07‏/06‏/2013

الله والإنسان في القرآن (علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم )



عرض ياسين رفاعية


تقدم لنا المنظمة العربية للترجمة كتاب توشيهيكو ايزوتسو "الله والانسان
في القرآن ـ علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم" ترجمه الى العربية د. هلال محمد
الجهاد، والمؤلف واحد من أشهر الباحثين اليابانيين المعاصرين، تغطي اهتماماته 

مساحة معرفية واسعة تنطلق من علم اللغة الحديث وعلم الدلالة، لتقترب من
الاسلام ديناً وفكراً وثقافة وتتعمق من ثم، في التراث الروحي والحضاري
للاسلام وللأديان والثقافات الشرقية.

وفي البدء... لا بد من شكر هذه المنظمة التي تترجم لنا هذه الكتب عن لغات
أخرى لندرك عظمة تراثنا وحضارتنا وانتمائنا الى الاسلام العظيم، ونلمح
هنا ما امتاز به مؤلف الكتاب في موقفه الموضوعي من الاسلام وتفاعله الحي
معه، ويتمثل منهج هذه الدراسة في علم الدلالة الذي يعد واحداً من أهم مجالات
علم اللغة الحديث وأكثرها خصوبة وتعقيداً ومما يؤسف له ان الثقافة العربية
الحديثة لم تبد تفهماً حقيقياً ومتعمقاً لهذا الفرع الخصب من علم اللغة، وكان
اهتمامها به مؤقتاً. فتم اهماله او تجاهله. والتوجه الى ما هو اكثر حداثة من
مجالات علم اللغة، ومنهجياته وبالاهتمام السطحي والمؤقت نفسه. لكن قراءة
هذا الكتاب تكشف عن أن فهمنا علم الدلالة كان مبتسراً ومتسرعاً. أدى الى ندرة الدراسات الدلالية الجادة والمتعمقة، وربما بالامكان القول إن الفهم الناقص
جعلنا نعجز على تطوير علم الدلالة وممارسته والافادة منه على نحو مثمر
في استكشاف منجزات ثقافتنا وتحليلها وبنائها. والسبب في ذلك ـ كما هو السبب
دائماً في الحالات المشابهة ـ ان أغلب الذين قاموا بنقل هذا العلم من الباحثين 

والمترجمين ركزوا على ادبياته النظرية البحتة التي يصعب فهمها واستيعابها
دون تطبيق، فضلاً عن عرضهم او تطبيقهم هذه الأدبيات غالباً، بشكل سطحي
ومعقد يزيدها صعوبة.

ويحثنا الكاتب هنا، على عدم تجاهل العمق الفلسفي للمنهجيات او اختزالها
بصورة تخل بأبعادها النظرية والتطبيقية. ذلك ان التبسيط يعكس في كثير
من الأحيان فهماً عميقاً واسعاً وقدرة متفوقة على تطويع النظرية للممارسة
البناءة الخصبة، ولا شك في ان هذا ما ينقص باحثينا في الغالب.

اللغة
وتشكل أهمية هذا الكتاب في انه يتجسد في رؤيته ونتائجه، فهو يكشف لنا عن
مدى أهمية اللغة في حياة البشر ودورها الحاسم في تشكيل رؤية الانسان
لعالمه من خلال اعادة تنظيم المفاهيم (القديمة والمستحدثة) وادخالها في انساق
وعلاقات ذات مستويات معقدة ومتداخلة تشكل نظاماً داخلياً ذا طبيعة مختلفة كلياً
عن النظام الذي كانت المفاهيم تتخذه سابقاً. ويترتب على ذلك فهم جديد للعالم
ودور جديد للانسان فيه. ان ميزة هذه الدراسة تجعلنا نكتشف القرآن من وجهة
نظر جديدة. وكأننا نراه لأول مرة، وتعلمنا قراء ومسلمين ان ننفصل قليلاً عنه
لنراه ونعرفه من جديد معرفة علمية بالمعنى الدقيق لهذا الوصف، وهذا ممكن
دائماً. ما عودنا أنفسنا على تغيير زوايا نظرنا الى القرآن، وتنويعها واعتماد
مناهج علمية متنوعة، والقرآن نفسه يتيح لنا ذلك، من حيث انه نص لا يمكن
استنفاد ماهيته، نص يمتاز بتعدد مستويات المعنى وتشابك علاقاته، ولا يكف
عن التدلال مطلقاً لأن قراءتنا له لن تتوقف.

يشير مترجم الكتاب ان من مميزات هذا الكتاب انه مكتوب بلغة سهلة.
وذو اسلوب مبسط يبتعد عن التعقيد، بشكل عام، ولعل السبب في ذلك حرص
المؤلف على عرض افكاره بأوضح طريقة ممكنة.وهذا ما سهل عليه ترجمته
وقد اعتمد المترجم في ترجمته الطبعة الأولى التي صدرت سنة 1964 عن
معهد كيو للدراسات الثقافية واللغوية. غير انه عدل عنها الى طبعة سنة 2002
التي صدرت في ماليزيا. ولكنه رأى ان الفروق بسيطة، وتضمنت الطبعة
الأخيرة مراجعة للكتاب بقلم فضل الرحمن، ترجمها ايضاً لما تضمنته من
وجهة نظر نقدية لباحث اسلامي معروف في الغرب أكثر بكثير مما لدينا.
وتلقي ضوءاً ساطعاً على بعض نجاحات ايزوتسو واخفاقاته.

اما ما جاء في مراجعة فضل الرحمن، فتشير الى انه منذ البداية اعطانا
د. ايزوتسو فكرته عن علم اللغة او علم الدلالة، التي تمنى من خلالها ان
يفهم القرآن "علم الدلالة كما أفهمه دراسة تحليلية للمصطلحات المفتاحية
الخاصة بلغة ما تتطلع للوصول في النهاية الى ادراك مفهومي لـ"الرؤية
للعالم" الخاصة بالناس الذين يستعملون تلك اللغة...".


مفاهيم مفتاحية

ان دراسة دلالية للقرآن ستكون لها دراسة تحليلية للمفاهيم المفتاحية في
القرآن، اذ يوضح د. ايزوتسو مراراً انه لا يعني بدراسة المفاهيم المفتاحية
مجرد تحليل آلي فقط لهذه المصطلحات او المفاهيم، معزولة او من حيث
هي وحدات جامدة.، بل الأهم فوق ذلك، ان يتضمن حياتها ومعناها السياقي
كما تم استعمالها في القرآن، من هنا، وعلى الرغم من ان المصطلح "الله"
كان مستعملاً عند العرب قبل الاسلام. ليس فقط كإله بين الآلهة، بل حتى كإله
اعلى في تراتبية الآلهة، فان القرآن احدث تغييراً جوهرياً بالغاً في رؤية
العرب للعالم. تحديداً عن طريق تغيير الاستعمال السياقي لهذا المصطلح،
بتحميله معنى جديداً، وذلك باستبعاد كل الآلهة وجلب مفهوم الله الى مركز
ايجادها أنفسها، على المرء أن يعلم قبل كل شيء البنية الاساسية لعالم الأفكار
القرآنية كلها، ان محاولة وصف هذه البنية الاساسية للكل الموحد قد تمت في
الفصل الثالث لان الموقع الخاص بكل حقل مفهوم مستقل، سواء اكان كبيراً
أو صغيراً، لن يكون محدداً بشكل دقيق الا بالعلاقات المعقدة التي يعطيها كل
الحقول الرئيسية بعضها لبعض، ضمن الكل الموحد.

بهذا نحن نقترب من المعضلة الاساسية لمنهجية الدكتور ايزوتسو الدلالية.
إن المصطلحات المفتاحية التي يفترض بها أن تنتج فهماً للنظام ككل إن
فُهمت ـ (إذ يؤكد الدكتور إيزوتسو لنا أن "المصطلحات المفتاحية تحدد النظام")
ـ لا يمكنها أنفسها أن تكون مفهومة أو حتى أن تقر، من دون معرفة مسبقة بذلك
النظام. هذا ما يسمى بالدور= الحلقة المفرغة، ليس ثمة ما هو دور على نحو
أساسي في المنهج (الذي هو بالتأكيد منهج شائع)، فأفضل طريقة لفهم نظام ما هي
دراسة ذلك النظام (الذي في هذه الحالة هو الرؤية القرآنية للعالم) ككل وتركيز
الاهتمام على مفاهيمه المهمة، إنني لهذا، يجب أن أشك في أن الدورية هي نتيجة
الرغبة في جعل علم الدلالة علماً وجعل الادعاءات المتسمة بالمبالغة تنوب عنه.

شكلية
لكن، من وجهة النظر الإسلامية، هذا الأمر هو مجرد صعوبة شكلية، وسوف
نرى الآن وشيكاً أن ما يؤلف البنية الجوهرية لهذه التعاليم القرآنية بالنسبة الى
الدكتور إيزوتسو. هذه التعاليم التي يكشف عنها مؤلفنا، هي في المقام الأول علاقة رباعية الوجوه بين الله والإنسان، أي: أ. الله هو خالق الإنسان. ب. إنه يوصل
إرادته الى الإنسان من خلال الوحي. ج. إن ذلك ينطوي على علاقة الرب ـ العبد
بين الله والإنسان، ود. مفهوم الرب بوصفه رب الخير والرحمة (لأولئك الذين
يشكرونه) ورب العذاب (لأولئك الذين يرفضونه). والمؤمنون في هذه العلاقة
الرباعية بين الله والإنسان يؤلفون جماعة "أمة مسلمة" بأنفسهم ويؤمنون باليوم
الاخر والجنة والنار. إن وصف الدكتور إيزوتسو النشوء التاريخي لهذه المفاهيم
في الجزيرة العربية قبل الإسلام صعوداً حتى ظهور الإسلام غني وقيم للغاية.
والسؤال الرئيسي هو عمّا إذا كانت البنية الأساسية للرؤية القرآنية للعالم، كما
وصفها الدكتور إيزوتسو، متفقة حقاً وبشكل تام مع التعاليم القرآنية؟ لا يملك
المرء إلا أن يفكر في أن المؤلف قد كيّف بعناية وموضوعية بالغة هذه "البنية
الأساسية" لتطابق ما قرره هو نفسه أن يكون "مفاهيم مفتاحية" للقرآن، وهو
ربما قد كشف بذلك على نحو شبه واع عن نظائر من رؤيته الدينية الشخصية
للعالم في القرآن، وإلا كيف نفسر حقيقة أن العنصر الأخلاقي في الصورة الكلية
غائب تماماً؟

يقتبس د. إيزوتسو مصادقاً من البروفسور السير هاملتون غب ليبين أن الفرق
الرئيسي بين أوصاف أمية بن أبي الصلت للجنة والنار وبين القرآن أنها في
القرآن "مرتبطة بالجوهر الأساسي للتعاليم". ولكن من الواضح أن د. إيزوتسو
لا يدرك المعاني الضمنية لعبارة غب، لأنه هو نفسه، يتجاهل تماماً الحقل
الأخلاقي. وكأنه لا يشكل جزءاً من "البنية الأساسية للرؤية القرآنية للعالم"
وفي الحقيقة، فإن د. إيزوتسو بينما يتكلم عن "العلاقة الأخلاقية" بين الله
والإنسان، يربط أفكار الخلاص والخطيئة بالإيمان الشخصي الصرف.
قد يطرح المرء سؤالاً عاماً عن إمكانية تأسيس علاقة أخلاقية بحصر المعنى
بين الله والإنسان، إطلاقاً. بكلام دقيق، إن بإمكان المرء أن يتخذ فقط موقفاً
تقديسياً تجاه الله، وليس موقفاً أخلاقياً أو أدبياً يمكنه أن يتخذه فقط تجاه الناس
الآخرين. لا يمكن للمرء أن يكون طيّباً مع الله بل مع الناس أيضاً. من هنا، وفي
ما يتعلق برؤية عالم كالتي لإيزوتسو، ذات علاقات الله ـ الانسان، ويمكن أن
تتأسس بذاتها، فإن التعاليم القرآنية على الضد من ذلك مباشرة، وبعيدة عن أن
تكون موصوفة على نحو ملائم بواسطة تلك الرؤية للعالم. ذلك أن هدف القرآن
الرئيسي هو خلق نظام اجتماعي أخلاقي، مثبت واقعياً في سيرورة وهي القرآن
إذا درس المرء تاريخياً التحديات الواقعية التي جابه بها الرسول المجتمع المكي
منذ البداية، ولم تكن هذه التحديات موجهة فقط لمقر آلهة المكيين عند الكعبة، بل
الى بنيتهم الاجتماعية ـ الاقتصادية أيضاً، وهذا يظهر تفوق المقاربة التاريخية
على مقاربة علم الدلالة الصرف.

ويشير فضل الرحمن بشكل رائع وصادق ومفهومه العظيم للإسلام،الى أن ثمة
مشكلة واحدة وكبيرة مع مفهوم د. إيزوتسو للتعاليم القرآنية حول علاقة
الله ـ الإنسان، وهي أنه لم يأخذ بالحسبان البيئة المكية. وبالنسبة إليه، ليس ثمة
فرق بين البدوي والمكي في عصر الرسول.
كان البدوي متعجرفاً، متكبراً، مسرفاً، متبجحاً يتجاوز أي وعي خاص بالتحفظ.
كان شديد التنبه الى احترام ذاته المستقلة وتحكمه خاصيته "الجهل"
(ضد "الحلم") لهذا، فإن وظيفة الإسلام تمثلت بالنسبة إليه ـ قبل كل شيء ـ بإذلال عجرفته هذه وشعوره اللامحدود بكبريائه. وقد تحقق هذا على نحو مؤثر بواسطة تصحيح فكرة عن الله، هي قبل كل شيء مخيفة وتثير الرعب، لكن الحقيقة هي أن مخاطبي القرآن المباشرين كانوا المكيين ـ على وجه أخص ـ فئاتهم التجارية
الغنية. هؤلاء الناس لم يروا أي كابح لتكديس الروة، لم يدركوا أي التزام تجاه
مواطنيهم الأقل حظاً، معتبرين أنفسهم مكتفين ذاتياً (مستغنين)، أي أن القانون
وجّه إليهم، وإليهم وجه القرآن تحدّيه الأول وطلب منهم أن يدركوا الحدود على
(حقوقهم الطبيعية). ولم يدعم القرآن طلبه بلاهوت ذي تعاليم عن الجنة والنار
إلا بعد أن رفضوا التحدي.

معالجة الدكتور إيزوتسو قضية الوحي أو التواصل اللفظي من الله جيدة وشاملة.
وختاماً، التأكيد على حقيقة أن هذا الكتاب كتبه باحث آسيوي جاد غير مسلم
وياباني. وبما أن الأمر كذلك نأمل أنه سيكون رائداً لتلقيد متطور للبحوث
الإسلامية في الشرق الأقصى.

الكتاب: الله والإنسان في القرآن
المؤلف: توشيهيكو ايزوتسو
ترجمة: د. هلال محمد الجهاد
الناشر: المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2007