28‏/11‏/2018

خطاب العاشق ( ميثولوجيا ورؤى )



                          الكتاب: خطاب العاشق (ميثولوجيا ورؤى)

  

                            من عشتار سيدة الحب الأولى إلى المتنبي عاشقاً 











المؤلف: محمد الجزائري
الناشر: دار الشروق 1996

عرض: عبدالخالق مرزوقي 


"أنا عشتار..النار الملتهبة، التي استعرت في الجبال..اسمي الرابع هو: نار المعركة الملتهبة.."



هكذا اختار محمد الجزائري أن نبدأ مصافحتنا للكتاب القيم، الذى قسمه لمجموعة اوراق – فصول – حملت كل منها مجموعة عناوين، تتناغم فيما بينها، يحفر بها المؤلف عميقا، نحو المعاني المضمرة، في خطابات العاشق، ثم، وبما يشبه وضع "علامات" الطريق، يضع المؤلف امامنا العبارات التالية:


 * الخطاب هو كأداة النص وموجهه، رسالته بما تحمل من اشارات وعلامات.
 * يقول رولان بارت: الانسان يعشق بحضارة، بأدب، هما حضارته وادبه.




متن الكتاب 



  • خطاب العاشق من عشتار للشعر الجاهلي هو خطاب تضرع وشفاعة وصلاة إلى السيدة كمجاز حضور العالي: 
   

انت يا عشتار جعلت اسمي جميلا، منحتني أن اخلِص وارحم الأبرار، نطَقتِ بأمر إلي، بأن اجدد الآلهة المُرحلة وانا جددت المعابد المتروكة، صنعت ايضا سريرا من بقس فراشا بديعا لراحة ألوهيتك، داخله موشح بالذهب الثقيل، الموشح بالابداع، وزينت شكله بأحجار نفيسة من الجبال، جعلته مشعا للنظر وغاية في البهاء جعلته يتلألأ، مثل شعاع الشمس المشرقة.


نلاحظ في هذا النص، أن اسقاط الخوف والاحترام والاجلال والرهبة من قبل الحكام والملوك، لمعشوقة الشعب ورمزه المحبوب- عشتار- ظل عادة متوارثة، نجدها متجسدة ومبجلة دائما، كما في المعابد السومرية والأكدية والبابلية والآشورية، كما نجدها بصورة أو باخرى- في المعابد الهندوسية والبوذية، كما في الكاتدرائيات والكنائس بمسميات مختلفة لكنها الآلهة/ الجميلة/ السيدة/ العذراء/ البتول. في الأيقونات كما في التماثيل، إنها حالات عشق، تتصل بكل تلك الرموز أو تتحد معها.

إنها امتداد لنسق.. لخطاب، وسيلته (عشق)، تعبير عن تمجيد الحب والمحبوبة، حيث يدنو العاشق من المعشوق، لكسب رضاه.. عشتارا كانت التسمية بشكل ألهة أو نجمة أو أي إله آخر، انه خطاب موجه إلى (سيدة الحب).. سنراه لاحقا، ظاهرة متميزة في شعر التشبيب والنسيب، تماما كما هو في جوهره موجه إلى (السيدة) لتشفع لآشور ناصريال، عند حبيبها (أبي الآلهة): البطل آشور، ليمجد ألوهيتها إلى الأبد.

- خطاب من آشور ناصربال، موجه مباشرة إلى الشفيعة/ المحبوبة/ المعشوقة وترى كم من (الخطابات) توجهت بالشفاعة إلى المحبوبة.. عبر الأزمنة من آشور حتى الآن؟

كيف لا اكون في الخطأ وفي الخطيئة؟ دوما، رغم كوني غنيا، ها أنذا تعيس أنا محروم من كل شيء ولا أستطيع أن اجد الراحة على عرشي الملوكي، ليس سوى الحرمان لا يسعني الدنو من الطعام، الذى بودي تناوله الشراب النفيس الضروري الحياة تحول عندي إلى شراب مر. وبت لا ابالي بالقيثار، والأغاني التي تناسب الملوك ومن الفرح الذى هو شأن الأحياء، ها أني محروم كليا عيناي رغم كونهما مليئتين بالألوان، لا تريان بعيدا ولا يسعني - من بعد- أن ارفعهما عن الأرض نحو العُلا إلى متى، ايتها السيدة، ستتركين هذا الألم المتواصل يلازمني. أنا ناصربال، المبتلى بالأرق، أنا الذى اخافك الذى أمسك حاشية ثوب ألوهيتك الذى اتوسل إليك كسيدتي إلتفتي إلي، يا سيدتي، لكي اتضرع إلى ألوهيتك انت المغتاضة كوني رحيمة، ولتهدأ نفسك ليمل قلبك إلى المغفرة، إن كان غاضبا علي إطردي مرضي، ولتكن خطيئتي في نظرك طفيفة لينزل من فمك يا سيدتي الهدوء لي! على اميرك المفضل، الذى كان أمينا دوما، اشفقي واطردي أرقه تشفعي لي عند حبيبك أبي الألهة، البطل آشور واطري إسمي بين جميع آلهة السماء والأرض.

 انه خطاب عاشق بصيغة (الرجاء) و (التضرع)، فكم من رسائل وادعية وصلوات ومناجاة محبين، ولهين، أو قصائد عذريين يتناقلها (عشاق)، حتى يومنا هذا، تجد مقاربها، أو حالاتها، أو بعض خطوطها العامة، في مثل هذا النص/ الصلاة الخطاب.. الذى وضعه كاتب النص - النص كُتِب زمن الحضارة الآشورية - على لسان الملك آشور ناصربال، مثل رسالة حب متوسلة، متضرعة ترجو شفاعة، وتطلب رضا المعشوق.


