19‏/06‏/2015

تدبر بعض آيات القرآن



من الآية الثانية إلى الرابعة - سورة البقرة

"ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين(2) الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون

 الصلاة ومما رزقناهم ينفقون(3) والذين يؤمنون بما انزل إليك وما انزل
من قبلك وبالآخرة هم يوقنون(4)"


"ذلك الكتاب لا ريب فيه"


نحن هنا امام معنيين للعبارة، المعنى الأول هو تأكيد الله سبحانه وتعالى
على حقيقة القرآن وثبوته سواء كمجمل أو كمفصل، والحقيقة والثبوت هنا
يأخذان بعدين

البعد الأول هو حقيقة ثبوته كنص، أما البعد الثاني فهو صدق معانيه ودلالاته
وهو سبحانه يدعونا ضمنيا بشكل غير مباشر لإكتشاف تلك المعاني والدلالات
بغض النظر وصلنا لكامل حقيقة تلك المعاني والدلالات أم لا.

المعنى الثاني للعبارة هو اقامة الحجة والتحدي لمن يشكك في القرآن، بأن
يكشف عدم صدقه أو تناقضه، والتحدي هنا ممتد منذ نزول القرآن إلى
ما شاء الله.

"هدى للمتقين"


هنا إخبار وتأكيد من الله سبحانه، انه بناء على العبارة السابقة، فإن في هذا
القرآن لا شك هداية للمتقين.

والهداية انواع فمنها تجاه الوصول لتلك المعاني والدلالات الدينية الشرعية
التي يطلبها الله منا والموجودة في القرآن. ومنها هداية ذاتية، تتعلق بالإنسان
واعادة تشكيل نظرته تجاه ذاته، وعلاقته بالحياة وبالوجود. ومنها هداية تجاه
تلك الإشارات التي يبثها الله في القرآن تجاه الكون، الخلق، التاريخ، وغيرها.
والهداية هنا بمعنى الإنطلاق من تلك الإشارة الإلهية نحو العلم والإكتشاف
وربط سبحانه بين كون هذا الكتاب هداية وبين التقوى، والتقوى قلبية. وكأنه
سبحانه يقول أن شرط هداية القرآن لك، وانفتاح نصوصه ومعانيه امامك
هو أن تأتيه بقلب سليم متقي، لا أن تأتيه بغرضيه شخصية، أو بحثا عن تأكيد
لما تحمله مسبقا من خارجه، وبدلا من أن تجعل النص يقودك تحاول انت أن
تقوده لغرضك.

"الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون"

بعد أن دلنا سبحانه على اهمية التقوى، وبما أن التقوى محلها القلب، كان
لابد من تبيين صفات اصحابها كي نستبينهم، ولا نُخدع بالمدلسين.
فبين أنهم " الذين يؤمنون بالغيب"، وايمانك بالغيب هو التأكيد الداخلي على
انك وصلت للإطمئنان القلبي- بالكيفية التي طلب منك استخدامها، للوصول
لهذا الإطمئنان - تجاه حقيقة ما وصفه الله تعالى وتحققه.
ثم ذكر سبحانه "ويقيمون الصلاة"، واقامة الصلاة على الحقيقة ليس مجرد
ادائها بحركاتها. وهنا يتجلى استخدام كلمة يقيمون كونها تبين المعنى
المطلوب من الصلاة، فلا يكفي أن تؤدي حركاتها امام الناس، بل المطلوب
أن تقيم معناها داخلك، بما بينته آيات اخرى بأنها "تنهى عن الفحشاء والمنكر"
فمن تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر هو من اقام الصلاة على الحقيقة.
وفي الصفة الثالثة للمتقين ذكر سبحانه "ومما رزقناهم ينفقون"، وتأتي اهمية
هذه الصفة من صفات المتقين، هو أن جزءا من تكَوُن التقوى لديك، هو
يقينك بأن هذا الرزق الذى لديك هو رزق الله لك، ولم تأخذه بقوتك، ولأن
يقينك القلبي هذا بحاجة لتأكيك وترسيخ، جاء الإنفاق كأداة عملية
فكونك تتيقن أن هذا المال هو رزق الله لك، وأنك مستخلف فيه ولا تملكه
حقيقة، فأنت بإنفاقك منه وحين تخرج " بعضه" بما قد لا يعود عليك بمنفعة
دنيوية، فأنت تخرجه " كله " من قلبك - حيث التقوى والإيمان -وتضعه
في يدك.


"والذين يؤمنون بما انزل إليك "

الإيمان هنا لا يقصد به الإيمان بما في دفتي المصحف من كلام، وبأنه منزل
من الله فقط، بل يشمل مع الإيمان القلبي الإقتناع العقلي بما ورد فيه من احكام 
وتشريع وحقائق كونية، والتأكيد علي كل ذلك عمليا، عبر ظهور اثره في الأخلاق 
والسلوك والمعاملة، لذا قيل عن النبي صلى الله عليه وسلم : " كان خلقه القرآن "

" وما انزل من قبلك "

المتقي كذلك يؤمن بما انزل لله من كتب، وهذا يتضمن الإيمان بالأنبياء والرسل
جميعا، منذ آدم لمحمد عليهم السلام جميعا، وأنهم جميعا اصحاب رسالة إلهيه
واحدة، ولهدف واحد

ولهذا معنى ثاني غير هذا المعنى الأول، وهو طالما أن من شروط التقوى
الإيمان بكل الرسل والرسالات، وانهم جميعا اصحاب رسالة واحدة، فهذا يعني
أن كل المؤمنين الموحدين منذ آدم لليوم هم ابناء امة واحدة، بغض النظر عن
اختلاف الشرائع بينهم، وهذا يقود إن تحقق هذا عمليا إلى وحدة انسانية قوامها 
توحيد الخالق سبحانه


" وبالآخرة هم يوقنون "

الصفة الأخيرة التي وصف الله سبحانه بها المتقين في هذه الآيات هي الإيمان بالآخرة
ونلاحظ أن الله تعالى استخدم كلمة يوقنون، وهي اعلى درجات الإيمان والتصديق
وهو وضعها سبحانه لوصف المتقين رغم أنهم لم يروا الآخرة، ولم يعيشوها، فكيف
 وصلوا لليقين بالآخرة إذن؟

حين نتتبع هذه الآيات نرى أنها سلسلة، حين يتحقق الإيمان بها :
القلبي، العقلي، العملي. ولكل مجال منها شروطه، يكون الوصول لليقين بالآخرة
"الغيب" من باب النتيجة الطبيعية.