10‏/01‏/2018

كتاب: أصل التفاوت بين الناس - (عرض وتلخيص)





عرض كتاب أصل التفاوت بين الناس


الكاتب: جان جاك روسو
سنه النشر: 1755 م
المترجم: عادل زعيتر

عرض وتلخيص: عبدالخالق مرزوقي



نبذة عن المؤلف


جان جاك روسو (1712/1778) كاتب وأديب وفيلسوف وعالم نبات يعد من أهم كتاب عصر التنوير، وهي فترة من التاريخ الأوروبي، امتدت من أواخر القرن السابع عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر الميلاديين. ساعدت فلسفة روسو في تشكيل الأحداث السياسية، التي أدت إلى قيام الثورة الفرنسية. حيث أثرت أعماله في التعليم والأدب والسياسة، كانت نقطة التحول في حياة روسو عام 1749م، حين قرأ عن مسابقة، تكفـَّلت برعايتها أكاديمية ديجون، لأحسن مقال عن موضوع " هل إحياء النشاط في العلوم والفنون سيؤدي إلى الإسهام في تطهير السلوك الأخلاقي؟ ". وما أن قرأ روسو عن المسابقة حتى أدرك المجرى الذي ستتّجه إليه حياته. وهو معارضة النظام الاجتماعي القائم الذي كان يشعر بالاستياء منه كثيرا، ما بين طبقة غنية تهتم بالبذخ والمظاهر والتفاخر، وطبقة كبيرة من الفقراء المعدمين.

في عام 1755م نشر روسو مقالته المعروفة بالخطاب الثاني تحت عنوان "خطاب حول مصدر وأسس اللاعدالة بين الناس" والذي أتم به شهرته وأحدث على غرار الخطاب الأول جدلاً واسعاً، تتسم آخر أعمال روسو بالإحساس بالذنب وبلغة العواطف، ولاكتشاف هويته في عالم كان يبدو رافضًا له.

قام روسو بانتقاد المجتمع في رسائل عديدة، ففي رسالته تحت عنوان: "بحث في منشأ وأسس عدم المساواة" (1755م)، هاجم المجتمع والملكية الخاصة باعتبارهما من أسباب الظلم وعدم المساواة، وكتابه "هلويز الجديد" (1761م) مزيج من الرواية الرومانسية والعمل الذي ينتقد بشدة زيف المبادئ الأخلاقية التي رآها روسو في مجتمعه. وفي كتابه "العقد الاجتماعي" (1762م)، قام روسو بطرح آرائه فيما يتعلق بالحكم وحقوق المواطنين. وفي روايته الطويلة "إميل" (1762م) أعلن أن الأطفال، ينبغي تعليمهم بأناة وتفاهم وأوصى بأن يتجاوب المعلم مع اهتمامات الطفل وحذر من العقاب الصارم ومن الدروس المملة، على أنه  أحس أيضًا بوجوب الإمساك بزمام الأمور لأفكار الأطفال وسلوكهم.

كان روسو يعتقد أن الناس ليسوا مخلوقات اجتماعية بطبيعتهم، معلنًا أن من يعيشون منهم على الفطرة معزولين عن المجتمع، يكونون رقيقي القلب، خالين من أية بواعث أو قوى تدفعهم إلى إيذاء بعضهم بعضًا ولكنهم ما إن يعيشوا معًا في مجتمع واحد حتى يصيروا أشرارًا. فالمجتمع يُفسد الأفراد من خلال إبراز         ما لديهم من ميل إلى العدوان والأنانية.
عندما تحول روسو إلى الداخلية الكاثوليكي، خسر حقوق المواطنة في جنيف. ولكي يستعيد هذه الحقوق تحول مرة أخرى عام 1754م إلى المذهب البروتستانتي.



عصر جان جاك روسو (القرن الثامن عشر)



عصر التنوير وكما يُعرف أيضا باسم عصر الأنوار، هي حركة سياسية واجتماعية وثقافية وفلسفية واسعة، تطورت بشكل ملحوظ خلال القرن الثامن عشر في أوروبا. نشأت في إنجلترا ولكن التطور الحقيقي كان في فرنسا. وتحوّل مفهوم التنوير ليشمل بشكل عام أي شكل من أشكال الفكر الذي يزيد تنوير العقول من الظلام والجهل والخرافة، مستفيداً من نقد العقل ومساهمة للعلوم.


أجاب إيمانويل كانت عن سؤال ما هو التنوير؟ بقوله:" إنه خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد." كما عرَّف القصور العقلي على أنه "التبعية للآخرين وعدم القدرة على التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار بدون استشارة الشخص الوصي علينا." ومن هذا المنظور جاءت صرخته التنويرية لتقول: "اعملوا عقولكم أيها البشر! لتكن لكم الجرأة على استخدام عقولكم!



أهم الفلاسفة والمفكرين في عصر التنوير: فولتير وجان جاك روسو وديفيد هيوم وجميعهم قاموا بمهاجمة مؤسسات الكنيسة والدولة القائمة.


ملاحظات على الترجمة

اتسمت الترجمة بلغة أدبية رفيعة، ومع مقدمة كشرح مختصر لمنهج روسو وطبيعة الكتاب، لكنها لم تخلوا من بعض الملاحظات التي استوقفتني كقارئ – من وجهة نظر شخصية – فمثلا لا أرى أن المترجم أصاب في ترجمة كلمة " الحياة الطبيعية " التي هي أحد أهم الكلمات في الكتاب، واحد مفاتيحه، وكان الأفضل لو استخدم كلمة   " البدائية" بدلا من الطبيعية، لأن سياق حديث روسو كان يدور حول المقارنة بين الحياة المدنية - في عصره – وبين الحياة في بداية وجود الإنسان، فكلمة الطبيعية نسبه للعيش بعيدا عن الحياة الصاخبة في المدن والمجتمعات ليست خاصة بعصر معين، فيما البدائية اكثر تحديدا ودقة، كذلك لم يوفق المترجم في اختيار كلمة " مخنثة " في الكتاب، لوصف نوعية أو طريقة الحياة في عصر روسو، وكان الأفضل والأكثر ملائمة كما يدل سياق الكتاب، استخدام مفردة مترفة أو ناعمة بدلا منها.



متن الكتاب




الرسالة

اختار جان جاك روسو بدأ الكتاب بعبارة لأرسطو، ردا على سؤال طرح لاحقا عليه



في هذا السؤال الذى اقترحته أكاديمية ديجون: ما اصل التفاوت بين الناس؟ وهل اجازه القانون الطبيعي؟ 

يجب علينا أن نعد طبيعيا ما نُظِم وفق الطبيعة من أمور، لا ما فسد منها. "ارسطو"



إلى جمهورية جنيف


وجه روسو خطابا إلى جمهورية جنيف، يفتتحها بالثناء على النظام المتبع فيها للحكم، ويتخذه مدخلا للحديث عن رؤيته وفلسفته حول مجموعة من المفاهيم، كالمجتمع، السلطة وتكوينها، الدولة ونظامها، والجغرافيا السياسية يحمل كل منها رؤيه عميقة، اقتبس منها:
-" كنت اود أن اولد في بلد، لا يمكن ان يكون للسيد والشعب فيه غير مصلحة واحدة بذاتها"
- "كنت اود ألا يكون في الدولة من يقدر أن يقول انه فوق القوانين، وألا يكون في الخارج من يقدر أن يملي ما تُحمَل به الدولة على الإعتراف بسلطانه"
-"وما كنت لأختار العيش في جمهورية ذات نظام جديد، مهما امكن ان تكون قوانينها صالحة، خشية أن تكون الحكومة قد كونت على غير مقتضيات الوقت"
-"إذا ما تعودت الشعوب سادةً مرةٍ عادت لا تستغني عنهم، وإذا ما حاولت إلقاء النير، ابتعدت عن الحرية بالمقدار الذى تحُولها به إلى تحلل جامح معاكس لها، وتسْلِمها ثوراتها دائمًا تقريباً إلى غواةٍ لا يفعلون غير إثقال قيودها"
-"وكان عليَّ  أن أبحث عن بلدٍ يكون حق الاشتراع فيه مشتركًا بين جميع المواطنين، فمَنْذا الذي يستطيع أن يعلَم أحسن من هؤلاء شروط العيش معًا في المجتمع عينه؟"
-"ومن المحتمل أن كانت جنيف وحدها تقدم مثالاً ممتعًا عن اتحادٍ كاملٍ بين مجتمعٍ من علماء اللاهوت ورجال الأدب، فتراني أقيم أملي في اطمئنانها الأبدي على حكمتهم واعتدالهم المعروف وعلى غيرتهم حول سعادة الدولة وألاحظ في الوقت نفسه، ومع غبطةٍ ممزوجةٍ بعجبٍ واحترامٍ، مقدار ما يساورهم من مقتٍ لما يَحمل منِّ مبادئ كريهة هؤلاء الناس المقدسون البرابرة الذين يقدم تاريخُهم غيرَ مثالٍ، فتراهم أقل ضنٍّا بالدم البشري لتأييد حقوق الرب المزعومة، أيْ لتأييد حقوقهم الخاصة، وذلك بنسبة ما يعللون به أنفسهم من احترام دمهم على الدوام"
"هل أستطيع أن أنسى ذلك النصف من الجمهورية الغالي الذي يوُجِب سعادة النصف الآخَر، فما ينطوي عليه من حلمٍ وحكمة يؤدي إلى حفظ السلام وحُسْن الطباع فيه. فيا أيتها المواطنات المحبوبات الفاضلات بنات جنيف، إن من نصيب جنسكن أن يحكم في جنسنا دائمًا، ويا للسعادة عندما يشعر سلطانكن الطاهر، المزاول في القِران الزواجي وحده، بنفسه في سبيل مجد الدولة والنعيم العام فقط! هكذا كان النساء يقُدْن في إسبارطة، وهكذا يستأهلن القيادة في جنيف، وأي رجل من البرابرة يقدر أن يقاوم صوت الشرف والعقل من فمِ زوجةٍ حنون؟ ومَنْ ذا الذى   لا يزدري ترفًا باطلًا عندما يرى حِلْيتَكن البسيطة المتواضعة التي تلوح، بما تقتبسه من بهائكن، أنها أكثر مايلائم الجمال؟
-"عليكن أن تصُن بسلطانكن البريء المحَبَّب وروحكن الفتَّانة حب القوانين في الدولة والوفاق بين المواطنين، وأن تجمعن بين الأسَر المفرقة بزواجاتٍ موفقة، وأن تصْلِحن، على الخصوص، بدروسكن ذات الوداعة المقنعة، وبحديثكن ذي الألطاف المعتدلة، ما يكتسبه شبابنا من سوء سلوك البلدان الأخرى، أنَتْنُ حارسات الأخلاق وروابط السلام العذبات، وداوِمْنَ على استغلال حقوق القلب والطبيعة نفعًا للواجب والفضيلة"
"كيف يمكنني أن انعم النظر في المساواة التي وضعتها الطبيعة بين الناس، وفي التفاوت الذى اقاموه".





تعليق على الإقتباس الأخير : يجعل روسو "المساواة" قانون وضعته الطبيعة – الطبيعة هنا تأتي بمعنى الفطرة وليس بمعنى جعل الطبيعة كفاعل، وسبق لي التنويه على خطا المترجم فإختيار هذه الكلمة - بين جميع البشر، فإن كان المقصد في الحقوق والواجبات المترتبة على كل منهم فهذا محل اتفاق، أما إن كان المقصد في القدرات والمواهب غير البدنية فلا اعتقد أن المساواة صحيحة، ويترب على ذلك أننا لا يمكن أن ننسب التفاوت إلى الناس، كما نسبه روسو، والتي جعلها فكرة رئيسية لمحور كتابه.

ومن ناحية اخرى جعل الطبيعة – الفطرة – والناس فاعلين، مفهوم يجب الوقوف عنده، فالطبيعة اذا كانت بمعنى فطرة الإنسان وحركة الحياة والكون والعالم وقوانينه، فهي تفعل، لكن ليس بنفسها، وبالتالي لم تضع الطبيعة القوانين بل تسير بها وكذلك الإنسان، فكل منهما فاعل ثاني لفاعل أول، ومنفعل - متأثر بقوانين الفاعل الأول- وهذا الملمح احد الجوانب المهمة التي يجب وعيها لفهم فكر وفلسفة روسو، وغيره من أفكار الفلاسفة، حين نقرأها ونتفاعل معها بخلفيتنا الحضارية والثقافية.



فقرات من المقدمة

-أعد موضوع هذه الرسالة من اكثر المسائل التي تستطيع الفلسفة أن تعرضها امتاعا، ومن اكثر المسائل التي يستطيع الفلاسفة أن يحلوها صعوبة، ذلك لأنه كيف يعرف مصدر التفاوت بين الناس، اذا لم يبدأ بمعرفتهم؟
- تشابه النفس البشرية تمثال تمثال غلوكوس الذى بلغ من التشويه بفعل الزمن والبحار والعواصف ما صار معه يماثل حيوانا ضاريا أكثر من أن يماثل إلها، فعاد لا يُرى فيها غير تناقض مشوه، وللادراك الذى يغدو هذيانا وذلك بدلا من كائن يسير دائما وفق مبادئ ثابته لا تتحول، وبدلا من تلك البساطة العلوية الجليلة التي طبعها بها خالقها.
- من أشد الأمور قسوة هو أن جميع ترقيات النوع البشري، أبعدته من حاله الإبتدائية.
- وجوب البحث في التحولات التي التي اعترت النظام البشري عن الأصل الأول، للفروق التي تميز بين الناس المتساويين فيما بينهم بحكم الطبيعة، التفاوت الذى يسهل اثباته على العموم اكثر من تعيين علله الحقيقية بالضبط.
- كنت اقل املا في حل المعضلة من قصدي ان ألقي نورا عليها، ويستطيع آخرون أن يسيروا إلى ما هو أبعد وليس من الجهود الخفيفة أن يفرق في طبيعة الإنسان الحاضرة بين ما هو أصلي وما هو مصنوع.
- ما التجارب الضرورية للوصول إلى معرفة الرجل الطبيعي، وما وسائل القيام بهذه التجارب في ضمير المجتمع؟ بلغت من التفكير في الموضوع ما اجرؤ معه على الجواب مقدما بأن اعظم الفلاسفة لا يكونون كثيري الصلاح لتوجيه هذه التجارب، ولا أقوى الملوك كذلك.
-من الصعب أن يجُمع على تعريفٍ حسنٍ للقانون الطبيعي، وإذا عَدَوْتَ ما تنطوي عليه جميع التعاريف التي توجد في الكتب من نقصٍ في الانسجام، وجدتها تشتمل على خطأ آخر ناشئ عن اشتقاقها من أنواعٍ للمعرفة مختلفةٍ ليست لدى الناس بحكم الضرورة، ومن فوائد لا يمكنهم تمثلُ فكرتها إلا بعد خروجهم من حال الطبيعة، وقد بدِئ بالبحث عن أي القواعد يلائم اتفاق الناس عليها في سبيل المصلحة المشتركة، فأطُلِق اسم القانون الطبيعي على مجموعة من تلك القواعد من دون دليلٍ آخَر غير النفع الذي ينشأ عن تطبيقها العام.
-بيَدْ أننا ما دمنا لا نعرف الإنسان الطبيعي كان من العبث أن نحاول تعيين القانون الذي فُرِض عليه، أو القانون الذي هو أحسن ملاءمةً لنظامه، وكل ما نستطيع أن نبصره بوضوحٍ بالغٍ هو ضرورة حديثه بصوت الطبيعة من فوره ليكون طبيعيٍّا، وضرورة خضوع مَن يلزمه له مع علمه بهذا ليكون قانوناً أيضًا.
- هذا الجهل لطبيعة الإنسان هو الذى يلقي كثير ارتياب وغموض على تعريف الحقوق الطبيعية الصحيح، لأن فكرة الحقوق واكثر منها الحقوق الطبيعية، هما فكرتان خاصتان بطبيعة الإنسان، إذن من طبيعة الإنسان ونظامه يجب استنباط مبادئ هذا العالم.

- إن النظم البشرية تلوح أول وهلة قائمة على كثبان من الرمل المتحرك، وليس بغير البحث فيها عن كثب، وليس بغير إبعاد الغبار والرمل المحيطين بالبناء، ما تُرى القاعدة الثابتة القائم عليها وما يُعلم احترام أسسه، الواقع أنه اذا لم يبحث في الإنسان وفي خصائصه الطبيعية، ونشوئها المتعاقب بحثا جديا لم يمكن إتيان هذه التفصيلات، أو أن يماز في نظام الأمور الحاضر ما صدر من الإرادة الإلهية مما يزعم الفن الإنساني صنعه.

- اذا نظرنا إلى ما نصير إليه، عندما نترك لانفسنا، وجب علينا أن نعلم حَمْدَ ذلك الذى أصلح بيده الكريمة نظمنا ومَنً عليها بقاعدة ثابتة، فتدارك ما كان ينشأ عنها من فوضى، وأدى إلى سعادتنا بوسائل كانت تغمز بؤسنا كما يلوح، تعلم ما أمرك الله أن تكون، وتعلم الناحية الإنسانية التي أنت فيها.




كلمة حول أصل التفاوت وأساسه بين الناس


- أتكلم عن الإنسان، واعلم من المسألة التي ابحث فيها أنني أكلم الناس.



وكأن روسو هنا يقول لنا: اتحدث عن هذا الكائن المعقد بكل أفكاره وأهوائه وميوله وتاريخه، وهذا ليس بالسهل، وكذلك أتحدث عن الناس بكل اختلافاتهم، بما يعني أن موضوع الحديث ليس سهلا، وإيصال المعنى لمن أتحدث إليهم يزيد الأمر صعوبة



- أتصور وجود نوعين من للتفاوت في الجنس البشري، الأول وهو ما ادعوه الطبيعي أو الفزيوي لأنه من وضع الطبيعة، ويقوم على اختلاف الأعمار والصحة وقوى البدن وصفات النفس أو الروح، والثاني هو ما يمكن أن ادعوه التفاوت الأدبي أو السياسي لتوقفهن على ضرب من العهد ولقيامه - أو للإذن فيه على الأقل- بتراضي الناس ويتألف هذا النوع من مختلف الإمتيازات التي يتمتع بها بعضهم إجحافا بالآخرين، كأن يكون اكثر من هؤلاء ثراء أو اكراما أو قوة، أو أن يكون في وضع ينتزع فيه الطاعة، ومن العبث أن يُسأل عن مصدر التفاوت الطبيعي، لوجود الجواب في تعريف الكلمة البسيط



هل كان مقصد روسو أنه لا يجب أن يكون هناك تفاوت – غير الفزيوي- كي يبقى الجميع متساويين، إن كان كذلك ربما يكون هذا نوع من الأفكار المثالية، فالتفاوت – التمايز في القدرات – واقع وضرورة كي يكون هناك تكامل، المشكلة حين اصبح يتم الحصول على امتيازات واغتصاب حقوق اعتمادا على هذا التفاوت، وليس في وجود التفاوت ذاته

-

شعر الفلاسفة الذين بحثوا في أسس المجتمع بضرورة العودة إلى حال الطبيعة، ولكن احد منهم لم ينتهي إليها، ولم يتردد بعضهم في عزوهم إلى الإنسان فكرة العادل وغير العادل، وقد تكلم آخرون عن الحقوق الطبيعية فيما لكل واحد أن يحفظ ما يخصه، من غير أن يوضحوا ما يقصدون بكلمة "يخصه"، وأعطى آخرون في البداءة سلطانا للأكثر قوة على الأكثر ضعفا فأوجبوا ولادة الحكومة حالا من غير أن يفكروا في الوقت الذى وجب انقضاؤه، قبل إمكان وجود معنى كلمتي السلطان والحكومة بين الناس.

-تكلم الجميع عن الإحتياج والطمع والضغط والرغبة والزهو، فنقلوا إلى حال الطبيعة أفكارا اكتسبوها في المجتمع فتحدثوا عن الإنسان الوحشي ووصفوا الإنسان المدني.

- لم يرد خاطر معظم كتابنا أن يظنوا وجود حال الطبيعة لما يظهر من مطالعة الكتب المقدسة كون الإنسان الأول أخذ عن الله معارف وتعاليم من فوره، فلم يكن في هذه الحال قط، وانه اذا اعتمد على أسفار موسى التي يعد كل فيلسوف نصراني مدينا لها، وجب إنكار وجود الناس في الحال الطبيعية المحض.

- يأمرنا الدين بان نعتقد أن الله ذاته إذ اخرج الناس من حال الطبيعة فتر الخلقة، فإنهم يكونون متفاوتين، لأنه أراد أن يكونوا هكذا، غير ان الدين لا يمنعنا من وضع افتراضات مستنبطة من طبيعة الإنسان، والموجودات المحيطة به فقط، وذلك حول ما يمكن ان يكونه الجنس البشري لو بقي متروكا لنفسه.

-فيا أيها الإنسان كن من أي بلد شئت، ولتكن آراؤك كما أردت، واستمع، فهذا هو تاريخك، كما أرى قراءته، لا في كتب أمثالك الذين هم كاذبون، بل في الطبيعة التي لا تكذب مطلقا، وكل ما يأتي من الطبيعة يكون صادقا.



القسم الأول



يتحدث عن خليقة الإنسان وهل يمكن معرفة كيف كانت بدايتها، وما يمكن أن تسعفه به المعرفة العلمية – في عصره – حول هذا الموضوع، ويستنتج انه لا يستطيع الوصول إلى افتراضات، فيعود إلى ما قدمته "النصوص المقدسة" حول هذا الأمر، ويصفه في حال وجوده الأول على الأرض واحتياجاته الفسيولوجية البسيطة، وأن طبيعة حياته البدائية تمده ببنيه جسدية طبائع وصفات مستمدة من تلك الطبيعة، ونلاحظ من وصفه لسكان افريقيا وامريكا الأصليين وجود تلك النظرة الموجودة في عصره تجاههم : "وحوش، برابرة"




حين يتحدث روسو عن سكان أفريقيا،أو سكان أمريكا الأصليين، نراه يستخدم كلمات مثل وحوش، برابره لوصفهم وهذه  تسمية غير إنسانية وفيها استعلاء، لكنها كانت هي السائدة في عصره ومن ضمن ثقافة ذلك العصر.


- يلي ذلك الحديث حول ما وراء الجسد المادي، حيث الفرق الذى يتجلى في إرادة الإختيار لدى الإنسان عن غيره من الكائنات، التي تجعله يقوم بأفعاله عاملا حرا، وما يترتب على ذلك من ممكنات، سواء ايجابية أو سلبية، وحول دور "الغريزة والآهواء" لدى الإنسان حين تسيره هي وحدها، ثم ينتقل للحديث عن طرق التواصل الاولى بين البشر، ليصل إلى تطورهم نحو الكلام والتفكير :

- يقال لنا مكررا أنه لم يكن مثل الإنسان بائس في تلك الحال – البدائية – أما كلمة بائس فلا أجد لها معنى، أو انها لا تعني غير حرمان أليم أو ألم في الجسم والروح، ومما أود أن يُوَضَح لي، ما يمكن ان يكون نوع البؤس في شخص حر، يتمتع فؤاده بالسكون وبدنه بالصحة - افتراضات لروسو ربما الواقع مختلف- ومما أسأل: أي الأمرين: الحياة المدنية أو الطبيعية - المقصود البدائية أو الفطرية - يكون اكثر عدم احتمال، لدى من يتمتعون بها، حتى إننا نرى أناسا ينتزعونها ما استطاعوا، ولا تكاد القوانين البشرية والإلهية مجتمعة توقف هذا الإختلال، ومما أسأل: هل سمع قط أن همجيا طليقا دار في خلده أن يشتكي من الحياة فقتل نفسه.

- يظهر لأول وهلة أنه لم يكن بين الناس أي نوع من الصلات الأدبية ولا واجبات معينة، فيستطيعون أن يكونوا صالحين أو طالحين، ولم تكن لديهم معايب ولا فضائل، ما لم تؤخذ هذه الكلمات ضمن معنى مادي فتدعى معايب في الفرد الصفات التي يمكن أن تضر بقاءه الخاص، وتدعى فضائل الصفات التي يمكن أن تساعد على بقائه.

- يمكن أن يقال ان الهمج – البدائيين – ليسوا طالحين، لأنهم لا يعلمون معنى كونهم صالحين، لأن سكون الأهواء وجهل العيب هما اللذان يحولان دون صنعهم الشر.

-الإنسان قد أعطي ما يلطف به في بعض الأحوال قسوة انانيته، أو رغبته في البقاء، قبل أن تولد هذه الرغبة، فإنه يعدل ما فيه من حميا البحث عن هناءته، بنفوره الفطري من مشاهدة نظيره بألم، أتكلم عن الرحمة.

- هل تعد الرغبة في عدم تألم الشخص، شيئا آخر غير الرغبة في كونه سعيدا؟

-العقل هو الذى يوجد الانانية والتأمل هو الذى يقويها، والعقل هو الذى يلوي الإنسان على نفسه، ويفصله عن كل ما يمكن أن يزعجه أو يحزنه والفلسفة – التفكير العقلي المحض - ويقول سرا عند رؤيته إنسانا متألما: " إن شئت فاهلك، فانا في أمان"

- الرأفة شعور طبيعي يعدل في كل فرد نشاط حب الذات، وهي التي توحي إلى جميع الناس بمبدأ الصلاح الطبيعي القائل: " اصنع خيرا نحو نفسك، بأقل شر ممكن نحو الآخرين"، وذلك بدلا من المبدأ العالي للعدل العقلي القائل: " عامل الآخرين بما تريد أن يعاملوك به"، والذى هو أقل من الأول فائدة على ما يحتمل، وإن كان اكثر منه كمالا.

-الخلاصة: أنه يجب ان يبحث في هذا الشعور الطبيعي، اكثر مما في البراهين الدقيقة، عن ذلك النفور الذى يحسه كل انسان عند صنعه الشر، ومع انه يعود على سقراط ومن هم على شاكلته أمر اكتساب الفضيلة بالعقل، فإن الجنس البشري كان يزول منذ زمن طويل، لو توقف بقاؤه على تعقلات من يتألف معهم.

- من السهل أن يُرى بين الفروق التي تميز الناس، كثير يعد طبيعيا، مع انه من صنع العادة، وصنع انواع الحياة التي ينتحلها الناس في المجتمع، اكثر مما عن نظام الأبدان الإبتدائي، ومثل ذلك عن قوى النفس، فليست التربية وحدها هي التي تضع الفرق بين النفوس المثقفة وغير المثقفة، وإنما تزيد الفرق الذى يوجد بين الاولى بنسب الثقافة.

القسم الثاني

"كان هؤلاء المساكين يقولون: هذا الكلب لي، وهنالك مكاني تحت الشمس، وذلك هو بدء اغتصاب جميع الأرض وصورته" - باسكال

-كان مؤسس المجتمع المدني الحقيقي هو الإنسان الاول الذى سور أرضا، فرأى أن يقول: "هي لي" وقد وجد من البسطاء من يصدقونه، وما أكثر ما صان النوع البشري من جرائم وحروب وقتل وبؤس وهول، ذلك الذى خلع الأوتاد وملأ الخندق وهو يقول: " احذروا سماع هذا الدجال، فالهلاك يُكتَب لكم إذا نسيتم أن الثمرات للجميع، وأن الأرض ليست ملكا لأحد"

-لكن يوجد ما يدل على كون الأشياء قد بلغت إذ ذاك درجة عادت لا تستطيع البقاء معها كما كانت، وذلك لأن فكرة التملك لم تُكوَن دفعة واحدة في نفس الإنسان.

-وكان اول احساس في الإنسان شعوره بوجوده، وكان اول اعتناء في الإنسان اهتمامه ببقائه، وقد زادت المعارف الجديدة التي صدرت عن نشوء افضليته على الحيوانات الأخرى، بجعله شا عرا بها، وهكذا فإن اول نظرة ألقاها على نفسه أدت إلى اول حركة زهو فيه، وهكذا فإنه لم يكد يعرف أن يميز بين المراتب، وأن يتأمل في الاولى الخاصة بنوعه، حتى اعد السبل من بعيد لإدعاء الأفضلية كفرد.

-أمثاله لم يغيبوا عن نطاق ملاحظاته، وانتهى إلى نتيجة تقول إن طراز تفكيرهم وشعورهم يطابق ما عنده، وقد حفزته هذه الحقيقة إلى اتباعه، عن حدس أصدق واسرع من اي علم منطق، احسن قواعد السلوك التي راعاها نحوهم في سبيل سلامه وفائدته.

-علم من التجربة ان حب الرفاهية هو الدافع الوحيد لأعمال البشر، فوجد نفسه في حال يميز فرص المصلحة المشتركة، والفرص الأكثر ندرة التي تحمل على المزاحمة والحذر، ومن ثَم ترى كيف استطاع الناس أن ينالوا من غير ان يدروا، فكرة عن الإلتزامات المتقابلة وفوائد القيام بها، ولكن بمقدار ما يمكن ان تقتضيه المصلحة الحاضرة الظاهرة، وذلك لأنهم لا عهد لهم بالبصر في العواقب.

-صنع اكواخ من الغصون كان دور اول انقلاب أسفر عن تأليف الأسر، والتفريق بينها، وعن اتخاذ المُلك نشا عنه كثير من الخصام والعراك، والأكثر قوة كانوا يشعرون بقدرتهم على الدفاع عنها، والضعفاء وجدوا انه أضمن لهم ان يقلدوا الأقوياء من محاولة طردهم من منازلهم، واصبحت كل اسرة مجتمع بالغ الإتحاد، وهنالك قام أول اختلاف في طراز حياة الجنسين، فصار النساء اكثر قعودا وتعودن المحافظة على الكوخ والأولاد.


-الحياة بفراغ عظيم مع المزيد من الرفاهية منبع للشرور، والعادة تفقد الرفاهية لذتها، وتحولها إلى حاجة حقيقية، يصبح فقدها اصعب على النفس من الحصول عليها، فيكون الإنسان شقيا بضياعها من غير أن يكون سعيدا بحيازتها.

-تجمع الناس في زمر، واسفر ذلك تعود النظر والمقايسات، وتكتسب بشكل غير محسوس أفكار عن المزايا والجمال، تنتج مشاعر عن الأفضلية، وعاد لا يمكن الإستغناء عن الاجتماع، ويتحول إلى هياج صائل عند أقل اعتراض، وقد بدأ كل ينظر إلى الآخرين ويريد أن يُنظَر إليه بدوره، وكان هذا اول خطوة نحو نحو التفاوت ونحو العيب في وقت واحد، ونشأ الزهو والإزدراء من ناحية والحياء والحسد من ناحية أخرى.
-ولم يكد الناس يبدءون بتقدير بعضهم بعضًا، ولم تكد فكرة الاعتبار تتكون في نفوسهم، حتى زعم كل وجودَ حق له في ذلك، ومن هناك نشأ أول واجبات الأدب حتى بين الهمج، ومن هناك صار كل خطأٍ إهانةً، وذلك لأن المهان كان يرى في الشر الذي ينشأ عن الإهانة ازدراءً لشخصه، أشد إيلامًا من الشر نفسه غالباً، وهكذا إذ كان كل واحد يجازي على الازدراء الموجه إليه بنسبة ما يقدر، فإن الانتقامات أصبحت هائلةً وصار الناس قُساةً سفاحين، وإنه لما وقع من عدم التمييز بين الأفكار بدرجة الكفاية، ومن عدم ملاحظة مقدار ما كان من ابتعاد هذه الشعوب عن الحال الطبيعية الأولى، أسرع كثيرٌ في استنتاجه كون الإنسان قاسياً بحكم الطبيعة فيحتاج إلى ضابطةٍ لإدانته، وبينما لا تجد ما هو ألطف منه في حاله الفطرية.

والأمر هو كما جاء في مبدأ الحكيم لوك القائل: "لا يمكن أن توجد إهانةٌ حيث لا يوجد تملك".



هل مقولة لوك واقعية؟


اذا افترضنا أنه لا يوجد تملك لأمر مادي، ألسنا نملك أمورا أخرى كذواتنا، افكارنا، مشاعرنا، قد نشعر بالإهانة إذا تم المساس بها.ا

- الصلاح الملائم للحالة الطبيعية الخالصة عاد لا يلائم المجتمع الناشئ، ووجب أن تصبح العقوبات أكثر شدة كلما صارت فرص الإهانة أكثر شيوعًا، وصار الخوف من الانتقام يقوم مقام الرادع القانوني، وهكذا فإن الناس وإن صاروا أقل صبراً، ونقصت رأفتهم الطبيعية، وجب أن يكون هذا الدور، الذي هو دور نشوء المواهب البشرية، أسعد الأدوار وأكثرها دوامًا لما يبدو وسطًا بين بلادة الحالة الابتدائية، ونشاط أنانيتنا النزق، وكلما أنعمت النظر وجدت هذه الحال أصلح للإنسان، فكان لا ينبغي له أن يخرج منها إلا عن مصادفة مشئومة، كان يجب ألا تقع لاقتضاء المصلحة العامة ذلك، وكون كل تقدمٍ حدث بعد ذلك خطوةً نحو الكمال في الظاهر، ونحو هَرَم النوع في الحقيقة.

والخلاصة: أن الناس اذا ما تعاطوا أعمالاً يستطيع الفرد أن يصنعها، واتخذوا فنونا لا تحتاج إلى تضافر أيدٍ كثيرة، عاشوا أحرارًا أصحاء صالحين سعداء، استطاعوا أن يكونوا كذلك بطبيعتهم، واستمروا على التمتع فيما بينهم بألطاف معاشرةٍ مستقلة، ولكن الإنسان منذ احتياجه إلى معونة إنسان آخَر، منذ رُئي أن المفيد لواحدٍ أن يكون ذا مؤنٍ لاثنين، زالت المساواة عنده وانتحل التملك وصار العمل ضروريٍّا، وتحولت الغابات الواسعة لحقول باِسمه، وجب أن ترُوى بعرق الناس، فلم تلبث أن رُئي فيها نشوء العبودية والبؤس ونموها مع الغلات.

- وأدت زراعة الأرض إلى تقسيمها، وأدى الاعتراف بالتملك إلى أولى قواعد العدل، وذلك لأنه يجب لإعادة مال كل واحدٍ إليه، أن يكون هذا الشخص مالكًا شيئاً ما، وزِدْ على ذلك كون الناس إذ صاروا ينظرون على المستقبل، وكان لدى الجميع ما يخسره، أصبح لكل واحدٍ من الأسباب ما يخشى معه الثأر عن خطأ،ٍ يمكن أن يقترفه تجاه الآخرين، ويكون هذا الأصل أقرب إلى الطبيعة، نسبة ما يتعذر تمثل صدور مبدأ التملك عن أمرٍ خلا عمل اليد، وهل يمكن الإنسان أن يضيف غير عمله إلى أشياء لم يوجدها في الأصل فيجعلها ملكه؟ وعمل الفلاح وحده، ٍإذ يمنحه حقا قي غلة الأرض التي حرثها، ٍيمنحه حقا في الأرض ذاتها حتى الحصاد على الأقل، وهكذا تحول التصرف المستمر بين عامٍ وعامٍ إلى مِلْك.

كان يمكن الأمور في هذه الحال أن تبقى متساويةً لو كانت المناقب متساويةً، فيكون استعمال الحديد واستهلاك الغلات متوازنين دائمًا، غير أن النسبة التي كان لا يمُسكها شيء لم تلبث أن زالت، فكان الأقوى أكثر عملًا وحَول الأكثر براعةً عمله إلى أحسن حسابٍ، ووجد الأكثر لباقةً وسائل لاختصار العمل، وكثر احتياج الفلاح إلى الحديد، وزاد احتياج الحداد إلى القمح، وبينما كان الاثنان يعملان على السواء كان أحدهما يكسب كثيراً ولم يكد الآخَر يحوز ما يعيش به، وهكذا فإن التفاوت الطبيعي ينتشر، وإن الفروق بين الناس التي تنمو باختلاف الأحوال أصبحت أكثر بروزًا ودوامًا في نتائجها، وبدأت تؤثر ذات النسبة في نصيب الأفراد، وبما أن الأمور قد انتهت على هذه المرحلة، فإنه يسهل تمثل البقية.

مكان كل إنسانٍ ونصيبه، القائمين على الذكاء أو الجمال أو القوة أو المزية، أو المواهب، لا على مقدار الأموال والقدرة على النفع والضر، وبما أن هذه الصفات هي التي كانت تستطيع أن تجتذب اعتبارًا وحدها، فقد وجب نيلها أو تكلفها، وقد أصبح من مصلحة الإنسان أن يتظاهر بغير ما هو عليه، وعن هذا الاختلاف نشأ الجاه  والمكر الخادع وجميع المعايب التي هي موكِبُ ذلك، والإنسانُ بعد أن كان حر ٍّا مستقلا، أضحى الآن خاضعًا عن طائفة من الاحتياجات الجديدة، لكل طبيعة، ولا سيما أمثاله الذين غدا عبدًا لهم من جهةٍ وإن بدا سيدًا لهم فإذا كان غنيٍّا احتاج إلى خدمهم وإذا كان فقيراً احتاج إلى مساعدتهم، وما كان توسطُ الحالِ ليجعله يستغني عنهم مطلقًا، ولذا يجب أن يحاول بلا انقطاعٍ جعلهم يكترثون لنصيبه، وحملهم على أن يجدوا في الحقيقة أو في الظاهر فائدتهم في العمل لفائدته، وهذا ما يجعله شاطرًا محتالاً نحو أناسٍ، متجبراً قاسياً نحو آخرين.

والخلاصة: أن التنافس والتزاحم من ناحيةٍ، وتضارب المصالح والرغبة الخفية في الانتفاع على حساب الآخرين من ناحيةٍ أخرى، أيْ أن هذه الشرور كلها أول نتيجة للتملك وموكبٌ لازمٌ للتفاوت الناشئ.

ولم تكن الثروات، قبل اختراع الرموز الممثلة لها لتقوم على غير الأرضين والمواشي، والواقع أن المواريث إذا ما زادت عددًا واتساعًا زيادةً تغطي جميع الأرض، وتماست كلها، عاد بعض الناس لايستطيع أن يتوسع إلا على حساب الآخرين، ولم يغير شيئاً قط أولئك الزائدون على العدد، والذين كان ضعفهم أو تثاقلهم قد حال دون اكتسابهم من ذلك بدورهم، فغدوا فقراء من غير أن يخسروا شيئاً، وذلك لأنهم وحدهم لم يغيروا شيئ.

هكذا فإن الأكثر بأسًا أو بؤسًا، جعلوا من قواتهم أو احتياجاتهم نوعا من الحقوق حول مال الآخرين مساوياً حق التملك على رأيهم، عقب المساواة المتحطمة، وهكذا فإن اغتصابات الأغنياء ولصوصيات الفقراء وأهواء الجميع الجامحة، خنقت الرأفة الطبيعية وصوت العدل الضعيف، وجعلتهم بخلاء طامحين خبثاء وكان يقع بين حقوق الأقوى وحق واضع اليد الأول صِدامٌ دائم، لا ينتهي إلا بمعارك ودماء، وأدى بالمجتمع إلى الحروب وبما أن النوع البشري المهين الحزين لم يستطع بعدُ أن يرجع القهقري فإنه وضع نفسه على حافة الهلاك

-وهو عند هذا النظر، وبعد أن عرض على جيرانه فظاعة وضعٍ، كان يسلحهم جميعًا ضد بعضهم بعضًا، وكان يجعل أملاكهم مرهقة إرهاق احتياجاتهم، وحيث كان لا يوجد أحدٌ يرى سلامته في الفقر ولا في الغنى، اخترع بسهولةٍ من الأسباب المقبولة ما يجلبهم به إلى غرضه، فقال لهم: "دعونا نتحد لوقاية الضعفاء من الاضطهاد وردع ذوي الطموح، وصيانة ملك كل واحد، فتوضع أنظمة للعدل والأمن، يلُزَم الجميع بالخضوع لها، من غير استثناء أحدٍ، وتقُوم بها أهواء النصيب من بعض الوجوه، بجعل القوي والضعيف خاضعين لواجبات متبادلة على السواء.

والخلاصة: هي أن نجمع قوانا في سلطةٍ عالية، تحكم فينا وفق قوانين رشيدةٍ، وتحامي وتدافع عن جميع أعضاء الجماعة، وتدفع الأعداء المشتركين، وتمسكنا ضمن وفاقٍ أبدي.
-وكان أقل كلامٍ حول هذا المقصد يكفي لمخادعة أناس غلاظٍ سهل إغواؤهم، وذلك لما كان عليهم أن يأتوه من منازعاتٍ كثيرة لا يستغنون فيها عن التحكيم.

-ولما كانوا عليه من طموحٍ وبخلٍ كثيرين لا يستغنون فيهما عن سادةٍ لزمنٍ طويل، ٌّ وكل يسعى إلى قيوده بسرعةٍ، معتقدًا أنه يضمن حريته؛ وذلك لأنه إذا كان لديه من العقل ما يكفي للشعور بفوائد أحد النظم السياسية، فإن ليس لديه من التجربة ما يبُصر معه أخطار هذا النظام، وكان أكثر الناس قدرةً على البصر في سوء الاستعمال هم الذين يرون الانتفاع به، حتى إن الحكماء رأوا من الضروري أن يضحوا بقسم من حريتهم حفظًا للقسم الآخَر، شأن الجريح الذي تبُتَر ذراعه إنقاذًا لبقية الجسم.

-ذلك ما كان، أو ما وجب أن كان، أصل المجتمع والقانون اللذين ربطا الضعيف بقيودٍ جديدة، ومنحا الغني قوًى جديدة، فقضيا على الحرية الطبيعية من غير رجوع، وثبَّت قانون التملك والتفاوت إلى الأبد، َّ وحولا اغتصاباً لبقًا إلى حق لا ينُقض، َّ وسُخراالجنس البشري للعمل والعبودية والبؤس؛ نفعًا لبعض ذوي الطموح ومن السهل أن يرُى كيف أن قيام مجتمعٍ واحد، جعل قيام جميع المجتمعات الأخرى أمرًا ضروريٍّا.

- وبما أن الحقوق المدنية أصبحت قاعدة المواطنين العامة على هذا الوجه، عاد قانون الطبيعة لا يكون له مكانٌ إلا بين مختلف المجتمعات، حيث عُدل— باسم الحقوق الدولية — ببضعة عهودٍ ضمنية، جعلًا للتجارة أمرًا ممكناً، وتعويضًا من الرأفة الطبيعية التي خسرت بين مجتمع وآخَر — تقريباً — كل قوة كانت لها بين إنسان وآخَر، والتي عادت لا تكون في غير بعض أكابر الوطنيين العالميين الذين يجاوزون الحواجز الخيالية الفاصلة بين الشعوب، والذين يسيرون على غرار المولى الخالق فيشملون جميع النوع البشري برعايتهم.

-وبما أن الهيئات السياسية قد بقيت بينهم في الحال الطبيعية على هذا الوجه، فإنها لم تعتم أن شعرت بالمحاذير التي كانت قد حملت الأفراد على الخروج منها، وقد أصبحت هذه الحال أيضًا أكثر شؤمًا بين هذه الهيئات الكبيرة، مما كانت عليه سابقًا بين الأفراد الذين تألفت منهم، فمن ثمَ ظهرت الحروب القومية والمعارك والمقاتل والآثار التي أرعشت الطبيعة وصدمت العقل.

-وأخيراً رُئي أن الناس يتذابحون بالألوف، من غير أن يعرفوا السبب، وكان يقُترف من القتل في يوم معركةٍ وكان يقُترف من الفظائع عند الاستيلاء على مدينة واحدة، ما هو أكثر مما كان يقُترف في حال الطبيعة — في قرونٍ بأسرها — على جميع وجه الأرض، وهذه هي النتائج الأولى التي تبُصَر من تقسيم النوع البشري إلى مجتمعاتٍ شتى، فَلْنعد إلى نظمها.

-أعلم أن كثيرين جعلوا للمجتمعات السياسية مصادر أخرى، كفتوح القوى أو اتحاد الضعفاء، لا أهمية للخيار بين هذه العلل فيما أريد إثباته، ومع ذلك فإن ماعرضته أقرب إلى الطبيعة - كما يلوح لي - للأسباب الآتية:
أولاً: ٍّبما أن حق الفتح في الحال الأولى ليس حقا في ذاته، فإنه لا يمكن أن يصلح أساسًا يبُنى عليه حق آخَر فيبقى كل من الفاتح والشعب المغلوب تجاه الآخر في حال حربٍ، ما لم ترَد إلى الشعب المغلوب حريته كاملةً، فيقع اختياره طوعًا على قاهره ليكون رئيسًا له، وريثما يقع هذا تكن كل مصالحةٍ قائمةً على العنف ومن ثمَ تكون باطلة عن ذات الأمر، فلا يكون بهذا الافتراض أي مجتمعٍ حقيقي، أو أية هيئة سياسية، أو أي قانون غير ما للأقوى.
ثانياً: بما أن كلمة القوي وكلمة الضعيف مبهمتان في الحال الثانية، فإن معنى هاتين الكلمتين في الفاصلة بين قيام حق التملك، أو وضع اليد الأول، وحق الحكومات السياسية أحسن إيفاءً بكلمتي الفقير والغني؛ وذلك لأنه لم يكن للإنسان قبل القوانين في الحقيقة، وسيلةٌ أخرى لإخضاع أمثاله غير مهاجمة مالهم، أو جعل نصيبٍ لهم في مالهم.
ثالثاً: بما أنه لم يكن لدى الفقراء ما يخسرونه غير حريتهم، فإن من حماقتهم الكبيرة أن يتخلوا باختيارهم، عن المال الوحيد الذي بقي لهم، فلا يكسبوا شيئاً مقابلةً، وبماأن الأغنياء هم - على العكس - مرهفو الحس في جميع أقسام أموالهم، فإنه كان منٍّ السهل جدا أن يؤُذَوا؛ ولذا كان عليهم أن يتخذوا من الاحتياطات الكثيرة ما يضمنون به أنفسهم من ذلك، ثم إن من الصواب أن يعُتقد كون الشيء قد اختُرِع من قِبلَ مَن ينفعهم أكثر من كونه قد اختُرِع من قِبلَ مَن يضرهم.
ومن غير الصواب أن يعتقد أن الشعوب ألقت نفسها في البداءة، بين ذراعي سيد مطلق بلا شرطٍ ولا رجوع وأن الوسيلة الأولى للقيام بالأمن العام، الذي تصوره أناسٌ مختالون جامحون كانت تدهورًا في العبودية ولماذا نصب الناس في الحقيقة رؤساء، إن لم يكن للدفاع عنهم ضد الاضهاد، ولحفظ أموالهم وحرياتهم وحيواناتهم التي هي عناصر وجودهم المكونة؟ والواقع أن السوء الذي يمكن أن يحدث لأحد الناس، في صِلات بعض الناس ببعضٍ، إذ كان رؤيته نفسه تحت رحمة آخَر، أفلم يكن مناقضًا للرشاد، أن يبدأ بتجريد نفسه بين يدي رئيسٍ، من الأشياء الوحيدة التي كانوا يحتاجون لحفظها إلى مساعدته؟ وأي شيء معادلٍ استطاع تقديمه إليهم من أجل حق عظيم كهذا؟ وإذا ما جرؤ على المطالبة به، متعللًا بحجة الدفاع عنهم، أفلا يتلقى الجواب الآتي الذي جاءفي القصة: "وأي شيء أكثر من هذا يستطيع العدو أن يصنعه بنا؟"

 إن مما لا جدال فيه كون المبدأ الأساسي لجميع الحقوق السياسية قائمًا على أن الشعوب أعُطِيت رؤساء للدفاع عن حريتها، لا لاستعبادها، وقد قال بليني لتراجان: "إذا كان لنا أميرٌ، فلِكَيْ يحفظنا من وجود سيد".

ويأتي السياسيون حول حب الحرية، بذات السفسطة التي يأتي بها الفلاسفة حول حال الطبيعة، وذلك أنهم يحكمون بما يرون، في أمورٍ ٍّتختلف جدا عن التي لا يرون، وهم يعزون إلى الناس ميلًا طبيعيٍّا نحو العبودية مستندين إلى الصبر الذي يطُيق به عبوديته، ممَن يقعون تحت عيونهم، وذلك من غير تفكير في أن أمر الحرية كأمر العصمة والفضيلة، الذى لا يشُعَر بقيمته إلا بدوام التمتع به، والذي يضيع ذوقه عند ضياعه.

وكما أن الجواد الجامح ينَصْب عرقه، ويضرب الأرض بسنابكه، ويهيج عند دنواللجام، على حين يعاني الحصان المروض السوط والمهماز صابرًا، ترى الإنسان في البرابرة، لا يطُأطئ رأسه للنير الذي يحمله الإنسان المتمدن غير متذمر، وهو يفضل الحرية العاصفة على الخضوع الساكن.

وأما السلطة الأبوية، التي اشتق منها الحكومةَ المطلقة، ومن غير رجوع إلى أدلة لوُكَ وسِيدْنِي المعاكسة فيكفي أن يلاحظ أنه لا شيء في الدنيا أكثر ابتعادًا عن روح الاستبداد الضاري، من حِلْم هذه السلطة التي تنظر إلى نفع مَن يطُيع، أكثر من نظرها إلى فائدة مَن يأمر، وأن الأب على حسب قانون الطبيعة، ليس سيد الولد إلا للزمن الذي تكون معونته ضرورية له، فإذا مر هذا الزمن صارا متساويين، ٍّوهنالك إذ يصبح الولد مستقلا عن الأب تمامًا، فإنه لا يكون مديناً له بغير الاحترام — لا الطاعة — وذلك لأن معرفة الجميل واجبٌ يجب تأديته، لا حق يمكن أن يطالب به، وكان يجب أن يقال إن السلطة الأبوية تنال قوتها الرئيسة من المجتمع المدني، بدلاً من أن يقال إن المجتمع المدني يشتق من السلطة الأبوية، ولم يعُترف بأن الفرد أبٌ للكثيرين إلا عندما يبقون مجتمعين حوله، وما لدى الأب من أموالٍ ٍّيملكها حقا، هو الصلات التي تبُقي أولاده تابعين له ويستطيع الأب ألا يجعل لهم نصيباً في ميراثه إلا بنسبة ما يستحقون ذلك منه بامتثالٍ دائم لمشيئته.

والواقع أن من البعيد أن يكون للرعايا نفعٌ مماثل، ينتظرونه من طاغيتهم، ما داموا هم وجميع ما يملكون مالاً له، أوما دام يزعم هكذا، فهم ملزمون بأن يعدوا فضلًا، ما يتركه لهم من مالهم الخاص، وهو يعَدِل إذا ما جردهم، وهو يتساهل إذا ما تركهم يعيشون.

وإذا داومنا على البحث في الوقائع حقوقيٍّا على هذا الوجه، لم نجد ما هو أقل من الحقيقة، في قيام الطغيان عن رضًا، ويكون من الصعب إثبات صحة عقدٍ لا يلُزم غير أحد الفريقين، وأن يقع الغُرْم على فريق واحد دون الآخَر، فلا يعانيه سوى مَن يلُزِم به نفسه.

ويقول وُفندُورف: "إن الإنسان يستطيع أن يجرد نفسه من حريته، نفعًا لآخرين كما ينقل ماله إلى آخرين بعهودٍ وعقود"، ويلوح لي أن هذه برهنةٌ سيئة، وذلك — أولاً — أن المال الذي أبيعه يصبح عندي أمرًا غريباً تمامًا، ويغدو سوء استعماله أمرًا لا يؤُبهَ له،َّ ولكن مما يهمني ألا يسُاء استعمال حريتي، ولا أستطيع أن أعرض نفسي لتكون أداة جريمةٍ، من غير أن أكون مذنباً بالسوء الذي أحْمَلُ على صنعه، ثم بما أن حق التملك ليس سوى عهدٍ ونظامٍ بشري، فإن كل واحد يقدر على التصرف فيما يملك، ولكن غَير هذا هِبات الطبيعة الجوهرية كالحياة والحرية، اللتين يبُاح لكل واحدٍ أن يتمتع بهما، واللتين يشُك في أنه يحق للإنسان أن يجُرد نفسه منهما؛ وذلك لأن الإنسان إذا ما أقصي عن نفسه إحداهما، يكون قد أذل نفسه، ولكن بما أنك لا تجد خيراً دنيويٍّا يستطيع أن يعوض من أحد الأمرين، فيكون من إهانة الطبيعة والعقل معًا أن يعُدل عنهما بأي ثمنٍ كان.

ولكن الإنسان إذا ما استطاع أن يبيع حريته كأمواله، كان الفرق عظيمًا من ناحية أولاده الذين لا يتمتعون بأموال أبيهم إلا بنقل حقوقه، وذلك بدلاً من كون الحرية، التي هي موهبةٌ ينالونها من الطبيعة كأناسٍ، لا يحق لآبائهم أن يجردوهم منها مطلقًا، فالفقهاء - الذين ذهبوا باتِّزانٍ إلى أن ابن العبد يوُلَد عبدًا-  يكونون قد قرروا بعباراتٍ أخرى كون الإنسان لا يوُلَد إنساناً.

وإني من غير الدخول حول طبيعة الميثاق الأساسي لكل حكومة، أقتصر - باتباعي الرأي السائد - على عدي نظام الهيئة السياسية عَقْدًا حقيقيٍّا بين الشعب والرؤساء الذين يختارهم، عقدًا يلُزِم كل من الفريقين نفسه بمراعاة القوانين التي اشترطت فيه، فتؤلف روابط لاتحادهما.

وبما أن الشعب في موضوع الصلات الاجتماعية يجمع جميع إرادته ضمن إرادة واحدة، فإن المواد التي توُضح بها هذه الإرادة تصبح قوانين أساسية تلُزم جميع أعضاء الدولة من غير استثناء، فينُظَم أحدهما أمر الخيار وسلطة الحكام المُوكل إليهم أن يسهروا على تنفيذ الأخرى، وتعم هذه السلطة كل ما يمكن أن يحفظ النظام من غير ذهابٍ إلى الحد الذي يغُير به، وإلى هذا تضاف أنواعٌ من الشرف تجعل القوانين وحفظتها محترمة، وتجعل لهؤلاء شخصيٍّا من الامتيازات ما يعوضهم من الأعمال الشاقة التي تكلفهم الإدارة الصالحة بها، والحاكم من ناحيته يلُزِم نفسه بألا يستعمل السلطة التي عُهِدَ إليه أن يقوم بها إلا وفقِّ مقصد موكليه، وبأن يجعل كل واحدٍ يتمتع بما هو خاصٌ به تمتعًا هادئاً، وبأن يفُضل المصلحة العامة على المصلحة الشخصية في كل فرصة.

وبما أن الحاكمية وحقوقها لم تقوما على غيرالقوانين الأساسية، فإن هذه القوانين إذا ما قُوضت عاد الحكام    لا يكونون شرعيين من فورهم، وعاد الشعب غير مُلزَمٍ بإطاعتهم، وبما أن القانون- لا الحاكم - هو الذي يقيم جوهر الدولة، فإن كل واحد يعود إلى حريته الطبيعية عن حق.

وإذا أمعنا النظر قليلًا في هذا الموضوع وجدناه يؤيد بأسبابٍ جديدة، ورئي أنه يتعذر نقضه؛ وذلك لأنه إذا كانت لم توجد سلطةٌ عالية، قادرةٌ أن تكون ضامنةً لإخلاص المتعاقدين أو أن تحملهما على القيام بالتزاماتهما المتبادلة، ظل الفريقان قاضيين وحيدين في قضيتهما الخاصة، وكان لكل واحد منهما حق العدول عن العقد فور ما يجد نقض الفريق الآخر للشروط، أو حينما تعود غير ملائمة له، ويظهر أن حق التنزل يمكن أن يكون قائمًا على هذا المبدأ، والواقع أننا إذا لم ننظر - كما نصنع - إلى غير النظام البشري، وذلك عندما يكون الحاكم القابض على جميع السلطة، والمنتحل لجميع فوائد العقد، ذا حق في العدول عن السلطة على الخصوص، فإن من الأولى أن يكون الشعبٍّ الذي يدفع ثمن جميع أغاليط الرؤساء ذا حق في العدول عن خضوعه.

وتكون أشكال الحكومة المختلفة مدينةً بأصلها لدرجة ما يكون بين الأفراد من الفروق حين قيامها

والخلاصة: أن الثروات والفتوح كانت من ناحيةٍ، وأن السعادة والفضيلة كانتا من ناحية أخرى.
وإذا ما تتبعنا تقدم التفاوت في هذه الثورات المختلفة، وجدنا أن وضع القانون وحق التملك كانا حده الأول وأن قيام الحاكمية كان حده الثاني، وأن تحول السلطة الشرعية إلى سلطة مُرَادية كان حده الثالث والأخير، فأجُيز حال الغني والفقير في الدور الأول، وأجُيز حال القوي والضعيف في الدور الثاني، وأجيز حال السيد والعبد في الدور الثالث، الذي هو آخِر درجةٍ للتفاوت والحد الذي ينتهي إليه جميع الأخرى في نهاية الأمر، وذلك إلى أن تقضي ثوراتٌ جديدة على الحكومة تمامًا، أو أن تدنيها من النظام الشرعي.

 وجدتُ القوانين، التي هي أقل قوة من الأهواء على العموم، تردع الناس من غير أن تغيرهم

وتؤدي الفروق السياسية إلى فروقٍ مدنية بحكم الضرورة، ولا يلبث التفاوت الذى يزيد بين الشعب ورؤسائه أن يشُعر به بين الأفراد، فيتحول على ألف وجهٍ وفق الأهواء والمواهب والمصادفات، وما كان الحاكم ليغتصب سلطةً غير شرعية، من غير أن يتخذ من العمال مَن يضُطر إلى منحهم قسمًا منها، ثم إن المواطنين لا يسمحون بأن يضغطوا إلا عن سيرٍ وراء طموح أعمى، وهم إذ ينظرون إلى ما تحتهم أكثر مما إلى فوقهم فإن السيطرة تصبح أعز من الاستقلال عندهم، ويوافقون على تكبيلهم بقيودٍ يقدرون على منحها بدورهم، ومن الصعوبة بمكانٍ أن يحُمل على الطاعة مَن لا يحاول أن يسوس مطلقًا، وما كان أمهر السياسيين ليستعبد أناسًا لا يريدون إلا أن يكونوا أحرارًا.

وعن أقصى تفاوت الأحوال والثروات واختلاف الأهواء والمواهب، وعن الفنون غيرالمفيدة والفنون الضارة والعلوم التافهة، نشأت طوائف من المبتسرات المخالفة للعقل والسعادة والفضيلة على السواء
ومن بين هذه الارتباكات والثورات رفع الاستبداد رأسه الفظيع بالتدريج، وافترس كل ما وجده صالحًا صحيحًا في جميع أقسام الدولة، فانتهى أخيراً إلى دوس القوانين والشعب، وإلى القيام على أنقاض الجمهورية وكانت الأزمنة التي سبقت هذا التحول الأخير أزمنة اضطراباتٍ وكوارث، غير أن الجميع قد ابتلِع من قِبلَ الغولِ في نهاية الأمر، وعاد لا يكون للشعوب زعماء ولا قوانين، بل طغاة فقط، وصار لا يبحث منذ هذه الدقيقة في الطبائع والفضيلة؛ وذلك لأن الاستبداد في كل مكان يسوده لا يحتمل أي سيد آخر، وإذا ما تكلم الاستبداد لم يبقَ صلاحٌ ولا واجبٌ ليستشار، ولم يبقَ للعبيد فضيلةٌ غير الطاعة العمياء.
وهنا آخِر حد للتفاوت وأقصى نقطة تغُلق الدائرة وتمس النقطة التي ذهبنا منها، وهنا يعود الأفراد إلى مساواتهم الأولى؛ وذلك لأنهم ليسوا شيئاً يذُكر، ولأن الرعايا إذ عاد لا يكون لديهم من القوانين غير مشيئة السيد، وعاد لا يكون للسيد من القواعد غير أهوائه، فإن مبادئ الخير والعدل تزول مرة أخرى، وهنا يرد كل شيء إلى قانون الأقوى فقط، ومن ثمَ إلى حالٍ جديدة للطبيعة مختلفةٍ عن الحال التي بدأنا منها؛ وذلك لأن إحدى الحالين كانت حال الطبيعة في صفائها، ولأن الحال الأخرى هي نتيجة إفراطٍ في الفساد.

والخلاصة: أنه يوضح كيف أن الروح والأهواء البشرية تفسدان على وجه غيرمحسوس، ومن ثمَ تغيران طبيعتهما، ولماذا تُغَير احتياجاتنا وملاذنا غرضها مع الزمن، ولماذا يزول الإنسان الأصلي بالتدريج فيعود المجتمع لا يبدي لعيني الحكيم غير جمع من الآدميين المفتعلين، وأهواء مصنوعةٍ نتيجةً لجميع هذه الصلات الجديدة، ومن غير أن يكون لها أساسٌ ٌّ حقيقي في الطبيعة.
 وما يعلمنا التأمل إياه فوق ذلك تؤيده الملاحظة تمامًا، وذلك أن الإنسان الوحشي والإنسان المتمدن يبلغان من الاختلاف قلباً وميولاً ما يكون باعث السعادة العليا لأحدهم معه عامل قنوط الآخَر، فالأول لا يستنشق غير الراحة والحرية، وهو لا يريد إلا أن يعيش ويبقى خالياً من العمل، حتى إن سكون الرواقي لايقاس بعدم مبالاته العميقة تجاه أي موضوع آخَر، وعلى العكس تجد الإنسان المتمدن نشيطًا دائمًا فيعرق ويهتز ويضطرب بلا انقطاعٍ بحثاً عن أشاغيل أشد عُسرًا، وهو يعمل حتى الموت، وهو يسعى إلى الموت ليعيش أو يعدل عن الحياة نيلًا للخلود، وهو يتودد إلى العظماء الذين يمقتهم وإلى الأغنياء الذين يحتقرهم، وهو لا يدخر وسعًا لينال شرف خدمتهم، وهو يباهي منتفخًا بنذالته وحمايتهم، وهو يفاخر بعبوديته، وهو يُحَدث مع الاستخفاف عن الذين لم يتفق لهم شرف مقاسمته إياها.
وأن يعلم وجود نوعٍ من الناس الذين يرون قيمة لآراء بقية العالم، والذين يعرفون أن يكونوا سعداء راضين عن أنفسهم بشهادة الآخرين أكثر مما بشهادتهم، والواقع أن هذا هو السبب الحقيقي لجميع هذه الفروق فالهمجي يعيش في نفسه، والإنسان المتمدن يعيش خارج نفسه دائمًا، فلا يعرف إلا أن يعيش في نفوس الآخرين، وهو لهذا السبب يقتبس شعور حياته الخاصة من حكمهم وحده.

والخلاصة: كيف أننا إذ نسأل الآخرين عن أنفسنا دائمًا، ومن غير أن نجرؤ على سؤال أنفسنا، وذلك بين كثير من الفلسفة والإنسانية والأدب والمبادئ العليا، ولا نجد لدينا غير مظهرٍ خادع طائش لشرفٍ بلا فضيلة، وعقلٍ بلا حكمة، ولذةٍ بلا سعادة، ويكفي أنني أثبت أن هذا ليس حال الإنسان الأصلية مطلقًا، وأن روح المجتمع والتفاوت الذيِّ ينشأ عن المجتمع هي التي تغير جميع الميول الطبيعية وتفسدها على هذا الوجه.
وقد حاولت أن أعرض أصل التفاوت وتقدمه، وقيام المجتمعات السياسية وسوء استعمالها، وذلك بالمقدار الذي يمكن هذه الأمور أن تستنبط من طبيعة الإنسان على نورالعقل فقط، مستقلة عن العقائد المقدسة التي تمنح السلطة ذات السيادة تأييد الحقوق الإلهية، ويعلم من هذا البيان أن التفاوت، إذ كان غير موجود في حال الطبيعة تقريباً، ينالُّ قوته ونموه من تقدم ملكاتنا وترقي الروح البشرية، ثم يصبح ثابتاً شرعيٍّا بقيام مُلْك القوانين، ويعُلم من هذا البيان أيضًا أن التفاوت الأدبي الذي أجازته الحقوق الوضعية فقط مخالف للحقوق الطبيعية في كل مرة لا يتناسب هو والتفاوت البدني، ويعين هذا التمييز بما فيه الكفاية ما يجب أن يفكر فيه من هذه الناحية حول نوع التفاوت الذي يسود جميع الشعوب المتمدنة ما دام يباين قانون الطبيعة، مهما كان الوجه الذي يعرف به، أن يقود ولدٌ شائباً، وأن يسوق غبي رجلًا حكيمًا، وأن تطفح شرذمةٌ من الأتباع بالزوائد على حين يحتاج الجمهور الجائع إلى الضروري.