ما يعرف ب (الزواج المقدس) والحزن الجماعي على الإله تموز، ناتج من اعتقاد الانسان في بلاد الرافدين، بأن في مقدوره استحداث تلك التغييرات، التي من شانها أن تساعد إله العشق والخصب، المحتجز (أو الميت) في العالم السفلي في صراعه ضد القوى الشريرة ليعود ثانية، وتعود معه مظاهر الحياة إلى الارض، وعلى هذا النحو امتزجت العقيدة الدينية القائلة على سبيل المثال، بموت وبعث إله الخصب بالعقيدة السحرية القديمة، القائلة بإمكان استعادة الإله من الموت، ومن هنا نشأت ايضا فكرة (الدراما) السنوية، التي كانت تجري خلال طقوس، وهي في حقيقتها تقليد/ محاكاة للآلهة نفسها في قصة ( الزواج المقدس)، والحزن الجماعي على موت الإله أو في صراعها مع بعضها، وخلقها الكون والانسان كما في نص: (الخليقة البابلية).      

تعليق: هنا موقع تساؤل في ضوء ما ذكره المؤلف ، حول هل للطقوس والمراكب التي تجري في عاشوراء، صلة ما بتلك الطقوس البابلية. 




- ولقد تاثرت النصوص التوراتية، بالخطاب العشقي الذى يشع من نصوص عشتار عند السومريين، فظهر "نشيد الانشاد" لسليمان بن داود، في الكتاب المقدس/العهد القديم/ الإصحاح الأول: 985، مقاربا غزليا، يستلهم من عشتار صفات العشق والأنوثة والرغبة:


"ليقبلني بقبلات فمه.. لأن حبك اطيب من الخمر.. لرائحة دهانك الطيبة، اسمك دهن مهراق.. لذلك احبتك العذارى اجذبني وراءك فنجري.. أدخلني الملك إلى حجاله.. نبتهج ونفرح بك.. نذكر حبك اكثر من الخمر.. بالحق يحبونك."


نص واحد فقط، قدم عشتار غير مطلوبة، غير مرغوبة، باطلة ومتقلبة الأهواء والأمزجة، بالرغم من انها قدمت - داخل هذا النص - خطابا: راغبة، طالبة، مشتهية.. إنه نص ملحمة جلجامش، الذى يتجلى فيه خطاب عشق، من نوع (مضاد) يتجلى فيه ايضا مزدوجة صراع، بين الرغبة والرفض، بين العشق المشبوب بالشهوة، وبين التعالي حد الهجاء.. والتعرية وتقديم قائمة غدر عشتار بعشاقها، إنه يفصح عن حركية جدل عالية، بين قطبين قويين، شديدي الإعتداد بنفسيهما وبأنهما مرغوبان ومطلوبان، ولا يقف شيء أو أحد ضد تنفيذ رغباتهما، ففي الرقيم السادس/ من الملحمة.. يعود البطل كلكامش منتصرا في معركته الضارية، ضد (خمبابا) العفريت الموكل بحراسة غابة الأرز، نزع ملابسه واغتسل عاريا، ثم ارتدى ثيابا نظيفة.. وضع التاج على رأسه.. نظرت إليه عشتار، واسرت بجمال فحولته، فعرضت عليه أن يتزوجها قائلة في خطاب رجاء/ تضرع/ اغراء: 

"تعال يا كلكامش، وكن حبيبا- زوجا- لي
تعال وامنحني من ثمرتك تعال وكن زوجا لي، واكون زوجتك وإني سأعد لك عربة من اللازور والذهب عجلاتها من الذهب وقرناها من البرونز ، وستكون لك شياطين العاصفة، لتشد عليها بدلا من البغال الضخمة، وستدخل بيتنا على نفحات الأرز،  وعندما تدخل البيت ستقبل العتبة والدكة قدميك وسيمثل الملوك والحكام بين يديك، ليقدموا لك الجزية محاصيل الجبال والسهول، وستضع عنزاتك ثلاثا ثلاثا ونعاجك التوائم، وسيفوق حمارك في الحمل بغلك، وستكسب خيول عربتك شهرة في السبق، ولن يكون لثورك مثيل تحت النير.


هذه (الوعود) لم تغر كلكامش، فيرفض خطاب عشتار كاملا.. ويرفض طلبها الزواج منه.. وهو موقف يتجاوز " المناددة" وينطوي على قوة المثال الذكوري، والحكمة لدى كلكامش حيث الملحمة/ النص مكرسة لبسالته.. فيظهره مؤلف النص بموقف يتناسب مع مديح بسالته، وخصاله وعظمته، حيث يشير النص، إلى أن كلكامش لم تقف عذراء بعيدة عن سطوة ذكورته وفحولته، لكنه اختار حريته وخياراته، ولا يريد أن يخضع لسطوة امرأة، فإن هاجسه كان الخلود.

ولانه يعرف عشتار، الانثى، المغرية، الغادرة، لم يرد اخضاع قواه لهيمنتها.. لذا راح في خطاب الجواب يعدد مثالبها وغيرتها، ويسخر منها، ومن تنكيلها بعشاقها، وعشتار تغضب.. وتنتقم.. إذ تاتي لكلكامش بالثور السماوي، فيصارع وصديقه (انكيدو) ذلك الثور، وينتصران عليه.

وهكذا يتصاعد في النص ذلك التدفق الحار، ويعطي مثاله الرائع في خطاب وخطاب مضاد..في الموقف ونقيضه، الرغبة ورفضها.. الإنتقام والصراع والإنتصار، فماذا قال لها كلكامش كخطاب مضاد:

"ماذا علي أن اقدم لو تزوجتك؟ هل اقدم الزيت والكساء للجسد؟ هل اقدم الخبز والطعام؟ طعاما يليق بالألوهية؟ شرابا يليق بالملوكية؟ 

إذا ما تزوجتك ما انت إلا موقد.. سرعان ما تخمد ناره في البرد، وباب في الخلف، لا ينفع في صد ريح ولا عاصفة وقصر.. يتحطم داخله الابطال، وبئر ابتلع غطاه، وقير يلوث حامله، وقربة تبلل حاملها، ومرمر.. جدار الحجر يستقدم العدو ويغريه.. وآلة حصار.. بلاد الأعداء، ونعل يقرص قدم منتعله، فأي من عشاقك احببت إلى الابد؟ وأي من رعاتك من طاب لك على الدوام، تعالي.. أسمي لك عشاقك (أو اقص عليك مآسي عشاقك).

