06‏/11‏/2012

«الجلاد» لبار لاغركفست: لن ينتهي قبل نهاية الإنسان



ابراهيم العريس
عن جريدة الحياة



لكارل ماركس بحث جدي وطريف في الوقت نفسه، حول دور المجرم
في صناعة التاريخ. وهو يقول في هذا البحث انه لو لم يكن ثمة وجود
للمجرم أو الشرير في كوننا هذا، كانت أمور كثيرة ستتبدل، وليس على
الصعد الأخلاقية وحسب، بل كذلك على الصعد الاقتصادية. إذ، لولا وجود
اللص، ما حاجتنا إلى الأبواب والنوافذ والأقفال والمفاتيح، وما إلى ذلك؟
إذاً، صناعات بأسرها كانت ستختفي، إضافة إلى انتفاء الحاجة إلى
الشرطة والسجون والمحاكم... شيء من هذا القبيل نجده، وإن على
مستويات أخرى، في كتاب للمؤلف السويدي بار لاغركفست، الحائز
جائزة نوبل للآداب سنة 1951، وعنوانه «الجلاد». هذا الكتاب قد لا يكون
أشهر أعمال لاغركفست ولا أكثرها امتاعاً في القراءة، لكنه بالتأكيد واحد
من كتبه الأكثر تعمقاً في القضية الإنسانية وفي تاريخ البشرية. بل إن هذا
الكتاب يكاد يكون التعبير الأفضل في أدب لاغركفست عن مسألة هجس بها
هذا الأدب كله، وهي مسألة العلاقة بين الإنسان وخالقه، علماً أن أول عمل
أدبي كبير أطلق شهرة لاغركفست في العالم، كان «باراباس» الذي تحدث
فيه بقوة وعمق عمن سماه «المؤمن الذي لم يكن مغموراً بالإيمان». في
معنى ان باراباس كان بالنسبة إليه رجلاً وصل إلى إيمانه وحده من دون
أي مساعدة من أي تبشير ديني على الإطلاق. وفي هذا المعنى أوضح
الكاتب فكرته عن الوصول إلى الإيمان بالله من طريق العقل وحده.

في «الجلاد» لم يدن الكاتب من هذا الموضوع في شكل مباشر
بل هو وصل إليه مواربة، وانطلاقاً من سؤال كان قد بدأ يطرحه على نفسه
منذ مطلع شبابه: هل صحيح أن البر والإحسان والحب، هي التي تحكم
الحياة الإنسانية؟ وفي محاولة للرد على هذا السؤال كان لاغركفست يرى
أن الأديان السماوية إنما كان هدفها الأساس دائماً أن توجه الإنسانية نحو تلك
الدروب... يبد أن الوجه الذي كان يقف دائماً فوق وعي الإنسان وفي درب الحب والإحسان، لم يكن وجه السيد المسيح أو الأنبياء الآخرين، بل وجه الجلاد.
ومن هنا يرى الكاتب هذا الجلاد، الذي إنما خلق من أجل توطيد الاحتفال بالفداء والتضحية، أو من أجل الاحتفاء بالنظام العام، يطل هو الكائن الوحيد الذي
لم يعرف ملكوته عبر الأزمان كلها أي خسوف أو نهاية... انه الوجه الملائم
الحضور في رأي لاغركفست.

في هذا الإطار يصح هنا ان نبدأ من الصفحات الأخيرة من كتاب لاغركفست
حين يوجه الجلاد حديثه إلى بني البشر قائلاً: «إنني اتبع بكل أمانة درب البشر.
ليس هناك درب وطأتها قدم الإنسان. ومهما كانت غامضة وسرّية، إلا وزرعت
فيها حطباً ورطبتها بالدم. لقد تبعتكم منذ البداية، ولسوف أظل ألاحقكم حتى نهاية الأزمنة». صحيح أن هذا الجلاد يوضح بعد ذلك أنه إنما يتطلع، في وحدته الدائمة
القاتلة، إلى أن ينتهي ملكوته الذي يعذبه بقدر ما يعذب الآخرين، لكنه يعرف أن
هذا غير ممكن إلا في حال واحدة: ان يمحي وجود النوع الإنساني من على سطح الأرض. فلو حدث هذا، يقول الجلاد: «سوف يتاح لي ان أذهب غائصاً في الليل
لأبدي، بعد أن أرمي فأسي المدماة على التربة الصحراوية البيداء، كذكرى لذلك
النوع الذي عاش يوماً ها هنا».

واضح هنا ان هذا الجلاد دائماً يربط مصيره نهائياً بمصير النوع الإنساني
منذ البداية حتى النهاية. فهو لم يوجد في هذا الكون من أجل أي من الكائنات
الأخرى. فما الذي يمكن لهذه الكائنات ان تفعل به؟ لماذا قد تحتاجه هي التي
لا يمكن لها، في أي حال من الأحوال، أن تعرف الشر؟ ذلك هو الدرس والمغزى الأساس هنا. وفي هذا المعنى يصبح هذا الجلاد هو نفسه الشيطان والشر...
وبالتالي الوجه الآخر لوجود الإنسان.

ولكن كيف يقدم لنا بار لاغركفست جلاده هذا في هذا النص الذي من الصعب
اعتباره رواية أو قصة، حتى وإن اتخذ في شكله العام طابعهما؟ إنه يقدمه في
نص يغلب عليه الطابع الرمزي، حيث ان الكاتب يجعل ميدان النص، نادياً
ليلياً، تختلط فيه الأزمنة على تنوعها واختلافها. إذ أمام عيني القارئ ترتسم
العصور الوسطى التي كانت فيها المخيلة الشعبية هي التي تعطي رونق الحياة
للجلاد في عالم «يقترن فيه الشر والسحر والعقابان الفردي والجماعي في بوتقة
واحدة»، وانطلاقاً من صورة العصور الوسطى هذه تتتابع بقية العصور، وصولاً
إلى الزمن الحديث، حيث لا يفوت الكاتب ان يصور لنا أنظمة الحكم الشمولية
التي هيمنت على القرن العشرين بعد ان ارتسمت استعداداتها في القرون السابقة
وحتى في داخل الثورات التي كانت تقول ان أول ما يهمها هو خير الإنسان وتقدمه.
كل هذا يبدو هنا غير صحيح، حيث يفيدنا لاغركفست، بأن الجلاد كان دائماً هنا
في قلب الصورة وفي خلفية الأفكار، بما فيها الأفكار الأكثر افتخاراً بإنسانيتها
وتقدميتها.

في الحقيقة إن هذا الوجود الدائم والمتواصل لـ «الجلاد» هو العنصر الاساس الدائم والقاسم المشترك بين العصور والأفكار والتحركات، مهما كان جوهر هذه
التحركات. بالنسبة إلى لاغركفست، كما بالنسبة إلى هذا النص، الذي يبدو في نهاية الأمر سوداوياً وغريباً، لا يمكن الوثوق بأي تفكير همه الأساس أن يذبح ويزيل
من لا يتفق معه في الرأي، جسدياً أو معنوياً. فالجلاد بالنسبة إليه انما هو الرمز
الواضح على تلك الأنظمة وأولئك الزعماء الذين لا يستقيم لهم وجود إن كان ثمة
من يجرؤ على ان يطل برأسه ليعارضهم، أو ينتقدهم أو حتى يستنكف عن
امتداحهم ليلاً ونهاراً.

وفي رأي لاغركفست، إن كل سلطة، ومهما كان شأنها لا يمكنها ان تحس
بوجودها إلا إذا مارست دور الجلاد هذا. ولاحقاً حين سئل الكاتب السويدي
عما جعله، حين أكد هذا، يستنكف عن الحديث صراحة عن سلطات بعينها
كمثال على ما يقول، أجاب أنه ليس في حاجة إلى أي مثال، طالما ان العالم
كله يقدم لنا أمثلة حيّة ومقنعة في كل لحظة وفي كل ساعة ويوم «لو كان ثمة
شذوذ عن هذه القاعدة، لكان من الأسهل إعطاء الأمثلة المضادة...أليس كذلك؟».
كتب بار لاغركفست هذا النص عام 1933، أي في العام نفسه الذي وصل فيه
نازيو هتلر إلى السلطة في ألمانيا، وبالتالي عزز فاشيو موسوليني وجودهم،
فيما زاد ستالين من هيمنته على مقدرات الاتحاد السوفياتي وراح يمضي في
تصفية خصومه (رفاق الأمس). ولم تكن الأحوال أفضل وسط الاخبار
السياسية التي ترد من كل مكان في العالم في ذلك الحين. ومن هنا كان في
الإمكان اعتبار هذا النص صرخة يأس لولا ان الطابع الميتافيزيقي الوجودي
الذي أضفاه لاغركفست على نصه، أخرجه من دائرة الوصف الآني لزمن
يعيش فيه ويرصده حزيناً مرتعباً، ليضعه في دائرة التفكير حول المصير
البشري في شكل عام. والحقيقة ان أحداث السنوات التالية – وربما معظم
الأحداث التي يشهدها عالمنا حتى اليوم – لم يكن من شأنها ان تطمئن الكاتب
أو أن تخفف من رعب قرّائه الذين قرأوا هذا النص وفي لغات عدة ترجم إليها.
مهما يكن من أمر، لا ريب أن نص «الجلاد» نسي بعض الشيء لاحقاً، لا سيما
حين راح الحديث عن بار لاغركفست، يتناول أعماله الأخرى التي أضحت أكثر
شهرة، ومعظمها يتراوح بين مسرحيات لم تخف تأثرها بسترندبرع، وبين روايات معاصرة أو تاريخية كتبت خلال أكثر من نصف قرن ظل بار لاغركفست خلاله
سيداً كبيراً من سادة الأدب في بلاده. ومن بين أشهر أعمال هذا الكاتب الذي عاش
بين 1891 و1974، عدا عما ذكرنا «رجل لا روح فيه» و «انتصار الظلام»
و «القزم»، ومسرحيات مثل «سر السماء»، و «ذاك الذي يعيش حياته ثانية». 


وفي سنوات العشرين أصدر لاغركفست سيرة حياته، حتى ذلك الحين، في
جزأين عنونهما «ضيف الحقيقة» و «غزو الحياة»... ولقد حول بعض رواياته
إلى أفلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق