27‏/09‏/2013

الحق في قتل الجسد: الزومبي جسد/نص ما بعد كولونيالي



عن موقع : جدلية 
عبد البياري

الجسدُ البَشري يُشحنُ بدلالاتٍ متغيرةٍ وغَير مستقرةٍ، على مَدى تاريخِه
في جَانِبيه المُطلق/ المَعنوي والنِسبي/ المَادي؛ كَما في دلالةِ زمنيةِ أَكل
التُفاحةِ من شجرةِ المَعرفة.وبالتَالي فَالنتيجةُ منذُ تِلك اللحظةِ الوجوديةِ
الهًامة والمُعبرة في الوَعي الإِنساني أَنتجت الحاجة لـ"ترويض الجسد
الإنساني" –في اللغةِ والخطابِ والمادةِ-، وبَاتَ ذلكَ "الترويضُ" أَساسياً
فِي الحفاظِ على المُواجهاتِ وبينةِ الأَدوار الإجتماعيةِ والعلاقاتِ الإجتماعية
وعَلاقاتِ القُوى والسيطرة، بل وحتى إنتاج المعرفة (أنظر دور الجسد في
زمنية دفن قابيل لهابيل، و"الحجاب" وتحويراته في الأديان التوحيدية
وطقوس القرابين في الأديان الوضعية والثقافات البدائية،وطهارة الجسد
في الطقوس التعبدية، وكلها تمظهرات لـ"ترويض الجسد")، بِإعتِبار
الجَسد يتوَّسط العَلاقةَ بين هُوية الفردِ الذَاتية بمختلفِ تمظهراتها والهُوية
الإجتمَاعية من نَاحية، ومابينَ الذات/الأَنا والهُوية الفَردية بمختلف
صِراعاتها، من ناحيةٍ أُخرى.
الجَسد هُو "حَامل" للقِيمة (فَردياً ومُجتمعياً)، حيثُ تُدمج تِلكَ القِيمة فِي تَحليلِ الجَسد كَظاهرةٍ مَاديةٍ تُشكل وتَتشَكل بِفعلِ قُوى المُجتمع وآَليات الخِطاب. وَلذا فَمع الحَداثة والثَورةِ الصِناعية حَدث تغَيير في هَدف الخِطاب (بِاعتبار "الخطاب" فِئة مِن المَباديء التَحتِية المُستبطَّنة، المُدمَجة في شَبكةِ دلالاتٍ تُؤسسُ وتُنتجُ وتُكرس و/ أو تُضعفُ العَلاقات بين القَول والفِعل أوالفِكرةِ والإِنتاجِ أوالذَاتِ و المَوضُوع). حيثُ أَفسحَ الجَسدُ المُكون مِن لحمٍ ودمٍ الطريقَ أَمامَ العَقلِ بوَصفه مَركز الإِنشغالِ والإهتمامِ الحَداثي الأَسمى. (أنظر عمليات نقلِ الأَعضاء وزِراعتها والإِستِنساخ والهَندسةِ الوِراثيةِ و غَيرها). وعليه باتَ الجَسدُ الإِنساني مُعرضاً بِشكلٍ أَكثرَ تَكثفًا للعُنفِ الحَداثيِ، إذ لا تَبدأُ صِناعةُ العُنف بالتَسميةِ، وإِنما تَتكاثفُ بمُمارساتِ التَصنيف، التِي تَحتوي "التسميةَ" كفرعٍ مِنها. فَالعُنف –صِناعةً و مُمارسةً- هُو فِي أَساسِ كلِ نظامٍ إجتماعيٍ، أَي أَنهُ فِي أَساسِ كُل إسمٍ، والمَجازُ الأَساسيُ المُكون للعُنفِ، كَمُحاولةٍ أَدّاتيةٍ لفَرضِ "النِظام" يَحتوي حَالتَينِ كَيانيَتينِ:

الأُولى أَن المَجموعات البَشرية المُختلفة تَعيش حَالةً ماقَبل إِجتماعية، أو كَما إصطُلحَ على تَسمِيته (حالةً طبيعيةً)، يَجب نَقلُها إلى الحَالةِ الثانيةِ وهِي الحَالة الإِجتماعية. وَفي الانتِقالِ بينَ الكَيانِينِ جَرى تَرتيبُ الوُجودِ كَكلٍ، مِن خلالِ هَندسةٍ حديةٍ لثُنائيةٍ أنيقةٍ تُعيدُ صِياغةَ الوُجودِ الإِنسانيِ فِي مُعسكَرينِّ غيرِ قَابلينِ للتَعايشُ المُتشاركِ (إما/ أو)، فبَاتت الحَالةُ الأُولى (الطَبيعِية) بشِقَيها الفَردِي والجَمعِي تُفهم كحَالةِ عُنفٍ، وبالتَالي وَلكي تَتوائم تِلك الحالةُ مَع ما هُو "أَرقى حضاريًا" (!)، بَات توجيهُ العُنفِ واستحواذِه بِأشكالهِ المُمأسسة والدلالية ضَرورياً لِحمايةِ "قداسة المُجتمع".
فَنجدُ أَن المُقدسَ الحدَاثِي قد أَعادَ إِنتاجَ نَفسِه في العَديدِ منَ الصُورِ، بهندسةٍ ذاتيةٍ، وأُخرى مُقابلةٍ للآخر المُدنس. فَأزاحَ ذَاتهُ مِن نطاقِ الدِينيِ إلى الحَيزِ الإِجتمَاعي (أنظر مثالاً لتَغيرِ لونِ بَشرةِ السَيدِ المَسيح فيِ أِفريقِيا)، ذلكَ الحَيز الإِجتمَاعِي المُكوِن لعَلاقَاتِ الإِنتاج والمِلكيةِ الخَاصة والمُتكَون من خِلالِهما، فنرَى أَن إنشاءَ المَصانعِ جَرى محايِثاً لإِنشاءِ دُورِ صِناعةِ العُنفِ والمُقدس. (أُنظر كَيفَ استغلَ الإِسبان "المُقدس" في ثَقافات حَضاراتِ أَمريكا اللاَتيِنية لتقديمِ الرَجُلِ الأَبيض وكَأنهُ بشعره الأصفر المشابه لأشعةِ الشَمسِ، وعَيناهُ الزَرقاوانِ المُشابَهان للون المَوجِ، ابنُ إلهِ الشَمس/ رَسولُ الشَمسِ، ليُبررَ نهبَ ثرواتِ تِلكَ الشُعوبِ وأَيديها العاملة لصَالحِ إِسبانيا).

الزومبي:

فِي أَكثرِ الصُور تَعبيرًا عن وَضعيةِ الجَسدِ الإِنساني فِي العَلاقةِ الإِجتماعيةِ العُنفية وعَلاقات القُوى النَاتجةِ من تَلاقحِ الإِجتماعِي والمُقدس، يَظهرُ لَنا "الزُومبِي" مِثالًا شَارحًا، بِما يُؤسسُ لَه مِن "حَقِ قَتل الجسد/إِلغاؤُه". وَهيَ المرحلةُ الأَعلى مِن آلياتِ السَيطرةِ الحَداثيةِ: الهَندسةِ والرَقابةِ والعِقابِ – بالمنطقِ الفُوكوي - عَلى الجَسد، بِما يُحققُ مَقولة جوديث باتلر: "لا جَسد لا سِياسة".

إذ يَتم تَوظيفُ فِكرة "الزُومبي" في الثَقافةِ المُعولمةِ ضِمنَ ما أَسماهُ الراحِل إِدوارد سَعيد "إرثْ الرَجل الأَبيض" وواجبه التَخليصي – نسبة لفكرة "المُخلص" - اِتجَاه الحَضارةِ الإِنسانيةِ كَكل. وَهُو ما أُريد له أن يَكونَ المَعنى الظَاهر للخِطاب، في حِين أَن ذَلك التوظِيف يُغفل مُتقصدًا تارِيخَانية الجَسدِ الزُومبيي، وبالتَالي يَضمن عَملية "غسيلٍ بيضاءَ" لجَرائمِ الرَجُلِ الأَبيض الحدّاثية الإِستعمَارية، وهُو ما يَستدعي إِضاءاتٍ على الزُومبي/ الجسد كَنصٍ تَاريخِيٍ مَابعد كُولونيالي.

يتمُ تَقديم "الزومبي" باِعتبارهِ "جِسدًا ماديًا خاليًا منَ الروحٍ والعقلٍ"، وبالتَالي فَهو كيانٌ بيولوجيٌ لا يَحوزُ عَقلاً بالمَفهومِ الإِجتماعيِ. لذا، فغيابُ ذَلكَ العقلِ، وعدمِ قُدرته على تَحليلِ المُؤثر الخارِجي بِشكلٍ أكبرَ مِن الإِستجابةِ الجَسديةِ المُوجهةِ للقتلِ، يجعلُ من ذلكَ "الجسدِ" جَسداً "غيرَ معقلنٍ" (إذ لا يحوزُ على "وعيٍ ذاتيٍ"، نظرًا لحَركتِه الغيرِ مدركةٍ لذاتِها وكميةِ التَشوهِ الوَاقعِ عَليهِ دونَما أي تأثر. ولا "مقصدٍ" إذ أن وُجودَه وجودٌ سلبيٌ فقط، ولا "لغةً"، فَهو لا يَتفهمُ أيَّ محاولةٍ لغويةٍ – بالمنطق السيميولوجي حتى! - للتَواصلِ مَعه) أي أنه "جَسدٌ بهيمي". مما يُسقطُ عنه قِيميَّته الأَكثر بدائيةً: المادية الجَسدية، بالمَنطقِ التَطوري الدَاروِيني – على الأَقل - ويَجعل قَتلهُ فعلًا مُبرراً ومَشروعاً مَهما كانت عَمليةُ القتلِ في ذَاتِها دَمويةً، ومهما كانَ عددُ القَتلى.
"الزُومبي" كمُصطلح/ مُسمى – وتلكَ تَسمية لَيسَت عَربية ولم تُعَّرْب، بَعد - يَعودُ إلى فَترةِ الإِستعمار الكُولونيالي الفَرنسي فِي هَايتي، إبان القَرنِ الـ17-18، حَيثُ كَانت زِراعةُ السُكر قَائمةً على "العَبيد" مِن السُكانِ الأصلييِن، الذِينَ كَانوا يَذوقونَ سُوءَ المُعاملةِ والِاستغلالِ الجَسدي والتَعذيبِ والقَمع لاستغلالهم ضِمنَ تِجارة الرَجلِ الأَبيض. فَكانَ مِن المَنطقيِ أَن يُمثلَ "المَوتُ/ الإنتحارُ" لهؤلاءِ المُستعبَدين رَاحتَهم وطريقَ عَودِتهم إِلى "الجَنة/ غِينيا الجَديدة/ إِفريقيا الأُم"، بِكلِ ما يَحملُه ذَلكَ مِن خوفٍ إنسانيٍ طبيعيٍ، إلا أَنه مَهربٌ ناجع لمعادلةِ الحياةِ الصَعبةِ. بَينما كانَ الموتُ إنتحارًا بِالنسبةِ للمُستَعِمر الفَرنسي خسارةً فادحةً، ليسَ فقط لأنه يَخسر يداً عَاملةً، ولكنهُ يَخسر أَيضاً فرداً/ إنسانًا/ جسداً مِن ثروته من العبيد، عن طريق إِنتزاعِ مِلكيةِ الجَسدِ (المُستَعمَر) عن الفرنسي (المُستَعمِر).
كُل ذلكَ استَلزمَ تَواطؤًا بَين علاقاتِ القُوى والإِنتاجِ في بينةِ النظامِ الإِجتماعيِ وبِنية المُقدس. يُدارُ بِعقليةِ "العَالمِ الجَديد" الكولونيالية الرأسمالية، لِخلقِ مانعٍ يَحولُ دونَ هَذا النَوعِ من الهدرِ فِي العَبيدِ كَرأس مالٍ وليسَ كبشرٍ حُريتُهم حقٌ مكفولٌ. فكانَ تَخليقُ حالةِ "الزُومبي"، وَهوَ الشَخص الذي تَرفض الجَنة/ إفريقيا/ غِينيا الجَديدةُ استقبَالهُ لشَنيعِ صنيعه، ليسَ "الإنتحار" إِنما الخُروجُ عن طاعةِ الرَبِ الأبيضِ المُستَعمِر، صاحبِ العقلِ الأَسمى والأَقوى. وَهُو ما يُعطي الحَداثةَ في صُورتِها الكُولونياَلية صفةً من صِفاتِ الأُلوهةِ والقداسةِ، بمنحِ الحَقِ فِي الجَنةِ أو النَار والسيطرةِ على الحَياة المتجاوزةِ بعد السَيطرة عَلى الحياةِ الآَنيةِ وأَجسادِ من فِيها، وبالتالي فَيكونُ عِقابُ هَذا "الزُومبي" هُو إنتزاعُ رُوحِه وعقلهِ من جسدهِ الذِي ظنَ بِه خَلاصهُ، وتركِهِ هَائمًا على غَيرِ وُصولٍ للجنةِ، المَتروكةِ بيدِ ربهِ الأَبيض.

 "الزومبي" كَخطابٍ ثَقافِي (في السينما):
 يُلاحظُ فِي الأَعمالِ السِينمائيةِ التِي تَناولت فِكرة "الزُومبي"، وَهي أَعمال مُستندة إِلى دِينامياتِ الصُورةِ التِلفزيونيةِ الثلاثةِ: التَذكِير(التَفحيل)/ العُنف/ الجِنس، أَنها تَعامَلت مَع "الزُومبي" باِعتبارِه نَتيجةً لحالةٍ مَرضيةٍ عَامة، تُفقِد الجَسدَ الإِنسانيَ عَقلهُ المُتحضر(!) (وَلعلَهُ هُنا وَجبت الإشارةُ إلى آَلياتِ هَندسةِ الجُنون مُجتمعيًا بِحسبِ مَبحث المُفكر الفَرنسِي مِيشيل فُوكو "تاريخ الجُنون")، تَاركةً لفَضاءِ المَعرفة الحُريةَ في تنفيذِ حَقلِ قُوتِها الغَير بَريء. (لاتُجيب ولا تَتعرض الأعمال السِينمائيِة عامةً عَن سببِ تَفشي هَذا المرض أو ذَاك، أو خلقِ بطلٍ نَتيجةً لِتعرُضِهِ لحادثٍ مهندسٍ جينياً مِثلَ الرجُل ِالعَنكبوت، ولا الغَرض مِن هَندسةِ هَكذا مَرض، تاركةً حقلَ القُوةِ العُنفية للمَعرفةِ بعيدًا عَن المُساءلةِ أو حتى التَخيُل، تماماً مِثلما هُو الأمرُ بشأنِ الأَسلحةِ الكِيماوية /أو الجُرثومِية، فَيسهُل عَلى المَعرفةِ التَضحيةُ بالجَسدِ، بمَنحِ الحياة أو مَنعِها دون مُساءلة).
كَما يُلاحظ كَذلكَ أنَ كُلَ التَناولات السِينمائِية للـ"زُومبي" حَصرت البُطولة فِي بَوتقةِ مُزاوجةٍ حصريةٍ للذُكورةِ والبَشرةِ البَيضاء، إِذ لا يُمكنُنا مُلاحظة دُور بُطولة أُنثوي مُباشِر، وَكذلكَ الأُمرُ بالنسبةِ لبطلٍ أَسمرِ البَشرة، وَهُو ما يضمنُ غَسِيلاً أَبيضاً لإرثِ الرَجلِ الأَبيض مِن اِستغلال "الزُومبي" لِصَالحه.
ولَكن يَظلُ فِيلم WORLD WAR Z بُطولة النَجم الأَمرِيكي براد بيت وإِخراج ريدلي سكوت (2013) النَقلة الأَكثر صَلفًا فِي بِناءِ الخِطابِ الثَقافِي للرَجلِ الأَبيض الكُولونيالي بشأن "الزُومبي"، إِذ يُمكن القولُ مِن التَسمِية أَن القَصد هُو آَخرُ حُروبِ العَالِم الأَبيض، بِاعتِبار أَن اللُغة هِي أَساس التَسمية، والتَسمِية أَولُ أَدواتِ العُنفِ الحَداثي، وَأن الحَرف (زِد/Z) هُو آخِرُ حُروفِ اللُغةِ، واللُغةُ –في عُمومِها، والإِنجليزية لَيسَت اِستثناءًا- هِي مُؤسسة ذُكوريةٌ، واللُغةُ الإِنجليزية لُغةٌ بَيضاء.

لَيسَ ما سَبق فَقط هُو مَا يُميزُ السَردَ الثَقافِي للفِيلم/ الصُورة عَن غَيره، وَلكن اِستحضَاره لِبنيةٍ كُولُونياليةٍ لَم يَتم إستحضُارها سَابقاً فِي هَذا النَوعِ مِن الأَفلام وَهِي : التَهجِين/ Hybridity، فَالتهجينُ هُو مرحلةٌ مِن مَراحل الإِنتاج البَينيِةِ بَين المُستَعِمر والمُستَعمَر، حَيثُ أَن المُستَعمِر يُعرِّف نَفسهُ رَأسِيًا بآخَرِهِ المُستَعمَر، فَلا يُمكن بِحالٍ مِن الأَحوالِ أَن يَقبَلَ بِوجودِ تَرادفٍ بَين النَموذَجينِ، وإِلا انهَارت مَنظومةُ التَعريفِ السَلبيِ الخَاصِة بالسَيطرة. وَعَليهِ فَقد ظَهرت الحَاجةُ لِخلقِ (بِطَانةٍ وُسطَى، لَها درجةٌ من دَرجاتِ الرَخاوةِ بين المُستَعمِر والمُستَعمَر) بحسبِ فرانز فانون، وَهيَ عبارةٌ عن مَنظومةٍ مِن آلياتِ الإِنتاجِ وَالقُوى المُؤسسَاتِيةِ/الأداتّية الخَارجةِ مِن وَسطِ بِينة المُستَعمَر الثَقافِية والإِجتماعِيةِ والوَطنيةِ، إلا أَنها تَدينُ فِي بِنيتِها الحَاكمةِ إلى النَموذجِ الحَداثيِ الكُولونيالِي الرَأسمَاليِ ولِذا فوُجودُها من وُجوده عُضويًا، فَتعمل على خَلقِ كَيانٍ وَسطيٍ بينَ "عِرقينِ" غير متمازجين (بالتَعبيرِ الفِيكتُوري اليَميني)، وَظيفةُ ذَلكَ الكَيانِ "الوَسطي/الهَجينِ" هُو شَرعنةُ وُجُودِ المُحتَل خِطابيًا ومُؤسساتيًا فِي داخلِ فَضاءِ البِنية المَحلية المُستعمَرة (أو مايُعرَف بـ"المَكانْ" بالمَنطق المُتجاوز). وهُو مَا يُمكن تَعيينُه عَلى مَدى التَاريخِ الكُولونيالي. ولَنا في فرانسوا دُوفالييه الدِكتاتُور الذيِ كَان رئيسًا لهَايتِي بَعد زوالِ الإِستعمار الفَرنسِي، والذِي كَان وجهًا أسمراً لسياسياتٍ بَيضاءَ كُولونيالِية ضَمِنت عن طَريقِه إِستمرارَ علاقاتِ السَيطرةِ والإنتاجِ فِيها، حَتى بَعد الزَوالِ المُباشرِ للبِنيةِ الكُولونياليةِ البَيضاءَ ("الكولونيالية الجديدة" كما أَسماها سَارتر) خَيرَ مثال. كَما يُمكن مُماهاة ذلكَ مع النَموذجِ الفِلسطينيِ تَحتَ الإِحتلالِ الإِسرائيليِ، فِي مَابعدَ "إتفاقيةِ أوسلو" التِي خَلقت تَلك الطَبقةَ المُهجنةِ إِسرائيليًا، وَزرعْتها فِي دَاخلِ الفَضاءِ المَعرفي والسياسيِ والثَقافيِ الفِلسطيني، كوَسيطٍ للسِياسَات الإِحتِلالية، وَلعلَ أَبرزَ تَجلِياتها الوَاضحةِ هو"التَنسيقِ الأَمنيِ" معَ الإِحتلال، فَبات الإحتلال مُدبلجاً للفلسطينيةِ، إسماً ورسماً.
تلكَ الطبقةُ المُهجنةُ هِي التِي يُراهنُ عَليها المَعنى المُستَبطن للسَردِ الثَقافيِ للفِيلمِ مُستفيدًا مِن الطُغيانِ والسَطوةِ الحَاصلَينِ حَاليًا للمَعرفةِ الصُوريةِ التِليفِزيُونيةِ (نسبة إلى الصورة)، وَالتِي تَنبَنِي على الصور كخِطاب وَتَراكُمَاتِها ولَيسَ عَلى الوَاقِع، مؤسسةً للحُكم المَعرفِي على الصُور وَليسَ عَلى الواقِع، فيُقدم الفِيلمُ الجَدارَ العَازل الإِسرائِيلي باِعتبارهِ حَاميًا للحَضارةِ البَيضاءَ فِي حَربِها الأَخيرةِ ضدَ الوَحشيةِ بِتعاونٍ مُثمرٍ بينَ الرَجلِ الأَبيضِ المُحتل وطبقتِةِ الهجينةِ مِنَ المُستَعمَر، تِلكَ الطَبقة التِي تُشفِقُ عَلى قَومِها مِن غِيابِ العَقلِ فِي مواجهةِ الحَضارةِ البَيضاءَ (فلنَنظُر لتَصريحَاتِ قَادةِ التَنسيقِ الأَمنيِ وَسلطةِ أُوسلُو عَن عَبَثِيةِ "المًقاومةِ" وَلامَنطقِية فِكرة العَودةِ – صَفَدْ مِثالاً -).
وَأَن سُقوطَ الجِدارِ لَم يَأتِ نَتيجةً لِسقُوطهِ الإِنسانيِ وَالقِيميِ، باعتبارِ صَيرورةِ –أَغلِبِ - النُظمِ الكُولُونيالية، وَلكنْ يَسقط نَتيجةَ تَدافُع أَعدادٍ غَفيرةٍ مِمن فَقَدوا عَقلَهُم وبَاتُوا فِي حَالةٍ بَيهيميةٍ دُونيةٍ، إِستلزَمت تَخليصَ العَالمِ المُتحضرِ الأَبيضَ مِنهُم.

"الزُومبي" هُوَ جَسدٌ/ نَصٌ مَابعدَ كُولُونياليِ، يُمكنُ التَضحيةُ بِه لِحمايةِ الحَداثةِ الرَأسماليةِ – وَموارِدها الثَقافِيةِ وَالإِنسانيةِ وَالجَسديةِ - التي كَانتِ الكُولُونيالةٌ إِحدى تِجلِياتها. هُو جَسَدٌ يُستدَعى مَتى أَرادَ الرَجلُ الأَبيضُ تَوظيفَ ذَلكَ الجَسدْ فِي خِدمةِ إِرثهِ إِتجاهَ الإِنسانيةِ وَدَورُه كمُخلصٍ لها، فَنَرى قَتلَ الأَجسادِ الإِنسانيةِ فِي فِلسطين(غَزة) والعِراق وغَيرهُم لَم يَمس حَمِية الرَجلِ الأَبيض إِتجَاه الإِنسانيةِ، كَما بَات يَفعلُ الآنَ بَشأنِ الحَدثِ السُوريِ، لِيَظل الرَجُل الأَبيضُ هُو المُخَلص طَالَما ظَلت عُقولُنا بِيدِه يُعقلِن بِها أَجسَادَنا.  

14‏/09‏/2013

من هو المتطرف ؟


الكاتب: عبدالخالق مرزوقي


اعتقد ولا اجزم ان الانسان يولد بميل ما تجاه اشياء معينه
بعض هذا الميل برمجة مسبقة وبعضه بفعل عوامل وراثية جينيه
وبعضه تاثرا بسلوكيات وممارسات الأم خلال فترة الحمل وفي
سنوات الطفولة الأولى، فنولد ولدينا ميل تجاه سلوك ما ليكن
التشدد مثلا في الكثير من الامور، الدين لم يتدخل لحد الآن

ثم يأتي دور التربية والاسرة في تعزيز هذا الميل او التقليل منه
وهنا يتبين الفرق في التربية بين الاسرة الواعية وغير الواعية
والدين الذى نتلقاه في هذه المرحلة هو الاتجاه الذى تسلكه الاسرة
تجاه الدين كما تتلقى الاخلاق والقيم التي تقولها وتمارسها الاسرة
فيزيد لديك هذا الميل او يضعف ثم يأتي دور المدرسة والمسجد
والمجتمع العام، هم ايضا يلقنونك وترى منهم الدين والاخلاق
والقيم " السائدة " اي تتلقى التطبيق وليس النظرية في الدين
والاخلاق والقيم كل هذه المدخلات تتفاعل داخلك مع كل مالديك قبلها.


ونتيجة لهذا التفاعل العقلي والنفسي تبدأ في تكوين سيرتك الخاصة
مع استمرارك في التلقى والتفاعل طوال حياتك

بعضنا يعيش داخل دائرة مغلقة ذهنيا. فيبقى يتلقى ذات الافكار
والتصورات وتتفاعل داخله مع اخرى شبيهه بها فيكون الناتج دائما
هو ذاته ومن ينفتح ذهنيا تبدأ المدخلات تتغير نسبيا. يلي ذلك تغير
في طريقة التفاعل العقلي النفسي معها

اسوأ نتيجة لتفاعل ممكن ان نحصل عليها هي عندما يجتمع لديك
ميل للتشدد. داخل اسرة متطرفة ومدرسة ومسجد ومجتمع عام
يعززان كل ذلك، لا يمكن ان تخرج من هذه الدائرة إلا بعد صدمات
فكرية متتالية.عقلك ومحيطك الجديد سيجعلك تسلك احد اتجاهين
إما تشدد او تطرف مضاد للاتجاه الاول، أو اعتدال وهو الاتجاه الاصعب
الدين اي دين في نصوصه الاساسية يتمايز بين التشدد - التشدد
هو غير التطرف - وبين الانفتاح. بحسب النص ومتى انزل؟
وسبب نزوله؟ وهل حكمه عام ام خاص مطلق ام مقيد ، منسوخ
أم لا . كيف طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم

لا اعتقد ان الدين جاء لنا ويفترض منا أن نكون مثاليين بل هو سبحانه
يعلم واقعنا كبشر وهو يريد منا ان نحاول أن نقترب ما استطعنا من
تحقيق غايه النص، والاستطاعة تختلف من فرد لآخر
هذا امر شديد الاهمية ان ندركه ويغفله المتطرفون سواء من يدعي
انه يطبق النص او يدعي العكس

كيف يتعامل المتطرف مع النص ؟ والحديث هنا عن اي نص سواء
كان نصا دينيا أم غير ذلك

المتطرف يأتي للنص غالبا بتطرفه المسبق على القراءة، وليس ليستمد
التطرف من النص. بل ليقنع ذاته اولا، وليؤكد أن النص يقف في صفه
وهو يقف في صف النص. غير المتطرف ايضا يفعل ذلك فيأتي للنص
بايجابيته وانفتاحه

لذا قال الامام علي رضي الله عنه : القرآن حمال اوجه
وهي تفهم هنا بمعنى ايجابي منفتح اذا كنت انت ايجابي منفتح
وتفهم بمعنى سلبي ضيق اذا كنت انت سلبيا ضيق القلب والعقل
لذا نرى عمليا اختلاف الفقهاء مثلا في مسائل معينة رغم انهم
يستندون في اوقات كثيرة لذات الادلة

النص ايضا اي نص يتحول إلى عدة نصوص، أولهما النص
الأساس ثانهما ما قرأناه حول النص، وثالثهما الذى خرجنا به نحن
بعد كل تلك القراءات

والنص الثالث اي النص الذى خرجنا به من القراءة يحتوي اضافة
للنص الاساس والقراءات السابقة علينا له، على افكارنا نحن تجاهه
كمفردات وجمل ومعاني، اضافة إلى نمطنا في التفكير ومستوى عقولنا
ووعينا وحالتنا النفسية وخبراتنا

06‏/09‏/2013

ريجيس دوبريه : يهاجم التنوير السطحي ويدعو إلى تدريس الأديان في المدارس العلمانية الفرنسية



ريجيس دوبريه: لا نريد عقلانية مسطحة تستبعد الدين 
ولا أصولية متعصبة

 تكفر الآخرين


عرض : هاشم صالح
ما الذي حصل لريجيس دوبريه؟ هل انقلب من النقيض إلى النقيض كما حصل لبعض المثقفين العرب عندما انتقلوا من الماركسية الى الأصولية قبل أن يتوب بعضهم أخيرا؟، سوف يكون من قبيل المبالغة أن نقول ذلك. لكن كتابه الذي صدر اخيرا في باريس، صدم الكثيرين بعنوانه على الأقل: «الأنوار التي تعمي»!. كنا نعتقد أن الأصولية الظلامية على طريقة بن لادن والزرقاوي هي وحدها التي تعمي الابصار، فإذا بنا نكتشف اخيرا بأن الحق على فولتير وعصر الأنوار. لكن لا ينبغي الاعتقاد بأن ريجيس دوبريه قد غير موقفه وأصبح أصولياً مسيحياً متعصباً وانقلب كلي
اً على فلسفة التنوير!.

صرح ريجيس دوبريه بعد صدور كتابه المثير للجدل «الأنوار التي تعمي»، ربما للتخفيف من وقع أثره على القراء، بأنه لا يزال ابن التنوير وعصره الذي لا يمكن الخروج منه لأنه أسس كل هذه الحضارة التي تحيط بنا من كل الجهات: حضارة الحداثة، وبالتالي فلا ينبغي أن نتهمه أكثر من اللزوم أو أن نتسرع في إدانته كما فعل بعض المثقفين الفرنسيين الغاضبين.

وإذن فما الذي حصل بالضبط؟، لكي نفهم ذلك ينبغي أن نموضع الأمور ضمن سياقها الفرنسي لا العربي، لأن دوبريه يتحدث انطلاقاً من هموم وحاجيات ثقافية أخرى غير همومنا وحاجياتنا نحن العرب. ينبغي أن يعلم القارئ العربي أن تعليم الدين ممنوع منعاً باتا في المدارس العلمانية الفرنسية، بل إن الدين غائب كلياً تقريباً عن الحياة العامة للمجتمع وعن الساحة الثقافية. وحتى على مستوى الجامعات ما عادوا يدرسون علم اللاهوت أو التيولوجيا كما كان يحصل سابقاً. هذا في حين ان كلية اللاهوت او العلوم الدينية لا تزال تجاور كلية الفلسفة في الجامعات الالمانية. وبالتالي فرد فعل ريجيس دوبريه مفهوم ضمن هذا السياق فقط. فهناك هيمنة طاغية للتنوير في فرنسا، كما ان هناك هيمنة طاغية للاصولية المتزمتة عندنا، وبالتالي فالحالة معكوسة تماما، وكل هيمنة تثير بمرور الزمن رد فعل عليها، والشيء اذا زاد عن حده انقلب الى ضده، كما يقول المثل، هذا قانون تاريخي. فالتنويريون عندنا وجودهم ضعيف وخائف، والكثيرون منهم لا يجرأون على البوح بأفكارهم، وبالتالي فلو كان دوبريه يعيش في أفغانستان أو العالم العربي أو الباكستان، لما ألف كتاباً بعنوان: «الأنوار التي تعمي»، إنما بعنوان: الأصولية التي تعمي..

هكذا نلاحظ أن السياق التاريخي هو الذي يفرض على المفكر نوعية تفكيره واهتماماته، وبالتالي فلا ينبغي ان يستغل المثقفون العرب كتاب دوبريه هذا للانقضاض على التنوير، كما فعل بعضهم بنوع من التسرع وسوء الفهم. فلو ان الرجل عرف بأنه سوف يستغل في هذا الاتجاه، لما ألفه، واكبر دليل على ذلك ما قاله في نفس الكتاب بعد زيارته لمصر وهو ما سنتعرض له لاحقا.

هذه نقطة أولى.. أما النقطة الثانية، فإن ما يدينه المؤلف ليس الأنوار بحد ذاتها، إنما الصورة القدسية الاطلاقية التي شكلها الفرنسيون عنها. وهي صورة أصبحت متكلسة ومتحجرة بمرور الزمن كما يحصل لأي تراث ثقافي عندما ينجح وينتصر ويسيطر. والأنوار منتصرة في فرنسا وعموم أوروبا منذ قرنين، كذلك العلمانية. والمثقف الفرنسي يستطيع ان يناقش اكبر رجل دين على شاشة التلفزيون معلنا اعتراضه على معظم العقائد الدينية من دون ان يحقد عليه رجل الدين او ان يكفره، ومن دون ان يتهيج الجمهور العام لكي يحقد عليه ويهدده. هذه اشياء انتهت في اوروبا ولم يعد لها وجود، يضاف الى ذلك ان الحياة في الغرب أصبحت مادية استهلاكية قائمة على فلسفة المتعة والملذات. أما كل ما عدا ذلك من قيم ميتافيزيقية وروحانيات، فلا وجود له أو لا معنى له في نظر اغلبية الناس.

بل وحتى الشعر اختفى تقريباً، لأنه لا مردود إنتاجي له في عصر التكنولوجيا والصناعة والمنفعة المادية المباشرة والمحسوسة، وبالتالي ففلسفة الحياة انقلبت رأسا على عقب عما كانت عليه في العصور الوسطى.

اعتقد شخصياً، بأن ريجيس دوبريه يفرق بين التنوير العميق على طريقة جان جاك روسو او كانط، والتنوير السطحي على طريقة فولتير أو بالاحرى الفولتيريين الضيقي الأفق، وهو لا يهاجم إلا التنوير الثاني. وفكرته الأساسية تقول ما يلي: تنقصنا المنهجية المتوازنة التي تعرف كيف تصالح بين المتضادات. فنحن لا نريد عقلانية جافة مسطَّحة تستبعد الدين كليا بحجة أنه ظلاميات. ولا نريد أصولية متعصبة تكفِّر الآخرين وتدعو إلى ذبحهم. إن دراسة الدين أو الاهتمام به لا يعني أنك أصبحت شيخاً أصولياً متعصباً مكشراً عن أسنانك!، فلماذا تمنعنا العلمانية المتطرفة من تدريس الدين في المدارس كظاهرة ثقافية وتاريخية كبرى؟، وهنا يوضح ريجيس دوبريه أنه ليس ضد العلمانية المنفتحة المتسامحة، إنما ضد العلمانوية الضيقة والسائدة في أوساط المثقفين الفرنسيين أو قسم كبير منهم.

وبالتالي فالشيء الذي ينفجر ضده دوبريه هو التالي: إن نوعاً ما من أنواع العلمانية والتنوير يمنعنا من دراسة الأساطير، والرموز، والخيال الجماعي، وكل ما هو لا عقلاني في حياتنا. فالإنسان هو بحاجة أيضاً إلى العواطف والمشاعر والشطحات الهائجة واللاعقلانية. وليس بالعقل وحده يحيا الانسان!. وضمن هذا المعنى يدعو للاهتمام بالدين ودراسته أو إعادة تعليمه في المدارس الفرنسية بعد أن سحب منها منذ تشكيل النظام العلماني قبل مائة سنة أو يزيد (1905، تاريخ فصل الكنيسة عن الدولة في فرنسا). لكن لا ينبغي تدريس الدين بشكل اعتقادي طائفي أو عبادي شعائري، إنما كظاهرة ثقافية أثرت في حياة المجتمعات الأوروبية طيلة قرون وقرون قبل انتصار الحداثة والتنوير. فالطالب الفرنسي الحالي لم يعد يفهم مسرحية لراسين أو كورنيه أو نصاً لباسكال أو سواه، لأنه يجهل المرجعيات الدينية المسيحية التي تقف خلفها جهلاً كاملاً. ومعلوم أن ثقافة العصور السابقة من أدب وتاريخ وفكر كانت مغموسة بالمسيحية ومطبوعة بطابعها.

لكن مع ذلك، فإن العلمانيين المتطرفين لم يغفروا له ما حصل أخيرا: وهي أن الدولة كلفته بتقديم تقرير عن امكانية تعليم الظاهرة الدينية في المدرسة العلمانية. فالكثيرون من أصدقائه القدامى أداروا له ظهرهم ، بل وأصبح بعضهم يتحاشى مصافحته أو السلام عليه إذا ما التقاه فجأة في الطريق أو في أحد الأماكن العامة. وقال له بعضهم صراحة: لقد خيبت آمالنا يا ريجيس دوبريه. فهل تريد أن تعيدنا إلى الخلف؟ أما كفانا ما عانيناه سابقاً في فرنسا من حروب الطوائف والمذاهب المسيحية؟ وهل تريد أن تعيد اطفالنا إلى هذه المشاعر الطائفية والمذهبية لكي يكرهوا بعضهم بعضاً على مقاعد الدرس؟، لا، ما كنا ننتظر ذلك من مثقف عقلاني تقدمي مثلك!. والواقع أن بعض مواقف هؤلاء مفهومة ومشروعة. فإعادة تدريس الدين إلى المدارس الفرنسية، قد توقظ العصبيات النائمة وتذكر التلاميذ بأصولهم المختلفة دينياً ومذهبياً. وعندئذ يأخذون بالنظر إلى بعضهم بعضاً شذراً. ومن هنا تبتدئ المشاكل الطائفية التي عانت منها فرنسا كثيراً في السابق، والتي لم تستطع القضاء عليها إلا بفرض النظام العلماني بعد جهد جهيد. فلماذا يريد دوبريه أن يعود بنا إلى الوراء اذن؟، لكنه يرد قائلاً بأنه لا يريد تدريس مادة التربية الدينية او الشعائر والطقوس، إنما مادة الظاهرة الدينية بصفتها إحدى الظواهر التي أثرت على تاريخ البشرية، فلماذا يكون إذن تدريس مفهوم الظاهرة الدينية يعني أننا أصبحنا متدينين أصوليين؟!. ثم يطرح المؤلف الإشكالية العريضة للتنوير على النحو التالي: نحن لسنا من أعداء التنوير ابدا، لكننا لسنا من مؤيديه من دون شروط وبخاصة إذا كان تنويراً سطحياً. والدليل على ذلك هو أن دوبريه يرفض موقف بعض مثقفي اليهود الذين حقدوا على التنوير بعد حصول المحرقة اليهودية إبان الحرب العالمية الثانية، وراحوا يندبون ويولولون قائلين: كيف يمكن التفكير بعد المحرقة؟ كيف يمكن أن نؤمن بالتنوير بعد المحرقة؟ لعنة الله على التنوير والمتنورين! أليس التنوير هو الذي قادنا الى كل ذلك؟ أليست الحضارة العلمانية الالحادية او القومية المتطرفة هي التي ولدت معاداة السامية بشكلها الحديث؟، هذا ما تورط به بشكل من الأشكال كبيرا مدرسة فرانكفورت الفلسفية: هوركهايمر وأدورنو عندما اتهما فلسفة التنوير بأنها تحمل في طياتها بذور الاستبداد التوتاليتاري. يحصل ذلك كما لو أن كانط أو هيغل مسؤولان على هتلر! على هؤلاء يرد دوبريه قائلاً بأن هذا كلام سخيف ومتسرع ولا يصدر إلا عن تلامذة المدارس الابتدائية!، وهذا نقد عنيف لهوركهايمر وأدورنو. فالمعادلة التي تقول بأن التنوير = التقدم العلمي التكنولوجي، وهذا الأخير يؤدي لا محالة إلى غرف الغاز الهتلرية، هي معادلة عبثية لا يصدقها شخص فيه ذرة عقل.. كل هذا هراء. ثم يردف ريجيس دوبريه قائلا بما معناه: هل الإيمان بالله والتدين الكبير للشعب الفرنسي في العصور الوسطى او حتى في القرن السادس عشر منعه من ارتكاب مجزرة سانت بارتيليمي الطائفية والمذهبية! هل حال بينه وبين الدخول في حرب اهلية طاحنة لم تقم منها فرنسا إلا بعد سنوات طويلة؟، وبالتالي فهناك نوع من التدين أخطر من عدم التدين على الإطلاق. هناك الايمان الذي يقتل والايمان الذي يحيي وينعش.. ولحسن الحظ، فإن فرنسا أو أوروبا كلها، خرجت من الاول بعد التنوير. فهو إيمان ضيق، متعصب، مذهبي، ونحن لا نأسف عليه. فالحداثة التنويرية أدت إلى توحيد الشعب الفرنسي والقضاء على العصبيات الطائفية او المذهبية التي مزقته على مدار القرون، وهذا من أكبر إنجازات الحداثة. يضاف إلى ذلك أن الحداثة قضت على الملاريا والطاعون وبقية الأوبئة المعدية عن طريق تقدم الطب. ومعلوم أن هذه الأمراض كانت تحصد الأطفال والناس بمئات الآلف أو حتى بالملايين. ولا تزال تحصدهم في الدول المتخلفة. يضاف إلى ذلك أن الحداثة العلمية والطبية زادت من متوسط عمر الإنسان إلى الضعف تقريباً.. فهل نأسف على كل ذلك؟ هل نندم على كل التقدم الذي حصل بفضل حضارة التنوير والعلم؟، لا، وألف لا. هكذا نلاحظ ان ريجيس دوبريه لا ينضم إلى جوقة أعداء التنوير، وإن كان يوجه ضربات لئيمة وموجعة أحياناً لبعض فلاسفة التنوير، وبخاصة فولتير. كما ان هجومه على المفكر الرائع ذي النزعة الانسانية العميقة تودوروف، غير مفهوم وغير مقبول على الاطلاق.. لكن لنواصل استعراضنا لأفكاره ومحاجّاته لكي تتوضح لنا الصورة بشكل افضل. فأفكار الرجل مرنة ومعقدة اكثر مما نتصور.

يقول ريجيس دوبريه بما معناه: إن أهمية القرن الثامن عشر، أي عصر التنوير، تعود إلى تحريرنا من السلاسل والأغلال: أي سلاسل الأصولية الدينية، والإقطاع الأرستقراطي، والاستبداد السياسي. وكلها أشياء مرتبطة ببعضها بعضا. لكن لا نستطيع أن ننسى أنه تفصل بيننا وبينه مصائب وأهوال ليس أقلها: المحرقة اليهودية، هيروشيما، ناغازاكي، الحروب العالمية، الحروب الاستعمارية، المجازر الشيوعية والستالينية.. الخ، وبالتالي فعلى الرغم من أن أوروبا شهدت التنوير ومرت به وأصبحت حضارية، إلا أن كل هذه الأشياء المرعبة قد حصلت. فلماذا لم يستطع التنوير أن يحمي أوروبا المستنيرة من السقوط مرة أخرى في وهدة الهمجية والبربرية الوحشية؟، وهنا تكمن المعضلة الكبرى والمحيرة. لكن ألا يمكن أن نرد على هذا الاعتراض قائلين بأن المسؤول عن ذلك ليس التنوير بحد ذاته، إنما الانحراف عن مبادئه وقيمه العليا؟، فالفاشية والنازية، على حد علمي، ما كانتا من انصار فلسفة التنوير والنزعة الانسانية التي بلورها الفلاسفة الكبار من ديكارت الى هيغل مرورا بجان جاك روسو وفيخته وشيلنغ وكانط.. وبالتالي فلماذا نجرِّم التنوير؟ ولمصلحة من؟، هنا اجد ان محاجة دوبريه ضعيفة جدا، بل وواهية وفيها ارتداد على مواقفه السابقة من دون شك.

ثم يحكي ريجيس دوبريه قصة زيارته إلى القاهرة بعد غياب طويل ويقول بما معناه: لقد اصطحبني آلان منار، رئيس رابطة مراسلين بلا حدود، معه إلى العاصمة المصرية لكي نجتمع بالصحافيين والمثقفين المصريين بعد أزمة الصور الكاريكاتورية والمظاهرات العنيفة في كراتشي ودمشق.. الخ، وقد فوجئت بمدى التغير الذي طرأ على المشهد الثقافي المصري. فقبل عشرين سنة عندما زرتها لآخر مرة، لم تكن هناك محجبات كثيرات في الشارع، أما الآن فالحجاب يطغى في كل مكان. فهل انتهى عهد هدى شعراوي يا ترى؟، كان المثقفون المصريون يبدأون كلامهم ببعض الاستشهادات من ماركس أو غارودي أو سارتر او عبد الناصر، فماذا حصل لهم يا ترى؟ هل انتهى عهد لطفي الخولي ومحمد سيد أحمد؟ أين ذهبوا وتبخروا؟.

ثم يعترف المؤلف بأن زيارته الأخيرة لمصر تعود إلى عام 1976: أي قبل ثلاثين عاماً بالضبط. وفي أثناء هذه الأعوام الثلاثين اجتاحت الموجة الأصولية بلاد النيل مثلما اجتاحت العالم العربي والإسلامي. ثم بعد ان اجتمع بمثقفي مصر في رابطة الصحافيين المصريين، راح ريجيس دوبريه يتجول لا على التعيين في شوارع القاهرة. وفجأة يقع على بعض الكتب التي تزعج المثقف الغربي أيما إزعاج حتى ولو كان ثورياً ماركسياً مؤيداً للعرب مثله. فجأة يرى في واجهة المكتبات كتاب «كفاحي» لهتلر، ثم كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» الشهير!، وعندئذ يلتفت إلى مرافقه المصري المترجم ويقول له: ما هذا؟ هل يعقل أن تهتموا بمثل هذه الأدبيات الرثة؟، فيتلعثم المرافق ويحاول التقليل من أهمية الأمر بأي شكل، لكن من دون جدوى. وهنا تكمن الهوة السحيقة بين مثقفي الغرب والمثقفين المصريين والعرب عموماً.

وأخيراً ماذا يمكن أن نقول عن كتاب دوبريه هذا؟ ألا يبدو موقفه تناقضياً ومحيراً؟، فهو عندما يذهب إلى القاهرة يصبح من اكبر المدافعين عن التنوير، وعندما يعود إلى باريس يهاجمه؟، في الواقع إنه لا يوجد أي تناقض كما قلت سابقاً. فما ينقص الساحة المصرية هو عكس ما ينقص الساحة الفرنسية. الأولى بحاجة إلى المزيد من التنوير، والثانية بحاجة إلى التخفيف من طغيان التنوير الذي اكتسح في طريقه كل شيء، بل واستأصل حتى مفهوم الدين ذاته!.. وبالتالي فينبغي أن نموضع الأمور ضمن سياقها الطبيعي لكي نفهمها بشكل صحيح. فنحن متعاصرون مع مثقفي الغرب زمنياً، لكن ليس معرفياً. وحاجياتنا الثقافية غير حاجياتهم وهمومهم، بل إنها معاكسة لها تماماً في ما يخص المسألة الدينية. هم أغرقوا في الإلحاد المادي إلى درجة أنهم قضوا على فكرة التعالي الروحاني او الاخروي من أساسها وحولوا الإنسان إلى مجرد كائن استهلاكي وفيزيولوجي محض. ونحن أغرقنا في الأصولية الدينية، وقضينا على الحرية الفكرية المتضمنة في الآية القرآنية: (لا اكراه في الدين).