ويستمر النص الطويل في سرد مآسي العشاق، وهو النص الوحيد، الذى ينطوي على خطاب (هجاء) صارخ ضد عشتار ويميز بين الحب والشهوة.. والعشق والرغبات.

إن حالة عشتار -هنا - كما يصفها كلكامش هي: الحب الأناني/ الإثرة/ الشهوة. 


وهكذا كَشِف ما وراء (خطابها) العشقي، المغري له، أو الذى حاولت فيه اغراء كلكامش، ومن هنا.. وإن كان يبدو (خطاب) كلكامش سليطا، هجاءا ومفردات، لكنه كان "تحصينا " لذاته.. ضد " تسلط الشهوة " - وليس العشق - لدى عشتار.

انه خطاب ضد الهيمنة والإحتواء.

وهكذا كشف كلكامش طيه المضمر المستور، في نص عشتار (خطابها العشقي/ المعلن)، وهو كشف ايضا لأغوار النفس.. والطبيعة البشرية على حقيقتها، وكشف ثالث عن هذا المزدوج الخطير (الخير+ الشر)، حين يكون في واحد، فلا يتغلب الخير بل الشر في النهاية، ويموت الحب أو يسقط شهيدا، حتى كمفهوم وليس كحالة، كون (التملك بالقوة) حتى في الزواج والإحتواء، عبر خطاب عشقي، ليس سوى كراهية/ انانية/ عسف.. والضحية هو الطرف الثاني من المعادلة: المحبوب.

- كثيرا ما يخلق الاختلاف في الطباع، مبررا للابتعاد، أو الانفصال، اذا كان العاشقان في حالة اندماج وجودي مندفع، بسبب الهوى الضارم.. أم انهما كانا يعتقدان بانهما واحد، حتى تكشفت عناصر الاختلاف، في الطباع والسلوك والادراك والتفهم فباعدت، في حالة كلكامش، هو الذى رأى عشتار منذ البدء، يدرك خصالها وافعالها، ويعرف حاله وماله، لذا يعي الفجوة التي لا يمكن تجسيرها بعاطفة ملتهبة وقتية، أو رغبة أو شهوة يصف كلكامش عشتار: "موقدا.. سرعان ما تخمد ناره"، لأن "نار" عشتار في تلك اللحظة هي نار اشتهاء وتملك، رغبة في الحصول على " الآخر" لقضاء "وطر"، نار عشتار هنا هي (دال) و(كناية).. فعلى أي مرجعيات تنفتح، أو على أيه إحالات تتكئ؟ 

-
كانت العلامة السومرية الدالة على الحب، هي: (شعلة داخل الرحم)
- في انجيل متى/ الإصحاح الخامس والعشرين: تحمل العذارى "مصابيحهن" للقاء العريس.
- وفي ذات الطريقة كانت المشاعل تحمل في طقوس "باخوس" للحب .
- والنار في فلسفة الاخصاب، ليست مصدر الحياة الجديدة فحسب، بل تظهر القديمة ايضا
- واصبحت عند اللاهوتيين نار الجحيم الأبدية مطهرا لارواح الموتى

 
واقتران الحب بالنار معروف منذ القدم، ففي الأساطير الإغريقية إن هيفا إستوس Hephaestus، هو الذى يشع في النار- حسب روبرت غريفز- أو لعله الصيغة المقابلة لكلمة Yavishtha السنسكريتية، وتعني (في عز الشباب) - حسب قاموس لاروس الميثولوجي - و(يافشنا) لقب لإله النار الهندي (آغنا Agni)




- نار الحب حين (تلهب) قلب العاشق، تحيله من (الأخرس- الصامت)، إلى (المتكلم) بخطاب عشق، يبوح خارج فوضى الأشياء، أو تقنينها الرتيب، وربما (يصرخ)، لأن (الصمت) يؤذيه، يدمره، فالعاشق يتصل بخطابه مع الآخر.. يريد للآخر (المحبوب) أن يعرف، ويشارك، بفعل، أن يندمج، ويتوحد، لذا الصوفي، يصعد بخطابه، إلى اعلى مراتب المكالمة، كي يخاطب الله، لأن سر وجوده أن يندمج بخالقه، المتصوف لا يصور، بل يكون هو الرسالة، وهو المعطى، يقطن غياهب الليل، لكنه يملك روحه، حيث تتم معجزة الخلق، ويتحقق تجسيد الكلمة.


- يرى ابن عربي أن عشق الرجل للمرأة يكون جسديا وروحيا عند "الانسان الكامل" وعبر هذا "الوصل" يتم التوصل إلى المطلق، ويوظف ابن عربي قصة خلق ادم وحواء، ليبرز منها الابعاد الصوفية لوحدة الوجود، حيث تجد الذكورة جوهرها في الانثوي، وتجد الأنوثة اصلها في الذكوري، باعتبار حواء خارجة من ضلع ادم ومشَكِلَة جوهره الداخلي، كما ان آدم يشكل لها الاصل والمبدأ، الكاتب المتصوف لا يطرح جانبا امور الدنيا، بل يعيش في خضمها ، ولذلك تأتي الكتابة بمثابة مخاطبة أو ألم، وتكون محاولة لدفع ما هو ذو طبيعة باطنية إلى الخارج.


- ماركيز يستمد من مخيلة ثرية، ومن واقع ووقائع، وحوادث وتواريخ، الكثير الذى يشحذ كتاباته، ويشحنها بذلك الدفق العالي من المحبة، لذا حقق خطابه ألقا ساميا في النفوس، لعالم يطفو فوق الواقع، إنما بجذور متأصله فيه، تغتني بنسغه.. لأن ماركيز يعتمد الخيال/المخيلة، وسيلة كبرى في الحياة والكتابة.. والعشق: 
" إن اعظم ما يمتلكه الإنسان هو الخيال" قال بورخس، لكن ماركيز يضيف: " الخيال هو في تهيئة الواقع ليصبح فنا"، "والغرائبي يأخذني ولا يبقي من الواقع إلا ارض القصة

 على وفق هذا المنظور ندرك أن أفق "خطاب العاشق" في    "الحب في زمن الكوليرا"،  وهو لا يماثل أفق الخطاب العشقي في "قصة حب مجوسية" مثلا لعبدالرحمن منيف، حيث (تترسب) في الاخيرة "عذرية" شرقية خارقة في مثاليتها:


"عيناها..عيناها..المتألقتان الحزينتان..عيناها..بداية العالم ونهايته بالنسبة لي..وهي الشوق والنشوة واللهفة..هل اضعت هاتين العينين؟ ..هل غابتا إلى الأبد؟ لا احد يمكن أن يقنعني بانها انتهت، أو قد تنتهي.. قد تمر سنة، وعشر،.. لكن سأجد هاتين العينين مرة اخرى، سأجدهما واغرق فيهما مرة واحدة وإلى الأبد."

منيف يظل مشدودا إلى تلك المثالية، في علاقة عشقية من طرف واحد، فالكائن الذى يراه، هو امراة، انثى، تعيش، تتحرك، امام انظار (بطله) العاشق من النظرة الأولى، حية متدفقة هي، وهو العاشق يعيش بوجوده الحي، وشموخه الابدي، الذى لا تستطيع عقارب الزمن أن تغيره.

ذلك هو خطاب العاشق العاجز عن اتمام مهمته، غير المقدام/ المتردد.. لكن الخطاب عند ماركيز، بالرغم من شاعريته العالية، و"عذريته" الاولى، وروح الوفاء للحبيبة الذى يغمر مشاعر البطل، فهو حسي في النهاية، ومقدام، لأن الكاتب الكولومبي ابن هذا العصر، المادي، الخشن، وهذا المجتمع القائم على صراع المنافع والطبقات.

قدم ماركيز "عذريته" بالروح فقط، وليس بجسد العاشق "المزمن"، "العاشقة المزمنة"، وبذلك أسس خطاب العاشق على بنيه روح، لا اختراقات جسد.. هو هنا يلتقي تلك "النار" الملتهبة، التي استعرت في داخل العاشق، وظلت تصوغ حلمه فصاغ منها امثولته الرائعة.. إنه ادرك الطريق الاساس للفهم وهو أن يصير كالمحبوب، لان المرء لا يفهم إلا بمقدار ما يصبح متحدا مع الشيء الذى يحبه فعلا.

- في كتابنا – الحديث للمؤلف - "خطاب الإبداع: الجوهر، المتحرك، الجمالي" اسسنا على مفهوم : "الإنسان يعشق بحضارة.. بأدب، هو حضارته وادبه" بحيث اصبحت سوسيولوجية الأثر الابداعي، هي مادة عشق، نبع منها خطاب المبدع، كذلك فالشعر مثل العشق..الشاعر يعني مرجعيته الثقافية  ومكتسبه الحياتي، فالذين تثقفوا ثقافة (شعبية) (بالأغاني الدارجة والافلام والمسلسلات، يعشقون بأغانيهم وافلامهم ومسلسلاتهم) أو على وفقها! والمثقفون النخبويون يعشقون بقراءاتهم ذات النوعية الاخرى.

فالشاعر ليس عزلويا.. إن لامس أو تناغم مع أو اندمج في واقع.. في ثقافة.. في تاريخ بشر، وعند الشاعر بدر شاكر السياب، يتجلى هذا التنوع في العاطفة، من قصيدة لاخرى: الشناشيل، انشودة المطر، المومس العمياء، الأسلحة والاطفال

العشق - هنا - بالتبعية يتفجر في تنوع خطاب، تنوع اشارات، انه ناتج حالة ثقافية حقبة تاريخية، تقاليد،..الفلسفة فيها والشعر يأخذان على عاتقهما مسؤولية صياغة العشق.




- في الحب العذري قد يفتعل العاشق ظاهرة روحية/ رمزا/ حالة يتعلق بها/ بواسطة هذا الحب بمحبوبة واحدة، يرى فيها مثله الاعلى الذى يحقق له متعة الروح ورضى النفس واستقرار العاطفة . 

- في الفن التشكيلي، كما في الشعر والرواية والموسيقى، على اللغة أن تستبدل وسائلها التعبيرية، أو أن تظل جاهزة لتلقي الشحنة العاطفية، الشحنة العاشقة، التي تشع من الابداع لتغمر المتلقي، وكأنها كلام مسموع في العشق، كلام تواصل، شد بين جوهرها وبين الاخر، الذى في اللحظة الشعورية تلك، يشعر بالتوحد مع العمل الابداعي، بقوة فنه المشعة بالحب.

 إن التماثيل والنصب، ورسوم الاختام الأسطوانية والدمى احتفظت بشحنتها التعبيرية في التواصل، تماما ومنذ سنوات ما قبل التاريخ، وكأنها تحمل سحرها معها، في التأثير وتبادل الحوار، وتماما كما تفعل ابتسامة الموناليزا لدافنشي، في لحظة النظر إليها.

نفس العاشق، لانه يمتلك ثراء ابداع داخل عمله، لانه احبه بالفعل، قبل ان ينقل هذا الحب مشعا إلى المتلقي، كأن الاثر الابداعي هنا، خطاب عاشق، المبدعون عشاق اندمجوا بفنهم، اندمجوا بخاصة، بذلك الوهج الذى يقدمه خطابهم، تماما مثل نحاتي سومر وأكد وبابل وآشور...، اندمجوا بالذات العامة، ضمن فضاء التعبير الخالص الإنتماء، إلى آلهتهم، ملوكهم، مقاتليهم، طقوسهم.

كذلك الحال في قصص البطولة والمقاومة والنضال، الهيمنة تبقى لعاطفة الخطاب، لأن العاشق يمد خطاب عشقه إلى الوطن، الناس، الأرض، ضد قطيعة خارجية، ضد قطيعة تفتعلها قوى ضاغطة، كي ينأى بنفسه وانسانيته، عن نفسه وانسانينه.

في التمثال اذن، كما في اللوحة والموسيقى، ثمة "سرد"، روي، خطاب اتصال، ينبع من الداخل ويدرك بالشعور، يبدا بتفصيل صغير، ويكبر في النفس، في سمو عاطفة نبيلة، هي الإرتباط بالمحبوب.. شخصا، أرضا، حضنا.

انه خطاب يبثه العمل الفني ضد القطيعة..، وإلى توحده مع جوهر عشقه ينتمي... ويشع.




- يعتقد دنيس رجمونت في كتابة (الحب والغرب) :            

"أن ليس للحب السعيد من قصة تروى"، وكانه يجزم - ظاهريا- بأن خطاب العاشق هو تعبير عن حالة عشق ضد قطيعة.. مكتنز بذاته.. ومعبر عنها، ورجمونت أوجد علاقة بين شعر الغزل و" التروبادور"، و "الهرطقة"، وقد بدأ هذا الشعر كأنه احتجاج ضد ركني المسيحية في الغرب: الزواج والنسل.. فيقوى الهوى كلما اشتد البعاد وانتشرت الفحشاء، ويلخص هذا الامر اسماء سحرية في تاريخ الغرب، كشخصيتي : "تريسان وايزول" فلأول مرة، كما يبدو يظهر تقريض للحب المؤلم/ أو التعيس/ أو المستحيل.. إذ من خلاله، لا يتلقي العشاق، إلا في لحظة الموت..أو بعبارة ادق لا يجمعهما سوى الموت.. فالحب السعيد ليس قصة، أو انه ليس بحب، فرواية الحب هي في كونه (قاتلا مميتا).. إنه الحب المهدد والمدان من قبل الحياة ذاتها. 

يؤكد رجمونت: ان الحب المدان سمة من سمات ثقافة الغرب، والذى يخفي في ثناياه مباهج "المازوخية" ، وقبل أن يصاغ هذا المصطلح كان "كريستيان ترويس" يقول: انا مريض بالحب، وبمرضي هذا أتلذذ. 



- تنغلق الدائرة أم تنفتح.. يبقى السؤال:
هل العاشق يعيش عشقه في الإحباط (ويشكل خطابه: بهجة)، كما في شعر السياب؟ الاحباط من المحيط والمرض، الإحساس بالموت، قريبا منه..، الإلتصاق بالمومس تعويضا عن الحنان المفقود في الام وفي الحبيبة، وفي الاخت..ربما.. وفي (الزميلة) التي كان بإمكانها أن تكون كل ذلك، ولم تفعل.. كذلك نرى هذه (القطيعة).. في نماذج ادبية ليست قليلة، قصص عبدالستار ناصر..تحديدا.. وروايات عبدالرحمن مجيد الربيعي، وبخاصة: " خطوط الطول خطوط العرض"، حيث النساء محبطات بالحنين المقطوع، والرجل (ينام) مع (بطلاته) جميعا.

انه الدنجوان الذى له في كل مدينة (امراة فراش)، هو ليس عاشقا، بل "ينتقم" من العشق بالجنس، وكانه ينتقم من (إمراة) مختبئة في لاوعيه، أو انه يداري فراغا عاطفيا قديما، لم يسد بالحبيبة المرتجاة، ولا بالزوجة، ولا بالعابرات على اعصابه ورغائبه، في شارع الهوى.

انها تعويض عن قطيعة بالجسد، وبالمحمول في العقل، ومن الماضي، من قريته هو غريب إلى غربته الاكبر، مستلب في المدينة، ومستلب في السياسة، ومحبط في الحب، لذا فإن هذا (الإلتقاط) هو جوهر تلك (العلاقات).. في اغلب قصص
كاتب مبدع وكبير مثل الربيعي، لا يأبه بالحب العذري، بل بالنساء.

وتتحول المدن العربية، المنتهكة في رواياته ايضا، إلى "بائعات هوى"، هل هو وجه التباعد/ والقطيعة/ واللاحب..، القناع، الغطاء الفني والحقيقة المرة؟ انهن كل ذلك معا.


- في "سفينة" جبرا ابراهيم جبرا..، الفلسطيني يتشظى، إنه "التائه"، ويكون "الدونجوان" في "البحث عن وليد مسعود" مع بقاء "ثيمة" الضياع، فوليد يهرب، يعذًب، يفترق، ويلتذ بالافتراق والتعذيب، حيث "يدوخ" عشيقاته واصدقائه بتلك اللعبة البوليسية، النساء في "البحث عن وليد مسعود"، ينمن مع وليد بسهولة! إلا تلك "الإنجليزية"، فهي "الشريفة" الوحيدة، التي لا تضاجعه في الرواية! 

هل هي قناع ثقافي؟.. أن الشرق بغي، والغرب عذري ونقي وعفيف!؟ يا المفارقة! 

لكنها مفارقة مثاقفة! و(الغربية) - ثقافة وولاء - هي  
"النقاء" الوحيد من وجهة نظر (جبرا)، تماما عكس "رجمونت"، اذ لا (حب) في روايات جبرا، قطيعة من نوع اخر..توازي الشتات، وربما بسببه.. عدا "يوميات سراب عفان"، ففيها حب نادر وشفيف، بالرغم من علاقات اخرى، تتفاوت بين العشق والجنس والقطيعة.

- "الحب الناضج" كما نراه، أو اراده كلكامش، من وراء رفضه الزواج من عشتار اللعوب، ليس في الحقيقة هوى، وليس تولهاً، فكلكامش يصرف العلاقات والاوضاع تصريفا جدليا واعيا.. يناقش عشتار، يقدم لها الادلة، وهو "صاحب تجربة" في الجنس وليس في الحب، هو بالرغم من "فحولته" غريب، منفصل، يعيش قطيعة مع العاطفة العشقية.

ربما بسبب سلطته الملوكية، التي تبعده عن علاقة حميمة..، ولانه لم "يتحضر" كفاية بحيث يتعامل مع الحب، في اطار رفيع، هو غير تعامله مع البغاء، ولأن "البداوة" لا زالت في طبعه، فهو "مغتصب"، اكثر منه محبا، لم يدرك الحب الناضج ولم يبحث عنه، كما بحث عن "الخلود"، ويبدو لي أن بحثه عن الخلود، هو ايضا محاولة ضد القطيعة، محاولة للتواصل، لانه بعد لم يحقق ذلك بالكفاية الحضارية والإنسانية، بغض النظر عن فلسفة كاتب النص/ الملحمة.

وأن رفضه لعشتار ليس فقط لانها لعوب، وتغدر بالأزواج، فهو ليس احسن منها، ما دام "لم يبق عذراء في أوروك"، فالكفتان متعادلتان في الوزر، إنما هو يبحث عن التعويض العشقي، بموازاة وبمستوى البحث عن الخلود، اذا كان فيه سمو المكانة له، أو حتى بما يتناسب وموقعه في قمة هرم السلطة، انه يحتاج (ملكة) تضاهيه..، وعشتار هي كذلك، بل اقوى..، لانها علاوة على ملوكيتها، فهي إلهه، وابنة الآلهه الكبار... هنا (الحب الناضج)../ قطيعة..لأنه ليس إمكانا..ولن يكون!.


- يقول "نوفاليس": الحب صامت، الشعر وحده يجعله ينطق"، الشاعر عاشق يتكلم..والعاشق يتكلم دائما مع نفسه، لا وجود لحب اخرس! 


قد لا يفصح عن نفسه، ولكنه ليس اخرس ابدا.. فخطاب العاشق هو خطاب سلوك وإن كفله بلغة، بتعبير لساني، فذلك يزيد من وصال شوقه، فالعاشق اذا امتلك الثراء اللغوي، حول عاطفته كنايات، استعارات، بفضل احتفاره اللغة كي تقول له..، ومن ثم يقول بها ما يريد، فيصير هكذا شاعرا..

فالخطاب الداخلي عند العاشق مؤلف من مقاطع، من خطاب صنع خارجه..! ودائما.. هناك هذا " الحوار مع الذات"، وكأنه حوار مع المحبوبة.. دائما هناك "المنلوج"

- ويكون في "مقولة" اللوحة، حين "تتحدث" عن العشق، مثل قصيدة، خطابها يتجلى في تشابك خطوط، ألوان، كتل، وجوه، ايحاءات إيماءات..؟ 
الرسامون، يعشقون ايضا بلوحاتهم، أو يعبرون عن خطاب العاشق، في اللوحة، لتقول تبوح اولا، بهمس خافت، عبر شفافية لون،... من ثم تصرح، وتصدح. 

في اعمال الفنانة (بتول الفكيكي) حيث ادخلت ثنائية العاشق والمعشوق، في كيانية اللوحة، بدل تلك القطيعة مع الاخر، وذلك التغرب الفردي الذاتي، للمرأة المتحدة، المقهورة الصارخة، المنتجة، ولكن المتجذرة والمتناهية مع الشجرة، كأنهما واحد.. محققة ذلك السرد الحكائي لتوليد "دراما الذات" التي تتواصل ولا تتقاطع.. مع المحبوب.

حيث اللوحة خطاب افصاح، عارم بالحب، عنوانا ودلالات، بوجه الحبيبة بالتذكر يظهر، بالإسترجاعات، بطفلة، بنخلة، بالأم والزوجة..، يتسع حتى تتأنسن الأشياء، فتكون هي كائنات حيه، تحب، تشكو، تئن وتتوجع، وتبكي من بعاد قسري/ من نفي.. أو نأي أو حنين.. فتتصل بالآخر، تندمج مع جوانيته، تتواتر وتشتق لذاتها طرائق كي تكون معه.. مرة في "الهور هذا تنفس"، واخرى في " حوار الصمت بين كلكامش وعشتار"، وثالثة في حلم " حلم بابلي".

وحين يغمر، هذا الفيض الشاسع من الشعور، فضاء المخيلة والواقع وسطح اللوحة، يمتد الخطاب خارج اللوحة، تماما - كانها نص - وعبرها إلى المتلقي، كي تتوحد مع/ ضد همومها، ولكن للفرادة والتفرد، صولة وآليه في التمثل، والأداء الموصل والتعبير الذى يتحد، مع مدرك المتلقي وحسه، ووجدانه.

في اللوحة.. تماما كما في حركة الجسد، لدى ممثل المسرح، والراقص بالإيماء والإشارات، وفي الصوت، في الغناء والموسيقى... التوصيل ضرورة فن، ضد القطيعة.. ومن اجل هذا المضمون المكتنز بالعشق، معبر عنه مباشرة، أو بفيض من العلاقات.


- العاشق يلجا في خطابه إلى التضرع احيانا، لان التضرع الى المحب، يسمُ بالعاشق إلى مرتبة التضرع إلى الله، أو الإله، فالتضرع خطاب عاشق ضد القطيعة، لأنه يتوجه إلى بالنداء إلى المعشوق بإسمه. 

وطبقا لتقاليد الكتابة عند الاقوام القديمة، فقد كانت الفكرة تتجسد حقيقة اذا تحولت إلى لفظ، فالملفوظ يحضر اذا لفظ، بغض النظر عن حقيقة وجوده، ومن ثم صار كل شيء لا يكتسب وجودا محسوسا، إلا اذا اضفى عليه الإسم الذى يمنحه القوة والديمومة في الوجود، ولهذا ظهرت قيمة "الاسم"، بوصفها ظاهرة اساس من ظواهر الوعي والممارسة.

- الإسم صلة اتصال بالآخر، ضد قطيعة العشق والعاشق، وسيلة للتضرع / للدنو/ للاقتراب من المحبوب/ للاتحاد به، وكما كان ترديد الاسم لإله معين تضرعا، له اثره في اعتقاد الانسان بحصوله على ما يريد، فإن التقرب إلى صاحب (الاسم المقدس) يجلب اشياء جيدة، ومازال هذا الإعتقاد سائدا رسخته علوم البابليين، فقد كان لمردوخ الإله خمسون اسما، في ملحمة ( قصة الخلق البابلية) وافردت له الأديان السماوية من بعد مكانة خاصة، كما هو في الديانة الاسلامية حيث اسماء الله الحسنى. 

ولأن من ضرورات التلفظ الملزمة للأسم، أن يتحقق وجود 
" المسمى" في كينونته ويتحقق فيها الأمر من " كان"، وردت الأيات الكريمة في القرآن الكريم لتؤكد هذا المنهج: " ويوم يقول كن فيكون".

اصبح الاسم وسيلة مخاطبة، تضرعا، وصولا إلى المحبوب، اقترابا منه.

اسم المحبوب / المعشوق/ هنا هو صلة اتصال، خطاب مكثف مشحون بالتضرع المضمر، لأن "الاسم/ المقدس" المحبوب يرقى إلى مكانة القدسية عشقا، يجلب الحظ ويحقق النذر، وياتي بالمراد.

لذا نرى في زيارة المراقد والاضرحة والعتبات المقدسة، من يلهج بالاسم/ اسم المحبوب/ مصحوبا بالتضرع والدعاء والبكاء، والإستجارة والطلب، لأن قدسية اسم المحبوب ذات تاثير عميق، لازال قائما في موروث الانسان العربي ووعيه، وهو يعطي الأمان والحماية والشعور بالإطمئنان، وكأن صاحب الاسم هو معه، في السراء والضراء والسفر والتنقل...إلخ



- ..و"الحب العذري" مشكوك في معناه وحقيقته، لأن اقوى حوافز الحب، هو الميل إلى الآخر المحبوب، عاطفة واشتهاء.. لكننا حين نتوغل في حفريات المصطلح، ومرجعياته، نجد الخطاب العشقي الذى يغتني بالروحي، الإشتياقي، ونجد الحرمان الذى يدفع إلى الموت حبا.. هو "حب حتى الموت"، إذا بدأ فلا نهاية له إلا بنهاية المحب، وهو أعلن خطاب مأساوي يقدمه العاشق فعليا.

- إن شعر الغزل في الاصل ادعية وصلوات، كذلك رأينا إلى مثال عشتار، ثم كان تحوله، من بعد، عن طريق التدهور، فالطفرة إلى الغزل في المرأة، في القرآن الكريم، خلع الطابع الانثوي على الملائكة، وانثوا الأشياء الكبيرة: الأرض، الحياة، والشمس، وجعلوا لها رموزا مقدسة: الغزال، المها، النخلة، الدرة 
ولعله قد ترتب على وجود صورة "المرأة المثال" - كما شهرزاد - أو (عشتار) التي ظلت مهيمنة على صورة المرأة في الشعر العربي لحد الآن..، معنى هذا أن المرأة نظر إليها كالآلهة، ثم تحولت إلى جوهر مشرب بالألوهية نتيجة العشق.

وكما في الميثولوجيا الرافدية، ظاهرة (القداسة) احاطت بالمرأة، كذلك الأمر في المجتمع العربي الوثني القديم، عرفت منهم آلهات كاللات ومناة، وساحرات وكاهنات ايضا.

خطاب العاشق اذن امتد في بنيه المرأة، منظورا، وصلة اتصال، وتعبيرا، منذ أنانا - عشتار و" تيامه" في " قصة الخليقة "، ثم الربه " كالي" عند الهنود و" ايزيس" لدى الفراعنة.


كان العرب القدماء يعيبون الحب على المرأة، ثم شاع شعر الغزل عند العاشقات كأم خالد الخثعمية، وليلى الأخيلية، وهناك أم الورد العجلانية وشعرها العابث الماجن. 

حتى اتسعت افاق خطاب العاشق، بعد الإسلام، ثم في العصر الأموي والعباسي ودخول الجواري بالكثرة الكاثرة، في صميم المجتمع، اجتمعت لكل شاعر جارية يعرف بها ومعنى هذا أن (الجلال) الذى نظر به إلى المرأة العربية (سابقا)، تحول إلى عالم (الجمال)، حد عرفت، في هذا المجتمع، كيف تعبر المرأة عن عواطفها الملتهبة بالحب شعرا، حتى بين بنات الخلفاء.

(النموذج الخلقي) للمحبوبة، وبالتالي الحب الذى توحي به (تسوية)، وقف عندها النسيب، بين المحبوبة (الجارة) سهلة اللقاء - في البداوة - وبين النائية، سجينة الرخاء في المدينة، وتبقى النساء المريبات وحدهن تحت تصرف الشاعر.

ولكن مثل هذه المرأة غير جديرة بالمثول في النسيب الحريص على (سيدة) تمثل أرستقراطية البادية، إن الملامح المتعددة والمتناقضة التي نشهدها في شخصية (المحبوبة)، والتي يتقدم بها خطاب العاشق، وفي غرامياته، لهي انعكاس لموقف اجتماعي في أوج تطوره... وإشكاليته!

ولدى الشاعر البدوي لم تبرز " حكاية كاملة" عن الحب/ عن حبه، ولا تميل العقلية البدوية، بطبعها إلى التجريد، لذا تأخذ حالة (الحب / والذكرى) حيزا كبيرا في خطاب العاشق (البدوي)، خلافا لتنوع الحكايات لدى عمر بن ابي ربيعة، ولم يكن العاشقان في ذلك الزمن المثالي، منزعجين من وجود الوشاة، ولم تعتد لمحبوبة ذاتها الإصغاء إلى نمائمهم، فهي (تغدق) على الحبيب نعما مقدرة بعناية وقابلة دوما للنقض..


- هل يتمثل خطاب العاشق في السلوك، اكثر منه في الكلام، في الشعر؟

وهل ينتمي العاشق الى خطابه المعلوم، حتى لو كان سلوكه مثل ( عمر بن ابي ربيعة) لا يحفل بالكثير من مظاهر وتقاليد عصره؟!.

هل القصيد الذى ينتج عن غضب من المحبوبة/ المطلوبة/ المشتهاة...مهما بلغ جماله، يعتبر خطابا عشقيا، أم يدخل في حافزية الانتقام والهجاء، لانه (الفضيحة) من وجهة التقاليد، وإن كان يسبب الشهرة، ويضاف إلى جميل القول في المتداول الذى يتجاوز عصره، إلى عصور لاحقة، كنص جميل متألق يبحث فيه من خلال مضمونه وشكله لا من خلال دوافع القول؟!.

