26‏/02‏/2015

طريقة القبعات الست في التفكير الابداعي


ملخص طريقة (( القبعات الست )) في التفكير 



 عبدالخالق المرزوقي 


مبتكرها الطبيب وعالم النفس "ادوارد دي بونو " يذكر أن التفكير لدى الإنسان له 

6 انماط ورمز دي بونو لكل نمط قبعة ذات لون معين، يتم لبسها بشكل تخيلي 
حسب طريقة التفكير في وقت محدد وبغض النظر عن الموضوع أو القضية 
المطروحة. 

ويتم كتابة كل نمط "قبعة" بشكل مستقل عن الآخر


لهذه الطريقة عدة اهداف اهمها :

1- تحديد اسس منهجية للتفكير
2- طريقة واضحة ومبسطة وفعالة تحقق فعالية كبيرة
3- المرونة في تغيير التفكير من نمط لآخر
4-الشمولية في الإلمام بكل الزوايا للموضوع المطلوب الوصول له.


القبعة البيضاء :

تعني التفكير المحايد، بمعنى وجود إجابات مباشرة ومحددة على
الاسئلة لا يهتم بالمشاعر الشخصية، يركز على الوقائع والأرقام
والإحصاءات المجردة.حين نفكر عبرها فإننا نبحث عن اجابة عدة

اسئلة مثل :
ما المعلومات التي نحتاجها ؟ اين نجدها ؟ كيف؟ ما هي الأسئلة
التي نريد طرحها؟ كيف نتأكد من الإجابات؟


القبعة الصفراء :

ترمز للتفكير الإيجابي،حين نفكر بها نكون إيجابيين،نركز على احتمالات 
النجاح نكون منطقيين بصورة ايجابية،نركز على الفرص واستغلالها والعائد 
الايجابي علينا من الموضوع المطروح أو القرار المتخذ.


القبعة السوداء :

ترمز للتفكير الحذر والسلبي، يتم التركيز على الأمور السلبية
وعوامل واحتمالات الخوف والفشل، والوقائع والاسباب المعيقة
يكون انتقاديا ويطرح الأسئلة المتشككة.


القبعة الحمراء :

تُعنى بالتفكير العاطفي،يهتم بالحدس والجوانب الإنسانية ويظهر مشاعره 
الخاصة تجاه الموضوع أو القضية،وبها يحكم بغض النظر عن الحقائق 
والمعطيات.


القبعة الخضراء :

ترمز للتفكير الإبداعي،يحرص على ايجاد الحلول سواء بشكلها
العادي أو الإبداعي - التفكير خارج الصندوق- يسعى للتطوير
والتغيير ومستعد للمخاطر ويتحمل النتائج يطرح الأفكار
والحلول الجديدة وطرق التنفيذ.


القبعة الزرقاء :

ترمز للتفكير المنظم،يتبع الخطوات المنهجية المرتبة، يتميز المفكر
بها بالمسؤولية والقدرة على التنظيم والإدارة ينصت لجميع الآراء
ويتبع ما يقنعه منها. تستخدم في الحكم بعد استعراض نتائج التفكير
للقبعات المختلفة.



مثال لإستخدام هذه الطريقة:



القضية أو الموضوع: اختيار دولة للابتعاث


1- استخدام القبعة البيضاء:

هل يتوفر فيها التخصص الذى اريد،مدى قوة التعليم في جامعاتها
ما هي الجامعات المعتمدة فيها،كيف تتم الدراسة، هل استطيع
تحمل الرسوم للدراسة وتكلفة المعيشة،هل الدولة مستقرة وآمنه
هل وسائل المواصلات والعلاج مؤمنه وجيدة، هل المجتمع ودود
وقابل للتعايش مع الغرباء.هل تتوفر فيها تسهيلات للطلاب الأجانب
هل توجد فيها سفارة،اذا لم يكن التخصص متوفرا وقويا في نفس البلد 
ما هي الدول البديلة،وما هي التخصصات البديلة في نفس البلد وغيرها
من الأسئلة.

ويجب ألا نكتفي بطرح الأسئلة بل نبحث عن الإجابات، ويجب أن
تكون واضحة ومحددة بنعم ولا، وبإرقام ومعللة، وبدون أي تأثير
للميل الشخصي


2-القبعة الصفراء :

سأجرب العيش في مجتمع جديد، تعلم لغة جديدة، التعرف على
عادات وثقافات اخرى، تعليم بمستوى ارقى،شهادة خارجية تؤمن
فرص عمل افضل، تفرغ للدراسة، الاحتكاك بتجارب متقدمة.


3-القبعة السوداء :

استطيع توفير مبالغ الدراسة للادخار إو الاستثمار حاليا وادرس
داخليا صعوبة التأقلم مع مجتمع اخر وعاداته وتقاليده، البعد
عن العائلة، بلدي اكثر امنا، التخصص الذى اريد متوفر داخليا
لا استطيع التمكن من اجادة لغة اخرى، لا استطيع التفرغ تماما
لعدة سنوات متواصلة


4-القبعة الحمراء :

احب السفر، احب اسلوب الحياة هناك، استطيع التمتع بأمور
مختلفة سأكون حرا في فعل ما اريد دون رقابة.


5- القبعة الخضراء :

هل احتاج للدراسة الجامعية أم اتجه مباشرة لسوق العمل بعد
التأهيل قبل الجامعي. هل استطيع دراسة التخصص في جامعات
اقوى خارجيا وبطريقة اقل تكلفة ماليا،ولا تتطلب العيش هناك
كالإنتساب والتعليم عن بعد واستثمر بقيه المال. هل ادرس
المرحلة الجامعية الأولى هنا ثم اسافر للتخصص فقط خارجيا
هل اكتفي بميزانية لدورات وكورسات تطويرية خارجية سنويا
في مجال التخصص مع استمراري في العمل.


6- القبعة الزرقاء :

تحليل بيانات القبعة البيضاء، الموازنة بين الايجابيات الموجودة
في القبعة الصفراء والسلبيات الموجودة في القبعة السوداء
اخذ الميل الشخصي " القبعة الحمراء" في الإعتبار، دراسة
الأفكار والحلول والبدائل الموجودة في القبعة الخضراء. ثم
الخروج بالنتيجة " القرار"

20‏/02‏/2015

الجسد والسلطة في السينما 2/1




عبدالله البياري
نشر في مجلة جدلية


لا ينج الحديث عن الثقافة والأدب والفنون، باعتبارهم "تعابير" ثقافية عن مجتمعاتها من سؤال "الجسد"، فإذا كان الفن يُنظر إليه "على أنه مرآة للقدرات البشرية في مرحلة تاريخية معينة، بوصفه الشكل المتفوق الذي تُعرف فيه ثقافة ما عن نفسها"، وجب علينا تناول تمثلات الجسد في كل هذه الأجناس الثقافية، باعتبارها أنماطًا خطابية، تعكس موضعه –الجسد- في الفكر والتعبير، وبالذات في عصر الصورة.


السينما، وهي مجال حديثنا هاهنا، تتأثر –كغيرها من أنماط الخطاب الثقافية- بانعكاسات الأوضاع الاقتصادية والسياسية والإجتماعية على الجسد، وبالذات في ظل هذا الهوس الحداثي به وبهندسته ورقابته والتضحية به إلى السماء، وتفجيره، وتراسيم الأفضلية والدونية الواقعتان عليه، وجنوسته وغير ذلك.

يقول دولوز عن قيمة السينما الموضوعية، أنها "تؤسس ادراكنا لأجسادنا، بطريقة تعيد إلينا إيماننا بالعالم، وبالعقل"، بل وأكثر من ذلك، فبالجسد تغرس فينا السينما بذورها الفلسفية، "متحالفًا مع الروح و الفكرة". وبالتالي فـ"الجسد" في السينما - أي جسد- هو جسد بالضرورة "سياسي"، وهو كذلك بفضل خاصية الحركة ماديًا ورمزيًا في زمن السرد السينمائي، وماتنتجه تلك الحركة من أفكار.
الأفلام السينمائية التي سنتناول فيها تداعيات أنساق ثقافية معينة على الجسد، والتداعيات المقابلة لها هما الفيلمين اليونانيين الطويلين:
 2009"Dogtooth" ليورغوس لانثيموس، و "Attenberg" 2010 لأثينا راشيل سانغاريس، وفيهما يمكننا تتبع البنية الفنية التي أشار إليها دولوز في تناوله للجسد الإنساني سينمائيًا، فكلا الفيلمين يتناولان الآثار المترتبة على الجسد من القوى الإجتماعية والتاريخية الخارجة عنه، من خلال مجموعة من المفاوضات العنفية و/أو الخطابية التي تتم بين الجسد والآخر من ناحية، وبين الجسد والذات من ناحية أخرى.
 وهو مايدفعنا إلى تفهم إصرار المخرجين على خلق صور لجسد إنساني "غريب" في أوضاعه وأصواته وتفاصيله وحركته، بل وعلاقاته بأجساد أخرى مقابلة وكيفية إدراك علاقاته الاجتماعية، بشكل وإن كان صادمًا في بعض المواقع إلا أنه جميل سرديًا (سينمائيًا)، لما يدفع المتلقي إلى مواقع في علاقته بالجسد الإنساني عامة والشخصي تارة إلى مواقع تأمل عميق.
في فيلم "Dogtooth" اليوناني، نرى عائلة مكونة من أب وأم وإبنتين وابن، يعيشون منعزلين في بيت فخم على أطراف المدينة التي يصر المخرج على إظاهرها مقارنة بجسد الأب في الصورة على أنها كبيرة جدًا، ومتوحشة صناعيًا، وهو ما نراه مقصودًا ليتأسس بشكل أعمق لدى المتلقي ما يريد السرد ايصاله وغرسه في عقل أفراد العائلة من أن العالم الخارجي متوحش وخطير جدًا (حتى القطة تمثل لهم خطرًا كبيرًا)، حتى أن الخروج من البيت يستلزم فقط سيارة، ولا يتحقق إلا حينما يفقد المرء "نابه" (وهنا سبب التسمية).
يبدأ الفيلم بتشويه لغوي مقصود، تتبين أهميته فيما بعد في هندسة إدراك أفراد العائلة لإعطاب وتوجيه إدراكهم لإخضاعهم لسلطة الأب بشكل أكبر، وهنا تظهر مختلف ديناميات السلطة و السيطرة بداة من مفاهيم الحيز العام والخاص، والجندر والخارج والداخل، فنرى مثلًا أن اللغة لدى الفتاتين وأخاهما، تمت إعادة هندستها من خلال الأب والأم، ما أدى إلى اعطاب إدراكهم (الابن والفتاتين، ويبدو أنهما بين ال17 و 20 عامًا) للعديد من الأشياء، كالمسافة، واللذة، والذات، وحتى الموسيقى، باعتبارها ناقلًا صوتيًا، يتم تشويه إدراكهم لها بالرقص، حيث أن الأب يغير كلمات الأغاني حسب ما يرتأيه هو، وبالتالي تتغير الإستجابة لحوامل المعنى المعاد توجيهه (كلمات الأغنية).
فنجد مثلًا، أن الفتاة الكبرى أعطت نفسها إسمًا، "بروس"، في حين أنهم لم يكونوا ينادونها بغير "الأخت الكبرى"، وإذا أعدنا الإشارة إلى أن "وجود الشيء تسميته"، فغياب اسمها (كأختها وأخاها) يعني غيابها ذاتيًا، وأنها باعطاءها إسمًا لنفسها، قد منحت لذاتها حيزًا من الوجود المُقاوم منتزعًا من سلطة اللغة أولًا، وسلطة الأب مانح التسمية ومانعها، الذي شكل اللغة ثانيًا (بالتواطؤ مع الأم)، وفي المقابل نجد أن السرد الأبوي/السلطوي/البطريركي وكجزء من هندسة ادراكهم للدخال والخارج والأنا والآخر والعام والخاص، يمنح لأخاهم المتخيل الذي يستخدمه الأب كأداة سيطرة عليهم، اسمًا، يُستخدم كقناة لبث الخوف من الآخر/الخارج.
بالعودة لموقع الجسد في الفيلم، يمكننا رؤية وقوعه تحت تعصب ووحشية الرأسمالية الصناعية في الفضاء العام/الخارجي بماديتها من ناحية، وتعصب السلطة الأبوية البطريركية في المنزل/الفضاء الخاص، من ناحية أخرى، وكلا السلطتان تهندسان الأجساد في السرد (والصورة):
 أولًا - رمزيًا : يتم طمس أجزاء من الجسد ليغدو"المهبل" "لمبة إضاءة" ، ويتحول "الزومبي" إلى "وردة صفراء" في الإدراك، وماديًا من خلال تقييد العلاقة بالذات من ناحية كالجنس الذي يفقد معناه ودلالاته في مشاهد جنسية غاية في البرودة، وبالتالي فغياب وطمس دور الجسد في فكرة الولادة جاء كنتيجة طبيعية لذلك القمع اللغوي، وذلك في رد فعل العائلة على خبر "حمل" الأم. وكما أن التصرفات الشبقية غدت فاقدة لأي معنى له علاقة بالمتعة؛ كذلك الإدراك الذاتي للجسد الإنساني، في غياب مفاهيم لغوية عن الكائنات الأخرى، حيث نرى في مرحلة ما أن العائلة تتدرب على النباح كالكلاب على جاثيين أربع، ليحموا أنفسهم من وحوش العالم الخارجي المتخيلة وهي القطط، ويدربهم الأب صاحب سلطة تشكيل اللغة و الجسد والإدراك، والآخر.
الجسد الواقع تحت كل هذا القمع اللغوي، والوجودي (متمثلًا في سادية الأب)، لا يمكن له إلا أن يغدو جسدًا "غريبًا/غرائبيًا"، ولعل مشهد الرقص على أنغام الموسيقى يؤسس لتلك المقاربة، ففي حين يعزب الشاب/الإبن لحنًا رتيبًا، تصاب احدى الفاتين (بروس) بحالة من الهيستيريا في الرقص، التي لم تستطع مجاراتها فيها أختها الصغرى، وياب الجسد هاهنا بحالة من شدة الغرابة مقارنة بالموسيقى الرتيبة، وهو ما يثير لدى المتلقي في ذلك المشهد الطويل حالة من الضغط المتكون بتزايد عنف وكثافة الرقص، ولكن تلك الحالة لم تستثر أفراد العائلة إلا متأخرًا، حتى تنهار الفتاة برغم إصرارها على المتابعة، وتنهمك بنهم في أكل الحلوى. إلى إن هذا الجسد الواقع تحت سلطة قمعية إدراكية، تقمعه داخليًا/ماديًا وليس فقط خارجيًا/ماديًا فقط، حتى حينما يقرر الهرب من هذا السجن المنزلي، لا تفعل الفتاة (بروس) ذلك مباشرة ولكنها تكسر بسادية مغروسة من السلطة/الأب نابها في مشهد عنيف، مستخدمة الأوزان الرياضية، وفي مشهد يؤكد تغلغل السلطة في العقل، يجثو أفراد العائلة على أربع لينبحوا ليحموا الأب الذي خرج على قدميه باحثًا عن ابنته الهاربة.
لا يتوقف العنف الرمزي والمادي الواقع على الجسد على هذا فقط، فصناعة الصورة تؤسس للمزيد منه في الفيلم، ففي مشهد صنع سينمائيًا بدقة وحرفية عالية، حيث تتركز الكامير (عين المتلقي) على جسدي الفتاتين، يلعبان لعبة "التخدير"، فيغدو الجسد كاملًا أداة عبث، تؤدي لغيابه، وذلك لأن مفهوم الغياب والخدر معطوبان لغويًا في سرد يبدأ بمقولة : "كلمة (بحر) تعني كرسي"، من مشهده الأول. ويستمر العبث بالجسد وإدراكه، وصولًا إلى مشهد تتقمص فيه "بروس" شخصية "روكي بالبوا" من فيم روكي (4)، والذي قايضته مقابل متعة جنسية فارغة مع حارسة الأمن التي تعمل لدى الأب، وهو ما استلزم عقابًا ساديًا من الأب صاحب الحق في الأجساد كلها، أوقعه على الإثنتين: بروس وحارسة الأمن في مشهد عنيف وصادم. والمشهد السينمائي مصمم بحيث يضع المتلقي/المشاهد قريبًا جدًا من الجسد وكأنه فكرة (روكي) التي تتقمصها "بروس".

أما في فيلم "Attenberg" لأثينا رايتشل سانغاريس، فيرتبط فيه الجسد، بالنسق المديني وتطوره كفكرة، في مدينة صغيرة على ساحل البحر، تأكلها المصانع، جاعلة من حالة التضاد الفجة بين الطبيعة الجميلة في البر الأخضر بسهوله والجبال العالية والمساحات المفتوحة والبحر والسماء الزرقاوان، والمحيط الصناعي الحداثي المفرط الصلابة من حيث منازل وبيوت متطابقة في الشكل واللون، حادة الزوايا، خطّية الامتدادات، ومصانع ضخمة ذات لون رمادي أو بني أقرب للموت، هو امتداد معاكس مضامينيًا للراقبة على الجسد، فالفتاة إبنة الرجل الذي تأمل كثيرًا في ثورة يونانية خانته وخانت قناعاته بالتحرر، وأورثت مدينته القبح الصناعي الرأسمالي البرجوازي، لم ترث من أبيها الذي قارب موته أي طريقة للدفاع عن نفسها من هذا التوحس المحيط بها، فبقدر ما كان الأب في "Dogtooth" قمعيًا وسلوطيًا، فوالد هذه الفتاة يبدو يائسًا متخليًا تمامًا عن سلطته الأبوية وسلطته على جسده حتى تلك الجندرية على الإبنة، وهو مايبدو صادمًا في أحاديثهما عن الأعضاء الجنسية والإشتهاء المتبادل (من عدمه) والعلاقات الجنسية، وتابوهات علاقات الدم.
هذا الفيلم كسابقه يستثير في المتلقي نفسيًا مفهوم "الغرابة/ das Unheimliche/UnCanny" الفرويدي (نسبة لفرويد)، وذلك بدرجة تفرض تحررًا من الكليشيه السينمائي الذي موضع "الجسد الغريب" فقط في أفلام الرعب. فالجسد هاهنا غريب حتى في علاقته مع ذاته، وإدراكه لها، مثل ما تبرزه مشاهد تقليد الحيوانات حركيًا وجسديًا التي تقوم بها الفتاة في الفيلم، إستنادًا إلى مرجعية مثلتها لها الأفلام الوثائقية عن الحيوانات ورقصها. فكذلك كما يذهب كاموس وبياجيه وهيديغر في مَنطَّقةِ "الغريب"، باعتباره ما شابه أو ما إرتبط حميميًا بمشاعر غريبة"، صناعة الصورة في هذا الفيلم تلقي بالمتلقي باعتباره طرفًا سلبيًا، في حالة من التيه وغياب المعنى عن الإدراك، وليس غيابه بالمطلق، وهنا تمكن صعوبة الفيلم/السرد، وذلك بين عناصر مختلفة: الجسد، المادة، الفكرة ، التمثل، والسرد. تعيدنا استراتيجيات توظيف هذه "الغرابة" سينمائيًا، إلى ما أسماه دولوز في تأملاته عن السينما إلى فكرة "جمالية الخطأ"، و التي تلقي بظلالها على كل أنواع الفنون، (ولعل مثالها الأبرز روائيًا، آنا كارينينا)، جمالية الخطأ هذه، تنفتح على تنوع في التمثلات، بما يغني مفهوم التلقي، لأفق مفتوح لا يقوم على المسلمات والحقائق والإدراكات الجمعية الثابتة، بل يقوم المعنى فيه على الغير أكيد، والملتبس، والغير دائم، والغير مفهوم.

تسير مارينا (الإبنة) مع بيلا (صديقتها المفضلة، في فستانين متماثلين في الشكل لا اللون، بحركات تبدو غريبة وإن متعاقبة، لتؤكد لدى المتلقي سلطة العقل على الجسد حتى في أبسط حقوقه وحرياته وهي الحركة، فتغدو حركتهما غير مفهومة، وبالذات بعد وضع تعقبات الحركة تلك ضمن خلفية حادة وهي المدينة التي تتآكلها الخطوط الحادة، والموت الصناعي، وهذا التضاد بين الحركتين الحرة و المعقلنة، يصل للمتلقي وكأنه فضح لمفهوم السلطة على الجسد، بالمنطق الفوكوي.

تعيدنا مشاهد المشي الراقص المتعاقب الحر للفتاتين، إلى إرث إدوارد مويبرديج، العالم البريطاني الذي أسس لمفهوم تعاقب الصورة في الزمن ما يعطي السرد جسدًا (أنظر الصورة)، وهي الفكرة العضوية الأساس التي تقوم عليها السينما، من حيث هي أجساد ثابتة في صور متحركة زمنيًا، تعاقبيًا. 


تتواطأ الصورة مع الفكرة في الفيلم على المتلقي، فتقحمه –فعليًا- في "غرابة الجسد"، ففي المشهد حيث تعري مارينا، ظهرها، لتحرك عظمتي "لوح الكتف" لصديقتها، تقترب الصورة سريعًا من جسده، وكأن الصورة تدفع المتلقي (العين الثالثة/الرائية) إلى اقتحام ذلك الجسد الغريب، في مشهد قريب "Close Up"، ما يؤدي لإنهيار الخلفية تمامًا، سواءًا المكان، حيث توجد الفتاتان، أو حتى وجود بيلا (الفتاة الثانية) في المكان، وهنا يصبح المعنى كاملًا للغرابة، متمثلًا بالجسد، دون السياق الذي يحويه. وهو مايحقق مقولة دولوز "الصورة المؤثرة"، حيث تنفصل الصورة كاملة عن السرد المكاني و المادي و المعنوي المحيط بها، وتغدو هي وحدها المعنى. وتستمر الغرابة حتى في العلاقة الجنسية، حيث أن تلك الأخيرة، والتي تبدو مسلمة طقوسية لدى البشر، مفتوحة على عديد الغرائب في الخيالات، تغدو صدمة لجسد لا يعرف حدوده ولا تداعياته، كمشهد الجنس بين بيلا والشاب الذي رغبته، تلك الرغبة التي لم تفسر لها (وللمتلقي) لماذا لم تفصح عن وجوده في حياتها لأحد، إلا لأسباب لا تتعلق به في ذاته، بل بغيره، فهي تخاف من صديقتها بيلا أن "تسرقه" منها، في حين أنها أقرت بأنه لا يحبها. وهو ما نراه امتدادًا لخفة العلاقة بين مارينا والجسد إجمالًا، مادفعها إلى التأكد من حلم راود صديقتها عن شجرة صبار تنبت أعضاءً ذكورية، في حين أن ذلك لم يستثرها، ولم تنجه شجرتها هي في الحلم، والتي تزهر أثداءً أنثوية أن تترك عليها إنطباعًا جنوسيًا مغايرًا.
 وامعانًا في تحرير الجسد وخفته المتهافتة، يأتي موت الأب كمثال لإنهيار المعنى ككل، معنى الحضارة التي لا تتوقف أما الجسد و الروح، فتطالب إدارة المستشفى مارينا أن "تنظف" الغرفة من متعلقاته، ويناقشه "وكيل الدفن" عن إجراءات الدفن وكأنها عملية عرض سلعة وتوابيت وجرار، ويتم شحن الجسد الميت في صندوق بضائع، وكأنه لا معنى له، مادفع مارينا لأن تطلب من صديقتها بيلا ممارسة الجنس مع أبيها قبل موته، لتحقق للجسد البارد، كالمدينة الباردة حلمًا أخيرًا، لأب قال لإبنته قبل وفاته: "لم أترك لك شيئًا تدافعين به عن نفسك".




15‏/02‏/2015

كيف ساهمت تونس في تحرير “عبيد” أمريكا؟




الكاتب : احمد نظيف

نشر في : رصيف 22*

في مجال حقوق الإنسان، لا نعرف حالياً سوى تقديم دول العالم الأول نصائح إلى دول العالم الثالث. ولكن قبل أكثر من قرن، حدث أمر معاكس. نقلت تونس خبرتها في تحرير “العبيد” إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت آنذاك، قوة عالمية صاعدة.

عام 1864، كان قد مضى 18 سنة على صدور “قانون تحرير العبيد” في تونس، وكانت الولايات المتحدة تشهد حرباً أهلية بين ولايات الشمال بقيادة الرئيس أبراهام لينكولن، وولايات الجنوب الخمس، بقيادة جيفرسون ديفيس. وكانت الولايات الجنوبية تعارض حملة لينكولن الساعية إلى تحرير “العبيد”. وفي هذا السياق، حاولت الإدارة الأمريكية، حشد ما أمكن من الحجج والاستئناس بالتجارب الدولية الأخرى في قضية تحرير “العبيد”، فأرسل قنصلها في تونس، أموس بري، رسالة إلى الجنرال التونسي حسين، وكان حينذاك رئيساً للمجلس البلدي لمدينة تونس وأحد رموز المشروع الإصلاحي بقيادة الوزير خير الدين التونسي. طلب القنصل الأمريكي استفسارات عن منافع “قانون تحرير العبيد” في تونس.

رداً على الطلب الأمريكي، حرر الجنرال حسين رسالة موجزة، شرح فيها كيفية إلغاء العبودية في تونس ووصايا القرآن حول هذا الموضوع.فقام بري برفعها إلى وزير الخارجية الأمريكية وليام إيتش سيوارد الذي أوصلها بدوره إلى الرئيس أبراهام لينكولن فأعجب بها إلى درجة أنه أمر بإعادة طبع نصها بأكمله ونشره على نطاق واسع. نوقشت رسالة الجنرال حسين على نطاق واسع في الصحافة الأمريكية، وهي الآن موجودة في كتيب صغير في مكتبة جامعة هارفارد. وقد ألغي الرق في أمريكا عام 1865.

علّل الجنرال حسين قرار الحكومة التونسية بمنع العبودية معتمداً على مقاصد الشريعة الإسلامية التي تعتبر أن الأصل هو الحرية لا الاستعباد، وأن الإسلام اشترط الإحسان “للعبيد” وعدم توفر هذا الشرط يؤدي إلى “تجاوز الحدود الشرعية”. ولفت إلى أن تفشي وجود الخدم و”العبيد” يساعد على انتشار الكسل والبطالة معتبراً أن البلدان التي فيها عموم الحرية أعمر من غيرها كون نتيجة فعل الإنسان المخيّر أربح وأبرك من نتيجة فعل “العبد” المجبور.

وفي رسالته ذكر قصة معبّرة وقعت له في فرنسا: “كنت حضرت مرة في أيام الكرنفال سنة 1856 بالأوبرا الكبيرة بباريس ومعي غلام أسود، فما راعني إلا أن رأيت رجلاً أمريكانياً وثب عليه وثوب القطة على الفأرة وأراد أن يأخد ثيابه قائلاً ولسانه يتلجلج من سطوة النشوتين: ما يفعل هذا “العبد السوداني” بصالون نحن فيه؟ ومتى مكن “العبيد” من مجالسة الأسياد. فأخذت الفتى السوداني البهتة إذ لم يكن يدري ما يقول، ولا علم لماذا يجـــول ذلك الرجل ويصول، فدنوت منهما وقلت للرجل: يا حبيبي هون على نفسك، فإنما نحن بباريس ولسنا بريشموند!”.

وهنا النص الكامل لجواب الجنرال حسين:

“جواب من أمير الأمراء حسين عن مكتوب إليه في العبيد من قنصل جنرال العصبة الأمريكانية بحاضرة تونس المحمية:

الحمد لله وحده، وإليه يرجع الأمر كلّه. إلى موسيو أموس بري قنصل جنرال العصبة الأمريكانية بحاضرة تونس.

أما بعد فإنه شرفني مكتوبكم الذي مضمونه حيث كنتم بأرض كانت الحرية والعبودية بها متجاورتين وناميتين منذ مدة مديدة وصارتا الآن مشتبكتين في حرب شديدة بغاية قهر إحداهما الأخرى، ووجدتم في تاريخ تونس حوادث مهمة متعلقة بهذين المبدأين المتضادين، أردتم أن تعرفوا تأثير العبودية في بلادنا، وهل أعقبت تأسفاً من الأهلين على فقدها أو انشراحاً لذلك فطلبتم منا شرح ذلك وبأن ما أثبتت التجربة أصلحيته هل هو الخدمة الجبرية أي خدمة العبيد بدون إجرام (تجريم) الخدمة الاختيارية بأجر معلوم وأيهما أوفق بنظام الجماعة عند الدولة التونسية.

أما الجواب عما وجدتم في تاريخ بلادنا عن تحرير العبيد، ومنعنا الملك الآدمي في المستقبل بعد أن كان مباحاً فسبب ذلك هو أن دولتنا كسائر الدول الإسلامية كما تسمونها دولة تيوكراتيك في المعني أي أحكامها جامعة بين الديانة والسياسة. والشريعة الإسلامية وإن أقرت الملكية (وقلنا أقرت لأن ملك الآدمي متقدم على الشرائع الثلاث، فقد كان حكم السارق في شرع يعقوب اسرائيل الله أن يسترق سنة بدل القطع في الشريعة المحمدية) إنما أباحتها بعد حصول سبب الملك بشروط وواجبات يعسر القيام بها، فإن منها عدم الإضرار بالملوك حتى جعل الشارع الإضرار موجباً للعتق كما قال: أي مملوك مثل به فهو حر؟ ومع ذلك فلم تزل الشريعة تؤكد الوصاية بالعبيد حتى كان آخر كلام نبينا صلى الله عليه وسلم الصلاة: “وما ملكت إيمانكم” وكان يقول: “إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه فوق طاقته” وكان عمر ابن الخطاب الخليفة الثاني يذهب كل يوم إلى الموالي فكل عبد وجده في عمل لا يطيقه وضع عنه منه، وكذلك كان يخرج كل يوم سبت يتفقد الدواب فإذا وجد دابة في عمل شاق خفف عنها.

ثم أن من القواعد الشرعية تشوف الشارع إلى الحرية حتى أن من أعتق جزء عبد لزمه عتق باقيه. وكان من مصارف الزكاة المحصورة في الأصناف الثمانية بنص القرآن الكريم فك الرقاب قالوا بأن يشترى من مال الزكاة عبيد فيعتقون. كما أن من لزمته كفارة يمين أو قتل أو فطر أو ظِهار فله التكفير بعتق رقبة.

فلولا أن تحرير العبيد من المصالح المهمة لما ضيقت الشريعة به على الفقراء والمساكين. ومن آثار التشوف المذكور كثرة ترغيب الشارع في العتق كقوله: أيما أمرىء مسلم أعتق امرأً مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار. وتلك الشروط والواجبات حيث كان القيام بها عسيراً في زمن عنفوان شباب الدين فما ظنك به في زمن هرمه لا سيما صنف السودان المباينين للبيض في الطبيعة الغريزية، فكثيراً ما يقـــع بين العبيد ومواليهم المشاجرة التي لا منشأ لها إلا التنافر الطبيعي، وذلك مما يفضي إلى مزيد الإضرار بالعبيـــد، وتجاوز الحدود الشرعية في حقهم. ولم يزل ذلك الأمر يتزايد حتى اقتضى نظر الدولة تحجير الاسترقاق من أصله لأنه لما تعذر الرفق بهم والإحسان إليهم على الوجه المطلوب شرعاً لم يبق إلا الأمر ببيعها أو بعتقها. والأول لا يحصل به الغرض المقصود لما فيه من التسلسل وعود الضرر مع المشتري فتعين الوجه الثاني.

ومن ذلك الوقت بطلت ملكية العبيد عندنا دفعة، وذلك في شهر المحرم سنة 1262 في مدة المرحوم المشير أحمد باشا باي. وأول ما خاطب به المجلس الشرعي في هذا الشأن قوله: “أما بعد فقد ثبت عندنا ثبوتاً لا ريب فيه أن غالب أهل إيالتنا في هذا العصر لا يحسن ملكية هؤلاء المماليك السودان، ولذلك اقتضى نظرنا والحالة هذه رفقاً بأولئك المساكين أن نمنع الناس من هذا المبـــــاح، وعندنا في ذلك مصالح سياسية إلخ”، والمصالح المشار لها هنا يمكن شرحها بأمور كثيرة منها مما يقوله أهل الاقتصاد السياسي في أيامنا أن البلدان التي فيها عموم الحرية وعدم الملكية أعمر من غيرها بالاستقراء. وقد رأيت خطبة لبعض الأفاضل من أهل القلم بمملكتنا كتبها في ذلك الوقت يحث بها أهل المملكة على إجابة رئيس الدولة بالقلب والقالب يقول فيها: “فيا للنفوس الزكية، والقلوب التي بالشفقة حرية، شرعكم متشوف للحرية، ورق الآدمي بلية، والرب يقدر على عكس القضية”.

وأما الجواب عن تأثير العبودية وما أعقب فقدها في الأهلين فهو أن ملك الآدمي لما لم يكن من الأمور الضرورية ولا الحاجية في المعيشة لم يصعب العدول عنه، ولا تجزع لفقده نفوس أهل مملكتنا. وكيف يتأسف المعتني بشؤون الترف والكمال في الأحوال والعوائد على تحرير عبده وهو قادر على استرقاق الأحرار بالدراهم والدينار؟ مع اعتقادهم الديني أنهم ينالون بعتق عبيدهم ثواباً من الله في الدار الآخرة. على أن ذلك وإن يصعب في أول الأمر على بعض من الناس لرؤيتهم استخدام العبيد بدون أجر أيسر لهم وأربح من استخدام غيرهم بأجر لشح نفوسهم بالعتق إيثاراً للعاجل على الآجل، إلا أن هؤلاء تسلوا من قريب لما أثبتت لهم التجربة أصلحية الخدمة الاختيارية دون الجبرية كما أثبتها العقل أيضاً.

ورأى من عجز عن استخدام الحر بالأجر ممن كانوا يستخدمون العبيد رجوعه إلى الأمر الطبيعي والسيرة المستحسنة، وهو أن يباشر الإنسان قضاء أوطاره اللازمة بنفسه ويقلل احتياجه إلى أبناء جنسه، فإن النفس إذا تعودت استخدام الغير قد يفضي بها ذلك إلى العجز عن أدنى الضروريات، والإنسان إبن عوائده ومألوفاته لا إبن طبيعته ومزاجه، وبذلك التعود تكثر شروط استمرار حياته، وما كثرت شروطه عز وجوده. وبالجملة فالناس في باب الخدمة على أربعة أصناف:

ـ إنسان يخدم نفسه بنفسه، ولاشك أن هذا يعمل ما يستطيعه في يومه ويجهد نفسه.
ـ الثاني يؤاجر نفسه لغيره طوعاً، وهذا دون الأول في نتيجة العمل حيث لا يجهد نفسه .
ـ الثالث يعمل لغيره بلا أجر، وهو مجبور، فذلك هو العبد المملوك. ولا غرو أن تكون نتيجة عمله الثاني بمراحل.
ـ الرابع الذي لا يعمل لنفسه ولا لغيره، هو العبد البطال الذي يبغضه الله تعالى. ومن هذا الصنف الأخير الناس الذين يترفعون عن خدمة أنفسهم وقضاء أوطارهم استنكافاً عن مزاحمة العبيد في أشغالهم.

وقد ينفع في هذا القسم العلاج إذا رأوا من كان أرفع منهم يتعاطى تلك الأشغال التي أنكروا مباشرتها. وأيضاً ربما نفع هذا التعاضد الكسالى إذا رأوا مع ذلك التفاتاً وترغيباً وترهيباً من رعاتهم إذ لا يجدون محيصاً عن المسير اقتداءً بمن سار. والإنسان أقرب إلى خلال الخير منه إلى خلال الشر بأصل فطرته وقوته الناطقة العاقلة لأن الشر إنما جاءه من قبل القوة الحيوانية المركبة فيه. وأما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب، فإذا وجد طبيباً ماهراً وداوى ما طرأ عليه من المرض فإنه يرجعه إلى أحسن تقويم، وتجتمع الأيدي ويكثر التعاون وتتوفر بذلك أسباب العمران. ومن هذا يتبين لكم السر في كون البلدان التي فيها عموم الحرية وعدم الملكية أعمر من غيرها كما أشرنا إلى ذلك آنفاً، ولا سبب لذلك إلا كون نتيجة فعل الإنسان المختار أربح وأبرك من نتيجة فعل العبد المجبور.

وعندي أن عموم الحرية وانتفاء الملكية كما يؤثر في نمو العمران يؤثر أيضاً في تهذيب خلق الإنسان. أما تأثيره في نمو العمران فظاهر إذ لا عمران إلا بعدل، والحرية نتيجة العدل. فإذا انعدمت جاء الظلم المِؤذن بخراب العمران، ونقصه بنقصها. وأما تـأثيره في تهذيب الإنسان فإن تعميم الحرية تبعده عن الأخلاق الردية من الشراسة والتكبر والتجبر ونحوها التي لا تنفك في الغالب عمن يملك العديد لما تعودوا به من الإمرة والترفع، وربما رأيتهم ينظرون الناس بالعين التي ينظرون بها عبيدهم لا سيما إذا رأوا إنسانا أسود، فما يرونه إلا كسائر الحيوانات العجم.

وكنت حضرت مرة في أيام الكرنفال سنة 1856 بالأوبرا الكبيرة بباريس ومعي غلام أسود، فما راعني إلا أن رأيت رجلاً أمريكانياً وثب عليه وثوب القطة على الفأرة وأراد أن يأخد ثيابه قائلاً ولسانه يتلجلج من سطوة النشوتين: ما يفعل هذا العبد السوداني بصالون نحن فيه؟ ومتى مكن العبيد من مجالسة الأسياد. فأخذت الفتى السوداني البهتة إذ لم يكن يدري ما يقول، ولا علم لماذا يجـــول ذلك الرجل ويصول، فدنوت منهما وقلت للرجل: يا حبيبي هون على نفسك، فإنما نحن بباريس ولسنا بريشموند! وبينما هما كذلك إذ وافاهما أحد حفظة المحل وعرفه بأنه لا فرق في حكمهـــم بين الجلود الا بالجودة وإتقان الدبغ. فالحاصل أن ذلك الأسود المسكين لم تخلصه من أظافر ذلك الرجل محرمته البيضاء ولا قوانتواته (قفازاته) الصفراء، وإنما خلصه بياض الحق وعدل الحرية. وبالجملة فالأوفق بنظام الجماعة عند الدولة التونسية هو عدم الملكية، ولا التفات لما عسى أن يستند إليه المخالف من أن بعض العبيد ندموا على خروجهم من بيوت أسيادهم وطلبوا الرجوع إليها على شروط العبودية، إذ: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد/ وينكر الفم طعم الماء من سقم

على أن ذلك إنما كان في أول الأمر حين خرجوا جافلين كما تخرج الدواب إذا فلتت من مرابطها قبل الاستعداد إلى لوازم المعيشة والحرية. أما الآن، بعد الاستعداد، فهل ترى لهم أدنى ميل إلى العبودية؟ ندع هذا الاعتراض الساقط ونرجع إلى ما هو أهم منه فنقول: أنتم أيتها الأمة الأمريكانية إخوان الأمة التي قال فيها عمرو بن العاص صاحب نبينا صلى الله عليه وسلم أنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخبرهـم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة، وأمنعهم من ظلم الملوك. ولا عمري لأنتم كما قال أمنع الناس من ظلم الملوك حيث أنعم الله عليكم بتمام الحرية في أنفسكم، وجعل سائر أموركم السياسية والمدنية بأيديكم. والبعض من غيركم يقنع بالحقوق المدنية لحماية النفس والعرض والمال فلا يجدها! فما ضركم لو تفضلتم على عبيدكم بما لا يؤثروا هنا شوكتكم؟

شكراً لربكم على ما خولكم من تلك النعم الجليلة، ثم أنتم من التمدن والحضارة بمراحل عن أن تقتدوا بمن يدورون وعيونهم مكنبلة (كذا) على دائرة! “إنا وجدنا آباءنا على أمة” واعلموا أن الشفقة والحنانة البشرية تدعوكم لأن تنبذوا من حريتكم الزيادات التي تسوءها وتكدرها وتلقوا بها البشر على شفاه أولئك العبيد المساكين، والله يحب من عباده الرحماء فارحموا من في الأرض يرحكم من في السماء. هذا وأرجوكم أيها القنصل الجنرال أن تعتقدوا غاية تكدرنا من حروبكم هذه الواقعة بينكم توجعاً على النوع الإنساني وغاية شفقتنا على أولائك العبيد المساكين كما أرجوكم أن تعتقدوا خلوص مودتي لكم .

كتبه بيده الفانية، الفقير إلى ربه تعالى أمير الأمراء حسين رئيس المجلس البلدي في أواخر جمادى الأولى سنة 1281 هجرية الموافق لأواخر أكتوبر سنة 1864 مسيحية”.


http://raseef22.com/politics/2015/02/07/tunisias-contribution-to-liberating-american-slaves/