30‏/11‏/2012

وجوه الفرد الغارق في الفردية


إفلين بياييه

لماذا تقرَّرَ، منذ ثلاثين عاماً لا أكثر، عرض عربات أطفالٍ يدير فيها الأولاد
ظهورهم إلى أهلهم؟ لماذا تبدو "الشفافيّة" فضيلةً شبه خلاصيّة؟ ولماذا ذاك
الذي كان يسمّى بكل وضوحٍ "رئيس الموظفين" مُنح صفة مدير الموارد
البشريّة؟ لماذا يلقى تلفزيون الواقع كل هذا النجاح؟ ولماذا تحتلّ الكتب
المخصّصة لتألّق الشخصية رأس القائمة في المبيعات؟

قد تبدو هذه الأسئلة، مع غيرها، ممّا شكل نقطة انطلاق لأربع دراسات
متنوعةً إلى درجةٍ مستغربة بعض الشيء. إذ كلّها تعود إلى سؤالٍ أساسي:
كيف علينا أن نقيّم التطوّر الجاري لديموقراطياتنا؟ كيف ننظر إليه؟ وكيف
نتصرّف إزاءه؟

فعندما ننظر بالتفصيل في ممارساتٍ فردانيّة تزداد... فرديّةً، ابتداءً من تطوّر
مواقع الانترنت المخصصّة للّقاءات بين الأصدقاء، إلى شغف المراهقين
بالماركات، مروراً بتسخيف الـ"زابينغ" (التنقّل بين أقنية التلفزيون عن
طريق التحكّم عن بُعد)، فإنّ ما يخضع للتحليل في الواقع هو العلاقة بين
المفهوم المعاصر للـ"أنا"، وأهدافها وحريتها وبين ديموقراطيات الاقتصاد
الليبرالي. إذ لا يتمّ هذا دون قلب بعض أنماط التفكير المألوفة ولا حتّى دون
مساءلةٍ ما: هذا يعني أن هذه المؤلّفات، التي تقيم الحوار مع روسو أو كانط
أو أرندت أو فوكو أو هابرماس، بدون أن تكون بذلك حِكراً على حَمَلَة الإجازات
في العلوم الإنسانية فقط، هي منشّطةٌ للتفكير ومربكةٌ في آنٍ معاً.

إن فكر "أوليفييه راي"، عالم الرياضيات والباحث والمعلّم، خصوصاً في
مدرسة البوليتكنيك، يتوسّع انطلاقاً من سؤالٍ مركزي: كيف نربّي الأولاد في
مجتمعٍ ديموقراطيّ فعلاً ومن أجل هذا المجتمع؟ ففي نظره أنّ النظريات
التربوية السائدة تميلُ كي تقدِّم على المعرفة وعلى دراسة الآثار الأدبية
"ثقافة الأصالة والتعبير عن الذات والتواصل". فعلى الولد أن "يبني
معارفه". وفي ذلك ديموقراطياً، احترامٌ للفرد وإيقاعه وغناه الخاص: وذلك
بالسماح له بفرض شخصيّته وتمايزه بمعزلٍ عن الموروثات العزيزة
على... "الورثة"، بحسب قول بيار بورديو، وعن سائر الموجبات الشكلانيّة.
لكن ما يراه "راي" مطبّقاً بحسب هذه المفاهيم التربوية، والتي يجد ما يؤكّدها
في أمثلةٍ عديدةٍ أخرى، وتحت شعار الرغبة في احترام الولد وجعل الفوارق
الاجتماعية أقلّ حسماً، هو نوعٌ من الانزلاق نحو توهّم إعداد الفرد "المكوّن
ذاتياً"، ممجّداً حرّية موهومة كلّياً.

وبالطبع يدور النقاش حول تحديد مفهوم الحرّية. فهل أن الحرّية هي حرّية
أن يكون الفرد هو ذاته تلقائياً؟ ولكي يكون الإنسان ما هو عليه ألا يجب
أوّلاً تعلّم ما هو هذا الفرد العزيز جداً في أيامنا؟ ويؤكّد راي، في تتبّعه خيطٍ
مستقيمٍ لتيارٍ فكريّ بأكمله يصل إلى أعمال رجل القانون "بيار لوجاندر"
أن الفرد لا يمكن أن يحقّق استقلاليةً فعليّةً بدون الاعتراف بأنّه مرتبط :
مرتبطٌ بالآخرين، مرتبطٌ بمجتمعٍ يسمح له بممارسة هذه الاستقلالية، مرتبطٌ
بتاريخٍ، مرتبطٌ بأوهامه الخاصة. والاعتقاد بالـ"مرجعية الذاتيّة"، بحسب
ما تستدعي النظريات التربوية الحالية، وبشكل أوسع نظام القيم القائم،
يعني التنكّر لعلم السلالة العائلية وللمعرفة وللمؤسسات. ونفي هذه العلاقة
يعني نفي حدود الفرد الخاصة، تلك الحدود التي تحدّد وحدها الحقل الذي
يُعدّ فيه الشخص المعنيّ.

وبعبارةٍ أخرى، لا يمكن للحرية أن تقوم إلاّ على أساس التخلّي؛ وهي لا تبدأ
بالتجلي إلاّ عندما تُدرَك الحدود وتُستوعَب؛ فالحريّة الفردية، أساس
الديموقراطية وشرط ديمومتها، تفرض أن يعرف الفرد أنّه فانٍ ابن فانٍ، وأنه
واحدٌ بين آخرين، ويرفض قانون الأقوى، ويخضع للقوانين التي تسمح
بالعيش المشترك. هذا هو إذن السبب الذي يحمله على عدم الانجرار وراء
غرائزه الخاصة، وذلك لكي يستطيع، كبشريٍّ بين سائر البشر، أن يساهم في
التاريخ المشترك ويكتب تاريخه الخاص. وهذا هو السبب الذي يجعله يفهم
أن الآخر ليس شيئاً، بل هو "أنا" مثله، والتي لها يدين الإنسان بإنسانيته
التي تجعله جديراً بان يكون له حقوق، بحسب تعبير ريمي براغ الرائع.


والحال أن الاستناد إلى العقلانية بدلاً من بديهية الشهوة وأسوار الأنا ليس
أمراً تلقائياً وليس سهلاً ولا شفّافاً. فإذا ما كان كلّ واحدٍ يتمتّع بهذه الطاقة؛
إلاّ أن المطلوب هو تغذية هذه الطاقة. فكل شخص يولد حرّاً... حرٌّ نعم، إنما
ليعمل على تحرّره أمام معوّقات الغرائز والبديهيات. أما مفهوم الشخص
الواحد العامل "منفرداً"، والكفيل بألاّ يستمدّ إلا من أعماقه هو وحيداً أسس
منطقه، والمعتبَر أنّه لا يستأذن إلا ذاته؛ هذا المفهوم ينزع إلى تحديد كلّ فردٍ
على أنه "دولةٌ مصغّرة" حيث يفرض كلّ واحدٍ قانونه. أما معنى المحظورات والموجبات والضوابط فقد ينتهي إلى الزوال على أساس أن كل ذلك ليس سوى 

"محصّلةٍ بسيطةٍ للتجاذبات بين المتطلّبات الفردية من جهة، وفرائض المجتمع
من جهة أخرى "، أو العنف بالمعنى الأسوأ.

الحكمة، سمحت باستقلالية الفرد فقط عندما تحوّلت مؤسسات
فعدم الاعتراف بأن "ما من أحدٍ هو صانع نفسه في الأساس" وعدم التخلّي
عن الحلم الطفولي والخطير بالقوّة المطلقة، والاعتقاد بأنّ الانسياق للرغبات 

الشخصية يساعد في إنجاز الحقيقة، يعني تناسي أنّه إذا كان يمكن حقاً تحقيق
الذات فذلك لأنّ المجتمع وبناه وضوابطه وقانونه كلّها تسمح بذلك، وليس
لأن هذا حقٌّ "طبيعيّ" يقف المجتمع عائقاً في وجهه؛ ويعني أيضاً تناسي أنّ
الحكمة التي، بإصدارها قوانين، قد تحوّلت مؤسسات وجعلت استقلالية الفرد
ممكنة، وتناسي أن الإنسان يتلقّى أولاً القوانين والمحظورات والضوابط قبل
أن يمتلكها، وأنّه هكذا تستمرّ المؤسسة الاجتماعية القائمة على الحكمة
كضرورة لممارسة الحرية الحميمة والجماعية.

إذاً عندما يهاجم راي بغبطة حماسية وبفورة جائشة، طواطم الحداثة
المفترضة، واحتقار الميراث، ورفض الواجبات، وحريّة التأكيد على
الشخصية الخاصة وادعاء التمايز ككيان، فذلك لكي يبدِّد ما يبدو له فخاً
مغرياً ومرعباً يهدّد القيم الديموقراطية بدلاً من أن ينجزها، في حين أن
هذه المفاهيـم تدّعي كل ذلك.

وليس من السهل المغامرة في هذا المجال، فعدم الإيمان بأن كل ما يسمّى
تقدّما هو دائماً تقدّمي سرعان ما يمكن أن يتحوّل نوعاً من الفكر الرجعي.
والحال أن هذا التحليل يرمي إلى التذكير بفكر عصر الأنوار، ويسعى إلى
تبيان الانحراف في هذا الفكر. فبالتأكيد أن هذه الدراسة، في مرحها وطرافتها 

باستشهادها بإيفان إيليتش كما بفيليب كي. ديك، وبرينه جيرار أو بأرنولد
شواترزنغر (بطل فيلم "تيرميناتور")، هذه الدراسة المشوّشة والقاسية
والحماسية، لا تسعى إلى الاحتفاء بالماضي في وجه الحداثة، بل إنّها تعمل
على تبيان كيف أن عملية التحديث الثقافية تسير في موازاة الحداثة
الاقتصادية، وهذا ما يثير القلق.

فمن عربة الأطفال المجدّدة حيث يفترض بالولد أن يتعرّف على العالم بكلّ
حرية، بمعزلٍ عن أنظار أهله التي تسمح بإعطاء معنىً لما يراه، إلى انزلاق
العلم في اتجاه التقنية الموضوعة في خدمة السوق، ومن استبدال الإبداع
بدراسة الإرث الأدبي، إلى الحيّز الذي احتلّه الاستنساخ في الصحافة والخيال
هناك ما يولّد نظرةً إلى عالمٍ يبدو أنّه نسي أن الحرية تُبنَى بالحكمة. فهذا
العالم متصالحٌ تماماً مع مفهومٍ اقتصاديّ ليبرالي انتشر تحديداً بتغطيةٍ من
مُثُل التحرير ذاتها ومن احترام الفرد المغلوط تماماً - "وكما أنّه بحسب
المبادئ الليبرالية، هناك يدٌ خفيّة يُفترَض أنها تؤمّن الازدهار العام، لكي
تجعل البشر يتخلّون عن إدعائهم حق التدخل في الاقتصاد، ولا يهتمّون
إلا بمصلحتهم الشخصية، كما أن التنظيم الذاتيّ يقود الأفراد إلى التألّق
والسعادة". وعندها، في مجتمعٍ سائرٍ إلى "إلغاءٍ معمَّم للمؤسسات"
بحسب ما قاله داني-روبير دوفور، يصبح الفرد وحيداً، مجبراً على خلق
ذاته بذاته، وبشغف: متحرّراً من الواجبات ومتحرّراً من المنطق، حرّاً إلى
أقصى الدرجات في الإنصات إلى استدعاءات لاوعيَه، واستدعاءات السوق
ولا يحبّ أي شيءٍ بقدر ما يحبّ إرضاء غرائزه البالغة القِدَم.

سيقرأ أيّ ميلٍ نحو الإضراب كفوضى حميميّة يجب تفكيكها
كما أن دانيال بونيو، أستاذ الشرف في الجامعات، ورئيس تحرير مجلة
"كايي دو ميديولوجي" (دفاتر علم التوسّط) ثم مجلة "ميديوم" (الوسيط)
اللتين أسسّهما ريجيس دوبريه، يتابع المساءلة ذاتها، إنّما في حقل الفنون
ووسائل الإعلام. وهو في ما خصّ هذه الأهمية المعطاة للتعبير عن الذات
وهذا التطلّع إلى عالمٍ لا معوّقات فيه، مصدر المتعة، يجمع تجليّاتها تحت
كلمةٍ معبّرةٍ هي "العَرْضِية" (من فعل العرض والإظهار). والإثبات الذي
يقدّمه حول ذلك هو كلاسيكيٌّ إنما منبّه؛ لأنه يقترح نظرةً إجمالية. فمن
الصحافة التي تقترح قراءةً مثيرةً يحلّ فيها "التخيّل الشخصي" مكان
"الروايات الكبرى" السابقة، مزيّنةً بفتنة الحداثة ذاتها، مثل البوح
الحقيقي وواقعية السرد والتقارب بين البطل والقارئ، من "الكليب"
إلى "السبوت" مروراً بالـ"بثّ المباشر" والنشاط المشترك التي تسمح
باعتبار ما يُعرَض على "أنّه حقيقي" وتسمح سواءً بالتصديق أم بالمشاركة
وكل ما على طريقتها توفّره أيضاً "التجهيزات" و"القدرات"، التي غالباً
ما تخضع لـ"لمؤثرات الحقيقية" وإشراك المشاهد "بفعّالية"، أي باختصار
من تلفزيون الواقع إلى العاب الفيديو، وذلك من ضمن أمثلةٍ أخرى
(وكم هي كثيرة!)، على غرار ما كان يعلنه فيما مضى شعار راديو "أر.تي.إل
RTL": "المهمّ هو التأثّر". فما يسعى وراءه هنا هو "التأثير" والمباشر،
المرتبط دونما اعتراضٍ بالحقيقيّ، وبالتالي بالصادق، وربما هذا هو الأهم.
ويرى "بونيو" أن هذه "العَرْضِية" تؤسس "لطغيان الحقيقيّ والمعيوش"

وهو ما لا بدّ من التوافق معه بدون أي أسفٍ بالضرورة. فلماذا يتمكّن
المتمسّكون بالثقافة القديمة، مثل الرواية "المتباطئة" أو الأعمال الأدبية
الصعبة، من الوصول وحدهم الحقيقة السامية؟ أليس هذا هو الصراع القديم
بين النخبويّة والشعبويّة، أو هو وجهه الآخر المثقل بالمسؤولية، أي صراع
أدب الجهد مقابل التفتيش عن المتعة؟

والجواب هو كلاّ! فكما عند راي، إنّما عبر "أخلاقية العرض"، هناك النظرة
في الموضوع الديموقراطي، ودراسة تحريف ما في مفهوم الفردانية :
ما وضعت مواصفاته عبر مسيرةٍ طويلةٍ من "تفكيك المشاهد الفنّية
والإعلامية"، واختُصِرَ إلى "فقّاعةٍ نرجسيّة"، والذي، عبر التمتّع
"بالتسميم العاطفي" الناتج عن نفحات "الواقع" هذه، قد ينتهي إلى الغرق
في نسيان "الموضوع المشترك" وفي مجرّد الأحلام والكوابيس، الحميميّة.
وفي الواقع ما الذي يحدث عندما لا يتبقّى للأفراد من فضولٍ إلاّ لما يلامس
عالمهم الخاص، وهذا ما يمكن أن يحدث مع الانترنت (حتّى وإن لم يقتصر
الأمر عليها)؟ وعندما يُفضَّلُ ما يؤثّر مباشرةً على الأعصاب، والإغراق في
الاحتفال، والتواصل في إحساسٍ مشترك، و"الحضور الكليّ"، على الرؤية
من بعيد، عبر الرموز، بشكلٍ متميّز، باختصار عندما يُفضَّلُ "المعيوش"
على الإيحاء؟ عندها "تتمّ الإطاحة بالتصوّر الفكريّ وبمواصفاته النقدية"
ويَختَصِرُ "الصراع الجسديّ" طريق المنطق، ويؤدّي إلى الانصياع دون
نقاش، ويَمْحِي بروز "الحياة" "التصوّر الفكريّ"، وهو ما يجعل أيّ رؤيةٍ
مستقبلية سطحيّةً، إن لم يلغِها. هذا ما توحي به تماماً العبارة الشبابيّة "إننا نتفجّر!

on s’éclate".وهكذا بيتلاشى الحسّ-الدلالي لصالح الحسّ-الانفعالي
الذي يأخذ شرعيّته من نفسه. هذا ما سيولّد "مجتمعاً مقتصراً على
الأحاسيس"، لا عالم آخر مشترك فيه إلا المشترك النرجسي، ولا أيّ معيارٍ
آخر للأثر الفنّي الفاعل سوى قوة التأثير الفوري؛ وهذا على كلٍّ ما أدركته
بسرعة دعاية الأنظمة التوتاليتارية الخبيرة بالعروض الجماعية المشتركة.


بالطبع إنّ الأمر لم يصل بنا إلى هذه الحالة - رغم أن هذا ما توحي إليه خطّة
السيد سيلفيو برلوسكوني للوصول إلى السلطة، والمقدَّمة هنا على أنها
خطابٌ صحيحٌ مغلوط -، ولا يقوم بونيو بقراءة مانوية (الصراع بين الخير
والشرّ) لتحوّلاتنا المعاصرة. لكن أن تكون العاطفة والانصهار في شكلها
البديهي، وفي تجلّيها، كافيتين كضمانة للحقيقة، فهذا أمرٌ مقلق للديموقراطية
بشكلٍ جوهري.

ذاك أن المنطق يُقصى عندها، وبالتالي المشاركة في الدلالات. فالإيمان
بشفافية الأنا وهي من طينة المتخيَّل، والاعتقاد بصفاء العاطفة، يعني قبول
الميول الفطرية، و"انفلات" الغرائز واتّخاذها كل حجمها. لكن المكبوت
الذي يُصوَّر على أنّه حقيقيّ هو ما يغذّي "البربرية"، فتمّحي الحدود بين
الغريزة والخارج، ويزول الفارق في الوضع بين مختلف حاجات الفرد، تلك
الخاصة به وحسب، وتلك التي تكون ملكٌ للجميع.

وليس دون بعض الرطانة أحياناً، يقدّس بونيو السرّ الحميم، وأدب المشهد
مثل الانقطاع المستحسن الذي كان متوفّراً سابقاً، ما بين الواقع والوهم
في المسرح وفي السينما؛ وبكل شجاعةٍ يعاكس التيّار: مقابل طليعةٍ ما
ومقابل غنائية "غي دوبور"، وخصوصاً مقابل بعض قيم "نزعة المساواة الديموقراطية"، التي تساهم، إذا ما أردنا طرح الموضوع الديموقراطي
في تقويض ما هو ضرورةٌ مطلقة، أي الإبقاء على الفرق بين القوى الفظّة
للـ"هذا"، التي يمكن التلاعب بها ببراعة.

ودانيال بونيو، على غرار أوليفييه راي، هو "مزعجٌ" محبّب، وهاتان
الدراستان تشدّدان على خطورة الخلط ما بين توخّي الجماهيرية وتوخّي الديموقراطية؛ والثمن هو تحريفٌ خطيرٌ في مفاهيم الحرية والمساواة. لكن
إذا كانت براعة هاتين الدراستين الذكيّتين ممتعة، إلا أنّه يحوم فوق القارئ
ظلّ إرهاقٍ عميق؛ إذ لا يُعرَفُ كيف يجب النظر في هذا التحوّل نحو نرجسيةٍ
مدمّرةٍ، سواء لدى الشخص أم في المشروع الجماعي. فهل أن الإنسان هو
ذو طبيعةٍ سيّئةٍ للغاية، تميل فوراً إلى تفضيل ما يرضي نزواته، ومؤهّلةٌ
تلقائياً للرضوخ أمام غرائزه الأنانية؟ وهل أن أزمة "القيم" هذه، أزمة
الاستبطانية، أزمة العقد الاجتماعي، هي التوجّه الفعلي لتاريخ الديموقراطيات
الغنيّة؟ وهل هناك تلاقٍ حتميّ ما بين تطوّر الديموقراطيات والقيم التي يبشّر
بها النظام الليبرالي الاقتصادي؟ إنها أسئلةٌ مركزية. وما سيقدّم الوسائل
اللازمة للشروع في الإجابة عنها هو عمل "إيفا إيللوز" و"ميكي ماك غي".
تدرّس " إيللوز"، أستاذة علم الاجتماع في جامعة القدس العبرية، نشوء
"إنسان العاطفة". ولا حاجة للتعليق على هذه العبارة، فمن الجليّ جداً أن
حداثتنا مرتبطة بـ"ثقافة العاطفة المستجدّة"، من "الجانب الأنثوي" عند
البشر إلى "شعبويّة" رجال السياسة، مروراً بهاجس الدوافع النبيلة، الخ.
والحال أن الأحاسيس، في نظر إيللوز، هي بالطبع ظواهرٌ سيكولوجية
إنّما أيضاً "وربما أكثر حتّى، حقائقٌ اجتماعية وحضارية". وهكذا فإن
الفرضيّة التي تعالجها بطريقةٍ آسرةٍ تقيم علاقةً وثيقةً بين تطوّر الرأسمالية
وبين تغيّر الأهمية المعطاة للعواطف وللتعبير عنها والتي شيئاً فشيئاً
أصبحت خلاصة الهوية الشخصية. وهذا ما يفاجئ، وما يزيل الغشاوات
عن الأبصار.

وما تدرّسه إيللوز بشكلٍ أساسيّ هي الحداثة بحسب الولايات المتحدة؛ إنّما
من الواضح أن عرضها ينطبقُ أيضاً على مجمل الدول المتطوّرة. وهي تلفِتُ
الاهتمام أولاً كيفَ، إثر دخول التحليل النفسي، (ويستحق هذا الاهتمام أن
يتوضَّح أساساً) تمّ تصميم "الأنا العادية" على أنّها "كيانٌ غامض"، على
كل فردٍ أن يدركه ويعبّر عنه.

ففي عشرينات القرن الماضي، جاء دخول "متخيّل التحليل النفسي" إلى
عالم العمل، فالمدير الجيّد يجب أن يكون محلّلٌ نفسيٌّ جيّد؛ وسوف تُعتَبَر
النزاعات موضوعاً يبحثه علم النفس؛ وسوف تُعطَى الأهمية "للإنصات"
وسوف تكون الأخلاقية التواصلية جوهر الشركة بالذات. ولم يعُد الصراع
الاجتماعي سوى نوعٍ من سوء التفاهم. وفي هذا السياق سوف ينظر إلى
الكفاءات والقدرات المهنية على أنّها من نتاج الأنا العميقة. والفشل، أو الميل
إلى الإضراب، سوف يُعتَبَر نوعاً من الاضطراب الحميميّ الذي يجب حلّه. 


وهذا المفهوم، الذي يساعد في زيادة الإنتاجية يمتدّ خارج الشركة بفضل
مأسسة علم النفس. وهكذا تحوّلت العلاقات الحميمة أغراضاً خاضعة للقياس
"يمكن إقامة المقارنة بينها، وتخضع للتحليل بعبارات الكلفة والربح"، فيما
تتضخّم النزعة الذاتية والشعوريّة طالما لعواطفنا قيمة، وبمجرّد أنّه يمكن
التعبير عنها.

إذاً باتت الصحة وتحقيق الذات أمراً واحداً ووحيداً. فلكلّ "أناه"، وتمايزه
وعواطفه التي أصبحت رأسمالاً جديداً. ويجب الاعتراف بكل معاناةٍ لا على
أنها خطأٌ أخلاقي، بل على أنها مركّبٌ للفردانية، مع دائماً محاربة العطل:
وهذا ما يؤكّده تصنيف الأمراض في "كتيّب تشخيص وإحصاء الاضطرابات
الذهنية" الصادر في العام 1954، والذي وسّع كثيراً كلاًّ من حالات
الاضطراب التي تعوّض عنها شركات التأمين، وسوق شركات تصنيع
الأدوية. لكن هذا الكتيّب الذي وبشكلٍ أجوف الحالة "الطبيعية" على أنّها
الاستعداد "للانفتاح". وهكذا يُعاد ضخّ الأنا المُعانية في السوق، على أنّها
نتاجٌ متهاوٍ يجب إصلاحه، وعلى أنها ورقة قوّة خصوصيّة يجب الاستفادة
منها، وبدون أن يحدّدُ أبداً بشكلٍ واضحٍ كيف يكون "تحقيق الذات" الناجز.


هكذا تتّخذ الرأسمالية وجهاً إنسانياً، وتنمحي الحدود بين العام والخاص
وتنتصر إيديولوجية الخيار الليبرالية التي يتمّ التعبير عنها بكل تناقضاتها
ومآسيها على مواقع التلاقي على الانترنت... وهكذا أصبح ما كان يبدو
وعداً بالتحرّر وبالسعادة ضغطاً مستبطناً خفياً "طبيعياً"، إذ أُلغيَ "بناؤه".
فبدفعٍ من هذه المعايير الجديدة للمساواة والحرية والشفافية والعقلانية
اكتسبت الفردانية الحديثة حياةً عاطفيّةً "خاضعةً لمنطق العلاقات والمبادلات الاقتصادية". وتزاوج الاقتصاد الخاص مع اقتصاد السوق باسم قيم
الديموقراطية المعدّلة والمفسّرة والمعتمَدة من جانب نظامٍ اقتصاديٍّ بعينه
عازمٌ على تصوير نفسه على أنّه هو المرادف للديموقراطية.

إذاً يبدو أن هذه "الحالات المرضية للفردانية" تنتج فعلاً عن التلاقي بين
مُثُل الديموقراطية وأهداف رأسماليةٍ جديدة. لكن كيف لنا، إلاّ إذا كنّا نأمل في
حدوث ثورة، أن نتصوّر مستقبلاً لا يزاوَج فيه بين المواطن والمستهلك، بين
"الحقّ لـ..." والحقّ في..."؟ إنّ ميكي ماك غي، عالمة الاجتماع الأميركية
الشمالية، وبعد أن درست ظروف ظهور تقنيات التفتّح الذاتي في الولايات
المتحدة ودلالات تزايد الطلب بشكلٍ مكثّفٍ عليها، تذكّر هي بدورها أن "البنى الاجتماعية والكيانات الفردية تتضافر في عملية التكوين، إذ هي مترابطةٌ
فيما بينها لدرجة أن أيّ تغييرات في الأولى تؤدّي إلى تغييرات في الثانية
والعكس يصحّ أيضاً".

مدانٌ لأنّه لم يَعزِمَ أن "يُصبِح ... كل ما يمكن أن يكونه"


لكن إذا بات كل فردٍ مجبراً من الآن وصاعداً أن "يعمل على نفسه" وأن
يعتبر نفسه "رأسمالاً بشرياً"، وذلك بحدّةٍ أكثر كلّما تزايد عدم الأمان
الاجتماعي، أي إذا بلغ الارتهان أشدّه وحمّل الفرد نفسه مسؤولية عدم
الاكتفاء الاجتماعي، على أنّه مذنب في كونه لم يتحلّى بالعزم الكافي
"ليصبح كل ما يمكنه أن يكونه". إلا أن الكاتبة تسلّم على الأقل بأن هذا
السعي الحثيث إلى تحقيق الذات قد "يشكّل عامل استقطابٍ لتغييرٍ اجتماعي"
وهو ما يبدو لها شكلاً "ما قبل سياسيّ" للاحتجاج، يمكنه أن يدفع في اتجاه 

"المشاركة السياسية".

وهذا ما يفترضُ في آنٍ معاً الاعتراف "بأن رغبة الفرد في صنع حياته لم
تعد تمتّ إلى النرجسيّة، أو إلى حميّة تحرّرية بديلة، بل إنّها حوِّلَت بالأحرى
أكثر فأكثر ضرورةً، كشكلٍ جديدٍ من "العمل غير المادي"، مثل النشاطات
الذهنية والاجتماعية والعاطفية"، المطلوبة من أجل المشاركة في سوق
العمل"، وكذلك الاستناد إلى هذا التطلّع لكي يطال المطالبة بعالمٍ حيث
"التنمية الحرّة لكل فردٍ تُفهم على أنّها شرطٌ للتنمية الحرّة للكلّ". وهذا
ما يعني بالتأكيد أنّه لكي يُعاد التأكيد على القيم المؤسِّسة للحسّ المشترك
يجب إسقاط أوهام الحرية، لكن بالاستناد إلى ما يحمل في ذاته، بطريقةٍ
متناقضةٍ إنما متماسكة، التطلّع إلى حياةٍ أفضل، في ظلّ خلافات الحداثة
وشِراكها.

25‏/11‏/2012

هيلين كيلر (7/3)



في اليوم الثاني


وفي اليوم التالي , اعني اليوم الثاني من أيام النور سأستيقظ مع الفجر لأرى
تلك المعجزة الهائلة: معجزة انسلاخ الليل عن النهار وتحول الطبيعة مع
عالم مطبق

إلى مشرق, سأقف باجلال وخشوع أمام هذا المنظر البديع الرائع للشمس
وهي تنتشر على الأرض توقظ من سبات المنام.

وسأخصص هذا اليوم لشيء آخر.. إني اريد أن آخذ لمحة سريعة عن هذا
العالم, ماضيه وحاضره سيكون عليِ أن أقف على مظاهر تقدم الإنسان
وعلى الآثار التي تعبر عن مختلف العصور..لكن كيف استطيع أن اضغط كل 

هذا في يوم واحد؟

من خلال المتاحف طبعا..لقد سبق لي أن زرت في اكثر الأحيان متحف
نيويورك للتاريخ الطبيعي لألمس بيدي كثيرا من الأشياء المعروضة هناك
بيد أني كنت اتوق لأرى هذا بعيوني أنا تاريخ الدنيا المتشابك المتكاتف بما فيه
من أولئك الذين كانوا يعيشون هاتيك العصور اجناس بشرية حيوانات نحتت
أو صورت في بيئتها الأولى وشكلها الأصلي سأرى الجثث الهائلة لحيوانات
زاحفة انقرضت الآن كالديناصور التي جابت هذه الأرض قبل أن يظهر
الإنسان بقوامه الصغير وعقله الكبير ليفتح مملكة الحيوانات تلك معارض
واقعية لمظاهر التدرج والإرتقاء بالنسبة للحيوانات وبالنسبة للإنسان وبالنسبة
كذلك للأدوات والعدد التي استخدمها الإنسان من اجل أن يجد لنفسه حياة آمنة
على ظهر هذا الكوكب.. وألف مظهر ومظهر للتاريخ الطبيعي
كم يا ترى عدد قراء هذه الأشياء من الذين تنبهوا لضرورة مشاهدة هذه المعالم
الموسومة الحية في ذلك المتحف الملهم بكل معاني الحياة؟ كثير منهم بطبيعة
الحال لم تكن لديه الفرصة ليطبق ما يشاهد على ما يدرس,على أنني متأكدة من
أن كثيرا من أولئك الذين سنحت لهم الفرصة لم يستعملوا ابصارهم كما يجب..

هناك في تلك المتاحف يوجد بكل تأكيد المكان الذى يستحق من المرء أن 

يستعمل بصره ..انت الذى ترى يمكنك ان تقضي اياما منتجة هناك,أما أنا في 
هذه المرحلة الخيالية التي لا تتجاوز ثلاثة أيام من عمري فلن استطيع أن 
احظى بأكثر من لمحة عابرة ثم أغدو إلى ليلي الحالك .

وستكون وقفتي التالية في متحف العاصمة للفن, وكما كشف المتحف الوطني
للتاريخ الطبيعي عن مختلف المظاهر المادية لهذا العالم فإن متحف العاصمة
يكشف لنا عن العديد من حقائق الفكرالإنساني . فمن خلال تاريخ الإنسانية
نرى أن حااجة إلى التعبير الفني كانت من الضرورة بحيث تضاهي الحاجة
للطعام,إلى المأوى , إلى الأولاد..هناك في تلك الغرف الفسيحة الأرجاء من
متحف العاصمة تنتصب أمامي حياة مصر واليونان وروما متجلية في فنونها
كنت أعرف جيدا عن طريق اللمس الهياكل المنحوتة,وقد اخذت صورة عن
هيكل بارثيون – هيكل الآلهة أثينا في اكروبوليس أثينا كما يزعم - وادركت
الجمال البديع الذى كان طابع المحاربين اليونانيين الأمناء: أي أبولو إله
الجمال, وفيتيس ربه العشق, وتمثال النصر المجنح في ساموتراس,كل هذه
صديقة لأناملي,كانت قسمات وجه الشاعر اليوناني هوميروس – شاعر
اعمى صاحب ملحمتي الإلياذة والأوديسا - بلحيته واساريره كانت عزيزة
على ملمسي, إنه هو كذلك كان اعمى, كانت يدي تجد راحتها وهي تلمس
الرخام اليوناني المنقوش تماما كما ألمس نحت الأجيال المتأخرة.. قد مررت
بيدي على لوحة جبسية من صنع النحات الإيطالي مايكل انجلو للنبي موسى
واركت عبقرية النحات الفرنسي رودان– اشهر اعماله تمثال المفكر - لقد
ظللت معجبة بإبداع الفكر المتجلي في النحت الخشبي القوطي إن هذه الفنون
التي يمكن لمسها لها معان خاصة بالنسبة إلي بيد أن معانيها وهي مرئية افضل
منها وهي ملموسة.استطيع فقط أن اصل عن طريق الحدس والتخمين إلى
الجمال الذى تظل بقاياه وملامحه غائبة عني استطيع أن ابدي اعجابي
بالخطوط البارزة التي تزين زهرية من الزهريات الإغريقية بيد أن الزخارف
المرسومة تظل بالنسبة إلي مفقودة .

نعم هكذا سأقضي ثاني يوم من أيام نوري, سيكون علي أن انفذ إلى اعماق
الروح الإنساني من خلال ما خلفه ذلك الإنسان من فنون. إن الأشياء التي
اعرفها عن طريق اللمس يجب علي اليوم أن اراها رؤيا العين..هذه الروعة
الكاملة التي يتوفر عليها عالم الرسم, ينبغي أن تتفتح أمامي في ابهى مظاهرها
من العهود الإيطالية الأولى بمظهرها الديني الهادي إلى العصور الحاضرة
بمظاهرها المحمومة المضطربة.. سيكون علي إن انظر بإمعان إلى الصور
على القماش والتي هي من عمل رفاييل وليوناردو دافنشي , تيتانم ,رمبرانت
سأقدم لعيوني عيدا عندما لها بأن تقف قليلا أمام اللون الدافئ لفيرونيز , وبأن
تدرس اسرار الكريكو, وبان تكتسب نظرة للطبيعة من كوروت آه هناك كثير
من المعاني الثرية, ومن الجمال البديع في شتى الفنون التي تمثل مختلف
العصور بالنسبة إليك انت الذى تنعم بعيونك تستطيع أن ترى بها
كلما اردت ذلك .

وبعد هذه الزيارة القصيرة لمتحف الفن هذا سوف لا استطيع أن اعيد النظر
إلى جانب واحد من هذا العالم العظيم, من عالم الفن الذى بظل في متناولكم
انتم كل وقت وحين.. سأستطيع فقط أن احصل على بعض الإرتسامات
السطحية..عدد من الفنانين يذكرون لي أن تقدير الفن العميق الصحيح من
شأنه أن يعمل على تربية حاسة النظر.

إن المرء عن طريق تجربته يعرف كيف يقدر الكفاءات
يتعلم عن طريق التجربة وامعان النظر كيف يزن الأمور ويتأمل الإمكانات
وابعاد الخطوط وترتيبها واشكالها وألوانها.. لو كانت لي عيون كم اكون سعيدة
الحظ أن اتعاطى دراسة جذابة من هذا التنوع.

يحكى لي دائما عن عدد من الناس من بينكم –ايها الذين تبصرون– لا يهتم
بعالم الفنون هذا, وأنه بالنسبة إليكم يظل عالما مجهولا بل ليلا مظلما..
فهو – أي ذلك العالم – لا يري النور ولا يحظى بمن يحاول اكتشافه .

سأترك متحف العاصمة وأنا اشعر بمرارة ما عليها من مزيد. فقد كنت افضل
أن اظل هنا بجانب " المفتاح " الذى يحتضن انواع الجمال , الجمال الضائع
المهمل..نعم إن هؤلاء الذين بيصرون لا اراهم في حاجة إلى متحف من هذا
النوع يبحثون فيه عن مفتاح الجمال ذلك, إن هذا المفتاح يظل منتظرا على
الأبواب, فهناك متاحف صغيرة تمثل في تلك الكتب التي تضمها رفوف المكاتب
لكني بطبيعة الحال وفي هذا الوقت المحدد من أيام " رؤيتي الخيالية " ملزمة
أن اختار المكان الذى يوجد فيه المفتاح الذى يكشف لي عن اعظم كنز واثمنه
وفي اقصر وقت ممكن كذلك .

وفي مساء اليوم الثاني من ايام النور سيكون علي أن اقضيه في مسرح أو سينما
لقد حضرت إلى الآن طائفة من التمثيليات المسرحية من كل نوع وشكل , بيد
إن حركة الممثلين إنما كانت نهجى لي من طرف رفيقتي ..لهذا فكم اكون سعيدة
أن ارى اليوم عن طريق عيوني وانا دون حاجة إلى ترجمان شخص "هاملت"
الفاتن و"فالستاف" العاصف بين الزخارف الملونة لإليزابيث, وكم اكون سعيدة
أن اتتبع سائر حركات هامليت الرشيق القد وسائر اطراف فالستاف القوى
الجسم سأشاهد فقط تمثيليه واحدة , وسيكون علي أن اجابه عددا من المفاجآت
بما في ذلك الإشارات الفنية التي ارغب في أن أراها بعيني..انتم الذين لكم
عيون يكون في متناولكم أن تروا أي شيء يروقكم مهما تريدون,فكم منكم
يا ترى عندما يقع بصره على تمثيلية في مسرح أو رواية في سينما أو ألعوبة
كم منكم يزجي آيات شكره وتقديره لمعجزة البصر التي ينعم بها والتي تجعله
قادرا على أن يستمع بلونها وحسنها وحركتها؟

لا استطيع أن اتمتع بجمال الحركات الإيقاعية, وكل ما كنت استطيعه في
دائرتي الضيقة هو أن ألمس بيدي.. كل ما كان بمقدوري أن لتخيل, ولكن في
غموض فقط جمال بافلوفا " – راقصة روسية - ومع ذلك أعرف بعض
الأشياء البهيجة في ايقاعها وهي تنساب من تحت قدمي على وجه الأرض
اتصور جدا أن حركة ايقاع النغم يعتبر من اجمل المناظر في العالم واستطيع
كذلك أن ادرك بعض الأشياء عن طريق التحسس بأناملي عن السطور
المنقوشة, فإذا كان هذا الجمال الهادئ محببا إلى الناس فكيف يمكن أن نتصور
الإبتهاج الذى يتملكنا ونحن نرى هذا الجمال الصاخب أمام ابصارنا ؟
ولا انسى احدى الذكريات العزيزة علي يوم أذن لي الممثل الأمريكي جوزيف
جيفرسون فسمح لي بلمس وجه ويديه عندما كان يقوم ببعض الحركات ويلقي
بعض الكلمات من قصته المحببة لدى الشعب الأمريكي " ريب فان وينكل "
لقد استطعت فقط أن ادرك بعض الملامح عن عالم القصة لكنها كانت تافهة
وسوف لا انسى ابدا تلك المتعة التي شعرت بها في تلك اللحظات ومع ذلك
فكم هي الأشياء التي ضاعت مني وكم هي المتعة الفائقة بالنسبة للذين يرون
والذين يمكنهم أن يقتبسوا عن طريق ابصارهم ومسامعهم الكلمات والحركات
المتبادلة بين الفنانين وفي تمثيلية ما .

لو استطعت أن ارى يوما واحدا فقط سأعرف كيف ارسم في ذاكرتي مشاهد
لآلاف التمثيليات من التي قرأتها أو التي تقلت لير عن طريق الحروف
الهجائية.. وهكذا فإنه في هذا المساء من يومي الثاني لرؤيتي الخيالية فإن
الرسوم والخطوط العريضة للأدب الدراماتيكي ستزيح النوم عن بصري.


17‏/11‏/2012

هيلين كيلر -لو ابصرت ثلاث ايام (7/2)




لو ابصرت …


اعتقد أنه من الممكن أن ارسم على سبيل التخيل ماذا يكون علي
أن ارى لو أنني وهبت نعمة البصر فقط لمدة ثلاثة أيام ..فحاولوا
أن تشاركوني في هذا الخيال كذلك..ركزوا تفكيركم فيما اقول
وأنا احاول معكم أن نجد استعمالا للزمن طوال هذه الأيام الثلاثة
التي سنبصر فيها بأم عيوننا نحن.

عندما تشعر بأن الليلة الثالثة ستحمل معها اقتراب عودة الظلمة الدائمة
وعندما تشعر بأن الشمس سوف لا تعود ابدا للظهور مرة اخرى, كيف
تقضي تلك الأيام الثلاثة الثمينة المحددة المزدحمة؟ ماذا ستختار أن يقع
بصرك عليه ؟

سأختار أنا طبعا أن ارى اكثر الأشياء التي اصبحت عزيزة علي طوال
السنوات المظلمة التي عشتها وانتم كذلك ولا شك ستفضلون أن تتركوا
لعيونكم الحرية الكاملة لتقع على الأشياء التي امست محببة لديكم
وذلك حتى تستطيعوا أن تحتفظوا لأنفسكم بذكراها في الليل البهيم
الذى يعترض طريقكم.

نعم اذا ما منحت بقدرة قادر فرصة النظر لمدة ثلاثة أيام اكون بعدها
مهددة بانتكاسه تسلمني إلى الظلام الدائم , آنذاك سأوزع هذه الفترة
من حياتي على ثلاث مراحل:



في اليوم الأول


في اليوم الأول سيكون أول ما اقوم به هو رؤية هؤلاء الناس الذين
جعلوا من حياتي شيئا يستحق الذكر بفضل عطفهم ولطفهم واخلاصهم
أولا سيكون علي أن أنعم النظر طويلا في محيا عزيزتي واستاذتي
الآنسة سوليفان ماسي التي وردت علي ذات يوم أنا ما ازال طفلة وفتحت
أمامي هذا العالم الجديد..

لا اريد أن تكون رؤياي عابرة تقتصر على تلمح الخطوط البارزة لأسارير
وجهها من اجل الإحتفاظ بذكراها في مخيلتي فقط, ولكني اريد أن ادرس
ذلك الوجه درسا, لأقرأ فيه الشاهد الجلي على ذلك العطف والود والصبر
الذى كانت تتحلى به, وهي تقوم لأداء مهمتها الشاقة من أجل تربيتي
وتعليمي.

أريد أن ارى عيونها المليئة بالعزم والقوة التي جعلتها تقف وقفة شهم
حازم أمام سائر المصاعب.. عيونها المليئة بالرحمة والشفقة بجميع
أفراد الإنسان !

لا اعرف ماذا سأراه في اعماق قلب صديقة من خلال العين :
" نافذة الإنسان " كنت استطيع أن " ارى" بواسطة أناملي واصابعي فقط
الملامح المتجسدة لوجه من الوجوه, استطيع أن اكتشف الفرح والحزن
وسائر الإنفعالات الظاهرة..اعرف صديقاتي واصدقائي عن طريق لمس
وجوههم لكني لا اقدر حقيقة أن ارسم صورة في مخيلتي لأشخاصهم عن
طريق مجرد اللمس اعرف شخصياتهم طبعا من خلال " الوسائل الأخرى"
من خلال الأفكار التي يعبرون لي عنها, من خلال اعمالهم وتصرفاتهم
مهما كانت.. ومع ذلك فإنني محرومة من النفوذ إلى اعماقهم, ذلك النفوذ
الذى يتم دون شك عن طريق النظر لوجوههم عن طريق ملاحظة ردود
الفعل التي يقابلون بها مختلف النظريات التي يسمعونها أو الظروف
والملابسات التي تمر بهم عن طريق التفاعلات والإحساسات المباشرة
والعابرة التي تتحلى من العيون وملامح الوجوه .

اعرف جيدا الصديقات اللاتي يترددن علي لأنهم ظللن عبر الشهور
والأعوام, يشخصن أمامي في شتى المظاهر بيد أن الزملاء العابرين ليس
لي منهم إلا بعض الإنطباعات الناقصة , انطباعات توفرت عليها عن
طريق احتضان أو سلام ,عن طريق بعض الكلمات التي ألتقطها من
بين شفاههن, بمساعدة أناملي أو ببعض الكلمات التي ينقرن بها على
راحة يدي.

كم سيكون سهلا وكم سيكون من بواعث الإرتياح بالنسبة إليكم. انتم
الذين تستطيعون أن تبصروا بعيونكم وأن تدركوا بكل سرعة الصفة
الأساسية لأشخاص الآخرين بمجرد رؤية الحركات التي تصحب التعبير
عادة بمجرد رؤية اهتزاز الأطراف بمجرد اشارات اليد.. ولكن هل خطر
مرة ببالكم أن تستعملوا بصركم لتنفذوا به إلى الطباع الداخلية لصديق لكم
أو لرفيق ؟ أليس معظمكم – أيها الذين تبصرون – إنما تدركون عن
طريق الصدفة فقط معالم الوجوه وقسماتها ثم تتركون ذلك يمر كأنه
لا يعني ..؟

ولأضرب مثلا ادق , اسألكم هذا السؤال: هل تستطيعون أن تصفوا بدقة
وجوه خمسة من الأصدقاء الذين تعرفونهم جيدا؟ بعضكم ربما قدر على
ذلك لكن عددا كبيرا منكم لا يستطيع.. وكتجربة خاصة قمت بها انا..اذكر
انني سألت بعض الأزواج ممن عاشروا زوجاتهم طويلا عن اللون الذى
تمتاز عيون زوجاتهم..وفي اغلب الأحيان عبروا لي عن خجلهم وارتباكهم..
واعترفوا بأنهم لا يعرفون حقا ألوان عيون زوجاتهم ! ولهذا اتذكر بهذه
المناسبة أن كثيرا من الزوجات لا يفتأن رافعات عقيرتهن بالشكوى من
ازواج لهن لا يولون اهتمام لما يطرأ على البيت من ترتيبات طارئة.. إن
عيون هؤلاء الذين يبصرون لا تلبث أن تعتاد رؤية الأشياء ولا تلبث أن
تصبح تلك الأشياء التي تجري من حواليهم رتيبة مبتذلة والناس لا يعيرون
عادة اهتمامهم إلا لبداية الأمور أو للغريب غير العادي منها, على أنه مع
كل هذا ففي غلب الأمور التي تستحق المشاهدة نلاحظ أن العيون تمسي
كسلانة لا تتحمل استجلاء وهناك حقيقة ينبغي أن تسترعي اهتمامنا هي
أن مجالس القضاء والمحاكم تكشف كل يوم عن خطأ الذين يتقدمون إليها
على أنهم " شهود عيان" فعلا هناك عدد من الحوادث يشاهد على عدة
طرق تبعا للأداء المختلف لشاهدي العيان ! احدهم تكون ملاحظته اقوى
من الآخر لكن القليل من الناس هو الذى يري كل شيء يدخل تحت
مجال بصره .

آه… ما اكثر الأشياء التي علي أن ازورها لو توفرت لدي حاسة البصر
لمدة ثلاثة ايام فقط .

نعم سيكون اليوم الأول من اكثرها ازدحاما في العمل .وسيكون علي أن
ادعوا اصدقائي واعزائي لأتملى من النظر إليهم طويلا, وذلك لأطبع
على مخيلتي المشاهد الظاهرة للجمال الذى يعلوهم سيكون علي أن
اترك الفرصة لعيوني كيما تأخذ راحتها في النظر العميق إلى وجه طفل
من الأطفال وذلك لآخذ فكرة عن الجمال الصاعد البرئ الذى يتقدم على
مرحلة شعور الشخص بما ينتظره في الحياة من صراع ونزاع.وكذلك
فإن مما اضطرني دون شك أن احدق بإمعان في عيون كلابي الوديعة
الأمينة الصغيرة اللذين يمتازان بجديتهما وذكائهما.. وكذلك كانت لي
نعم العزاء ونعم السلوى بملمسهما الناعم وصداقتهما الوفية.

في هذا اليوم الأول المليء بالأشغال سيكون علي أن ارى هذه الأشياء
البسيطة الصغيرة التي يضمها بيتي, اريد أن ارى هذه الألوان الدافئة
التي تتوفر عليها هذه الزرابي التي اطؤها بقدمي هذه الصور التي تزدان
بها الجدران نعم هذه الأشياء الزهيدة والمحببة في الوقت ذاته التي تحول
البناء من مجرد بناء إلى حيث يمسي بيتا نأوي إليه ونشعر بالحنان نحوه
إن عيوني ستتركز بإجلال على هذه الكتب بحروفها البارزة التي مرت
بها قراءة منذ زمن ستكون عندي اكثر حظوة واعتناء من تلك الكتب
المطبوعة التي اعتادها المبصرون إن جميع تلك الكتب سواء منها التي
قرأت بنفسي أم التي تليت علي أقامت أمام مخيلتي طوال الليل الذى
صحبني في حياتي اقامت الفجوات العميقة للحياة الإنسانية, وللفكرالإنساني
وفيما بعد ظهر اليوم الأول من هذه الأيام المبصرة الثلاثة, سيكون من
برنامجي أن اقوم بجولة طويلة داخل الغاب لأني اريد لعيوني أن تسكر
أن تغيب في جمال الطبيعة في محاولة من اجل أن استوعب – في اوقات
قليلة جدا – هذا البهاء العظيم الذى يعرض نفسه باستمرار على اولئك
الآخرين الذين يتوفرون على حاسة النظر ..وفي طريقي إلى بيتي من
الضيعات , حتى يتسنى لي أن اشاهد بعيني الجياد الكادحة التي تشق
الأرض بمحراثها , أو اشاهد فقط جرارا من تلك الجرارات , واقف بعين
رأسي على أولئك الرجال الذين يفترشون الغبراء في هدوء وايمان وقناعة
وهناك سأقوم بأداء صلاة الشكر أمام هذا الرواء الذى يتجلى في ألوان
الشمس عند مغربها.

وعندما يخيم الظلام هناك ايضا سيكون في متناولي أن استمتع بالمتعة
المزدوجة عندما يكون في استطاعتي أن ارى ايضا ,عن طريق النور
الصناعي الذى شاءت عبقرية الإنسان أن تبتكره حتى يمدد في أمد الضوء
في الوقت الذي تحكم الطبيعة فيه على الناس بالظلام !
وعند الليلة الأولى من هذا اليوم أيامي الناظرة سوف لا يجد النوم سبيلا
إلى عيوني , لأن ذكريات الساعات الماضية ستزدحم على مخيلتي.

13‏/11‏/2012

هيلين كيلر - لو ابصرت ثلاث ايام (7/1)



مقدمة


تعرضت هيلين كيلر آدامز وهي في الشهر الخامس من عمرها لمرض حرمها 

من بصرها وسمعها ومنعها ايضا من الكلام بيد انها بفضل العون الذى قدمته لها 
استاذتها الآنسة آن سوليفان جون ماسي استطاعت أن تتعلم النطق وهي في سن 
العاشرة وبمرور الأعوام عرفت كيف تتخلص من عالم البؤس والصمت إلى عالم السعادة والكلام، وبعد تخرجها بتفوق من كلية رادكليف سنه 1904 انصرفت 
للقراءة والتأليف وقد مكنتها شهرتها من التنقل عير كثير من يلاد الدنيا حيث لقيت الترحيب والتكريم من كل رجال الفكر وقد كان في ضمن اليلاد التي زارتها مصر
 سنه 1952بصحبة سكرتيرتها بلي طمسون

وكان كتابها ( قصة حياتي ) The Story of My Life أول ما ألفت
ولها : " The World I Live In"
و : " The Song of The Stone Wll"
و : " The Practice of Optimism"
وغيرها عشرات المقالات والكلمات التي توحي بالشكر لله على نعمة الحواس
وتدعو إلى استعمالها فيما خلقت من اجله , وإلى التأمل في مقدار ما نملكه من 

ثروة تشغلنا عنها متاعب الحياة ومشاغلها

وقد ترجم كتابها ( قصة كتابها ) إلى العربية الأستاذ أمين موسى قنديل
كما ترجم كتابها حول معلمتها الكدتور حسين فوزي النجار .

وسأقوم هنا إن شاء الله بنقل مقالة طويلة لها بعنوان ( لو ابصرت ثلاثة ايام )
ترجمها د. عبدالهادي التازي وصدرت في كتيب في 47 صفحةعن دار 

الرفاعي في الرياض عام 1990


تمهيد


كل واحد منا قرأ اساطير رائعة, عاش ابطالها لحظات معينة تطول احيانا
حتى ليخيل إلينا أنها بلغت السنة كاملة, وتقصر احيانا حتى لا تتعدى في
اعتبارنا اربعا وعشرين ساعة بيد أننا نهتم دائما بمعرفة الرغبات التي
اختارها هذا البطل أو ذاك ليقضي معها أواخر أيامه أو أواخر ساعاته.
اتحدث طبعا عن أولئك الذين لهم نوع من الإختيار وليس عن الآخرين
من الذين حكم عليهم أو من الذين ضاقت امامهم الآفاق .

إن مثل تلك الأساطير تجعلنا نفكر ماذا يجب علينا أن نفعل لو عشنا نفس
تلك الظروف ما الأشياء ؟ ما التجارب ؟ ما الأعمال التي نختار منها في
هذه الساعات الأخيرة من حياتنا ؟ ما نوع السرور الذى سننعم به ونحن
نعيش هذه الفترات ؟ وما نوع الأسى والأسف الذى سنحسه ؟

لقد فكرت في بعض الأحيان بأن افضل طريق واحسنها هي أن نعيش كل
يوم كما لو أننا سنموت غدا

وان مثل هذا الشعور منا سيقوي من قيمة الحياة ومتعتها في نظرنا, يجب
علينا أن نعيش كل يوم ونحن نقدر تمام التقدير وندرك تمام الإدراك النعم
التي تحيط بنا, والتي غالبا ما تفقد قدسيتها عندما يمر أمامنا الزمان في هذا
المشهد الدائم الذى يمضي بأيامه وشهوره واعوامه أولئك طبعا هم الذين
يعيشون دوامة ابيقور المتلخصة في " كل واشرب وامرح " بيد أن اغلب
الناس يريدون أن يعيشوا في عذاب, وهم يشعرون بحقيقة الفناء الوشيك.

إن البطل المحكوم عليه في مختلف الأساطير كثيرا ما نراه في آخر لحظة
يعرب عن طريق لإسعافه من حظ سعيد , لكن الملاحظ أننا في اغلب الأحيان
نرى احساسه بقيم الحياة كثيرا ما يتغير, انه يمسي اكثر تقديرا لمعاني الكون
واسراره الروحية الدائمة..وفي جل الحالات ترى اولئك الذين عاشوا أو يعيشون
في ظلال الموت, وعلى مقربة من شبحه هم الذين يتذوقون لذائذ الظروف
التي يحيونها .

لكن معظمنا مع كل ذلك يأخذ الحياة على أنها ممنوحة له مخولة. فنحن نفهم
أنه لا بد من يوم آت لا محالة نسلم فيه الروح, بيد أننا غالبا ما نتصور أن
هذا اليوم بعيد وبعيد جدا !!

وعندما نكون في حالة صحية جيدة فإن الموت عندئذ يمسي أمرا غير وارد
بتاتا , بل لا يخطر على بالنا إلا عابرا, وهكذا إن الأيام تتعاقب في طريق
غير ذي حد, وهكذا ايضا نسير في زحمة اشغالنا الطفيفة الزهيدة
عالمين – ولكن بصعوبة – بموقفنا إزاء هذه الحياة .

وإن هذا السبات نفسه هو الذى يهيمن علينا فيما اعتقد حتى فيما يتعلق باستعمال
حواسنا وطاقاتنا إن الأصم وحده هو الذى يقدر نعمة السمع, وإن الكفيف وحده
هو الذى يقدر ضروب السعادة التي تكمن في نعمة البصر. إن هذه الملاحظة
تنطبق عمليا على اولئك الذين فقدوا حاسة النظر أو حاسة السمع في حياتهم
المبكرة. لكن الذين لم يسبق لهم أن اشتكوا من الحرمان لم يسبق لهم أن فقدوا
بصرا أو سمعا اولئك قليلا ما يحسون بعظمة النعمة في الإستفادة من هذه الحاسة
المقدسة إن ابصار هؤلاء تقع على كثير من المناظر، كما أن اسماعهم تتلقى
مخنلف الأصوات, ولكن دون اكتراث ودون امعان , بل وبقليل من التقدير!

إنها نفس الكلمة التي تردد: لا يعرف المرء مقدار النعمة إلا عندما يسلب منها
ولا يعرف الإنسان مقدار عافيته إلا عندما يكون طريح الفراش. كثيرا ما فكرت
في أن هذاالإنسان, أي انسان لو اصيب بفقد بصره أو فقد سمعه لبضعة أيام
من بداية حياته الأولى لظل يشعر سرمدا بأريج السعادة الذى يحف به
إن الظلام سيجعله لا محالة اكثر تقديرا للنور الذى يراه صباح مساء
وأن الصمم المطبق سيعلمه دون شك متعة وقع الصوت على مسمعه .

لقد كان يلذ لي احيانا أن اسأل رفاقي الذين يبصرون لأعرف عن بعض
ما كانوا يرون وقد تقبلت في هذه الأيام زيارة صديقة من اهم صديقاتي كانت
قد رجعت منذ قليل من جولة طويلة في احدى الغابات المجاورة, سألتها ماذا
رأت؟ وماذا لاحظت؟
فكان جوابها بالحرف : " لا شيء يستحق الذكر!"

ولو أنني أنني لم اكن معتادة مثل هذا الجواب لداخلني الشك فيما سمعت
لقد اقتنعت منذ زمن بعيد أن هؤلاء الذين يبصرون لا يرون إلا قليلا
قلت في نفسي: كيف يكون من الممكن أن يتجول المرء لمدة ساعة من الزمن
بين منعطفات الغاب ولا يرى شيئا يستحق الذكر!؟

أنا التي لا استطيع أن ابصر شيئا اكتشفت مئات الأشياء التي تهيمن من
خلال اللمس العابر اشعر – وأنا ألمس – بالتناسق اللطيف الذى اجده بين
اوراق الشجر, أمر بيدي اتحسس هذا الأديم الناعم الذى يلف بعض الأشجار
الفتيه, بل حتى هذا اللحاء الأشعث الخشن الذى يكسو الصنوبر .. وفي فصل
الربيع أتلمس الغصون وفروع الشجر وكلي امل في البحث عن البراعم عن
الطلائع الأولى للطبيعة اليقظة بعد سباتها العميق في فصل الخريف
احس بالبهجة والنعومة وانا اربت على الزهور, واكتشف ما في طيات هذه
الورود من جمال هناك تظهر لي معجزة الطبيعة في احلى مظاهرها..ومن
وقت لآخر – اذا ما اسعدني الحظ – اضع يدي بلطف وتؤدة على شجرة
صغيرة لأتحسس الرعشات المنعشة التي تنبعث من طائر وهو في أوج سروره
سأكون سعيدة عندما اشعر – من خلال اصابعي المتفتحة – ببرودة المياه
المتدفقة في الجداول, بالنسبة إلي فإن فراشا ناعما من أوراق الصنوبر المتناثرة
أو مع الربيع الإسفنجي احب إلي من أروع بساط حتى لو كان فارسيا, وبالنسبة
إلي فإن مشاهدة تدرج الطبيعة من فصل إلى فصل تٌعد عندي رواية تمثيلية
أخاذة غير ذات نهاية أتنعم بها من خلال تلمس أناملي

يصرخ قلبي من اعماقه في بعض الأحيان وفي شوق متزايد ليشاهد هذه الأشياء
واذا استطعت أن احصل على متعة مثل هذه بمجرد لمس عابر فأي جمال
وأي بهاء أشعر به وانا ارى ذلك رؤيا عين إن أولئك الذين يتوفرون على عيون
لا يبصرون فعلا كما يجب, إن المنظر الشامل لمختلف الألوان ومختلف الحركات
التي يزدان بها هذا الكون, كل ذلك يلاحظه معظم الناس دون ادني تفكير
قد يكون من الإنسانية أن نقدر قليلا الأشياء التي تحت تصرفنا وأن نتوق إلى
الأشياء التي ليست في متناولنا بيد أنه مما يدعوا إلى الإشفاق الكبير في عالم
النور ان نلاحظ أن حاسة البصر تعد لدينا أداة زهيدة فقط قبل أن تٌعد وسيلة
تضيف على الحياة الكمال والجمال .

لو كنت رئيسة جامعة لكان علي أن أفرض مادة اجبارية حول موضوع :
( كيف تستفيد من عيونك ؟ ) يكون على الإستاذ في هذه المادة أن يحاول
افهام طلبته الوسائل التي تمكنهم من أن يضاعفوا المتع التي تزدان بها حياتهم
عن طريق الرؤية الحقيقية للأشياء التي تمر امامهم , أن يعيروها ادنى اهتمام
نعم يكون عليه أن يحاول ايقاظ طاقة طلابه وبعثها من نومها وفتورها.

09‏/11‏/2012

مسألة القيم وتحولاتها في صدارة الأسئلة الفكرية الراهنة



جيروم بندي
عن جريدة الحياة



نتكلم في أيامنا الحاضرة على «العدمية» و «ضياع المعنى» و «زوال القيم»
او على «صدام الحضارات» وعلى قيم نزعم بأن لا مجال لتجاوزها. إن
مسألة الدمية، وبالتالي مسألة القيم، كانت في صلب التساؤلات الفلسفية في القرن العشرين.

بحدسه التنبؤي، كان نيتشه، ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، يماهي التاريخ
ومسار العدمية الذي لخصه بعبارته: «الحط من قدر القيم العليا» فـ «موت الله»
في مفهومه يؤدي الى موت الانسان. بذلك فتح نيتشه الدرب امام ميشال فوكو
في كتابه «الكلمات والأشياء».

اما بالنسبة لهايدغر، فالعدمية هي هذه الحركية التي تغيّب الكينونة لتتحول كلياً
الى قيمة. وعلى رغم التباين بين نظريتي نيتشه وهايدغر، فإن بعض
الفلاسفة – وبالأخص جياني فاتيمو –رأوا تقارباً بين التحديدين للعدمية، مرده
الى «تحويل الكينونة الى قيمة تبادلية».

والمفارقة تكمن في ان انحسار «القيم العليا» قد يكون هو الذي حرّر مفهوم القيمة
لتنفتح على كم هائل من الاحتمالات. فالقيم يمكن ان تستحضر «طبيعتها الحقيقية
في امكانية التحول والتبدل» من ضمن «المسار المعمم للقيمة التبادلية
في مطلع القرن الحادي والعشرين، وفيما نحن نشهد انهيار مشاريع استعادة
القيم – أكانت مشاريع سياسية ثورية للتحرر، ام رهانات اعادة تأسيس لبرامج
فلسفية وروحية وأيديولوجية او سياسية – وفي الوقت الذي يقوم فيه بعض
المهلوسين بالتنبؤ بعصرما بعد الإنسانية»، لا بل بالعصر «اللاإنساني»

وفي الوقت الذي تحصل فيه احداث مأسوية تزعزع ثوابتنا وتنزع المصداقية
عن نظرية «نهاية التاريخ»، وفي الوقت الذي تكثّف المجتمعات جهودها
للتفتيش عن قيم جديدة... في هذا الوقت بالذات لا يمكن للأونيسكو ان تبخل
بجهودها للمساهمة في التفكير الاستشرافي والفلسفي الذي يجهد للإجابة عن

السؤال:القيم الى أين؟.

بدوره فولتير،في عصر التن وير، لم يكن يساوره أدنى شك: «لا يوجد إلا منهج
أخلاقي واحد كما لا يوجد إلا علم هندسي واحد». إلا ان هذا اليقين الشمولي
قد تصدّع منذ زمن بعيد أمام الإقرار بأن مصدر الأخلاق هو إنساني بحت.
فالميل الى الاعتقاد بالنسبية التاريخية والثقافية كما المحاولات المتعددة
لتجريد القيم من قدسيتها وتحويلها الى أغطية أيديولوجية تتسترخلفها آليات
سلطوية، اسهم في زعزعة الاعتقاد الفلسفي والديني والفني بالحق والخير
والجمال كقيم مطلقة. هذه الازمة القيمية الكبرى التي هزّت بعمق القرنين
الماضيين، أفضت الى تشويش الثوابت اليقينية في مناحي متعددة. فهل أن
غياب اساس تجاوزي يتيح إسناد القيم المستقرة الى سماء دهرية، او تلقيها
خالصة عبر وحي لا تشكيك فيه، يعني ان القيم الى أفول؟ أم انه يجب في
عالم يتميز بالتقاء كوني للثقافات، ان نتوقع تناقضات حادة وصدامات قد
تكون عنيفة بين قيم متعاكسة؟ ام اننا سنشهد ربما تهجينات غير متوقعة
ومجددة بين نظم قيمية تعود الى أصول واتجاهاتهي اليوم غريبة الواحدة
عن الأخرى؟

أعاد القرن العشرون النظر في ثوابتنا اليقينية في ما يتعلق بالمجتمع
والتاريخ والانسان. وأزمة القيم الحالية لا تطاول فقط الاطر الاخلاقية
التقليدية التي أرستها الديانات الكبرى وإنما القيم العلمانية ايضاً التي سعت
لأن تكون البديل (العلم، التقدم، تحرر الشعوب،المُثل التضامنية والإنسانوية).
والفظاعة التي طبعت القرن العشرين لا تزال على ما يبدو، تهدد مستقبلنا.
فتطور التقنيات، وهو العامل الحاسم، وغير المتوقع، والذي لا يمكن كبح
جماحه في التغيير، ألا يُخشى ان يودي بنا الى انسانية لا نعرف ماهيته
والتي يحلو للبعض ان يطلق عليها اسم «ما بعد الإنسانية»؟ هل يمكن لتطور
الثورة الجينية ان يُنتج شكلاً من التدجين الذاتي للجنس البشري؟ في عالم
يسيطر عليه الابتكار والقطيعة الجذرية مع ما سبق، وهو أمر سيؤثر بشكل
متسارع على الجنس البشري بمجمله ويبدّل في التوازنات الجيوسياسية
كيف يمكن ان نتخيل استمرارية التاريخ، وأن نحافظ على هذه اليوتوبيا
المرجوة لحياة افضل للعدد الاكبر من الناس؟ هل بإمكاننا ان نحافظ على
مقاصد مشروع عالمي يتلاءم مع تعدد التراثات،ويغتني من تراكماتها المتداخلة؟

لاحظ بول فاليري ان مفهومنا للقيم الأخلاقية والجمالية ينحو نحو التقارب
في عالم تسيطر عليه المضاربة، على غرار قيمة السلع في البورصة.
ليس هناك من معيار ثابت للسلع، او من مقياس مستقر ودائم، بل ان هذه
السلع تتأرجح في سوق واسع، والقيمة ترتفع وتنخفض وفق الأمزجة
أو الهلع الذي يدب في السوق، او وفق المراهنات المبنية على التقديرات
الذاتية. وكان يحلو لفاليري ان يقول ان «الفكر» كقيمة لا يختلف عن قيمة
«القمح» او «الذهب»، وهو في هبوط مستمر... هكذا فإن ظاهرة الموضة
التي لم تكن تطاول حتى الآن إلا بعض المجالات التي تسيطر عليها
الاعتباطية او الأعراف، كما في الثياب، تجتاح اليوم مفهومنا للقيم. نحن
نعيش في اللحظة العابرة، في الزائل المتسارع، في النزوة الذاتية
كما لو ان القيم الاكثر قدسية والتي صارت بلا اساس، يمكن ان تُعرض
في هذا السوق الكبير للسلع المنقولة وان يكون لها بدورها سعر متأرجح.

هذه الطريقة الظرفية، والآنية و«المضاربة» في النظر الى القيم، تولّد عدداً
كبيراً من الظواهر الاخلاقية والجمالية في عالمنا المعاصر. ان دور الإعلام
والوسائل التي يستخدمها يعزز هذا التوجه، بما ان المنطق الذي يخضع
القيمة لقانون السوق، كما منطق الموضة والفورات القصيرة المدى، يقتضي
الاخذ في الاعتبار جملة «مؤشرات» يجب التقاطها في اللحظة العابرة
مما يجعل المعلومة الآنية تحل مكان معنى التاريخ والتعرف الى تحولاته
البعيدة التي لم يعد بالإمكان قراءتها.

في هذا الاطار المؤثر بقوة، والذي يبدو انه يفضل «تقلّب» القيم، كيف لنا
ان نفكر في جدية هذه القيم؟ في عالم متأرجح، متبدل، يعيش تحت التأثير
الانفعالي والفكري للصور العابرة كيف يمكن لقضية مركزية كالتربية إن
تجد لها مكاناً؟ ان القرن الحادي والعشرين قد يقع في شرك تناقض غريب :
فما من زمن كان للآني فيه مثل هذا الاعتبار، ومع ذلك، فإن بروز مجتمعات
المعرفة التي تسعى لتأمين التربية للجميع وعلى مدى الحياة لم يعد حلماً
وإنما أصبح مشروعاً يؤذن بنشوء منظومة قيم جديدة بعيدة المدى، تتمتع
بالجدة، كما بالمرونة وروح الشباب. حين تُلغى الحدود بين مراحل الحياة
الثلاث، تنشأ قيم جديدة معرفية واستشرافية.

انها قيم مبتكرة اكثر مما هي موروثة، مبتدَعة اكثر مما هي مكررة، قابلة
للانتقال اكثر مما هي منقولة.

هل نحن، والحال كذلك، متجهون نحو تجميل القيم، ما ان يكون علينا، وقبل
كل شيء ان نكوّنها؟ هل اصبحت الجمالية العامل الافعل في الاقتصاد
والاخلاق؟ لقد زال اليوم التناقض بين الفنان والبورجوازي، بين «الجماليةوالاقتصاد السياسي»، على حد قول مالارميه.
لم يتم الاعتراف بالفنان وتمجيده فحسب، وإنما يمكن القول انه لم يحتل موقعاً
متميزاً في أي وقت كما الآن، بعد ان اعتُبر النموذج للنشاط المنتج للمعنى
وللجدة. «الإبداع» يجتاح كل شيء. نحن كلنا «مبدعون»، أو نطمح لأن
نكون كذلك. كل انتاج، وكل مشروع، وكل عمل يُخطط له على قاعدة
الابداع الفني. في حياتنا الخاصة، وفي غياب الأطر المستقرة والدائمة
يجد كل واحد منا نفسه ملزماً بالإبداع، وإن يكن لطريقة وجوده :
علينا ان نخترع «نمط حياة». وفي الحياة الاقتصادية، يُعتبر التجديد
المحرّك الاساس للتطور ذاك ان قوى السوق اكثر ما تهتم باغراءات العرض
وخلق الحاجات، وهذا ما يستوجب دينامية متواصلة للابداعات الجذّابة.
هذا التجميل المعمم لا يطاول اذن المجتمع فقط كساحة عرض وسائل
الإعلام، الإعلان، المدى السمع – بصري)، وإنما النواة الاساسية للمبدأ
الاخلاقي وللدينامية المؤسساتية.

انطلاقاً من ذلك، هل يمكننا تشخيص نشوء قيم جديدة؟ ما من شك في ان
القرن العشرين شهد، وفي مناطق عدة من العالم انحساراً كبيراً في التعلّق
بالعقائد الدينية التقليدية، ولكن في الوقت ذاته عرف تنوعاً هائلاً، لدى الافراد والجماعات، في البحث عن الروحي.

هل تحمل هذه الخطوات المحدودة قيماً هامة يمكن ان تشكّل قاعدة للمستقبل
ومصدراً للتجديد؟

بالاضافة الى ذلك، وفيما نحن نرى تداعي الترابط الاجتماعي امام تنامي
الفردانية الجذرية التي تلغي الروابط الموروثة والهويات القائمة، نلحظ تنامياً
غير مسبوق لأشكال جديدة من التجمعات التعاضدية، وولادة نماذج جديدة
للتضامن. أي قيم تحمل هذه الشبكات المستحدثة من التناغم والترابط والتواصل
والتي يسهّل التطور التكنولوجي قيامها؟ في عالم تتنامى فيه دوافع المصلحة
الاقتصادية والقيم المادية والنرجسية للاستهلاك وإشباع الملذات والنزوات

هل يمكننا تلمّس بروز قيم بديلة نُطلق عليها اسم «ما بعد المادية»؟

يرتبط بهذه الاسئلة انهيار الاطر البطريركية (بأبعادها الاخلاقية والمؤسساتية
والثقافية والميتافيزيقية)، وهو تصدّع هام يؤدي الى «تأنيث» القيم، وما لذلك
من نتائج عميقة يصعب تحديدها بالكامل، ولكنها ستؤثر ان التساؤل حول القيم
هو المؤشر على التحولات العميقة التي تعيشها مجتمعاتنا الخاضعة للتأثير
المزدوج الناجم عن ظاهرتين واسعتي الانتشار هما العولمة والتكنولوجيات
الحديثة. فالعولمة، وبعكس ما يظن غالباً، لا يمكن اختزالها في تحرير الاسواق
او في سيطرة فكرة شمولية.

العولمة، كشعور بالانتماء للعالم نشأت منذ زمن بعيد، وهي حالة تعود
بجذورها الى قرون عدة. ألم يفكر الفلاسفة داخل الامبراطورية الرومانية
وللمرة الاولى، بمفهوم الكوزموبوليتية؟ وكما يلاحظ ادغار موران، فإن تاريخ
العولمة الاولى – أي تلك المرتبطة بالمستكشفين والاكتشافات الكبرى
والاستعمار، والتي ارست كل انواع السيطرة والتسلط السياسي والاقتصادي
او الثقافي – لا يجب ان يحول نظرنا عن وجود عولمة ثانية، وهي عولمة
الضمائر – من لاس كازاس ومنتاني، الى المنظمات غير الحكومية والتجمعات
المدنية العالمية المعاصرة، المرتكزة على فكرة انسانيتنا المشتركة، وعلى
الرؤية الاستشرافية لمواطنة كونية -، والتي هي ظاهرة سياسية وفلسفية
وروحية بقدر ما هي ثقافية. هل يعني ذلك انه بالامكان قيام تعايش متناغم بين
الثقافات كما ينادي المدافعون عن عولمة توافقية وسلمية؟ هنا لا بد من ملاحظة


استمرار الفوارق النافرة على المستوى الدولي والوطني. لابد ايضاً من اثارة
دور التكنولوجيات الحديثة وثورة المعلومات: المواكبة للعولمة.ويخشى كثيراً
في ضوء التطورات المتسارعة، ان تتعمق الهوة الرقمية والاقتصادية
والاجتماعية بين الاغنياء والفقراء، والتي لم تعد تشتمل تحديداً على الانقسام
بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب. اكثر من أي وقت مضى، من الملائم ان نتبصر
في انماط التوزيع العالمي للمعارف والتبادل الحقيقي بين الثقافات.

انطلاقاً من هذا المنظور، فن التساؤل حول تعددية الثقافات لا يمكن ان يقتصر
على النقاش حول القيم ومسألة النسبية. ان التحدي الجديد في زمن العولمة والتكنولوجيات الحديثة يكمن في السؤال: ما السبيل للمحافظة على التنوع الثقافي؟
ذاك انه لا يمكن التقليل من حجم المخاطر التي تهدد التنوع الثقافي بحد ذاته
ومسألة مستقبل اللغات تبين ذلك بشكل نافر: هناك ما بين خمسة وسبعة آلاف
لغة محكية اليوم، ويمكن ان يتقلص هذا العدد الى النصف في نهاية القرن الحالي.
ولا يمكن لغياب التعدد اللغوي الحقيقي على الانترنت، الا ان يضاعف ظاهرة
انقراض أو تآكل اللغات. فابعد من النقاشات المستقبلية حول الوسائل الملائمة
للحفاظ على التنوع الثقافي، لا بد وان يُطرح اولاً تشخيص المخاطر التي تهدد
هذا التنوع.

ان التحديات الجديدة تتطلب أجوبة جديدة. أي علينا ان نعرف ما اذا كان العالم
الجديد الذي ترتسم ملامحه يفترض منه اعادة تقويم جذرية للعقود الاجتماعية
التي تشكل عماد مجتمعاتنا. ان التحولات الشاملة التي ذكرناها آنفاً تستوجب
جهداً من اجل بلورة مشروع يعيد التأسيس في المجالين السياسي والاجتماعي
على الصعيد الدولي، وهذا ما حاولت الاونيسكو في اعمالها ان تصوغه انطلاقاً
من فكرة «العقود الاربعة». عقد اجتماعي جديد اساسه التربية
للجميع على مدى الحياة، وعقد طبيعي، وعقد ثقافي، وعقد اخلاقي يشكلون
المحاور الاساسية لهذا المشروع، في مجتمع شمولي برهاناته الكونية. فبدون
تعميم التربية على الجميع ومدى الحياة، كيف يمكننا استئصال الفقر الشامل
وكيف يمكننا نشر القيم الديموقراطية بفعالية وكيف يمكننا بناء جتمعات المعرفة
الحقيقية؟ بدون عقد طبيعي لا يكون فيه الانسان بعد الآن «السيد والمسيطر»
على الطبيعة وانما المؤتمن عليها، كيف يمكننا وضع حد لانتهاك الموارد القائمة
الذي قد يقضي نهائياً على امكانات التنمية المستدامة، وبالتالي على حظوظ
الاجيال المقبلة؟ من دون عقد ثقافي، ما هي السبل التي نملكها لمواجهة القضاء
على التنوع الثقافي؟ بدون ان نعيد تحديد المتطلبات الاخلاقية التي تتضمن
هدف حقوق الانسان وتسمح بتحديد اطار للأمن البشري، كيف يمكننا ارساء
اسس ديموقراطية استباقية ومواطنة كونية؟

لو استرسلنا في الاسئلة، اما من خشية ان نصاب بالدوار وان نشخص بشكل
متسرع ضياع المعنى الذي رأينا فيه ملامح العدمية؟ بالتأكيد ان خطر ضياع
المعنى يبقى الافق المتواتر لعدد من الاسئلة التي تواجهنا. يكفي ان ننظر الى
تنوع اشكال الامراض النفسية المعاصرة لنفهم ان مجتمعاتنا الحالية، وبعد ان
ضيعت الزمن، هي على وشك ان تخسر الروح كذلك.كل شيء يحدث وكأننا
في عصر الانتاج القصير المدى قد استسلمنا لعبودية الضغط النفسي
وتسلط الاستعجال.

----------------------------------------------------
الكاتب هو محرر كتاب «القيم الى أين؟» الذي صدرت ترجمته عن دار
النهار، ومنظمة اليونسكو، بقلم زهيدة درويش جبور وجان جبور.
والنص هو مقدمة الكتاب .

06‏/11‏/2012

«الجلاد» لبار لاغركفست: لن ينتهي قبل نهاية الإنسان



ابراهيم العريس
عن جريدة الحياة



لكارل ماركس بحث جدي وطريف في الوقت نفسه، حول دور المجرم
في صناعة التاريخ. وهو يقول في هذا البحث انه لو لم يكن ثمة وجود
للمجرم أو الشرير في كوننا هذا، كانت أمور كثيرة ستتبدل، وليس على
الصعد الأخلاقية وحسب، بل كذلك على الصعد الاقتصادية. إذ، لولا وجود
اللص، ما حاجتنا إلى الأبواب والنوافذ والأقفال والمفاتيح، وما إلى ذلك؟
إذاً، صناعات بأسرها كانت ستختفي، إضافة إلى انتفاء الحاجة إلى
الشرطة والسجون والمحاكم... شيء من هذا القبيل نجده، وإن على
مستويات أخرى، في كتاب للمؤلف السويدي بار لاغركفست، الحائز
جائزة نوبل للآداب سنة 1951، وعنوانه «الجلاد». هذا الكتاب قد لا يكون
أشهر أعمال لاغركفست ولا أكثرها امتاعاً في القراءة، لكنه بالتأكيد واحد
من كتبه الأكثر تعمقاً في القضية الإنسانية وفي تاريخ البشرية. بل إن هذا
الكتاب يكاد يكون التعبير الأفضل في أدب لاغركفست عن مسألة هجس بها
هذا الأدب كله، وهي مسألة العلاقة بين الإنسان وخالقه، علماً أن أول عمل
أدبي كبير أطلق شهرة لاغركفست في العالم، كان «باراباس» الذي تحدث
فيه بقوة وعمق عمن سماه «المؤمن الذي لم يكن مغموراً بالإيمان». في
معنى ان باراباس كان بالنسبة إليه رجلاً وصل إلى إيمانه وحده من دون
أي مساعدة من أي تبشير ديني على الإطلاق. وفي هذا المعنى أوضح
الكاتب فكرته عن الوصول إلى الإيمان بالله من طريق العقل وحده.

في «الجلاد» لم يدن الكاتب من هذا الموضوع في شكل مباشر
بل هو وصل إليه مواربة، وانطلاقاً من سؤال كان قد بدأ يطرحه على نفسه
منذ مطلع شبابه: هل صحيح أن البر والإحسان والحب، هي التي تحكم
الحياة الإنسانية؟ وفي محاولة للرد على هذا السؤال كان لاغركفست يرى
أن الأديان السماوية إنما كان هدفها الأساس دائماً أن توجه الإنسانية نحو تلك
الدروب... يبد أن الوجه الذي كان يقف دائماً فوق وعي الإنسان وفي درب الحب والإحسان، لم يكن وجه السيد المسيح أو الأنبياء الآخرين، بل وجه الجلاد.
ومن هنا يرى الكاتب هذا الجلاد، الذي إنما خلق من أجل توطيد الاحتفال بالفداء والتضحية، أو من أجل الاحتفاء بالنظام العام، يطل هو الكائن الوحيد الذي
لم يعرف ملكوته عبر الأزمان كلها أي خسوف أو نهاية... انه الوجه الملائم
الحضور في رأي لاغركفست.

في هذا الإطار يصح هنا ان نبدأ من الصفحات الأخيرة من كتاب لاغركفست
حين يوجه الجلاد حديثه إلى بني البشر قائلاً: «إنني اتبع بكل أمانة درب البشر.
ليس هناك درب وطأتها قدم الإنسان. ومهما كانت غامضة وسرّية، إلا وزرعت
فيها حطباً ورطبتها بالدم. لقد تبعتكم منذ البداية، ولسوف أظل ألاحقكم حتى نهاية الأزمنة». صحيح أن هذا الجلاد يوضح بعد ذلك أنه إنما يتطلع، في وحدته الدائمة
القاتلة، إلى أن ينتهي ملكوته الذي يعذبه بقدر ما يعذب الآخرين، لكنه يعرف أن
هذا غير ممكن إلا في حال واحدة: ان يمحي وجود النوع الإنساني من على سطح الأرض. فلو حدث هذا، يقول الجلاد: «سوف يتاح لي ان أذهب غائصاً في الليل
لأبدي، بعد أن أرمي فأسي المدماة على التربة الصحراوية البيداء، كذكرى لذلك
النوع الذي عاش يوماً ها هنا».

واضح هنا ان هذا الجلاد دائماً يربط مصيره نهائياً بمصير النوع الإنساني
منذ البداية حتى النهاية. فهو لم يوجد في هذا الكون من أجل أي من الكائنات
الأخرى. فما الذي يمكن لهذه الكائنات ان تفعل به؟ لماذا قد تحتاجه هي التي
لا يمكن لها، في أي حال من الأحوال، أن تعرف الشر؟ ذلك هو الدرس والمغزى الأساس هنا. وفي هذا المعنى يصبح هذا الجلاد هو نفسه الشيطان والشر...
وبالتالي الوجه الآخر لوجود الإنسان.

ولكن كيف يقدم لنا بار لاغركفست جلاده هذا في هذا النص الذي من الصعب
اعتباره رواية أو قصة، حتى وإن اتخذ في شكله العام طابعهما؟ إنه يقدمه في
نص يغلب عليه الطابع الرمزي، حيث ان الكاتب يجعل ميدان النص، نادياً
ليلياً، تختلط فيه الأزمنة على تنوعها واختلافها. إذ أمام عيني القارئ ترتسم
العصور الوسطى التي كانت فيها المخيلة الشعبية هي التي تعطي رونق الحياة
للجلاد في عالم «يقترن فيه الشر والسحر والعقابان الفردي والجماعي في بوتقة
واحدة»، وانطلاقاً من صورة العصور الوسطى هذه تتتابع بقية العصور، وصولاً
إلى الزمن الحديث، حيث لا يفوت الكاتب ان يصور لنا أنظمة الحكم الشمولية
التي هيمنت على القرن العشرين بعد ان ارتسمت استعداداتها في القرون السابقة
وحتى في داخل الثورات التي كانت تقول ان أول ما يهمها هو خير الإنسان وتقدمه.
كل هذا يبدو هنا غير صحيح، حيث يفيدنا لاغركفست، بأن الجلاد كان دائماً هنا
في قلب الصورة وفي خلفية الأفكار، بما فيها الأفكار الأكثر افتخاراً بإنسانيتها
وتقدميتها.

في الحقيقة إن هذا الوجود الدائم والمتواصل لـ «الجلاد» هو العنصر الاساس الدائم والقاسم المشترك بين العصور والأفكار والتحركات، مهما كان جوهر هذه
التحركات. بالنسبة إلى لاغركفست، كما بالنسبة إلى هذا النص، الذي يبدو في نهاية الأمر سوداوياً وغريباً، لا يمكن الوثوق بأي تفكير همه الأساس أن يذبح ويزيل
من لا يتفق معه في الرأي، جسدياً أو معنوياً. فالجلاد بالنسبة إليه انما هو الرمز
الواضح على تلك الأنظمة وأولئك الزعماء الذين لا يستقيم لهم وجود إن كان ثمة
من يجرؤ على ان يطل برأسه ليعارضهم، أو ينتقدهم أو حتى يستنكف عن
امتداحهم ليلاً ونهاراً.

وفي رأي لاغركفست، إن كل سلطة، ومهما كان شأنها لا يمكنها ان تحس
بوجودها إلا إذا مارست دور الجلاد هذا. ولاحقاً حين سئل الكاتب السويدي
عما جعله، حين أكد هذا، يستنكف عن الحديث صراحة عن سلطات بعينها
كمثال على ما يقول، أجاب أنه ليس في حاجة إلى أي مثال، طالما ان العالم
كله يقدم لنا أمثلة حيّة ومقنعة في كل لحظة وفي كل ساعة ويوم «لو كان ثمة
شذوذ عن هذه القاعدة، لكان من الأسهل إعطاء الأمثلة المضادة...أليس كذلك؟».
كتب بار لاغركفست هذا النص عام 1933، أي في العام نفسه الذي وصل فيه
نازيو هتلر إلى السلطة في ألمانيا، وبالتالي عزز فاشيو موسوليني وجودهم،
فيما زاد ستالين من هيمنته على مقدرات الاتحاد السوفياتي وراح يمضي في
تصفية خصومه (رفاق الأمس). ولم تكن الأحوال أفضل وسط الاخبار
السياسية التي ترد من كل مكان في العالم في ذلك الحين. ومن هنا كان في
الإمكان اعتبار هذا النص صرخة يأس لولا ان الطابع الميتافيزيقي الوجودي
الذي أضفاه لاغركفست على نصه، أخرجه من دائرة الوصف الآني لزمن
يعيش فيه ويرصده حزيناً مرتعباً، ليضعه في دائرة التفكير حول المصير
البشري في شكل عام. والحقيقة ان أحداث السنوات التالية – وربما معظم
الأحداث التي يشهدها عالمنا حتى اليوم – لم يكن من شأنها ان تطمئن الكاتب
أو أن تخفف من رعب قرّائه الذين قرأوا هذا النص وفي لغات عدة ترجم إليها.
مهما يكن من أمر، لا ريب أن نص «الجلاد» نسي بعض الشيء لاحقاً، لا سيما
حين راح الحديث عن بار لاغركفست، يتناول أعماله الأخرى التي أضحت أكثر
شهرة، ومعظمها يتراوح بين مسرحيات لم تخف تأثرها بسترندبرع، وبين روايات معاصرة أو تاريخية كتبت خلال أكثر من نصف قرن ظل بار لاغركفست خلاله
سيداً كبيراً من سادة الأدب في بلاده. ومن بين أشهر أعمال هذا الكاتب الذي عاش
بين 1891 و1974، عدا عما ذكرنا «رجل لا روح فيه» و «انتصار الظلام»
و «القزم»، ومسرحيات مثل «سر السماء»، و «ذاك الذي يعيش حياته ثانية». 


وفي سنوات العشرين أصدر لاغركفست سيرة حياته، حتى ذلك الحين، في
جزأين عنونهما «ضيف الحقيقة» و «غزو الحياة»... ولقد حول بعض رواياته
إلى أفلام.

الفرق بين تديننا ودين محمد صلى الله عليه وسلم


اعتقد أن الفرق هو أن محمد صلى الله عليه وسلم

جاء بالإسلام/ نقل الإسلام إلى المجتمع , وارتقى بذلك 

المجتمع تدريجيا على مدى 23 عاما ليجعله متوافقا مع 
الإسلام ليصل إلى ( اليوم اكملت لكم دينكم .... )

أما نحن (هنا) وخاصة في العقود الأخيرة
فقد فعلنا العكس تماما

ونقلنا المجتمع إلى الدين
وطوعنا الإسلام / انتقينا منه وايضا تدريجيا
ما يجعله متوافقا مع حالة المجتمع الموجود

في عصر محمد هذب الدين المجتمع
وفي عصرنا قيد المجتمع الدين .

04‏/11‏/2012

التوسع الإقتصادي الخليجي عالميا





برز في السنين الأخيرة خاصة اتجاه من قبل عدة شركات خليجية كبيرة
بعضها حكومية وبعضها الآخر مساهمة صناعية ومنها عدة بنوك
إما للإستحواذ على شركات وبنوك أوروبية أو امريكية بشكل كامل
وإما لشراء حصص فيها نذكر مثلا صفقة الصانع لشراء حصة في مجموعة
 مصرفية أوروبية كبيرة وما تقوم به هيئة موانئ دبي من شراء شركات 
تدير موانئ عالمية وكذلك شراء بنوك كويتية لحصص في بنوك امريكية،وكذلك
 شراء شركات خليجية قابضة فنادق مشهورة , ولا ننسى صفقة طيران
الإمارات مع ارسنال وصفقة مانشيستر ستي وكذلك نادي باريس سان
جيرمان ونادي ملقا . هذا التوسع الخارجي من المؤكد أنه لا يجري
بتنسيق سياسي استراتيجي بين دول الخليج من اجل تحقيق نفوذ اقتصادي
متزايد يؤدي لنفوذ سياسي هو توسع اقتصادي بفعل النمو الكبير سواء
على الصعيد المالي أو المادي وتراكم الخبرات لدى الشركات الخليجية
لكن مع مرور الزمن وتزايد هذه العمليات لابد أن تؤدي في مرحلة ما
إلى نفوذ اقتصادي مؤدي لنفوذ سياسي سواء ارادت هذا الشركات أم لا
وهنا لابد من أن يكون هناك تفاهم استيراتيجي بين الشركات الخليجية
الكبرى وبين الدول الخليجية , أو على الأقل بين كل دولة وشركاتها
بحيث تكون خطوات كل شركة تصب في دعم نفوذ بلدها
وأن تكون في سياسة كل بلد دعم لتوسع شركاتها
وهذا ما تقوم به الدول الكبرى

كثافة حملة العلم الشرعي وقلة الفقهاء . اين الخلل؟


قد نكون مع ايران اكثر دولتين في العالم في عدد خريجي العلوم 

الشرعية وفي كل جامعة لدينا هناك كليات أو على الأقل اقسام لها 
هذا بالإضافة للمعاهد العلمية والدورات والدروس والمحاضرات الدينية 

لكن رغم هذا العدد المهول من هؤلاء الخريجين هناك انحسار واضح 
جدا في عدد الفقهاء الحقيقيين أي الذين لديهم المقدرة العلمية على استنباط 
الأحكام الشرعية من ادلتها وفق الواقع المعاش

ولو دققنا في غالبية من يُسأل عن الفتوى خاصة في وسائل الإعلام
المختلفة لوجدنا غالبيتهم العظمى من حملة الفقة أي ( حفاظ فقه)
وليسوا فقهاء رغم أن من بينهم من يشار له كعالم أو شيخ
وعندما يُسألون عن مسأله فإن جوابهم يكون غالبا :

أن احمد ابن حنبل أو ابن تيمية أو ابن القيم قال في هذه المسأله كذا
رحم الله الثلاثة ( هناك نقطة تحتاج لنقاش آخر وهي لماذا الفتوى
لدينا مقتصرة على رأي الثلاثة رغم أن هناك عشرات العلماء الأئمة
من المسلمين)

ولا يراعي من يفتى أن لهؤلاء العلماء اجتهادهم حسب احوالهم
واحوال زمنهم ومكانهم وتغير الأحوال يقتضى اعادة النظر في العديد
من الفتاوي مثلما اعادوا هم النظر في فتاوي من سبقهم وقاموا بإجتهاد
خاص بهم

السؤال ما هو السبب في قلة عدد الفقهاء لدينا ؟
هل هو ناتج لقلة التركيز على الفقه لصالح الإهتمام بالعقيدة؟
هل لأننا اساسا لا نملك العدد الكافي من الفقهاء الحقيقين ؟ وبالتالي
فاقد الشيء لا يعطيه أي أن الطلاب لا يجدون فقهاء يدرسون عليهم
هذا العلم هل الإقتصار على علماء مذهب واحد وتهميش علماء بقيه
المذاهب ( حتى داخل المدرسة السنية ) له دور ؟
هل لدينا فقهاء لكنهم لا يُظهرون لصالح ظهور الدعاة والوعاظ رغم
أن دور الفقهاء اهم ؟
هل لطريقة التدريس والمناهج في الكليات والأقسام الشرعية دور ؟
هل للإنغلاق لدى عدد من علمائنا وعدم انفتاحهم على بقية المذاهب
والآراء دور؟
هل لأن نسبة كبيرة من حملة العلم خاصة حملة الشهادات العلمية اقتص
ر دورهم على تحقيق بعض المخطوطات أو شرح بعض كتب الفقة
القديمة على حساب ايجاد حلول للقضايا الجديدة ؟

السلفية السعودية وتعاملها مع السلف


دائما نفخر بسلفنا ونردد اننا نقتدي بهم
لكن الواقع يقول غير هذا ففي خطابنا الديني المحلي
لا يتم الإستشهاد لدى الغالبية العظمى إلا بالإمام احمد
وابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبدالوهاب
رحمهم الله ويتم تجاهل البقية

وهذه نراها مثلا في الفتاوي فدائما يتم الرجوع للأربعة
وتجاهل كامل التراث الفقهي وعلى رأسه من تنسب إليهم المذاهب
فهل هؤلاء فقط هم علماء السلف والبقية لا ينتسبون للسلف ؟
أم فقط هؤلاء هم الذين تتفق ارائهم مع خطابنا ؟

أم أننا لا نتبع السلف في الحقيقة بل نتبع ثلاثة أو اربعة منهم ؟
أم نحن دولة مذهبية لا اسلامية , رغم أن نسبة كبيرة هم من غير الحنابلة؟
هل يليق ونحن الدولة التي نقول أنها تطبق الإسلام. فأين علماء المالكية والشافعية والحنفية السعودية عن هيئة كبار العلماء وعن القضاء وعن اللجنة الدائمة للإفتاء
وعن تصدر الفتوى في المواقع الرسمية والإعلام الرسمي رغم وجود نسبة كبيرة 
من السعوديين هم من اتباع هذه المذاهب لماذا اقتصار الدروس في الحرم مثلا 
على مذهب واحد هو الحنبلي رغم أنه كان سابقا منذ سنوات وجود اماكن لدروس 
بقية المذاهب فلماذا ألغيت, ولماذا لا تعاد ؟

03‏/11‏/2012

المسلمون الغربيون , الإسلام اضاف لهم وهم اضافوا لنا



حين اقرأ أو ارى احد المسلمين الغربيين يتحدث عن الاسلام
اراه متميزا في عرضه له سواء من ناحية الأفكار واللغة
والاسلوب كذلك يأسرني اهتمامهم بالجانب الروحي الذى يقدمون
الاسلام به بطريقة فيها الكثير من الرقي والسمو وولوجهم مناطق
لا يلجها الكاتب أوالمفكر العربي عادة ولدينا عدة امثلة كعلي
عزت بيغوفيتش، مراد هوفمان، يوسف اسلام، عبدالله حمزة.

في الوقت الذى يوجد فيه الكثير من الكتاب والمفكرين العرب الذين قد
يفوقون هؤلاء في العلم الشرعي لكنهم لا يملكون قدرتهم المميزة على
عرض الاسلام لا اعمم على الجانبين لكن المسألة من وجهة نظري
ظاهرة جديرة بالدراسة فما السبب.

هل هو بسبب تميز العقلية الغربية حاليا بفعل التراكم والانتعاش
الفكري والثقافي الحضاري الغربي والروح الغربية
الباحثة , المقارنة , الناقدة ونحن الآن نفتقد كل ذلك لأننا منذ زمن
بعيد فقدنا "العقل الواعي" , وهل في اعتمادنا الكامل على "النقل"
وانا هنا لا اتحدث عن القرآن والسنه بالتأكيد بل عن آلاف الكتب
التي تمثل آراء اصحابها وازمانهم ومازلنا نحن نتبناها بكل ما فيها
حتى نظرتها للعصر الذى نعيش فيه دون مراجعة ونقد لما يجب
أن يراجع وينقد حتى الجانب الروحي في الاسلام بعضنا اهمله
وبعضنا الآخر جعله خرافات وحركات صوفية ونسبه الى روح الاسلام
لكن كيف نراجع وننقد اذا كانت الأمة فاقده لعقلها ولا تعترف بذلك؟

أم السبب هو بسبب عدم تمترس المسلمين الغربيين خلف قناعات
وثقافات معينة جزئية يضنون انها كل الاسلام ويرفضون الحديث
حولها، وعدم تحزبهم لأيدولوجيات ضيقة تجعلهم يستبعدون
ما لا يتوافق معها , لذا فهم لا ينظرون للاسلام من زاوية واحدة
ويرفضون ما عداها وبالتالي يستفيدون من كل الزوايا ويدرسونها
ويضيفوا لها.

تساؤل آخر لماذا لا يستفيد العرب من هؤلاء داخل بلداننا لاعادة تكوين
وبعث هذه العقلية والروح لدينا - نحن في أمس الحاجة لها- أو على الأقل
اعطاء المجال لهم ودعمهم واستقطابهم للمؤسسات الاسلامية الكبيرة لأنهم
الآن يعملون بشكل فردي وبدون دعم لأنهم قادرون على ايصال روح
الاسلام الحقيقية وبلغة يقبلها العالم ويفهمها اكثر من اللغة التي نملكها الى
متى ونحن نحتكر كعرب الحديث باسم الاسلام في العالم في الوقت الذى نحن
عاجزون فيه الحديث مع انفسنا