كحصيلة، إن الحب " الحب المصطفى" بين العاشق/ الشاعر/ وبين امراة من أي عصر، هو - ما يصلنا- هو "النص"، وليس
 " الحادثة"، صحيح أننا في البحث في تشكل الخطاب، نرجع إلى مرجعيات الروي، والرواة، ولكن لا يهمنا اذا كان الشاعر محض عاشق مجنون، أم رجل وقح متهور، إن ما يهم هو النص، في القراءة المعاصرة هو (الخطاب)، الذى يفيض بالجمال والشعور، حيث يعتلي عن جدارة ابداعية، منصة قراءة، متأنية، ويؤثر في المتلقي من اي عصر جاء، والسيدة المعشوقة كالشاعر، لا تفكر إلا بالأبيات التي تختم المشهد، وتحيي ذكراه.

خطاب العاشق في مهيمنته العشقية، لدى العذري، يحتضن نواة في غاية الوضوح هي "المحادثة"، العفيفة المهذبة غالبا، والسر غير الثقيل على حامله، والذى مع ذلك يمكن ارقاده سنين طوالا دون الكشف عن فضاء المكان/ التفاصيل.. وذلك الخطاب يعتمد احيانا على واقعة جد صغيرة، انعشت الحب، وجعلته عشقا بهذا الفيض: لقاء/ نظرة / حديث عفيف/ سلام.

هذه هي مكونات ( العلاقة).. تتشكل - كأجزاء - لتظهر
 "علاماتها " في سهم النص ومؤشره، ودافعية العلاقة، وغنائيته ايضا.

 - ...حين تخاطب الأميرة ولادة حبيبها ابن زيدون، فهي تتجاوز تلك (الأسلبة)، التي نظر فيها للمرأة داخل مفهوم (الحريم)، وهي و(حفصة) و(نزهون) - شاعرات اندلسيات- والأندلسيات عموما، خرجن على (نص الحريم)، بجرأة وجسارة قول وسلوك، ففي النظر إلى الخطاب، عبر موجهاته، لا نرى فيه ما يرى البعض من محرمات، لأنه منطوق على لسان امرأة...وكأن خطاب العاشق/ غزلا/ تشبيبا/ هو محض اختصاص الرجل، ومساحته فقط في حرية التعبير، حتى لو كانت (الرواية) التي ينسجها في نصه كاذبة، أو إدعائيه، بخاصة حين ترتبط بمغامرات نسائية، وهمية، إنها شعور مقارب إلى الفخر بالغزو والغزوات.

في البند الفلسفي الذى يشير إليه نص (الحريم) لابد أن نقف عند الانسلاب كمفهوم وحالات، اذ معروف مفهوميا أن المستلب يأخذ اشكالا عدة في عصرنا، بدءا بالعامل اليدوي أو المثقف، إلى المرأة الملزمة بأعباء الاعمال المنزلية، أو المهمشة في المجتمع، وانتهاء بالمستغَل أو المحتل أو السجين او الامتثالي المغالي في اصوليته، الذى لا يرى في خطاب العاشق إلا ما يشينه، من وجهة نظره.

وحتى اللا امتثالي، الواقع ضحية الدين، أو المذهب المضاد، والذى يرى في كل قول (غزل) عشقي يصدر عن المرأة   
"حراما"، انه في ذلك كمن ينتزع ملكية أو حقا من صاحبه كنزع امتلاك المرء لذاته ومشاعره وحركاته وافعاله ونتاجه والإمتلاك من الآخر المتسلط/ رب العمل/ المستعمر/ الجلاد/ والذى ينتزع من المرأة حقها في التعبير عن ذاتها، بمثل الغزل. 
إن فعالية المرأة غير مخزية، إن هي تحررت من العبودية والهيمنة والتسلط، ومعروف أن التحرر يكن نتيجة صراع فردي/ أو جماعي...لأن مكون عظمة زماننا هو الاعتراف بالحرية،... والإرتداد إلى الذات أولا لتفحص حالتها، وانماء المظهر الأساس في الوعي/ الشمولية الفكرية لتطور الرؤى/ النظرة والحقوق معا...شرح الآنية/ الذاتية، بالحرية/ التفكير/ بتملك الفكرة والتعبير عنها، بفتح الذات على فعل.. إلخ

يمكن تجاوز الإنسلاب / التوضيع/ في المعرفة المطلقة أو بواسطتها - (هيجل) في (ظواهرية الفكر) - وإنه بالإمكان تجاوز الإنسلاب ( الديني/ السياسي/ الاقتصادي، في (البراكسيس) حسب (ماركس)، ونعني به التطبيق العملي لمحاولات تغيير العالم أو أن التخلص مو تكدر المدينة هذا - أي من الإنسلاب- يكون في التكيف بواسطته، حسب
 ( فرويد) في كتابه: "انحراف في المدينة"، أو كما يطرح (سارتر) في "نقد القل الجذري": النزوع لتجاوز الإنسلاب الكامل، لكن (فرانز فانون) يرى في " معذبو الأرض"، أن نضال التحرر الوطني، هو السبيل لتخطي الإنسلاب والإستعمار. 

في خطاب النساء الأندلسيات أو الغزل "الأنثوي" الأندلسي، تماثل مع حرية..، ترف في الفكر، والجدل أولا، وليس ترفا خاصا بالنظام، وانعكاسه في الحرية الشخصية والمجالس الأدبية.

هنا الخطاب الحر للعاشق، نمط، سياق، تأصيل لحرية، هي شمول وليست فردا أو أميرة، هي حالة عامة، وليست ضيقة الافق أو احاديةاحادية.

إذا المراة العاشقة، تجعل من الابداع درعها الواقي، ضد الاسلبة، وهو درعها تعبيرا أو صدا، من الألم والاحزان والسهام الطائشة... كي لا تحس غربة روحها ولا خسارة ايامها... ولأن قلبها/ قلب العاشقة/ ينفتح على شهية الانغمار بالابداع/ تعويضا/ أو حرية متجذرة../ أو بحثا عن خلود الذِكر والفعل، والذات في تحققها.. غمست خطابها بالألم وبالاحزان كي يشرق فرحا حبيا، أو نجوى.