25‏/11‏/2012

هيلين كيلر (7/3)



في اليوم الثاني


وفي اليوم التالي , اعني اليوم الثاني من أيام النور سأستيقظ مع الفجر لأرى
تلك المعجزة الهائلة: معجزة انسلاخ الليل عن النهار وتحول الطبيعة مع
عالم مطبق

إلى مشرق, سأقف باجلال وخشوع أمام هذا المنظر البديع الرائع للشمس
وهي تنتشر على الأرض توقظ من سبات المنام.

وسأخصص هذا اليوم لشيء آخر.. إني اريد أن آخذ لمحة سريعة عن هذا
العالم, ماضيه وحاضره سيكون عليِ أن أقف على مظاهر تقدم الإنسان
وعلى الآثار التي تعبر عن مختلف العصور..لكن كيف استطيع أن اضغط كل 

هذا في يوم واحد؟

من خلال المتاحف طبعا..لقد سبق لي أن زرت في اكثر الأحيان متحف
نيويورك للتاريخ الطبيعي لألمس بيدي كثيرا من الأشياء المعروضة هناك
بيد أني كنت اتوق لأرى هذا بعيوني أنا تاريخ الدنيا المتشابك المتكاتف بما فيه
من أولئك الذين كانوا يعيشون هاتيك العصور اجناس بشرية حيوانات نحتت
أو صورت في بيئتها الأولى وشكلها الأصلي سأرى الجثث الهائلة لحيوانات
زاحفة انقرضت الآن كالديناصور التي جابت هذه الأرض قبل أن يظهر
الإنسان بقوامه الصغير وعقله الكبير ليفتح مملكة الحيوانات تلك معارض
واقعية لمظاهر التدرج والإرتقاء بالنسبة للحيوانات وبالنسبة للإنسان وبالنسبة
كذلك للأدوات والعدد التي استخدمها الإنسان من اجل أن يجد لنفسه حياة آمنة
على ظهر هذا الكوكب.. وألف مظهر ومظهر للتاريخ الطبيعي
كم يا ترى عدد قراء هذه الأشياء من الذين تنبهوا لضرورة مشاهدة هذه المعالم
الموسومة الحية في ذلك المتحف الملهم بكل معاني الحياة؟ كثير منهم بطبيعة
الحال لم تكن لديه الفرصة ليطبق ما يشاهد على ما يدرس,على أنني متأكدة من
أن كثيرا من أولئك الذين سنحت لهم الفرصة لم يستعملوا ابصارهم كما يجب..

هناك في تلك المتاحف يوجد بكل تأكيد المكان الذى يستحق من المرء أن 

يستعمل بصره ..انت الذى ترى يمكنك ان تقضي اياما منتجة هناك,أما أنا في 
هذه المرحلة الخيالية التي لا تتجاوز ثلاثة أيام من عمري فلن استطيع أن 
احظى بأكثر من لمحة عابرة ثم أغدو إلى ليلي الحالك .

وستكون وقفتي التالية في متحف العاصمة للفن, وكما كشف المتحف الوطني
للتاريخ الطبيعي عن مختلف المظاهر المادية لهذا العالم فإن متحف العاصمة
يكشف لنا عن العديد من حقائق الفكرالإنساني . فمن خلال تاريخ الإنسانية
نرى أن حااجة إلى التعبير الفني كانت من الضرورة بحيث تضاهي الحاجة
للطعام,إلى المأوى , إلى الأولاد..هناك في تلك الغرف الفسيحة الأرجاء من
متحف العاصمة تنتصب أمامي حياة مصر واليونان وروما متجلية في فنونها
كنت أعرف جيدا عن طريق اللمس الهياكل المنحوتة,وقد اخذت صورة عن
هيكل بارثيون – هيكل الآلهة أثينا في اكروبوليس أثينا كما يزعم - وادركت
الجمال البديع الذى كان طابع المحاربين اليونانيين الأمناء: أي أبولو إله
الجمال, وفيتيس ربه العشق, وتمثال النصر المجنح في ساموتراس,كل هذه
صديقة لأناملي,كانت قسمات وجه الشاعر اليوناني هوميروس – شاعر
اعمى صاحب ملحمتي الإلياذة والأوديسا - بلحيته واساريره كانت عزيزة
على ملمسي, إنه هو كذلك كان اعمى, كانت يدي تجد راحتها وهي تلمس
الرخام اليوناني المنقوش تماما كما ألمس نحت الأجيال المتأخرة.. قد مررت
بيدي على لوحة جبسية من صنع النحات الإيطالي مايكل انجلو للنبي موسى
واركت عبقرية النحات الفرنسي رودان– اشهر اعماله تمثال المفكر - لقد
ظللت معجبة بإبداع الفكر المتجلي في النحت الخشبي القوطي إن هذه الفنون
التي يمكن لمسها لها معان خاصة بالنسبة إلي بيد أن معانيها وهي مرئية افضل
منها وهي ملموسة.استطيع فقط أن اصل عن طريق الحدس والتخمين إلى
الجمال الذى تظل بقاياه وملامحه غائبة عني استطيع أن ابدي اعجابي
بالخطوط البارزة التي تزين زهرية من الزهريات الإغريقية بيد أن الزخارف
المرسومة تظل بالنسبة إلي مفقودة .

نعم هكذا سأقضي ثاني يوم من أيام نوري, سيكون علي أن انفذ إلى اعماق
الروح الإنساني من خلال ما خلفه ذلك الإنسان من فنون. إن الأشياء التي
اعرفها عن طريق اللمس يجب علي اليوم أن اراها رؤيا العين..هذه الروعة
الكاملة التي يتوفر عليها عالم الرسم, ينبغي أن تتفتح أمامي في ابهى مظاهرها
من العهود الإيطالية الأولى بمظهرها الديني الهادي إلى العصور الحاضرة
بمظاهرها المحمومة المضطربة.. سيكون علي إن انظر بإمعان إلى الصور
على القماش والتي هي من عمل رفاييل وليوناردو دافنشي , تيتانم ,رمبرانت
سأقدم لعيوني عيدا عندما لها بأن تقف قليلا أمام اللون الدافئ لفيرونيز , وبأن
تدرس اسرار الكريكو, وبان تكتسب نظرة للطبيعة من كوروت آه هناك كثير
من المعاني الثرية, ومن الجمال البديع في شتى الفنون التي تمثل مختلف
العصور بالنسبة إليك انت الذى تنعم بعيونك تستطيع أن ترى بها
كلما اردت ذلك .

وبعد هذه الزيارة القصيرة لمتحف الفن هذا سوف لا استطيع أن اعيد النظر
إلى جانب واحد من هذا العالم العظيم, من عالم الفن الذى بظل في متناولكم
انتم كل وقت وحين.. سأستطيع فقط أن احصل على بعض الإرتسامات
السطحية..عدد من الفنانين يذكرون لي أن تقدير الفن العميق الصحيح من
شأنه أن يعمل على تربية حاسة النظر.

إن المرء عن طريق تجربته يعرف كيف يقدر الكفاءات
يتعلم عن طريق التجربة وامعان النظر كيف يزن الأمور ويتأمل الإمكانات
وابعاد الخطوط وترتيبها واشكالها وألوانها.. لو كانت لي عيون كم اكون سعيدة
الحظ أن اتعاطى دراسة جذابة من هذا التنوع.

يحكى لي دائما عن عدد من الناس من بينكم –ايها الذين تبصرون– لا يهتم
بعالم الفنون هذا, وأنه بالنسبة إليكم يظل عالما مجهولا بل ليلا مظلما..
فهو – أي ذلك العالم – لا يري النور ولا يحظى بمن يحاول اكتشافه .

سأترك متحف العاصمة وأنا اشعر بمرارة ما عليها من مزيد. فقد كنت افضل
أن اظل هنا بجانب " المفتاح " الذى يحتضن انواع الجمال , الجمال الضائع
المهمل..نعم إن هؤلاء الذين بيصرون لا اراهم في حاجة إلى متحف من هذا
النوع يبحثون فيه عن مفتاح الجمال ذلك, إن هذا المفتاح يظل منتظرا على
الأبواب, فهناك متاحف صغيرة تمثل في تلك الكتب التي تضمها رفوف المكاتب
لكني بطبيعة الحال وفي هذا الوقت المحدد من أيام " رؤيتي الخيالية " ملزمة
أن اختار المكان الذى يوجد فيه المفتاح الذى يكشف لي عن اعظم كنز واثمنه
وفي اقصر وقت ممكن كذلك .

وفي مساء اليوم الثاني من ايام النور سيكون علي أن اقضيه في مسرح أو سينما
لقد حضرت إلى الآن طائفة من التمثيليات المسرحية من كل نوع وشكل , بيد
إن حركة الممثلين إنما كانت نهجى لي من طرف رفيقتي ..لهذا فكم اكون سعيدة
أن ارى اليوم عن طريق عيوني وانا دون حاجة إلى ترجمان شخص "هاملت"
الفاتن و"فالستاف" العاصف بين الزخارف الملونة لإليزابيث, وكم اكون سعيدة
أن اتتبع سائر حركات هامليت الرشيق القد وسائر اطراف فالستاف القوى
الجسم سأشاهد فقط تمثيليه واحدة , وسيكون علي أن اجابه عددا من المفاجآت
بما في ذلك الإشارات الفنية التي ارغب في أن أراها بعيني..انتم الذين لكم
عيون يكون في متناولكم أن تروا أي شيء يروقكم مهما تريدون,فكم منكم
يا ترى عندما يقع بصره على تمثيلية في مسرح أو رواية في سينما أو ألعوبة
كم منكم يزجي آيات شكره وتقديره لمعجزة البصر التي ينعم بها والتي تجعله
قادرا على أن يستمع بلونها وحسنها وحركتها؟

لا استطيع أن اتمتع بجمال الحركات الإيقاعية, وكل ما كنت استطيعه في
دائرتي الضيقة هو أن ألمس بيدي.. كل ما كان بمقدوري أن لتخيل, ولكن في
غموض فقط جمال بافلوفا " – راقصة روسية - ومع ذلك أعرف بعض
الأشياء البهيجة في ايقاعها وهي تنساب من تحت قدمي على وجه الأرض
اتصور جدا أن حركة ايقاع النغم يعتبر من اجمل المناظر في العالم واستطيع
كذلك أن ادرك بعض الأشياء عن طريق التحسس بأناملي عن السطور
المنقوشة, فإذا كان هذا الجمال الهادئ محببا إلى الناس فكيف يمكن أن نتصور
الإبتهاج الذى يتملكنا ونحن نرى هذا الجمال الصاخب أمام ابصارنا ؟
ولا انسى احدى الذكريات العزيزة علي يوم أذن لي الممثل الأمريكي جوزيف
جيفرسون فسمح لي بلمس وجه ويديه عندما كان يقوم ببعض الحركات ويلقي
بعض الكلمات من قصته المحببة لدى الشعب الأمريكي " ريب فان وينكل "
لقد استطعت فقط أن ادرك بعض الملامح عن عالم القصة لكنها كانت تافهة
وسوف لا انسى ابدا تلك المتعة التي شعرت بها في تلك اللحظات ومع ذلك
فكم هي الأشياء التي ضاعت مني وكم هي المتعة الفائقة بالنسبة للذين يرون
والذين يمكنهم أن يقتبسوا عن طريق ابصارهم ومسامعهم الكلمات والحركات
المتبادلة بين الفنانين وفي تمثيلية ما .

لو استطعت أن ارى يوما واحدا فقط سأعرف كيف ارسم في ذاكرتي مشاهد
لآلاف التمثيليات من التي قرأتها أو التي تقلت لير عن طريق الحروف
الهجائية.. وهكذا فإنه في هذا المساء من يومي الثاني لرؤيتي الخيالية فإن
الرسوم والخطوط العريضة للأدب الدراماتيكي ستزيح النوم عن بصري.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق