25‏/09‏/2017

عرض كتاب : علم الإجتماع الديني (الإشكالات والسياقات) 3/1




تأليف: سابينو اكوافيقا وانزو باتشي
ترجمة: عز الدين عناية
عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة 2011



عرض: عبدالخالق مرزوقي

1- مقدمة عن المؤلفين والمترجم والكتاب
2- تمهيد المترجم
3- عرض الكتاب


ترجمة المؤلفَين :


1-سابينو أكوافيقا مواليد 1929 بادوفا إيطاليا، من الرعيل المؤسس لمدرسة 
علم الإجتماع في ايطاليا، ألف ما يزيد عن 40 كتاب، بعضها بالإشتراك مع 
آخرين. من اشهر اعماله في مجال الدراسات العلمية للدين: "افول المقدس في 
المجتمعات الصناعية 1961"، كما كتب عدة روايات، اشهرها 
" فتاة الغيتو 1998" والتي فازت بعدة جوائز

2-إنزو باتشي، استاذ علم الإجتماع بجامعة بادوفا إيطاليا، رئيس الجمعية 
العالمية لعلم الإجتماع الديني، نشر العديد من الأعمال منها: "النِحَل 1997"
"الإسلام والغرب 2002"، " الإسلام في أوروبا: انماط الإندماج 2004"
وهو مترجم للغة العربية عبر الأستاذ عز الدين عناية، وصدر عن هيئة 
أبوظبي للتراث والثقافة 2010، " لماذا تخوض الأديان الحروب؟ 2006".

3-المترجم: عز الدين عناية، باحث ومترجم تونسي، ولد عام 1966 في
سوسة متخصص في علم الأديان، أستاذ جامعي في جامعتيْ روما لاسابينسا 
والأورينتالي في نابولي. حصل على الأستاذية والدكتوراه من جامعة الزيتونة 
في تونس في اختصاص الأديان والمذاهب له ترجمات ومؤلفات منها:
"الاستهواد العربي في مقاربة التراث العبري 2006"، "نحن والمسيحية 
في العالم العربي وفي العالم 2010"، "الإسلام الإيطالي: رحلة في وقائع 
الديانة الثانية (ترجمة من الإيطالية) 2010"، "العقل الإسلامي عوائق 
التحرر وتحديات الانبعاث، 2011"، "السوق الدينية في الغرب، (ترجمة
 من الإيطالية) 2012"، "الفكر المسيحي المعاصر، (ترجمة من 
الإيطالية)، 2014"، " الأديان الإبراهيمية: قضايا الراهن، 2014"


عن الترجمة:
في البداية أحسن المترجم عز الدين عناية في طرح تمهيد مهم في إشاراته
وهنا لابد من التنويه إلى أهمية إلمام المترجِم بالحقل المترجَم عنه، خاصة 
إذا كانت الترجمة في الحقول الفكرية والفلسفية، فالمترجم هنا لا يكون مسؤولا 
أمام قرائه عن ترجمة نص، بل كذلك ترجمة الأفكار الأساسية والثانوية
والمضامين التي يحملها النص وتمهيد منفصل عن متن النص، يحمل ايضاحا 
عن اتجاهاته وغاياته وما يحيط به.

وفي هذا المجال، يجيد عز الدين عناية الإلمام بموضوعه، تشهد له مؤلفاته 
وترجماته العديدة، التي اغنى بها القارئ العربي والمكتبة العربية، فكامل 
التحية والشكر له.



تمهيد المترجم:
ركز المترجِم في تمهيده على نقاط اساسية، اعتبرها مقدمة أولى للحقل ذاته
أي مجال: علم الإجتماع الديني، حيث وضعت اهمية النص المترجَم في إطار 
أوسع من مضمون الكتاب. 

تناول د.عز الدين عناية، الغياب والتفريط الهائل عربيا، في الادوات 
المعرفية والعلمية في تتبع الظواهر الدينية، والقلة الشديدة في الاعمال التي 
تتناول علم الاجتماع الديني رغم الحاجة الشديدة لها عربيا. 

