا غير العلاج الطبي.

وفي تعليقه على نتائج تجربته الرائدة تلك في أمريكا، قال الدكتور سيمونتون:
(إن التصوّر يمكن أن يقوي الجهاز المناعي بتخيّل صور لكرات دم بيضاء
قوية تقهر خلايا السرطان الضعيفة).

نظرة حديثة لعلاج قديم

لأجل هذا العلاج بالتصوّر، كرّس عديد من علماء الغرب جهودهم، ومنهم
الدكتور (دينيس جيرستن) أستاذ الطب النفسي بـ(سان دييجو)، الذي ينشر
مطبوعة دورية مخصصة لهذا العلاج تحت اسم: (أطلنطا - القارة المجهولة).
يقول الدكتور جيرستن: (التصوّر هو اللغة الأساس داخلنا، فنحن نتفاعل
عقلياً مع كل شيء، عبر الصور، والصور ليست فقط بصرية، ولكنها قد تكون
رائحة أو ملمساً أو مذاقاً أو صوتاً، وهي الأداة التي تتعامل بها عقولنا مع
أجسادنا، ويقدر أن الشخص المعتاد تعبر ذهنه قرابة عشرة آلاف فكرة في
شكل صور يومياً، ونصف هذه الصور على الأقل ذو طابع سلبي، وزيادة
الجرعة من الصور السلبية يمكن أن يغيّر من فسيولوجية الجسم باتجاه التدهور
الصحي على شكل صداع، أو التهابات مفاصل، أو قرح بالمعـدة والجهـاز البولي
وحتى أمراض القلب. ويكون العكـس صحيحاً، أي أن زيادة جرعة الصور
الإيجابية تعمل كحافز للتعافي).

هذه الرؤية الحديثة لتأثير التصوّر العقلي على الجسد، هي تاريخياً ذات جذور
عميقة وعتيقة في معظم ثقافات العالم التقليدية، بل في الديانات أيضاً. فالأطباء
السحرة، أو الشامانيون، لدى القبائل الإفريقية وفي أمريكا الجنوبية، كما هنود
النافاجو، يشجّعون المريض على رؤية نفسه معافى حتى يشفى. وقدماء
المصريين واليونان - ومنهم أرسطوطاليس وأبوقراط - أبوالطب- كانوا يعتقدون
أن الصور توقظ الروح في المخ فتنشط القلب وسائر أعضاء الجسد. كما كانوا
يعتقدون أن التصوّر القوي للمرض يؤدي لظهور أعراضه فعلياً.

ظل هذا التصوّر العلاجي مزدهراً في الغرب حتى عصر النهضة، وفيه كتب
الطبيب السويسري باراسيلسوز: (إن قوة التصوّر يمكن أن تلعب دوراً مهماً
في الطب.. يمكن أن تنتج المرض، ويمكن أن تعالجه). واستمر الاعتقاد الطبي
في تأثير التصوّر حتى العقد الأول من القرن 17، حيث امتد الاعتقاد إلى التأثير
على الأجنّة في الأرحام. لكن السنوات الثلاثمائة التالية شهدت نكوصاً عن الاعتقاد
في تأثير التصوّر، خاصة عندما تسلل إلى الأطباء رأى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت المولع بالثنائيات والقائل باستقلال العقل عن الجسد. لكن تركيز أطباء
النفس المشاهير كفرويد ويونج على معالجة النفس وتجليّاتها الجسدية عبر المخيلة 
أعادت هذه الأداة العلاجية حثيثاً إلى حقل الطب الغربي. ودعم هذه العودة وفتح
لها باب الدخول إلى مجال الطب الجسدي كثير من المشاهدات والتجارب
والبحوث، خاصة وقد بدأت الآثار الجانبية لمعالجات الطب الغربي الحديث
المغرقة في التصنيع تسفر عن وجهها، وعن العجز الذي تقف به مكتوفة
الأيدي أمام الكثير من معاناة البشر نفسياً وجسدياً.

من أبكر الشذرات البحثية في موضوع العلاج بالتصوّر الذي يدعى أيضاً
VISUALISATION، كانت تجربة الأمريكي جاكوبسون - ولنلاحظ
اهتمام اليهود بمجالات الطب البديل - عام 1920، إذ اكتشف أن الإنسان
عندما يركّز في تصوّر أنه يركض فإن عضلات ساقيه (تغمز) بانقباضات
صغيرة لاإرادية. ولم تتكرر تجربة جاكوبسون في أمريكا حتى السبعينيات
عندما قام الدكتور كارل سيمونتون ببحثه على مرضى السرطان، ويذكر أحد
المراجع أن زوجته (ستيفاني) كانت تساعده في تشجيع المرضى على التخليق
العقلي للصور الإيجابية المقاومة لخلايا أورامهم الخبيثة.

بين الأطباء الأمريكيين الذين اهتموا بالتصوّر العلاجي كذلك، يُذكر اسم الدكتور (بيرنارد سيجل) أستاذ الجراحة المساعد بكلية الطب جامعة (يال)، وكان يستخدم الصور التي تظهر للمرضى في أحلامهم أو التي يرسمونها في لوحات، والتي
رأى أنها تكشف عن معرفة المرضى لاشعورياً بمكامن أمراضهم. ومن تجاربه
استنتج الدكتور (سيجل) أن هناك كثيراً من الناس لديهم القدرة على الشفاء الذاتي
لكن تنقصهم الإرادة ويعولون دائماً على عوامل من خارجهم كالطبيب أو الأدوية
أو التدخلات الطبية الأخرى، وهؤلاء لن يجدي معهم التصوّر العلاجي كثيراً
بينما هؤلاء الذين أعدّوا لتحمّل المسئولية، فإن العلاج بالتصوّر يمكن أن يساعدهم
في تنشيط عملية العلاج الذاتي الداخلي.

ضلالات أم حقائق؟

إذا كانت التجارب الأولى في أي حقل يمكن أن تتهم بعدم الدقة، فإن قطار
البحث الطويل لابد أن يتوقف عند محطات حقيقية وملموسة بعد ذلك
وهو ما حدث في مجال العلاج بالتصوّر.

في جامعة (أوهايو) أثبتت الأبحاث أن التصوّر يوفّر إعداداً جيداً لمرضى
السرطان عند تلقي العلاج الكيماوي. وأثبتت دراسة إيرلندية أن التصوّر
رفع عدد (الخلايا القاتلة) السوية في الجهاز المناعي، وهي الخلايا المقاومة
للفيروسات المعدية، وخلايا الأورام، والميكروبات والأجسام الغريبة التي
يتعرض الجسم لغزوها.

وفي بحث بكلية الطب بكليفلاند تبيّن أن 7 من المرضى الذين تكررت إصابتهم
بقرح الفم تباعدت أوقات إصاباتهم بعد (جرعات) من تصوّر هذه القرح
مغمورة بغطاء من خلايا الدم البيضاء. وفي مستشفى ماساشوسيتس العام
ببوسطن أثبت بحث أن (12) من (15) امرأة تتراوح أعمارهن بين 21و40 عاماً
استخدمن العلاج بالتصوّر فانتظمت دورتهن الشهرية، وقلّت معاناتهن للتوتر
وتقلّب المزاج وضغوط ما قبل الدورة. وأثبت باحثون من جامعة جنوب
فلوريدا أن مجموعة من مرضى الالتهاب الشعبي المزمن وانتفاخ الرئة تحسّنت
حالهم العامة عن طريق العلاج بالتصوّر، الذي خفّض معدلات التوتر والاكتئاب والشعور بالإنهاك المفرط لديهم.

أما الدكتور (أنيس شيخ) (ولابد أنه عربي)، أستاذ علم النفس الطبي بجامعة
(ميلواكي) ومحرر نشرة (مقاربات الشرق والغرب في العلاج الطبي)، فقد أثبت
أن العلاج بالتصوّر يمكن أن يخفّض من ضغط الدم المرتفع، ويبطئ من تسارع
القلب، ويكافح الأرق، والسمنة، والمخاوف المرضية.

تطول لائحة الإثباتات، لكنها مهما طالت تظل في حاجة إلى إقناع، ولو بتقريب
آلية عمل هذا النوع من العلاج إلى الأذهان.

الخيال يتحوّل إلى واقع

المخ يتفاعل مع الصورة الواقعية كما يتفاعل مع الصورة المتخيلة - هذا ما أثبته
بحث باستخدام الأشعة المقطعية بجهاز الانبعاث البوزوتروني (بي.ي.تي)
إذ تبين أن نشاط المخ يتشابه إلى حد كبير في الحالتين، المتصوّرة والواقعية.
وافترض بعض الباحثين أن الصور العقلية تتكون في ذلك الجزء من المخ
المختص بالعواطف والانفعالات، كالبهجة والألم والغضب. لكن تأويل الصور
المتكوّنة يتم في المستوى الأعلى من المخ أي اللحاء، وهو المختص بالوظائف
(العليا) كالذاكرة والتبرير، ودون هذا التأويل تكون الصور بلا معنى. ومن
الملاحظ أن هذا الجزء من المخ الذي تتكون فيه الصور LIMBIC SYSTEM
يرتبط بغدة ما تحت المهاد وهي جزء المخ المسئول عن تنظيم درجة حرارة
الجسم ومعدل ضربات القلب والشعور بالجوع والعطش والنوم والنشاط الجنسي
كما يرتبط هذا الجزء من المخ بالغدة النخامية التي تقود النشاط الهورموني
للجسم كله.

بعد أن تتكون الصورة وتعطيها قشرة المخ المعنى تأخذ غدتا تحت المهاد
والصنوبرية في العمل - بتأثير الصورة المتكونة - لإحداث تفاعلات فسيولوجية
متجلية في كل خلية من خلايا الجسد، هذا من ناحية. ومن الناحية الأخرى ترسل
الخلايا إلى المخ إشارات تعلمه باستجاباتها فتقوى الصورة، تصبح أكثر حياة
ويرد المخ مرسلاً المزيد مما يجعل الصورة تستمر، وتتواصل الدورة.

من هنا يتبين أن كل صورة تمر بأذهاننا تؤثر في أجسامنا، وهو تأثير يكون
سلبياً أو إيجابياً تبعاً لنوع الصورة المتكوّنة في الذهن.

ولنأخذ مثالاً... يفترض أن شخصاً على موعد مهم للسفر بالطائرة، وبينما
هو في الطريق إلى المطار يَعْلق في أزمة مرورية مستحكمة لسبب ما، ويلوح
أن انفراج هذه الأزمة ومعاودة الانطلاق ليس قريب الحدوث. سوف تتبادر
إلى ذهن هذا الشخص صورة الطائرة وهي تقلع من دونه، أو صورة مَن
ينتظرونه أو ما ينتظره في بلد الوصول دون أن يكون موجوداً، وكنتيجة...
تتسارع ضربات قلبه، وتنقطع أنفاسه، وتتعرّق راحتاه، وتتشنج عضلات جسده.
على هذا النحو، يتضح أن الصورة الذهنية تُحدث تغيّرات فسيولوجية حقيقية

والمثال المذكور يوضح أن جسد الشخص صار في حالة إنتاج لمزيد من
الأدرينالين ليجعله في حالة تأهب، غير ضرورية، إذ ليس في مقدور هذا
الشخص أن يفعل شيئاً، بل إن هذا الاستنفار الأدريناليني يمكن أن يعيقه
بالتوتر والارتباك، عن العثور الموفق على مخرج سريع ومناسب.

في ذلك، تقول الدكتورة (باربارا روزي) مديرة مركز استشارات الطب البديل
بسانتافي - نيومكسيكو، ومؤلفة كتاب (استخدام التصوّر للصحة واللياقة) :
(إذا أمكن للشخص أن يستبدل بالصورة السلبية التي تضعه في حالة تأهب
غير ضروري وغير مفيد، صورة أخرى إيجابية كما في لحظة استرخاء على
شاطئ البحر، أو صورة له وهو يلعب مع أطفاله، فإن هذه
الصورة - الإيجابية - بدلاً من إطلاق الأدرينالين في الجسم، تطلق المهدئات
الطبيعية التي تجعل التنفس يهدأ، والقلب يتمهّل بارتياح، والتوتر ينخفض
والجهاز المناعي يتقوى وينشط).

كالعزف على البيانو!

يقول أستاذ الطب النفسي دينس جيرستن: (إن الإنسان لو تعلم كيف يجيد توظيف الصورة في دماغه، بدلاً من تركها تندفع وتمر بلا إرادة منه كما لو كانت نهراً
غير مروّض، فيمكن أن تكون لها تأثيرات إيجابية طويلة المدى على صحته
وعلى عيشه منشرحاً. لكن التحكم في الصور الذهنية هو شيء بالغ الصعوبة
يتطلب الصبر والمداومة كما في تعلم العزف على آلة موسيقية كالبيانو. والوقت
اللازم للخروج بنتائج من التصوّر العلاجي يختلف، فآلام التواء كاحل قد تختفي
عبر جلسة تصوّر علاجي لمدة 5 دقائق، بينما الشعور بالتخفف من آلام الحروق
يحتاج إلى ممارسة أطول لجعل التصوّر فعّالاً. والجرعة المعتادة لمبتدئ قد تكون
15-20 دقيقة يومياً، لكن مع إتقان استخدام الصور الذهنية إيجابياً قد تكفي
5 دقائق للشعور بالارتياح طوال اليوم).

كل ما ذكره الدكتور جيرستن هو بالطبع صحيح، ولكن من منظور احترافي.
ولأن هذه السطور أن تعرّف بشكل علاجي غير دوائي يكرّس للوقاية الصحية
واللياقة البدنية والنفسية، فإننا نميل إلى التيسير، ونقول: ليكن التصوّر العلاجي
كالعزف على البيانو، لكن هناك درجات في هذا العزف، فثمة مَن يعزف جملة
موسيقية بسيطة، وثمة مَن يعزف لحناً، وفي القمة نجد عازفي السيمفونيات
وقد لا يتطلب الأمر أكثر من تذوّق هذا العزف وترجيعه في الذهن أو
(دندنته) بصوت بشري خفيض. لهذا نتجه نحو إيضاح الخطوط العامة لممارسة
العلاج بالتصوّر، وليقطف من ثمارها مَن يشاء، كل؟ بحسب قدرته وحاجته.
فليس الأمر - وإن كان مطلوباً أحياناً - جلسات محددة تحت إشراف مدرب خبير
بل الأساس أن يتناسج أسلوب التصوّر مع لحظات حياتنا اليومية المعاصرة
المليئة بالمآزق والضغوط، لعلها تنساب بارتياح أكثر.

إن (صناعة) الصور الذهنية هي عملية طبيعية تحدث لنا كل ليلة أثناء الأحلام
ومن ثم فعملية التصوّر هي أقرب إلى الحلم، ولكنها ترتكز على العقل الواعي
لصياغة وإطلاق صور مفيدة. لنقل إنها (صناعة) أحلام يقظة صورها بصرية
ومختارة بعناية وتحت السيطرة والتطوير لجعلها كصور الحلم الملوّن النابض
بالحياة، وكلما كانت الصورة مدعمة بالعواطف والأحاسيس، كانت أبلغ أثراً.
مثال ذلك تصوّر الإنسان لنفسه في لحظة صفاء وود مع أطفاله، أو أحبّائه
أو أصدقائه، أو حتى مع الطبيعة.

تمرين وتسخين

لتحسين نوعية الصور المتخيلة، علينا أن نكون مراقبين أو ملاحظين جيدين
للحياة من حولنا، فهذا ييسر صناعتنا لتصوّرات حية أكثر، فعندما نتأمل
وردة - على سبيل المثال - ينبغي أن ننتبه ليس إلى شكلها فقط، ولكن أيضاً
لرائحتها، وملمس وريقاتها، ومن ثم يكون استحضار صورتها في الذهن أقوى
وأكثر حياة. وأفضل الصور هي تلك التي تكون من خبرتنا الحيه ، فهي تحمل
معنى شخصياً أكثر، ومن ثم يكون تأثيرها أفعل لأنها جزء من الذات.
إذا وجدت صعوبة في بناء صور بصرية في البداية يمكن أن يساعدك التمرين
التالي: انظر إلى لوحة أو صورة فوتوغرافية لمدة دقيقتين أو ثلاث، ثم اغلق
عينيك وحاول أن تعيد تكوين هذه اللوحة أو الصورة في ذهنك بأكبر قدر من
تفاصيل الشكل والألوان. وفي حال نجاحك في هذا التمرين، انتقل إلى التمرين
على محتويات الغرفة بدلاً من الصورة أو اللوحة، ثم تمرّن بعد ذلك على منظر
متحرّك من وقائع الحياة اليومية تختار منه صورة.

وكما يكون التسخين، أو تمارين تمديد العضلات، مدخلاً لتمارين الرياضة
الأعلى درجة، كذلك يكون الاسترخاء مدخلاً لأداء التصوّر العلاجي.
والاسترخاء في هذه الحالة يتكوّن من: ارتداء ملابس فضفاضة مع خلع
الحذاء، مكان هادئ ليس عرضة لاقتحام الآخرين أو تداخلاتهم، مقعد مريح
يتيح تمديداً سهلاً للساقين، أو سرير للاستلقاء على الظهر، إغماض العينين
التقاط وإطلاق بضعة أنفاس بعمق دون إجهاد، ثم الدخول في تكوين الصورة
إيجابية التأثير.

وعند العثور على الصورة الأكثر ملاءمة، يحسن التركيز عليها ليسهل
استحضارها فيما بعد، وتكون في المتناول دون (تسخين) كثير، ودون انتظار
فتصير بمنزلة (إسعاف سريع) كلما مرّت ضائقة، أو احتدم مأزق، أو تزايدت
الضغوط - جسدية كانت أو نفسية.

يقول المعالجون بالتصوّر إنه مناسب للتعامل مع معظم المشاكل العضوية
والوجدانية. وعلى وجه التحديد وجد أنه يساعد مرضى الربو، واضطرابات
القلب، والسرطان، والمخاوف المرضية (الرهاب)، وهو واضح التأثير كمخفف
للألم، كما أنه يساعد في تحسين العلاقات الشخصية بالآخرين، وإغناء المحتوى 
الإيجابي لصورة الذات ومن ثم تعزيز الثقة بالنفس.

والأطفال أكثر مناسبة لهذا النوع من العلاج تحت إشراف الكبار، لأن التخيّل لدى الصغار يتسم بالصفاء، ومن اليسير عليهم خلق الصور الذهنية في مخيّلاتهم
فالكثير منهم يعيشون وسط ثروة من الأخيلة والأبطال والكائنات الأسطورية
والمشاهد السحرية، التي يمكن أن تساعدهم في التغلب على مشاكلهم بالتصوّر
وفي التعبير عن أنفسهم، وتقوية ارتباطهم بوالديهم.

ختاماً، قد يكون مناسباً إيراد نموذج للعلاج بالتصوّر، يكون مساعداً للجميع على الاسترخاء - مع تمارين التنفس المفيدة للعموم، في وضع الاسترخاء الذي يناسبك، اغمض عينيك، تصوّر دائرة في مواجهتك مباشرة، وبلا حركة من رأسك
أو ملامحك، تخيّل أنك ترسم نصف هذه الدائرة بنَفَسك وأنت تأخذ الشهيق، والنصف الآخر ترسمه بنَفَسك أيضاً وأنت تطلق الزفير. وكرر ذلك حتى تبدو الدائرة متجانسة الاستدارة وناعمة، وبعد ذلك، اقض بضع دقائق في تصوّر نفَسك كما لو كان شهيقك يرتحل من أصابع قدميك عبر عمودك الفقري حتى يصل إلى قمة رأسك، وتصوّر زفيرك يمضي في مسار هابط من قمة رأسك حتى أصابع قدميك.

أداء عقلي للفوز

(الأداء الرياضي هو عملية تكامل بين عوامل تقنية وبدنية وتكتيكية وعقلية أيضاً)
هذا ما يقول به (كريس هاروود) مستشار علم النفس الرياضي الأمريكي الذي
يجسّد الوصول إلى هذا التكامل بأنه يشبه تحويل فريق رياضي إلى ورشة عقول
للبشر الآليين (الروبوتات). وللوصول إلى هذه النتيجة ثمة آليات نفسية تبدأ بخلق 
(الدافع) الذي يجعل الرياضي يخرج من سريره في الصباحات الباكرة الباردة
ليتدرّب، ويجعله يركّز ليبلغ الذروة دون أن تنهار جهوده تحت أي ضغوط.


ومثال ذلك.. لاعبة التنس نوفوتنا التي جسّدت في دورة ويمبلدون المثال على
أن انهيار المهارة العقلية يؤدي إلى انهيار سائر المهارات.

بناء هذه المهارات العقلية يكاد يمرّ كله من بوابة التصوّر، سواء في تكوين الدافع
أو مهارة التحكم العاطفي لاستبعاد المشاعر السلبية قبيل المباريات، وإطلاق
شحنه إيجابية تهيئ لأفضل أداء بدني مطلوب.

في السباحة وألعاب القوى كمثال، يكون الإعداد النفسي باللعب على النقاط
والأرقام الأفضل التي يسجّلها اللاعب، لكن في رياضات كالمصارعة والملاكمة
لابد من تمثّل حالة الانتصار، وعمليات تحفيز اللاعبين غالباً ما تكون الصورة
هي أداتها.

وثمة تقنية في بناء برنامج المساعدة النفسية لرياضييّ القمة تسمى (صورة الأداء)
يتدرب عليها اللاعب ذهنياً قبل المباريات وأثناءها. وضمن هذه التقنية تصوّر
حالات ضاغطة والتدرب عليها قبل حدوثها، مثل خروج إنجلترا بضربات الجزاء
من كأس العالم، فلابد من اعتبار هذه اللحظات الحرجة طبيعة ثانية مغايرة وإعادة
خلقها والتدرّب عليها بأقصى التفاصيل المحتملة مثل وجود جمهور كبير واللعب
أمام خصم حقيقي.

إن كثيرين من الأبطال الذين نراهم يبلغون الذرى الصعبة أمام عيوننا، عادة
ما يكونون قد تدرّبوا على هذه الذرى من قبل، بالتصوّر، داخل عقولهم.

12‏/03‏/2013

كتاب المذاهب الأخلاقية الكبرى : (2)




الإنشقاقات الأخلاقية


يتم هذا العرض الموجز للأخلاق القديمة بذكر الصوفية الأخلاقية الإسكندرانية
(نسبه إلى الإسكندرية ) التي لم ينقصها في الواقع إلا "التنظيم الكهنوتي" كيما
تشكل دينا اصيلا ( واستخدمت من قِبل جوليان المرتد مثلا لمحاربة
انتشار المسيحية )

بيد أن العرض لا يكتمل بذلك اذ ينقصه الأبيقورية أولا , وهي مذهب موغل
في الصوفية دون ريب ولكن انكاره لكل ماهو "علوي" يحتم اعتباره ضمن
المذاهب الطبيعية , وينقص اذن بالتذكير البسيط بالموقف "الكلبي" المستند
إلى تبرير للجهد وللزهد ’ لكن المفارقات التي غالى بها انصار هذا الموقف
( ديوجين الشهير حوالي 350ق. م ) حين اعتبروا احتقار الثراء مثلا كدعوة
للتسول احاطته بسمعة مزيفة على انه "لا اخلاقية"

ولنذكر ايضا موقف "السفسطائيين" المعاصرين لسقراط الذى يعتقدون
بوجود عقل في الكون دون ريب , لكنه عقل ذو قاعدة وحيدة هي سيطرة
القوي على الضعيف , فليست "الأخلاق" التقليدية بالتالي ( وكذلك كل
مؤسسة انسانية اخرى ) سوى اتفاق وضعي يهدف إلى منفعة
هي الحفاظ على التوازن الإجتماعي .

وهناك النظرة الشكاكة التي استنها "بيرون" (حوالي 300 ق .م) منطلقا
من مفهوم اعتبار الكون "وهما" مستغلقا على العقل , فإستنتج مثلا اعلى
يقوم على اللا انفعال واللامبالاة بالأهواء والرغبات .

وكل هذه نظرات ليست "علوية" بالمعنى الصحيح ولكنها تستند على
أي حال إلى "قبليات"عقلانية اكثر من استنادها إلى دراسة علمية
وتجريبية للطبيعة .


2- الأزمنة الحديثة


أ- مونتاني وباسكال 


اذا لم نشأ النظر إلا إلى المذاهب التي لا يزال تأثيرها محسوسا حتى اليوم
فليس هناك من في أن نتاج "مونتاني" هو الذى افتتح التامل الأخلاقي
"العلماني" في العصور الحديثة وهذا النتاج يبعث على التوجس للوهلة
الأولى , اذ اننا نرى الوجه الذى يظهر فيه "مونتاني" يختلف اختلافا كبيرا
عبر جميع صفحات كتابه "الأبحاث" , فهو رواقي احيانا ( يستلهم
"إيبيكتيت" و"سينيك" بشكل ) ويحتقر الألم والموت و بيروني
" نسبه إلى بيرون" احيانا اخرى في مؤلفه المشهور "تبرير ريمون دي سيبوند"
الذى يندد فيه دون أسانيد بعجز ملكاتنا وبطلان معارفنا المزعومة مع عجرفتها
ويبدو لنا تارة أبيقوريا معتدلا قاعدته الوحيدة أن يقطف جميع الورود الموجودة
في متناول اليد ثم يبدو اخيرا محافظا براغماتيا - مشمئزا من الجدة مهما كان
الوجه الذى تحمله - , يؤمن بالسنه الموروثة وب "الأسلوب العام"

بيد أن هذا التنوع لديه ليس إلا ظاهريا يخفي ورائه في الواقع قناعة راسخة :
فهناك نظام طبيعي لا ريب في أنه من مشيئة الله - على الرغم من أن مسيحية
مونتاني مستترة فلا مجال للشك فيها - , ويوجد لهذا النظام اسباب عميقة كما
أن له غايات إلهية اما عقلنا المعرض للخطأ فلن يتمكن ابدا من معرفة أي شيء
بصورة اكيدة ويجب بإسم التسائل القطعي (ماذا اعرف ؟) ادانة الملحدين , ولكن
ايضا ادانة المتعصبين والمصححين من كل نوع , كما تتحتم بإسم نفس هذا
التساؤل ايضا القاعدة الأخلاقية الوحيدة "الإستسلام للطبيعة"كما خلقها الله مع
احترام تلك المقاييس الإجتماعية والسياسية إلخ - التي يبرهن قدمها على
صحتها وبالتالي الإفادة بكل الإرتياح من جميع المسرات والخيرات التي
تستطيع هذه الحياة تقديمها لنا , والهرب من القسر والإحتراس من تلك
العواطف اللاطبيعية كالتعطش إلى الثراءوعدم الثورة ضد الموت والألم لأنهما ضرورتين طبيعيتين ( وهذا هو المظهر الرواقي لفكر مونتاني ) .

لا ريب اذن في ان هذه الأخلاق تنتمي - بأساسها الخفي إلى زمرة الأخلاق العلوية
ولكنها من التحفظ وبهجة الطابع بحيث لا يمكن اعتبارها إلا كمجموعة مبادئ
تخص "الرجل الصالح "ذا التطلع المحدود بعض الشيء أو كفن سطحي
- لمعرفة كيفية الإستمتاع شرعا بوجودنا - وقد جرى التقليد على التقريب
بين إسم باسكال وإسم مونتاني الذى كان مصدر وحي كبير بالنسبة إليه ولكن
باسكال ليس في الواقع ذا مذهب اخلاقي وليس حتى فيلسوفا بل هو عالم
ومترافع عن الدين المسيحي , ولا يمكن تسميته "اخلاقيا" إلا من حيث كونه
رساما للأخلاق الممارسة , أو بصورة ادق لما يسمى اليوم ب "الوضع البشري"
وفي الواقع فقد اقتبس من هذه الناحية الكثير من "الأبحاث" - كتاب مونتاني - على
انه اسبغ عليها طابعا تشاؤميا بهدف الإمعان في ابراز ضعف الإنسان وقابليته
للعطب , فمخيلة الإنسان تخدعه باستمرار وهو حبيس متطلبات التلاؤم من كل
نوع , ويعجز عن الحكم على نفسه بنفسه , كما انه عبد لاهوائه "الترفيه" التي
يحاول عن طريقها الهرب من ذاته .

ولكن باسكال يضيف قائلا إن مونتاني قد حط كثيرا من الإنسان كما بالغ الرواقيون
وديكارت في المقابل بتقدير عقله , اما الإنسان الأصيل فهو مركب غريب من
البؤس والعظمة ولا يستطيع تفسيره سوى المذهب المسيحي وحده الذى يكشف
فيه عن الكائن الذى اسقطته الخطيئة ولكنه مع ذلك "ينتج من اجل اللانهاية".

وليس ما يتفرد به باسكال استنتاجه "اللاهوتي" ولكن بالأحرى طرائقه التي يبغي بواسطتها اقناع قارئه , وذلك على سبيل كمبدئه الذى ينص على أن لكل مجال
منهج خاص به , وبالتاليفإنه يجب على العقل المتفوق القوة في مجال الرياضيات
أن يخضع في مجال اللاهوت إلى سلطة السُنه الموروثه أو تلك الفكرة "العميقة"
التي قوامها أن ارادة الإيمان تقود إلى الإيمان اذ لا يمكن في الغالب الإنضمام إلى
مذهب إلا عن طريق الأفعال حتى غير الصادقة منها فيالبدء فهي التي تولد دونما   شعور -القناعة ووحدة السلوك .

وهناك على سبيل المثال ايضا تمييزه الأساسي بين "الرتب الثلاث" " جميع
الأجسام لا تساوي اضأل روح من الأرواح ... وجميع الأجسام والأرواح معا
لا تساوي اضأل بادرة احسان " ولعل هذا التميز يشكل اليوم اكثر من أي
وقت آخر أوقع تعبير عن ماهية أية اخلاقية .



ب - ديكارت

كان ديكارت ميتافيزيائيا عظيم الطاقة ولكنه لم يكن اخلاقيا مجددا , وذلك على
الأقل فيما يتعلق بقواعد الحياة التي اقترحها علينا والتي نجدها معروضة في
(مقالة المنهج التي وضعها عام1637) فهذه القواعد مزيج من البراغماتية التقليدية
( اطاعة قوانين واعراف بلادي ... إلخ) والوحي الرواقي ( الثبات في الآراء
ما أن يتم تبنيها وحتى لو لم تكن مؤكدة بشكل كامل [ أن احاول دائما تغيير
رغباتي بالاحرى عوضا عن تغيير نظام العالم] )
غير أن هذه القواعد لم تتصد لأن تكون اكثر من اقؤال اخلاقية ميتة بإنتظار
الأخلاق النهائية التي كان ديكارت يأمل استنتاجها من علمه ومن ميتافيزيائه
بعد اكتمالها , ولكن هذه الأخلاق التتويجية ( التي لم يتح له سوى رسم خطوطها
البدائية في مراسلاته وفي كتاب الأهواء) تلتقي بشكل متطابق تقريبا مع تعاليم
"مقالة المنهج" سوى انها تستند في هذه المرة إلى مفهوم عقلي عن الإنسان .
من المعلوم أن الإنسان يبدو لديكارت مؤلفا من "آله" حياتية- بيولوجية - ومن
"جوهر مفكر" منفعل بالنسبة لبعض وظائفه ( الهواء , الإحساسات , ...... )
ولكنه فاعل من حيث كونه ارادة ( قدرة لا متناهية على اعطاء أو رفض تحبيذنا)
ويسود بين هذه "الروح" وذلك الجسد تفاعل مستمر أو "وحدة" شاملة إلا انها   مستعصية بشكل عميق على الإدراك.

وبنتيجة ذلك فإن الأخلاق , وهي ليست فن القضاء على "الأهواء" كالإعجاب
والحب والحقد , بل فن استخدامها لجل تدعيم الأفكار والسلوكيات الملائمة للفرد
تجد نفسهاأي الأخلاق أمام طريقين :

- التاثير على "الأهواء" عن طريق الجسد (نظرا لوجود تفاعل) وهذا مصدر
الأهمية الأخلاقية للطب.

- التأثير عليها عن طريق الإرادة [ " فإما أن تركز هذه اهتمام العقل على
الأشياء المغايرة لتلك التي تولد الأهواء التي ينبغي القضاء عليها , أو أن تجعل
الجسد يتخذ مواقف تتنافر مع الهوى السيء , أو أن تفيد من تداعي الأفكار
لكي تحمل الهوى على تغيير موضوعه" كما قال "برييه" ] , فتكون هذه
الممارسة الحرة للإرادة في الواقع انقى الينابيع طراً "للإكتفاء" شريطة أن تتم
الممارسة وفقا "للعقل"... هذا العقل الذى يجب تعريفه ( وهذه بالطبع مسَلمة
ديكارتية) بأنه : اتجاه نحو وعي يزداد وضوحا بإستمرار للمحل الذى يشغله
الفرد في "الكل" ( الوطن , الإنسانية , الكون , الإله ) ونحو عاطفة حب وطاعة
للنظام الإلهي تزداد عقلانية بإستمرار , وهذا مصدر سلوك "الكرم" ( بحسب
تعبير ديكارت ) الذى يقوم على هجر كل مصلحة شخصية والخضوع الفعال
بحبور "للعلوية الكاملة" التي يتوقف عليها العالم بأجمعه , ويتفق ذلك فعليا
ولكن بصورة عقلانية هذه المرة مع وجهة نظر الرواقية ومفهوم " التقبل" لديها.


ج - مالبرانش



مالبرانش الأوراتوري ( نسبة إلى سلك الرهبنة الأوراتوري) وتلميذ ديكارت , اراد
في كتاب "بحث في الأخلاق" عام 1684 إكمال اخلاقية ديكارت عن طريق
البرهان على صحة مسلمته القائلة بوجود "استعمال حسن" للإرادة .

ترتبط اخلاق مالبرانش كل الإرتباط بمجموع فلسفته المتمحورة حول فكرة أن توقفنا على الله (توقف كلي شامل) وهكذا - بحسب مالبرانش - فإنه عندما (تعتقد) ملكة
الفهم لدينا أن لديها تمثلات عقلية فالواقع أن الله هو الذى يؤثر فينا بواسطة عقله
الخالد .

وعلى غرار ذلك حين يحثنا "ميلنا" في الظاهر على القيام بتصرف فاضل فإن
الله هو من جعلنا بتماس مع ارادته الإخلاقية أي مع ذلك النظام من الحقائق
الأخلاقية الذى يسود في روحه متناظرا مع تسلسل من الحقائق العقلانية, ونتيجة
ذلك أن كون المرء فاضلا يعني خضوعه لها النظام , دون أن يكون هذا الخضوع
ناجما عن طاعه بسيطة فحسب (لأنه ليس في طاقتنا في الواقع أن نقاوم الله بأي
صورة من الصور) ولكنه ناجم عن حب .

وما يعنيه حب النظام هو أن نوجه تصرفنا تبعا (لإعتبار واحد فقط) هو الرتبة
النسبية من الكمال التي منحها الله للمخلوقات ( فذلك الذى يقدر حصانه اكثر من
حوذيه أو يعتقد أن حجرا اجدر بالإعتبار من ذبابة) يرتكب إثما بحق النظام
وينحدر إلى هوة الشر .


تلك هي القاعدة الوحيدة التي يجب أن توجه الفاعلية العملية , فمن الواجب
الخضوع للأمير على سبيل المثال لأنه التقمص الأعلى في الأرض للجلالة
الإلهية- وذلك طالما كان الأمير ذاته خاضعا لها - كما أن من الواجب بذل
المودة والإحترام للناس على أن يكون ذلك بصورة متناسبة مع جدارتهم
(الحقيقية) , أي درجة مشاركتهم في الإله ( وهذا يعني بالتالي أن المبشر
المتواضع يستحق التقدير اكثر من عالم كبير ) .

ولكن ذلك لم يكن ميسورا إلا قبل الخطيئة الأصلية التي زيفت كل شيء
أما الآن فإن "ميلنا" (الذى كان مستقيما دوما فيما سبق) معرض للإنحراف
وليس معنى ذلك أن هذا الميل يستطيع فعلا معارضة الله , ولكنه يستطيع عدم
المشاركة تماما في ارادة الله الأخلاقية أو التوقف لدى الخيرات الجزئية
والأنانية

أما الفضيلة فتتضمن جهدا في التأمل العقلاني ( قد يكون مستحيلا بمعزل عن
اللطف الإلهي) هو الواسطة التي نصل عن طريقها عبر الظلام المخيم علينا
إلى أن نلمح مجددا نظام الكمالات الثابت .