ولفت لإشكالية مهمة، وهي أن اقسام علم الاجتماع في الجامعات العربية 
تشكو نقائص معرفية هائلة، يمكن تلخيصها في عدم قدرة علم الاجتماع 
المستورد، على الاحاطة بإشكالات الاجتماع العربي واهمها الدين. 

اذ ثم اغتراب للمعرفة عن واقعها - التعبير للدكتور عز الدين- وهو عجز 
كما يقول ناتج عن مناهج تدريس، تعول على استعراض النظريات والمناهج
الغربية، تعريفا بإفتتان احيانا، يفتقد لتعريبها الوظيفي، أي جعل تلك الادوات 
المعرفية، في خدمة الواقع الديني العربي لفهم مضامينه وتحولاته وتحدياته. 

لذا كانت غالبا والحديث مازال للدكتور عز الدين، ما كانت النقولات عن 
كانت ودوركهايم وماكس فيبر، عروضا تاريخية باهتة، لا أدوات معرفية 
مرشدة ورشيدة، خاصة مع الشكوك والمراجعات التي طاولت تلك المدارس 
خاصة في حقبة عودة المقدس. 

ففي الحالة العربية، ثَم تدين شعبي واسع مؤثر، لكن خارج المتابعة والفهم 
والاحصاء، فظاهرة مثل الاسلام السياسي أو المسيحية العربية ما زالت بعيدة 
عن تناول علم الاجتماع، وابتعاد شديد وانفصال بين مجالين في الوسط 
الأكاديمي وهما مجال الدراسة في كليات الشريعة، الذى ينفصل عن الدراسة 
في قسم علم الاجتماع والعكس صحيح ايضا. 

وهو أبرز خريجي دراسات اسلامية بعيدين عن المتابعة الخارجية للظاهرة 
الدينية ويفتقرون للأدوات العلمية في هذا الموضوع، وأبرز باحثين اجتماعيين
يفتقرون إلى خبرة التعامل مع المادة الخام في مجال الدين، وربما طغت 
دراساتهم الخارجية على الداخلية منها، والمفتقده الى الحميمية مع التجربة 
الدينية.

وهذا ليس خاصا بهذين التخصصين فهي مشكلة شاملة في العلاقة بين انواع 
مختلفة من التخصصات.


متن الكتاب

حول اثر التحولات الاجتماعية على المؤسسات الدينية:
مع تفجر الثورة الاقتصادية، تغير تقريبا كل شيء، شكل المحبة والتواصل في 
المجتمع، نمط صياغة العلاقات، ننمط التعايش، اضفاء معنى أو إلغاءه على 
الحياة أو على الموت، اتخاذ موقف سياسي ما " الثورة الثقافية والإقتصادية " 
ما بين الخمسينات والثمانينات في أوروبا. 

الدين، كيف تغير الدين ضمن هذا الإطار:
لقد حافظت على بقائها عناصر من التدين الشعبي، القديم لكن الأمر يتعلق ببقايا 
يرجح ثباتها عبر الزمن، غير انها ليست قادرة على التأثير الجوهري في تطور 
البلد، في حين هز التغير الهائل دين الكنيسة ودين الآخرين الذين بحوزتهم تدين
لكن لا ينتمون لأي مؤسسة دينية

لماذا وكيف حصل التغير في الدين؟
لماذا شهدت الكنيسة الكاثوليكية تحولا ايضا؟ ولماذا تبدلت علاقتها بالعالم؟
الأسباب عديدة، أود الإشارة إلى سبب بالغ الأهمية، وجدت المسيحية نفسها في
حوار عميق مع العلم، ومع الماركسية وبالتالي حاولت الكنيسة على مدى 50 عام 
تقريبا، التكيف مع المشاكل المطروحة من هذين العالمين الثقافيين؟

لكن ما الشكل الجديد المختلف في التدين الذى اطل؟
يقول جليان الخيارات المتوافرة كانت على الأقل خمسة:
الأول: ثمة من اعتقدوا انهم ألغوا الدين، يتعلق الأمر بالتيار الالحادي 
أو بالتيار الغنوصي، في الواقع المجتمع المعاصر، التيار الأول قد اصيب
بالتشيخ، وبالتالي صار هامشيا ومهمشا، في حين يشهد التيار الغنوصي 
نشاطا مضطردا. 
الثاني: هم الذين شايعوا الكنائس في اشكالها المؤسساتية المستجدة.
الثالث: الذين غيبوا الدين وهم كثر فهم لا يتحدثون عن الدين ويبدون في الظاهر 
غير مؤمنين، ولا يظهر التدين بالنسبة إليهم، إلا في المناسبات الكبرى والمآسي.
الرابع: اختار البعض نوعا من التدين يمتاز بمميزات الخلاص السياسي، يتعلق 
الأمر بمن صاروا بفضل الدين ناشطين سياسيا، ويتساوى لديهم مفهوم أن يكون 
الفرد متدينا بأن يكون ملتزما سياسيا.
الخامس: يتعلق بالذين ينحون منحى خصوصيا في رؤية انماط الإعتقادات
ويحبذون دين التجربة الداخلية الذاتية، حسب رأي الكاتب هذه المجموعة على 
الأقل هي التي تشهد تطورا. 

حدث كل هذا في مجتمع شهد تطورا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا، فقد 
كانت التحولات عميقة، مما أوحى إلى البعض اننا على مشارف نهاية الدين، لكن
الأمور لم تكن على تلك الشاكلة.

مع تواري البنى الفوقية لمختلف الأديان، ظهر نوع من الدين الطبيعي متمحور 
في التجربة الدينية المباشرة، تبين بعض التجارب جليا تأثرها بالرغبة في الخلود 
بصفتها انعكاسا للخوف من الموت، وبحثا عن الحب وأن يكون الفرد محبوبا
وسعيا إلى معرفة العالم واصول الكون، تفسير الكون عموما، فضلا عن عوامل 
أخرى صغرى.

إلم يتم اشباع تلك الرغبات، فإنها تتصاعد لتولد اضافة لعوامل اخرى، التجربة 
الدينية، عموما لإن كانت التجربة الدينية هي نتاج استراتيجيات يستخدمها الفرد 
لمواجهة حاجات غير مشبعة، وأمام محدودية وجوده الخاص، فإنها من جانب 
آخر متأثرة بالمؤسسات الدينية وبالكون القدسي الذى يشكل مرجعية لها.

- الحب الذى كان مقموعا ومنحرفا عن مساره الجنسي بإتجاه التجربة الدينية
صار طليق العنان، وبالتالي يبدو تسامي حب الله يشهد توقفا أو وهناً.

- لكن إن كان الدين في هذا المجتمع مرتبطا بالمؤسسة، وبالممارسة الدينية، فإنه 
يشهد فعلا وهنا، بخلاف ما يبدو عليه، فالرب إن غاب على مستوى السطح، لم 
يتوارى فعلا، ففي جانب كبير ظل ماكنا في العمق.

- قوض الجديد الصاعد تقاليد وثقافات وانماطا بالية وطرق عيش وأساليب

- شهدت علاقة التجربة الدينية بالخوف من الموت والرغبة في المعرفة في أن 
نُحِب ونُحَب تحولا عميقا، بالمجتمعات الغربية المعاصرة دبت فيها عديد 
التحولات، صار بموجبها الموت ابعد كما بات حدثا نادرا ما يأتي. 



ينتقل الكتاب بعد طرح الرؤية الأولية ليتحدث عن كبار فلاسفة علم الاجتماع 
ورؤيتهم 


دوركهايم والوظيفية: 
تنهل نظرية دوركهايم سياقها العام من من الدين، وقد تمت الاشارة إليه ضمن 
مؤلفه " تقسيم العمل الاجتماعي"

تتلخص الفكرة الاساسية، في أن النظام في المجتمعات الديموقراطية الحديثة 
والصناعية يتأسس على مبدأ التضامن، ويستند المجتمع في توازنه بالنسبة إلى 
دوركهايم، على قواعد ونواميس وقيم توحي إلى الوعي باللحمة الحيوية، التي 
تهدف لاجتناب الفوضى بين الافراد، يسميها بالتضامن الميكانيكي: " الأفراد 
منخرطون في تكتلات اجتماعية منتظمة، تجنح نحو الانسجام في سلوكياتها 
ونحو التشارك الإلزامي في قيم جامعة"، وفي المجتمعات التي يهيمن فيها 
التضامن العضوي، أي المختلف اجتماعيا، يأتي الانسجام في منتهى الصعوبة
مما يستدعي بآلية التقسيم الاجتماعي للعمل.

الوعي الجمعي بالنسبة للمؤلف هو بنيه اجتماعية فوقيه، لا تلتقي، مع اشكال 
الوعي الفردي، يتوارى الافراد غير أن الوعي الجمعي باقي، يضع دوركهايم 
مثلا لجعل المفهوم جليا، مستوحى من القانون، فالأشكال التشريعية هي العرض
المرئي لوعي اجتماعي محدد، يحوي التشريع سر النظام الاجتماعي، الشكل 
والقيم الأساسية التي ارساها الأفراد بالتوافق.

- فكرة دوركهايم جلية فهي تعكس الفرضية التنظيمية لدى كونت، فالمجتمع هو 
مجموعة اجزاء تغدو لها قيمة حين تُضم إلى بعضها البعض، داخل منطق 
شامل فالأجزاء هي وظائف الكل.

- مثلت دراسة حالة الانتحار بالنسبة إلى دوركهايم، اختبار تجريبي لنظريته 
الوظيفية ولخص استدلالاته في:

1- الإنتحار علامة على أن الأعراف الإجتماعية ليست في مستوى اقناع الفرد.
2- يوحي وضع حد لحياة الشخص، بتواجد خلل في النسيج الإجتماعي.
3- لذا يحتاج المجتمع لبلوغ اجماع، يخول له الإشتغال دون حصول نزاعات
 منهكة إلى حزمة من الأعراف والقيم، ذات طابع اجتماعي يتبناها الأفراد 
بمثابة الفروض والواجبات والإلزامات، تكون الأساس الأخلاقي المشترك.

-لاحظ دوركهايم أن حالات الانتحار اعلى عددا في البلدان البروتستانتية، منه في
 البلدان ذات الطابع الكاثوليكي، وكذلك اكثر ارتفاعا لدى الكاثوليك مقارنة باليهود
السبب المقدر لديه، انه في الوقت الذى يضع فيه المذهب البروتستانتية الأفراد أمام
نوع من المسؤولية، وبعض الإختبارات الموضوعية، يوفر المذهب الكاثوليكي 
والديانة اليهودية إلى الأفراد، جماعة تبدو قادرة على املاء نسق من القيم 
والسلوكيات ذات طابع جماعي، فيبدو الإنتحار هنا كعَرَض، والدين يكون هنا 
عامل تماسك اجتماعي.

دوركهايم والوظيفية الدينية: 
تتلخص فكرة الإنطلاق لدى دوركهايم، كما برزت في كتابة: " الأشكال الأولية 
للحياة الدينية"، في دراسة كيفية عمل الدين في المجتمعات البدائية، لإدراك سبل
عمل المجتمع الإنساني عامة، تتلخص الخاصيات المميزة للمقدس بالنسبة 
لدوركهايم في التالي:

- الفصل يتحول إلى إنفصال: يصير الإنسان، الحيوان، الجماد، مشوبا بقداسة
في الوقت الذى يمر فيه داخل دائرة مغايرة لعالم الدناسة، فالمقدس هو اجتثاث 
جلي، لأشياء من هذا العالم، مقدر لها أن تلعب وظائف غير مدنسة. المقدس 
هو شيء من العالم الدنيوي إمحت طبيعته الأولى، وتغيرت ملامحه تحت رغبة 
البشر أنفسهم، فالناس هم منتجو المقدس مثل آلهتهم، ثم يقدرون أن ذلك الشيء 
أو تلك الأشياء باتت مستقلة عن إرادتهم.

- في الوقت الذى يخلق فيه الأفراد نظاما اجتماعيا جديدا، فإنهم يجترحون ذلك 
عبر مكابدة تجربة جماعية تبدو في اعينهم مشوبة بالروعة. منح موسى شعبه 
شرعة جديدة في لحظة خارقة، مؤسسا النظام الجديد على غرابة حدث غير قابل 
للتكرر ثانية، إنه الإتصال المباشر بيهوه الذى أملى عليه الوصايا العشر.

- يتشكل النظام الإجتماعي في اللحظة التي يفصل فيها الناس في المجتمع 
"محلا للقوة" – المقدس – بغرض اضفاء شرعية ثابتة على القواعد والقيم 
الجماعية التي يستوجب فرضها، لبلوغ سلس للوئام الإجتماعي، من هنا يتجلى 
الدين مع دوركهايم بمثابة إطار منظم ومؤسساتي للمقدس، شكلا من اشكال إنتاج
القواعد الجماعية والوعي الإجتماعي وبالتالي أداة لتفسير وظيفة جامعة، وهنا 
تاتي اهمية الطقوس ودورها في بث اليقظة الدائمة في هذا الوعي الجماعي 
الأصيل.

- الطوطم ليس إلا شكل منظم لتمثل المقدس، ويشهد الطوطم بشكل ظاهرعلى 
وجود انتماء إلى مجموعة، فالطوطم بذلك الشكل هو إسم وشعار المجموعة وهو 
نظام من العلامات والرموز، التي يحتاجها المجتمع للتماسك ولتاسيس هويته 
الخاصة، إنه نظام صيغت حوله طقوس واقداس.

- الدين يمكن ان يلعب وظيفة بارزة لدعم التماسك الإجتماعي، في اوساط 
الطبقات البروليتارية في لحظات التصنيع الاولى، التي لا تشي بعلامات تدل 
على تقبلها النظام الإقتصادي والأخلاقي الجديد، وفي اللحظة التي تستطيع فيها
 الأديان أن تساهم بلعب هذا الدور الإجتماعي تلاقي ترحيبا من جانب دوركهايم.

- لا ترى الإشتراكية الإنسانية لدوركهايم شيئا آخر لتحقيق تماسك الطبقات 
العاملة مع سياقات التصنيع والتحديث الإقتصادي والإجتماعي غير الدين.


تطورات الوظيفية في علم الإجتماع الديني:

ترتبط الوظيفية المعاصرة بإسم الكاتب تالكوت بارسون، رغم ان الموقع الذى 
يحوزه الدين في نظريته ليس مركزيا، وإن كان موضوع القيم والمثل العليا 
المترسخة في أسس منطقية، هي نقاط محورية في التفكير الإجتماعي لدى 
بارسون، بسبب اجتياح موضوع القيم لكل مجالات التكوين الشخصي لدى 
بارسون، بحث عن معيار نظري، يخول له تفسير جوهر الفعل البشري، على
أساس انظمة ثقافية مشتركة أكثر منه على أساس تلبية المنافع الفردية.

ساعد لقاؤه بعالمه الإناسة برونيسلاو مالينوفسكي على انضاج أهمية دراسة 
وظيفة الثقافة والقيم للمحافظة على التوازن بين مختلف مكونات المجتمع، وحاول
بلورة نظرية شاملة بشأن النظام الإجتماعي والفعل البشري، وتتراوح بإستمرار 
بين محاولة صياغة موقف للفرد النشط " أولوية التطوع في الفعل الإجتماعي"
والحاجة للنظر إلى سبل الإشتغال الموجه من النظام الإجتماعي في عمومية 
"أولوية النظام".

يصبح من الضروري لدى بارسون، فهم كيف يستبطن الأفراد القيم والأعراف 
والقواعد العادية، التي تضمن في النهاية الشروط الأساسية لعمل النظام الإجتماعي
في مجمله. وبذلك الشكل يدرس اولويات الإحتضان الإجتماعي والرقابة 
الإجتماعية، التي ترأس سياقات استبطان مجمل القواعد، وتسمح بإعتبار النظام 
من قبل كافة الأفراد قاسما مشتركا، وبمثابة المشهد الثابت الذى يمكن التحرك 
على ضوئه.

يعتبر بارسون النظام الثقافي المنتج للقيم والنماط التي يتبناها الأفراد، محوريا في 
اشتغال المجتمع، هكذا يلتئم التماسك الإجتماعي، مطورا عبر الأفراد خاصيات 
متناسقة ومتلائمة مع منطق النظام الإجتماعي.

يؤكد أن أساس الأنماط الرمزية ينبغي البحث عنه في نظام المعاني العليا، أي 
في نظام متسام فعلا، يلعب فيه الدين، والأديان التاريخية عموما، وظيفة محورية
منذ اللحظة التي يوفر فيها للنظام مصدر مشروعية عليا، لا تتوافر في أي نظام 
آخر، وتنحدر هذه القدرة من جانب العامل الديني لضمان انسجام اجتماعي متطور
من انها تشكل للأفراد عنصر قوة لنمطية الأفعال البشرية، يبدو وكأن بارسون 
يردد: بالقدر الذى يؤسس فيه الأفراد مبررا ساميا لحياتهم داخل المجتمع، بقدر 
ما يكون ساميا ايضا كم المعلومات التي توزع لمراقبة الفوضى الإجتماعية، التي 
تنشأ داخل النظام الإجتماعي.

فالدين هو قانون اجتماعي عالي الجدوى، يستطيع يستطيع ضبط كميات هائلة 
من المعلومات وتوحيدها فيما بينها، في حين تركها في حال طليقة، هو مدعاة 
إلى توليد أشكال بمستويات مختلفة من هدرالطاقة، وعدم الإشباع والأزمات 
والصراعات والإنحرافات وتعطيل اجزاء من النظام، وبذلك تصير للدين 
وظيفة رقابة عالية.

بمقدور بارسون الحديث عن حاجة لإفتراض وجود نظام لاهوتي محدد سلفا
مقارنة بذلك الإجتماعي، جدير بتأسيس نظام من العقائد، يولد نظاما قانونيا 
اجتماعيا، بالخصوص معتقد يقود إلى الدين وإلى انظمة احتضان اجتماعي 
تحبذها الأديان.

ففي أوج السجال الإجتماعي بشأن العلمانية مع نهاية الستينات، لم يكن اصرار 
بارسون على توضيح ما ساهمت به المسيحية، على مدى احقاب طويلة على 
المدى الزمني، في تطوير الديموقراطية والنظام السياسي الأمريكي بالخصوص
وبالتالي لا مجال للحديث عن تواري الدين، بل عن تحولات "المادة" 
الإجتماعية للمحتويات الدينية، تتفشى القيم الدينية في الجسد الإجتماعي
إنها فكرة – ante litteram- لنظريات الدين الشائع.

وبإيجاز، يتعذر موت الدين، لما له من دور وظيفي أساسي في 
تلبية احتياجات 
توازن النظام بحسب بارسون في أوجهه الثلاثة: البيولوجية، النفسية، الإجتماعية.


من الوظيفية إلى نظرية النظم :

ليس عبثا دمج إسم لوهمان، ضمن الخط الذى نحن بصدد رسمه للوظيفة الدينية 
من دوركهايم إلى بارسون. رغم المواقف المعلنة لعالم الإجتماع الألماني من 
الوظيفة الكلاسيكية، في الواقع يقودنا الإختيار الحاسم الذى إرتآه لوهمان، وإن 
كان بشيء من التعسف، إلى تحوير تصوير المجتمع الإنساني على معايير 
نظرية الأنظمة، وإلى رؤية وإلى رؤية أسلوب تفكيره، تطويرا شاملا لمجموعة
من الافكار يمكننا نعتها ب " الوظيفية الجديدة"، كما يتضح أن موضوع الدين 
لا يمثل جوهر نظرية لوهمان رغم انه كتب عن الدين يبعض الأعمال واهمها 
كتاب: "وظيفية الدين 1977".

تتلخص نقطة الإنطلاق لدى لوهمان في أن المجتمعات الحديثة هي أنظمة شاملة
لا يتطلب تماسكها سندا معتبرا من القيم، الأعراف، الإجماع الضمني، من جانب
الأفراد  بل ينبغي بالأحرى الحديث عن التماسك المنهجي لا عن التماسك 
الإجتماعي، وهنا حصل التمييز الأول عن النظريات الإجتماعية لدوركهايم 
وبارسون.

وضد ما يسميه لوهمان علم الإجتماع الإنساني، الذى يضع الناس وسط النسيج
الإجتماعي بإستراتيجيات افعالهم العملية والمتنوعة، يقترح معيارا نظريا، ويولي
عناية كبرى للنظام تحوز فيه الأفعال الفردية الفضاء الخاص.

بهذا المعنى لا يسير المجتمع الحديث لأن الأفراد يتواضعون فيما بينهم على نسق
من القيم المشتركة، بل لأن الأفعال الفردية مقوده بشكل متواصل ضمن قواعد 
شكلية غير محددة، متلائمة مع نظم على درجة عالية من التعقيد الإجتماعي
وبالتالي يشتغل المجتمع حين يتمكن عبر أنظمته الفرعية من تقليص خيارات 
الأفراد، وعلاقات  التواصل بين مختلف الأنظمة الفرعية إلى قواعد متلائمة. 
ومن هنا ففرضية لوهمان هي أن المجتمعات الحديثة ليس لها مركز دفع ولا أي
نظام فرعي، يمكن إقتراحه كعامل تماسك اجتماعي إلى كافة النظام.

لوهمان يدرك ان النظام يدرك معناه الخاص به، شكله المميز ليكون له معنى
بمعزل عن المعنى الذى ينسبه الفاعلون كلا على حدة، سواء إلى افعالهم الفردية 
أو الجماعية أو كذلك إلى مختلف مكونات النظام الشامل.

بذلك الشكل تتم ما يسميها لوهمان العلمنة الشاملة، إلى كافة قطاعات المجتمع
إنه يقصد قول ألا وجود لأساس نهائي يسمح بتفسير كيفية عمل النظام الإجتماعي
لا السياسة ولا الإقتصاد ولا الدين ولا العلم والتقنية، وبالتالي لا يملك الدين تلك 
الوظيفة المتميزة التي اضفاها عليه دوركهايم وبارسون في نظريتهما، فبخلاف 
ذلك يصير نظاما وظيفيا يتمتع بميزة خاصة، من ضمن انظمة اخرى.

وبناء على ما ذكره تتلخص الوظيفة الخاصة للدين في خلق التواصل الذى يجعل 
العالم المحدود عالما لا متناه من المعاني، وقادرا بشكل ما على تقليص أثر 
الفضاء الذى يعيش فيه الافراد، وتحويله إلى مستويات رحبة.

بذلك الشكل يبدو الدين النظام الفرعي الوحيد، القادر على الإجابة عن أسئلة 
ومطالب ومشاكل بمعنى ذاتي، لا يقدر أي نظام آخر على اتيانها، فالدين بإمكانه 
انتاج نظام من العلامات، يسمح بالإقرار أن المجتمع له اساسه القيمي الخاص
وأن العالم يمتلك وحدته واتجاهه الخاصين، وبالتالي فليست وظيفة الدين متضمنة
بل تاويلية، وهو ما يعني أنها تمثل للأفراد معنى من المعاني، يسمح بتصور موحد
لما هو في الواقع مشتت، بتصور مطلق لما هو نسبي، فالميكانيزم الأساسي في 
الاديان هو افثارة في المؤمنين معاني الإنتماء، المتمثلة في الإنضمام إلى غايات 
تنظيمية لدين، إلى عقائده وشعائره، أي خضوع الإستراتيجيات الذاتية إلى 
الأهداف المؤسساتية للنظام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق