25‏/03‏/2019

عرض كتاب: لاهوت التحرير


الكتاب : لاهوت التحرير
(الدين والثورة في العالم الثالث)






المؤلف: حيدر ابراهيم علي
الناشر: مركز الدراسات السودانية-الطبعة الثالثة 2004
عرض وتعليق: عبدالخالق مرزوقي

عن المؤلف:





د. حيدر ابراهيم علي 1943, مفكر وكاتب وعالم اجتماع سوداني، تخصص في علم الإجتماع الديني، واهتم بنقد الإسلام السياسي, والتنوير والتحرير، حاصل على الدكتوراه في فلسفة العلوم الإجتماعية من جامعة فرانكفورت عام 1978، اسس مركز الدراسات السودانية في القاهرة عام 1992، له العديد من المؤلفات، الممنوع بعضها في بلده، ابرزها:
-        أزمنة الريح والقلق والحرية، سيرة ذاتية-2015
-        الأمنوقراطية وتجدد الإستبداد في السودان- 2012
-        مراجعات الإسلاميين السودانيين: كسب الدنيا وخسارة الدين-2011
-        سقوط المشروع الحضاري-2004
-        لاهوت التحرير: الدين والثورة في العالم الثالث-1999

كما ساهم مع آخرين في كتب اخرى، منها:
-        أزمة الأقليات في الوطن العربي- 2002
-        صورة الآخر: العربي ناظراً ومنظوراُ إليه- 1999
-        الدين في المجتمع العربي-1990


من مقدمة الكتاب

كان هذا القرن، رغم كل التقدم العلمي والفكري والتكنولوجي اكثر فترات التاريخ الإنساني صراعات وتناقضات، وقد يكون بسبب التقدم نفسه، الذى جاء ضمن احد النظم الإجتماعية التنافسية، وهي الرأسمالية، ونتاجها الطبيعي الإستعمار القديم والحديث، فقد كان من الممكن أو المتوقع، أن يصاحب هذا التقدم الصناعي والعلمي، تطور في العلاقات الإجتماعية – الإقتصادية – ورقي روحي اكثر انسانية، لو تم التقدم في مجتمعات وتنظيمات اشتراكية، بالمعنى الصحيح والمتكامل، أي غير الإقتصادوي والبيروقراطي.



تعليق: " يبدأ الكاتب مقدمته بوصف دقيق، لما جرى خلال القرن العشرين، لكنه يبدي بعض التحيز لتوجهه الإشتراكي، عبر تقديم إدعاء متخيل، بدون البرهنة عليه، ومتغاضيا عن تجارب فاشلة لتطبيق ذات المنهج."




-كانت الصراعات على مستويات متعددة، وذات أشكال ومضامين كثيرة ومتباينة، بسبب تداخل العالم، ولم يعد من الممكن الحديث عن مكان معزول جغرافيا، أو أفكار مكتفية ذاتيا، ومحصنة ضد التناقض والإحتكاك، أو عن اقتصاد بعيد عن آليات السوق العالمية، هذا الإختراق الشامل طال كل التنظيمات الإجتماعية والأيديولوجيات، بما في ذلك بالطبع الدين، بالذات في جانبه التاريخي، أي كممارسة وحياة عيانية، ملموسة، وليس العقيدة أو التعاليم المقدسة فقط، فالدين – العقيدة والذى يبحث عن المتعالين فهو مجال اهتمام اللاهوتيين والفقهاء والفلاسفة، وفي هذه الحالة غالبا ما يحصر البحث والجدل في الثوابت والمُطلَقات والوثوقيات، أي في اطار مثالي تماما، حتى حين يحاول الباحثون التعامل مع قضايا زمنية أو علمانية (نسبة لهذا العالم المادي)

تعليق:  لا اتفق مع د.حيدر هنا، فلا اظن الحديث مطلقا عن اطار (مثالي تماما)، كما يصفه د. حيدر، فهناك نسبية في هذا الموضوع تحتاج لبحث مطول


أما الدين الإجتماعي، الذى يحمله الناس كافراد، وجماعات محددة، ويتجلى في الحياة اليومية وفي العلاقات الإجتماعية، أو في التنظيمات، فيواجه تحدي التكيف مع عالم متغير، ومع تحولات اجتماعية – اقتصادية وثقافية، جعلت المجتمعات التي يوجد فيها الدين، تبتعد كثيرا عن البساطة، مما أثر على شكل ومضمون الدين، وهنا لابد أن نفرق بين التجربة الدينية وبين اشكال الأجهزة الإجتماعية التي ترتبط بها، وتدعمها، وهذا الأخير هو الذى يتطابق مع الأيديولوجيا في معناها الواسع والمرن.

- لم يعد بإمكان الأديان، أن تقف بعيدا، عن الصراعات التي يعيشها العالم المعاصر، لذلك تدخل الدين في قضايا السياسة والإقتصاد والثقافة، حسب رؤيته للعالم أو الإنسان والمجتمع، لذا وجود الدين على هذا المستوى، يجعله ايديولوجيا بقدر أو آخر،...بمعنى أنه نسق أو انساق من المعتقدات، التي تلجا إليها الجماعات الإجتماعية والتجمعات، سواء أكانت افكارا وهمية أم صادقة، المهم انه يرضي حاجات نفسية فردية، واخرى جماعية، اهمها التماسك والشعور المشترك، ومن هذه الزاوية يمتلك الدين قدرة تعبوية هائلة، ينعدم فيها غالبا الشك والتساؤل والإنقسام، وهذا مدخل الدين للإلتحام بالعمل السياسي.

تعليق: هنا يبرز سؤال، هل "تدخل الدين"، كما وصفه د. حيدر، هو بسبب وجود تلك الصراعات، أم الدين بالأساس لديه رؤيته المسبقة، بغض النظر عما يجري في العالم، وشخصيا أعتقد بالرأي الثاني.

ومن الملاحظ، أن الأديان تقوم بوظائفها في ظروف تاريخية، واوضاع اجتماعية ونظم سياسية مختلفة، وهذا ما يجعل البعض يعتقد في صلاحية هذا الدين أو ذاك، لكل العصور والمجتمعات، بينهما يرجع آخرون هذه الظاهرة، لقدرة الدين على التكيف، والتي تتسارع في التاريخ المعاصر، وقد يعتبر "لاهوت التحرير"، احد اشكال الإستجابات الجيدة، للتحديات التي واجهتها امريكا اللاتينية ومناطق اخرى مثل جنوب افريقيا والفلبين، وهذه مرحلة يمكن أن تمر بها كل الأديان، لأنها تحتوي على مبادئ انسانية عامة، أو مُثل عليا مشتركة، بين البشر كالدعوة للمساواة والعدالة والخير والمحبة.

تعليق: أظن أن د. حيدر هنا، يخلط بين الدين كنص مُنَزل مقدس، وبين بعض الشريعة والفقه، ويتعامل معهما كأمر واحد.


- لم يصدر اهتمامي بلاهوت التحرير، عن تخصص بحثي بحت، ولكن دافعي الأصيل كان التساؤل الذى يلاحقني دائما، وهو: لماذا لم يظهر تيار مثل هذا في المجتمعات الإسلامية، رغم كل هذا الإنتشار والتضخم لظاهرة الإسلام السياسي، وظهور الأحزاب الدينية-السياسية، وتعدد التيارات الإسلامية في ساحة العمل العام؟ قد لا نسميه حرفيا لاهوت تحرير اسلامي، ولكن نفتقد المحاولات المستمرة والعميقة، لتقارب الفكر الديني الإسلامي المعاصر، من الواقع الإجتماعي، ومن ثم الإلتحام بالجماهير المُستَغَلَة من خلال رفع وعيها الديمقراطي والمساواتي.

كتب عبدالله النفيسي في عام 1989: ".. إزاء ذلك يحق لنا أن نسأل، ما هي نظرية الحركة الإسلامية؟ وتصورها للخروج من دائرة التبعية هذه؟، وهذا ما نعتقد انه يشكل الحلقة المفقودة في التصور الإستراتيجي، أي غياب (النظرية المتكاملة)، السياسة الدولية، والحراك الإجتماعي، وتوزيع الثروة، والتعايش مع القوى والأنظمة المتباينة، إن جل ما يُتناول هو حول نظام القيم، لكن ما نحتاجه الآن وبشكل ملح هو نظام للمفاهيم، وبدون التحديد العلمي الموضوعي للمفاهيم، لا يمكن بلورة النظرية الإسلامية المتكاملة"

وفي البحث عن جذور هذا التيار، نلاحظ أن الإسلاميين لاينسبون انفسهم مباشرة، إلى حركة الإصلاح أوالتجديد وروادها، بالذات إلى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، لأن حركة الإصلاح  في القرن التاسع عشر وما بعده، ركزت على المسالة الفكرية، ولم تحتل القضية الإجتماعية موقعا أساسيا في خطابها إلا في الحديث عن الاخلاق، وهذا الهدف لا يسمح بوصف الحركة الإصلاحية كيسار أو لاهوت تحرير، بل يتوقف الأمر عند المقارنة بين فكر سلفي أو محافظ وفكر اجتهادي ومجدد.

لذلك وحسب ما تقدم، يجد اليسار الإسلامي في بعض الكتابات، ملامح لتوجهات التيار الفكرية، منها كتب: (العدالة الإجتماعية في الإسلام)، وكتاب فتحي عثمان (الفكر الإسلامي والتطور)، ومصطفى السباعي (اشتراكية الإسلام)، والبهي الخولي (الثروة في الإسلام)، ولكننا نعتبر علي شريعتي، الأب الروحي لهذا الإتجاه، فقد حاول تاصيل الأفكار التقدمية العصرية في الدين الإسلامي، ولكن ليس بطريقة "الملصقات" السائدة، والتي تنسب للإسلام من الخارج شعارات مثل الديموقراطية، الإشتراكية، والنضال، بينما يمكن القول أن فهم وتفسير الدين عند شريعتي يبدأ من داخل النص الديني ذاته، وينطلق للخارج رابطا الدين بمفاهيم عصرية، مثال ذلك – وهنا يقترب من تفسير لاهوتيي التحرير للإنجيل- تفسيره الديني للصراع الطبقي، إذ يرى أن المجتمع كما التاريخ يتالف من طبقتين، طبقة هابيل وطبقة قابيل، أو بالأصح من بنيتين محتملتين في جميع المجتمعات البشرية، لكنه يرفض ما يسميه التفسير المادي – الإقتصادي الوحيد الجانب للعالم، لذلك يرى أن الإشتراكية الغربية، هي الوجه الاخر للرأسمالية، لأنها تقوم على نفس المنطلقات والادوات والأولويات، ولكنها تعدل فقط في الحصص، وشكل الهرم الإجتماعي.




 تاريخ وتطور لاهوت التحرير


يعتبر لاهوت التحرير اعلانا، عن حقبة جديدة، في تاريخ الكنيسة والمسيحية، لا تقل اهمية في طروحاتها ومقارباتها وحركيتها عن الاصلاح الديني وظهور البروتستانتية، ولكن محاولات التعتيم والتحوير، وتزييف توجهات ومضامين هذا الفكر الديني الجديد، نجحت في تقليل اهميته واثره، إذ يرى البعض من المتحفظين، المعارضين، أن فكرة التحرير موجودة اصلا في جوهر المسيحية، لكن العبرة ليست في وجود النصوص، بل بالممارسة والمواقف العملية.

 والذى ساد طوال تاريخ الكنيسة، هو الموقف الداعم دائما للطبقات الحاكمة والمسيطرة اقتصاديا، ومنحتها غطاءا ايديولوجيا، وهنا يبدأ مدخل تناول لاهوت التحرير، الذى ينطلق من ضرورة وجود حد ادنى للمشاركة في الإحساس، بالمعاناة التي تصل إلى غالبية عظيمة من الانسانية، لذا يرتكز لاهوت التحرير على إلتزام نبوي، ورفاقي تجاه الحياة، ومع هذا التحدي ببرز بداية الإختلاف والإفتراق بين اللاهوت التقليدي السائد، ولاهوت التحرير، ويقول (فريري  Freire) عن حق, أنه لا يمكن الحديث عن حياد الكنيسة، لأن الحديث عن حيادها، ياتي ممن يجهلون الكنيسة أو التاريخ، أو ممن يخفون الفهم الحقيقي، وغسل اليدين من الصراع بين الاقوياء والضعفاء، يعني الانحياز للاقوياء وليس الحياد.


تعليق:  ارى هنا تحيز من د حيدر اثر على نظرته الموضوعية،  فكيف يحكم بأن حركة لاهوت التحرير لا تقل عن البروتستانتية في الاهمية والطروحات والحركية، ثم يذكر أن محاولات التعتيم والتحوير نجحت في تقليل اهميته واثره، إذ أن الحكم على الاهمية والاثر – من وجهة نظري الشخصية - يجب أن يلي التجربة والتطبيق، وليس قبلهما، وبالطبع لها اثر واهمية، لكن وضعها على مستوى ظهور البروتستانتية مجازفة في الحكم.



- يُوصف اللاهوت التقليدي بأنه مدرسي وخالد ولا تاريخي، وغير وجودي، اصولي، مركزي في لاهوتيته وهرمي وطبقي،  بينما يميز لاهوتيو التحرير ميدانهم بانه: تطوري،  تاريخي،  وجودي، مركزي في مسيحيته جماعي مشترك، ومساواتي، وهناك فكرة اساسية لفهم وتحديد لاهوت التحرير، وهي موضع التاريخ في هذا الفكر الديني الجديد، بحيث يحافظ على روحانيته وتعاليه، مع ربطهما بالواقع والناس.

ينطلق البعض من كلمة لاهوت أو Theology حيث تفسر Logos بأنها تعني التأمل والذكاء والفهم والكلمة المعقولة والخطاب، و Theos  تعني الله أو الإله، وبالتالي تأخذ معنى تجلي سر الله في التاريخ، وهو تاريخ صراعي، تاريخ الاضطهاد والنضال من اجل التحرير، وفي صميم هذا التاريخ يتجلى الله كسِر بطريقة جديدة غير مألوفة، ويُفهم لاهوت التحرير، كتأمل لاهوتي، أو خطاب فهم الله، من جانب أدنى للتاريخ، أي تاريخ الفقراء، وليس التاريخ المنتشر والمعروف، لذا يبحث لاهوت التحرير عن وسيلة ليُمَيَز كمنهج يفرق بين وجود أو غياب الله في التاريخ، وهنا ارتباطه بالتاريخ لا يأتي من فراغ، ويقوم على نقطة ما، ومن هنا يجيء السؤال: لماذا ظهر لاهوت التحرير في امريكا اللاتينية، وفي الستينات بالذات؟


- اللاهوتيون يرون أن اللاهوت لو حاد عن نصيته، يقع في خطر تأمل إله معكوس، بايديولوجية الطبقة المهيمنة، هذا التشابك بين التاريخي والنصي، يؤكده الإنجيل بوضوح، وحين يصلي المسيحيون قائلين: " لتكن مشيئتك، كما في السماء، كذلك على الأرض"، وهذا يعني: " إننا نجعل الارض بداية للسماء، فهي الموقع الذى تتحقق فيه مشيئة الله، ووجود المؤمنين في العالم، هو تواجد رعية قديسين واهل بيت الله، هنا في العالم"، وهذا يعني انتماء الكنيسة والمؤمنين لرعية في هذا العالم الارضي، أي في مجتمع، ومن هنا تاتي المبادرة التي اقتحمها بعض لاهوتيي امريكا اللاتينية، من خلال قراءة الانجيل وكل التراث المسيحي، والتجربة، على ضوء محيط ثقافي واجتماعي وسياسي، امريكي لاتيني، وبأعين الجماهير الفقيرة، التي عاشت لقرون منزوعة الإنسانية

انطلق لاهوت التحرير هناك من تأويل تاريخي جديد، يستند على معرفة جيدة وفهم بنائي، واكثر شمولية، لتاريخ امريكا اللاتينية، اوصل لكشف حقيقة التبعية، والتخلف، كسمة اساسية في تاريخ المنطقة.

ويختلف لاهوتيو التحرير عن غيرهم، من اللاهوتيين سواء المسيحيين أو المسلمين أو غيرهم، في جعلهم مهمة التحرير من التخلف والقمع، مشكلة مركزية في امريكا اللاتينية، وبالتالي اندراجهم في التاريخ، وأن يخلصوا الكنيسة والمسيحية من تاريخ ردئ مخجل، فخلال اربعة قرون لعبت الكنيسة الكاثوليكية دورا اساسيا في استعمار امريكا اللاتينية تحت دعاوي التبشير.


"
يشرع الكاتب في الصفحات التالية من الكتاب، في الربط بين تاريخ الكنيسة الرسمية المنحاز للمستعمرين، والخارجين عليه من القساوسة، من داخلها، ابتداءا من القرن السادس عشر، ثم يربط تلك المحاولات القديمة، بما جرى في الستينات، رغم الاقرار بالسياق التاريخي المختلف، رغم كونه شكل من اشكال  الصراع الاجتماعي.



- مع ازدياد القمع والاستغلال من جهة، وتنامي الوعي والفعل السياسي من جهة ثانية، فقد شهدت فقد شهدت الفترة من الثلاثينات، اهتماما متزايدا داخل الكنيسة بالمشكلات الاجتماعية، بالذات في الارجنتين 1920 وبيرو 1925 وبوليفيا 1928، واتسع افق الكنيسة، من خلال مظاهر تجديد، من فهم النصوص واللاهوت، التي برزت في المؤتمرات وحلقات النقاش، مثل لقاء ريو دي جانيرو1955 والذى حضره البابا بيوس،  وناقش عددا من القضايا من بينها الدور الجديد للكنيسة في النظام الاجتماعي.

وهذه التحولات في موقف الكنيسة لم تكن نتيجة مراجعة ذاتية، ولكن فرضها واقع عاصف، اجتاح امريكا اللاتينية، فقد كان جيش الثورة الكوبية بقيادة كاسترو وجيفارا يحتاج البلاد منتصرا، محاولا ان يقدم كثورة وحزب - فيما بعد- نموذجا لحل مشكلات التخلف والتبعية، فقد حاولت الانظمة الشعبوية خلال الخمسينات والستينات، مثل بيرون في الارجنتين وفارجا في البرازيل، وكاردينا في المكسيك، حل مشاكل بلادهم التابعة، لكنها فشلت، وزاد ارتباط اقطار امريكا اللاتينية، بالرأسمالية العالمية، وتعمقت الفروق الطبقية، واشتد البؤس، مما ادى لقيام حركات شعبية قوية تسعى للتغيير، ولم تنج الكنيسة أو بعضها، بالذات الكنائس المحلية، من حملات القمع العسكري، ونجد موقف العسكر واضحا في تصريح رئيس المجلس العسكري البرازيلي، في ديسمبر 1976، عقب اضطرابات اجتماعية: " ... للأسف يحرض رجال الكنيسة، هذا الشيطان الفقير (الفلاحين) لكي يثوروا، بدلا من تهدئتهم، هذه الكنيسة الشيوعية التقدمية ليست كنيستي، ديني هو دين السيد"، واعتُبِرَت هذه الكنيسة عقبة ضد نظرية " الأمن القومي"، لذا حاول الحكام العسكريون استغلال الدين، وادعى اغلبهم تمثيلهم للمسيحية، وكانوا سباقين في ممارسة الطقوس واستعمال لغة الكنيسة والإستشهاد بالتعاليم والوثائق المسيحية.

- الدين كعامل أيديولوجي يتشكل حسب احتياجات وظروف الواقع، ومن هنا تهيأت ظروف نمو لاهوت التحرير خلال الستينات، وفي تلك البلاد، التي ازدادت فيها الازمة الإجتماعية- الإقتصادية والسياسية حده، وقد تميز المؤتمر الثاني للفاتيكان، بفتح المجال لحوار واسع بين الكنيسة والمجتمع، بدون كثير تحفظات، في تأمل مشكلات مجتمعات أمريكا اللاتينية، وفي هذا الاطار برزت الاسماء الرائدة في لاهوت التحرير،  كما تبلورت نقاشات حادة حول العلاقة بين العقيدة والفقر، والإنجيل والعدل الإجتماعي، وغيرها من القضايا، وفي البرازيل بالذات، خلال الفترة بين 1959 و 1964، اصدر اليسار الكاثوليكي العديد من النشرات الاساسية، التي تحدثت عن الحاجة لنموذج مثالي مسيحي للتاريخ، يرتبط بالفعل الشعبي، وطالبوا بإلتزام شخصي في العالم، مسنود بدراسات من العلوم الاجتماعية، والتحررية، مدعومة بالتعاليم المسيحية العامة.

كان اثر البابا بولس السادس ملموسا، إذ يمكن أن نرجع مصطلح التحرير إلى كتاباته، فقد استعمل مفهوم التنمية كمشروع إنقاذ امريكا اللاتينية من الفقر، خلال الخمسينات ومطلع الستينات، وصعٔد البابا المفهوم إلى "التنمية المتكاملة"، بحيث لا تعني مجرد التطور الإقتصادي، بل تعني تقدم الإنسان الملموس في كل المجالات، وبابعاد التقدم الدينية والاخلاقية، بإعتبارها عملية تقود من الأقل انسانية إلى الاكثر انسانية، واستعملت كلمة " التحرير" لاول مرة رسميا،  كتعبير عن تاكل وتحديد لمهام مسيحيي امريكا اللاتينية، وتعني وضع الإنسان في قلب مصيره، وتاريخه الخاص.

-  
تنير وثيقة ميدلين حول السلام، التي نشرتها السكرتارية العامة ل (CELAM)  في بوغوتا  كولومبيا 1970، كثيرا من مواقف ومنطلقات لاهوت التحرير، فهي تبدا بالقول: " لو كانت التنمية هي الاسم الجديد للسلام، فإن تخلف أمريكا اللاتينية، بخصائصه المحددة، في مختلف الاقطار، هو وضع غير عادل، ويثير التوترات التي تتآمر ضد السلام"، وصنفت الوثيقة التوترات إلى ثلاثة مجالات: بين الطبقات والاستعمار الداخلي، توترات عالمية مرتبطة بالاستعمار الخارجي الحديث، وتوترات بين اقطار امريكا اللاتينية نفسها، بسبب الوطنية المتضخمة والتسلح،  ثم تحديد دور الفقراء،  في بنى الكنيسة والمؤسسة السياسية.

نجم عن هذه التوجهات الاجتماعية والإنجيلية الجديدة، تغيرات جذرية في النظر إلى الفقر عند المسيحيين، بارجاعه إلى معطيات بنائيه، وليس نتيجة فشل أو سوء حظ شخصي، هذا المنظور قلل بشدة من القيمة الممنوحة تقليديا لدور الكنيسة، في الاحسان والرعاية، وما يظهره الإغنياء تجاه الفقراء من تعاطف مزيف، يظهر مطلب جديد يرى ضرورة تغيير البنى التي تسبب الفقر، وهذه مسالة قوة وفعل سياسي، كما أن افكار الخطيئة السائدة، التي تتجذر في الأخلاق الشخصية، وُسِعَت لكي تشمل كل النظم الاجتماعية، بالذات الموقف من نظم المجتمعات غير العادلة، المتميزة باللامساواة المكشوفة والعنف العادي، وهذه هي الخطايا والأخطاء الحقيقية.

-  
رغم اهمية الفاتيكان الثاني، ومؤتمر ميدلين وبيبولا وما تلاها، وما ظهر من اسهامات نظرية، إلا انها لم تنتج لاهوت التحرير، فهي عوامل مساعدة، قوية الأثر، ولكن لاهوت التحرير ظهر في حيوات الفقراء والمضطهدين في امريكا اللاتينية، وبالتحديد في التجمعات القاعدية المسيحية Church Community Basic
وهي في الأصل مجموعات صغيرة،  تجتمع لدراسة واقامة الطقوس، والعمل الاجتماعي، غالبا دون قسيس " مهني"، ولكن بقيادات مدربة، وهي اقل من حجم ابرشية، ولكن يمثلون القاعدة، أو جذور المجتمع، التي كانت الأداة العملية للاهوت التحرير واقعيا، وكان تكوين وبناء هذه التجمعات الصغيرة، هو الرد الحاسم على انظمة الحكم الشمولية، حيث يجد الفرد المضطهد فيها نفسه، ويشعر بالاحترام والجماعية في المناقشة، ويكون الدعم المعنوي المتبادل ممكنا، وكلما زاد الضغط من الخارج ازداد تضامن المضطهدين، وزادت الحاجة إلى التعاون والحماية المتبادلة، وفي هذا المجال دشنت الكنيسة تجديدا حقيقيا في علاقات المؤمنين، العاديين، لذلك سعت على تبسيط المسيحية وربطها بالحياة اليومية، وجعل المسيح حقيقة في حياتهم- كما يفسرون المسيح- ومع نهاية السبعينات كانت هناك حوالي 80 ألف من هذه التجمعات في البرازيل وحدها، وهؤلاء كانوا مادة لاهوت التحرير، لانهم "الفقراء في الفعل"، وتعتبر الكنيسة الكاثوليكية في البرازيل، اكثر الكنائس تقدمية - لاهوتيا واجتماعيا- لإنحيازها للجماهير فعليا وليس لفظيا.

- من الناحية الفكرية، تاثرت التنظيمات الكنيسية بكثير من الشخصيات والتيارات التقدمية والإنسانية، فقد استخدمت غالبية التنظيمات، طريقة (باولو فريري P. Freire ) ، التعليمية، بالذات ما يسمى ما يسمى بمفهوم (الوَعيَنَة (conscientization*، كمنهج والذى يقصد به في معناه العام، العملية التي لا يكون فيها الناس مجرد متلقين، بل ذوات عارفه، تحقق ادراكا عميقا بالحقيقة الإجتماعية - الثقافية، التي تشكل حياتهم، ويكون لهذه الذوات القدرة على تغيير تلك الحقيقة (الواقع)، ويرى أن المشكلة الأساسية في التربية التحريرية هي: كيف يستطيع المضطهدون المنقسمون والمغربون، أن يساهموا في تحرير انفسهم؟  ويجيب بأن نقطة الانطلاق لأي تنظيم او فعل هي الحاضر، والوضع الوجودي الملموس، الذى يعكس طموحات الشعب.

تضاف تيارات فكرية عديدة تبدو متباينة، ولكنها تحسب كمؤثرات على الفكر اللاهوتي بعد الستينات، مثل اللاهوت الاوروبي عامة، المهتم بالحقائق الأرضية الإنسانوية المتكاملة، لجاك مارتين، الشخصانية الإجتماعية لمونييه، والتطورية التقدمية لدى تيهارد شاردين، وتاملات هنري لوباك في البعد الاجتماعي للوثوقية

تعليق*: الكلمة العربية المقابلة لهذا المصطلح، التي اوردها المؤلف، لا تستخدم كثيرا، ولم اجد مقابلا عربيا دقيقا لهذا المصطلح (المفهوم)، والذى يعني في الاصل:
"
مفهوم اجتماعي، يرتكز على النظرية النقدية الماركسية، يركز على تحقيق فهم متعمق للعالم، مما يسمح بتصور وعرض التناقضات الاجتماعية والسياسية المتصورة"


ورغم أن هذه الحركة لم تدم كمؤسسة، ولكن نجد اثرها في تكوينات وتشكيلات عديدة، تظهر اندماج رجال الدين الفعلي في المشكلات الحياتية، ففي البرازيل مثلا ظهرت حركات ومراكز عديدة استجابة لتحديات جديدة، فهناك مراكز لوحدة السود، والدفاع عن سكان مدن الصفيح، والمراة المهمشة أو السكان الأصليين، وهناك اسماء يجب التوقف عندها مثل  (Dom Helder Camara)، الذى لقب باسقف الفقراء، وكان خطيبا مفوها، لخص شعاره بالقول: " احتجاجات الفقراء، هي صوت الله".




في المعنى والضرورة


لا يفلت اي لاهوت من روح عصره، من حيث الخطاب السائر، ويتأثر بمضمون وشكل لغة هذا الخطاب، لذلك ولد لاهوت التحرير في خضم صراع اجتماعي حاد، في عالم التناقض بين التخلف المنتشر والمتضخم، وبين نمو الرأسمالية نحو أعلى مراحلها،  لذا كان لابد أن تحتل مفاهيم مثل الفقر والتحرير، والعدالة وحقوق الانسان والاستغلال والتبعية، مكانا بارزا في لاهوت التحرير، كما انه كان نتيجة لاستعانة لاهوت التحرير، بالعلوم الإجتماعية الحديثة المختلفة، والتي منحته ادوات تحليل جيدة، وقربته من من علوم ومعارف إنسانية عديدة، وفي نفس الوقت حافظ بشدة على روحانيته، ولم يبتعد عن لغته اللاهوتية، فاستعمل، الكلمات القديمة بعد أن ملأها بمحتوى جديد، لذلك نجد مفاهيم مثل: الخطيئة، الخلاص، الملكوت، القيامة...، ولكن في ايحاءات ودلالات جديدة.

- برز تيار قوي، يعلي من قيمة الممارسة، وبالتالي يعتبر النقد المفاهيمي خارج الموضوع، لان الحكم هو بالإلتزام الحقيقي إلى جانب المستغَلين، ويقول (بوف  Boff) بأن الإنجيل لم يوجه اصلا للناس الحديثين، بروحهم النقدية، ولكنه يتوجه أولا واخيرا إلى اولئك غير المشخصين (non Persons، أي الذين حرموا من كرامتهم وحقوقهم الاساسية، وهذا ما يقود إلى للتامل في روح النبوة والتضامن، التي تهدف إلى جعل غير المشخصين بشرا كاملين وحديثين، فالالتزام بالتحرر من قبل الملايين، هو الذى حفظ للإنجيل مصداقيته التي كانت له في البداية،...  ولاهوت التحرير بهذا الفهم، إنسانية جديدة  Humanism رغم ارتباطه بالدين والمتعالي والمطلق، وعبر عن هذا (Araya) بأن: التحدي الحقيقي - للدين- لا ياتي من غير المؤمنين، بل من غير الإنسانيين، فهناك "مؤمنين" غير انسانيين، رغم أن المسيحية إنسانية، وبالتالي - حسب لاهوتيي التحرير- تظهر صعوبة الدعوة للرب، في مجتمع لا انساني، فكيف يكون المضطهدون ومستغلوهم معا ابناء الرب


- تحتاج فكرة الممارسة لقدر من التوقف والتحليل، لمركزيتها في لاهوت التحرير، رغم تعدد تفسيراتها ومنظوراتها، فاللاهوت اصلا ممارسة، أي يعني الاعتقاد أو الايمان، الذى ينبع من تجربة العقيدة، وليس مجرد تأمل، رغم أن الكثيرين يرون أن المعيار المطلق للاهوت هو كلمة الرب وليس الممارسة، وهذا مصدرالجدل حول مدى تسييس اللاهوت، وكيف يحتفظ لاهوت التحرير بروحانيته، لذلك يلجأ لاهوت التحرير لحل توفيقي- بالمعنى الإيجابي للكلمة- فرغم ايمانهم بان البداية المنهجية هي الممارسة التحريرية للمسيحيين، فهم يكملون ذلك بإصافة: "الممارسة على ضوء العقيدة أو الإنجيل"، يقصدون بذلك أن الممارسة ليست معيار لاهوت مستقل عن كلمة الله، فلاهوت التحرير يتقدم جدليا من الممارسة إلى الإثبات -أي اختبار الصحة والمصداقية-، الذى تقوم به عقيدة الكنيسة، ثم من العقيدة إلى الممارسة المسيحية.

-   
يؤكد )Assaman(هذا الخط بقوله: " أي لاهوت لا يبدأ بالإصغاء لصراخات الفقراء، سيستمر في طرح الاسئلة المجردة، ويقتنع بالاجابات المثالية الخاطئة، ويغرق في المُطلَقات، الأصل الممارسة والإحتكاك بالفقراء، فحتى الانجيل والموروث وتاريخ الكنيسة والعقيدة، هي مصادر ثانوية للمعرفة الحقيقية.

-
اكدت وثيقة (Pueble) أن مفهوم الفقراء في المسيحية، لا يقل اهمية عن مفهوم الله، أو لا يمكن فصله عن الله، لأن عبادة الله لا معنى لها دون العدل، وحب الفقراء، واعتناق العقيدة الحقيقي يعبر عنه بخدمة الإخوة، بالذات المضطهدين والمحرومين منهم، واصبحت ادبيات لاهوت التحرير مهمومة، بايجاد ما يدعم ذلك المفهوم الجديد من الكتاب المقدس، وحياة المسيح والتراث، ومن هنا جاءت الدعوة للتاويل والقراءة الجديدة للمسيحية.

-
لاهوت التحرير هو نتيجة تحد تأويلي، لظهوره بين المستضعفين والفقراء، والنضال معهم ومن اجلهم، هو يحاول فك شفرة إله مُحَرِر جديد، يتجلى في مواقف الظلم والإغتراب، يختلف عن ذلك الذى تم استغلال اسمه وكلمته، لتكريس وتابيد أوضاع غير انسانية، فالرب ضمن التأويل الجديد، ليس أفيونا، ولكن خميرة حقيقية للتحرير.

 " الإيمان هو أن نفعل كما يفعل الرب، وألا نفكر فيه فقط، بل أن نفعل مثله"، العبارة السابقة نموذج للقراءة المخالفة، والتي اخترقت التعاليم والوثوقيات (Dogmas) المسيحية، ومثل هذه المحاولات في حد ذاتها تحرير للدين، حتى وإلم تكن لاهوت تحرير متكامل.

إن هذه الإجتهادات والتاويلات الجديدة، تواجه مجددا بنقد وتساؤلات، حول مدى لاهوتيتها أو روحانيتها ونقديتها، قد لا يكون نقديا بالمعنى الاكاديمي، ولكنه قد يعطي اسبابا ويضع مقاييس التعامل معها (أي النقدية)، لذلك يذهب ابعد من النقدية الظاهرية، لاساتذة اللاهوت، الذين يعدون كل شعرة في جسم الوحش، دون أن ينظروا في  جهه.

- لاهوت التحرير رغم النضالية، فهو ليس كراهية، لانه غير موجه ضد الاشخاص، بل ضد النظم والبُنى، مع تأكيد التضامن مع الضعفاء، وتفسير المعاناة والمشاق، حسب فهم آخر مختلف، ومفكرين مثل (غوتييرز (Gutierrez  يرون أن الموقف مع الفقراء، موقف نبوي، يجب أن يصل إلى مدى موقف نبوي، يجب أن يصل إلى مدى تحرير الفقراء من اوضاعهم المزرية، ومن الفردية الأنانية، ومن اغراء المُثُل الزائفة، للمجتمع الإستهلاكي، والخيار بمعنى الانحياز للفقراء تفضيلي، وليس حصريا ابعاديا، فالانجيل جاء للجميع.





لاهوت التحرير بين التأثيرات والتناقضات


من الصعب الحديث عن لاهوت تحرير موحد، فهناك تيارات واتجاهات عديدة، تندرج تحت الاسم الواحد، ويرجع ذلك إلى المؤثرات الفكرية السائدة، خلال فترة نشوء لاهوت التحرير، والأهم من ذلك كيفية تناول واقع امريكا اللاتينية، أو الزاوية التي يُنظر منها لواقع الفقراء والمضطهدين، ويرى البعض أنها ظاهرة ثقافية واكليركية(كنسية)، أو طريقة تفكير، لذا لا تعتبر عند الكثيرين منظومة لاهوتية، بل لاهوت في حالة حركة، ولا يمثل قطيعة بمعنى إنشاء كنيسة جديدة، وحسب Rossa )(هو قبل كل شيء لاهوت كاثوليكي، وعلينا ألا نبالغ في الإختلاف والتعددية، فالجميع يلتقون في مواقفهم من الفقراء والمضطهدين، في ممارسة فعل تبشيري اصيل وصادق من الكنيسة، وتشكيل معنى اكثر وضوحا للعقيدة.

السؤال: كيف نفرقه عن لاهوتيات وايديولوجيات اخرى مماثلة؟، فهناك تأملات دينية في نفس القضايا، ولكن يصعب تصنيفها كلاهوت - اذا أردنا الدقة- كما أن هناك لاهوت التحرير بمعناه المحدد، والذى يتلائم مع اهتمام الكنيسة الخاص بالعقيدة والتبشير، ومن هنا يحذر (Galileaمن الخلط الذى يعتبر أي تامل في التحرير، سواء لاهوتي أم لا، لاهوت تحرير، مثل المواثيق واعلانات المبادئ، والنشرات والوثائق التي تتضمن محتوى تحريريا وتنشرها جماعة مسيحية، هذا تداخل بين مستويين، بين لاهوتيي التحرير، وبين المسيحيين الذين ينظرون في قضايا اجتماعية أو سياسية مرتبطة بالتحرير، مما اضر بلاهوت التحرير الحقيقي.

لم يختزل لاهوت التحرير إلى مجرد السياسة، ولكن من المستحيل تجنب السياسة بالمعنى الشامل، الذى يتسرب في كل المجالات في الحياة الفردية والإجتماعية، فقد كان مدخل لاهوتيي التحرير من خلال خطاب اجتماعي تحليلي جديد، انطلق من واقع الحياة البائسة في مجتمعات امريكا اللاتينية، ومن ضرورة المعرفة التاريخية السببية لفهم ذلك الواقع، ومن احسن التفسيرات لهذا التوجه السياسي تلك التي نجدها في كتاب )Araya (بعنوان: ( إله الفقراء)، حيث حاول اعطاء فهم جديد للفقر، يستهله بشرح ما اسماه الجانب المدمر للفقر، لانه أولا ضد الإرادة الإلهية، فهو يخرب الخلق ويحرمهم من كرامتهم كبشر، وكأبناء وبنات للرب.

ثانيا: الفقر بنائي، بمعنى انه ليس طارئا أو مصادفة أو قدرا، ولا نتيجة الكسل أو النقص أو قلة الحظ أو عدم التعليم، فهناك بناء شامل، اقتصادي، ثقافي، اجتماعي، والفقر نتيجة لهذا النظام الظالم الذى صمم لمصلحة صفوة، بينما الفقراء يحرمون من ثمار عملهم، ويصبحون مكشوفين لكل اشكال الإستغلال.

ثالثا: الفقر موضوع جماعي، وليس للفقير خيار لانه لا يتميز ماديا عن طبقته، فلابد أن يتضامن معها، ولا يوجد اسوأ من فقير يعيش في عزلة، فلابد أن ينضوي إلى تجمع ما، أي أن يُكَوِن مع الآخرين ذاتا جماعية محددة تاريخا.

ولكن الفهم وحدة لا يكفي، والمطلوب هو العمل والنضال ضد الفقر المدمر والبنائي، وأن يقوم بذلك الفقراء كذات جماعية، وهذا الخيار يقود حتما إلى عالم السياسة، ويؤكد Araya أن كل شيء سياسي، ولكن السياسة ليست كل شيء، وذهب إلى ابعد من ذلك حين اكتشف البعد السياسي، للحب المسيحي في البحث عن الخير العام، وتاسيس حق الحياة لصالح جماهير الفقراء، وهذا ما يجعل العاملين في الفكر السياسي فعالين، حسب الربط بين مملكة الرب والالتزام السياسي، وتُتَرجم ممارسة الحب الآن، إلى عهد وميثاق لتغيير النظام الاجتماعي الذى ينتج الفقر والتهميش.  


تعليق : هذا المفهوم أو التأويل الجديد، الذى يتناول الحب العام في الدين، موجود ايضا لدينا في الدين الإسلامي، كما ورد في الحديث الشريف: " لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه"- رواه البخاري، لكننا مازلنا نتعامل معه كحب أو العلاقات على المستوى الفردي، ولم نعمق المفهوم ونجذره، بحيث يكون منطلقا من أجل فعل وممارسة عملية من اجل الخير العام، كالدفاع فئات من المجتمع تحاول نيل حقها العام، واعتبار ذلك جزء من محبتنا لأخواننا التي دعانا لها الدين، وفي هذا يظهر كم نحن متأخرون في مجال تناول المفاهيم الدينية، واعادة انتاج مفاهيم جديدة من ذات النصوص، وربطها تاليا بالحياة العملية.


ومن الاهمية بمكان عدم ابدال التصنيفات السياسية بالتصنيفات الايديولوجية، وعدم تجاهل التباين بين المظهر الديني الايدولوجي للحركة، وبين مصالح المؤمنين التي يحددها وضعهم الإجتماعي - السياسي.

-
يقدم (ليفين  Levine) منظورا مغايرا، يرجع العلاقة بين الدين والسياسة في امريكا اللاتينية، إلى اشكالية الديمقراطية والدمقرطة، فالأولى تعني تأسيس وتقنين ومساندة وجود مؤسسات حرة تعددية، ومفتوحة نسبيا، بينما الدمقرطة تخاطب خلق عدالة ومشاركة اكبر ضمن المؤسسات الرئيسية، ومنها الكنيسة، مهمة الديموقراطية اسهل، لأنها تدور حول عمل القادة الدينيين، على تطوير حقوق الانسان والحريات السياسية والحد الأدنى لأفكار العدالة والحق والمساواة، أما الدمقرطة فاصعب كثيرا، لانها تدعو صفوة الكنيسة، وكل افرادها، لتقنين مفاهيم العدالة وتطبيق نماذج جديدة للسيطرة الديموقراطية، في قلب التراتبية والمؤسسات التسلطية، وتعني بناء فضاءات والحفاظ عليها ضمن المؤسسات.

-
يتمفصل الجانب القدسي للاهوت التحرير في عمليات شعور وممارسة متكاملة: أولها ادراك البؤس (الشعور) والذى له وجهان، الاول الخوف الذى يسببه الجوع والامراض المزمنة، الأمية والظلم، والوجه الآخر الامل في التحرير، والمشاركة والتواصل، وهنا نصطدم بالتقسيم العميق بين الاغنياء والفقراء، والمؤلم أن كلا منهما يدعي الايمان بالعقيدة المسيحية، ينتج عن ذلك التذمر الاخلاقي - الديني او الاحتجاج، وهذا اول موقف للعقيدة المسيحية، تجاه تلك الحقيقة، وهذا ما اعلنته وثيقة (بيوبلا) الختامية، حين اعتبرت الفجوة بين الاغنياء والفقراء، فضيحة تتناقض مع الوجود المسيحي، وأن ترف الاقلية اساءة لمعذبي الارض، من الأغلبية العظمى، وهذا ضد ارادة الخالق، وضد الشرف المستحق له، واخيرا يأتي التضامن في الممارسة من خلال المساعدة أو الفعل.


-
يقسم (Boff & Boff) تطور لاهوت التحرير إلى المراحل التالية:

 المرحلة التأسيسية: التي وضعت فيها الأسس، بواسطة الذين قاموا بتحديد الخطوط العامة للطريقة التي يفعل بها، هذا اللاهوت، ومن اهم مصادرها كتابات (غويتيرز Gutierrez) ، واسماء اخرى، من الذين وضعوا اصول ربط اللاهوت بالقضايا الإجتماعية، وفتحوا افق اللاهوت كله على جوانب عديدة.
مرحلة البناء: تقدمت نحو اعطاء اللاهوت محتوى تعليمي منظم، ليلبي الحاجات الملحة للحياة الكنسية، بالذات الروحية.
مرحلة الاستقرار: بعد تقدم التأمل والنظر، ظهرت ضرورة الوضوح المعرفي، والربط بين النظرية والممارسة، فلابد من تجنب التكرار والغموض في اللغة والمستويات، حين نعبر عن موضوعات الخبرة الروحية، حيث ينتقل المرء من المستوئ التحليلي، مرحلة "يرى" إلى مرحلة " يحكم" أو "يُقَيِم" اللاهوتية، ثم مرحلة "يفعل" الرعائية.
المرحلة الرسمية (الشكلية): إعادة النظر من اجل الوصول بوضوح إلى الابعاد الاجتماعية والتحررية، من مصادرها أي التقاليد أو الرؤيا.


-
 ينبه لاهوتيو التحرير إلى فرق هام بينهم وبين التيارات والمدارس التي تشاركهم نفس الادوات ومناهج التحليل، فرغم اهمية المدخل البنائي - الاجتماعي - الجدلي، في الوصول إلى فهم نقدي لواقع الفقراء والمضطهدين، فقد تكون صرامته الاكاديمية هي جانب قصوره، لانه رغم امساكه بالبناء الاساسي والشامل للاضطهاد، لا يهتم بالظلال والايحاءات التي لا تفهم إلا بالمعايشة اليومية والتجربة، فالعمل المستغَل مثلا عند الاقتصادي مجرد احصائيات، وهذه نصف الحقيقة، لانه في الواقع وفي الحكمة الشعبية يعني دراما الالم والكرامة والأمن والاستغلال والانهاك.

بذلك لاهوتيو التحرير في احتكاكهم بالفقراء، لا يكتفون بالتحليل الاجتماعي، ولكن يحاولون الامساك بالتفسير الغني الكامل، عند الفقراء عن عالمهم، ويربطون المنهج التحليلي - الاجتماعي بالفهم الذى لا ينفصم عن الحكمة الشعبية.

فالفقراء ليسوا مجرد بشر محتاجين، ومضطهدين اجتماعيا، بل ينظر لهم في نفس الوقت كفواعل للتاريخ، فهم ايضا حملة امكانية تبشيرية، ومدعوون لحياة ابدية، هذا هو الفرق الدقيق بين لاهوت التحرير والماركسية أو علم الاجتماع أو السياسة، ويتساءل لاهوتيو التحرير، هل نريد تفسير العالم اجتماعيا فقط، أم يضاف إلى ذلك تفسيرا لاهوتيا ودينيا؟




ظهرت محاولات عديدة، لتصنيف لاهوت التحرير إلى تيارات، حسب اهم المقولات والمرتكزات:

الاول: الاتجاه التحليلي الاجتماعي الشعبوي:
المشتمل على جوانب تاريخية أو تاريخية ثقافية، تستلهم الروح الثقافية للشعب الامريكي اللاتيني خلال تاريخه، او الممارسة التاريخية للشعوب، ويرى هذا الاتجاه أن الشعب مقولة ثقافية - تاريخية، لذا لا يهتم احيانا بالطبقات الاجتماعية، ويرى الصراع بين صفوة تملك السلطة وشعب مضطهد، وليس صراعا بين البروليتاريا والبرجوازية، لهذا يُقَيِم ايجابيا العقلية الشعبية والتدين الشعبي، ويعطي الوحدة الوطنية افضلية في الكفاح بدلا عن التناقضات الطبقية، ويؤكد أن المسيحيين ليسوا هم الصادقين والطيبين والعادلين، ولكن كل الصادقين والطيبين والعادلين مسيحيين.

ويقوم على نوع من الاشتراكية – الوطنية، وعالمية التكامل، كقوة موازية للدول الصناعية المهيمنة، مع توجهات قومية، ديموقراطية، لاتين امريكية، انسانية، مسيحية ونقدية.

فهم لا يعالجون الماركسية بحد ذاتها، ولكن من ناحية علاقتها بالفقر، فهم يسألون ماركس: "ماذا تعطينا عن فهم الفقر وامكانية التغلب عليه؟"

ومن هنا هم يتعاملون مع الماركسية كأداة، دون تقديس، أو إلتزام بمصطلحاتها، ويقف لاهوت التحرير - بحسب -Boff  موقفا نقديا من الماركسية، استمرار لخط )مؤتمر بيوبلا( القائل: "ماركس رفيق طريق، ولكن ليس بأي طريقة القائد، لأن انجيل متى يقول للمسيحيين، لديكم معلم واحد هو المسيح".

يجيب المؤلفان (Leonardo Boff and Clodovis Boff) في مؤلفهم بعنوان:             ( تقديم لاهوت التحرير)، على السؤال المكمل وهو: كيف نرى عملية الاضطهاد/ التحرير على ضوء العقيدة؟  أو ما هي كلمة الله عن المضطهدين؟ 

ويذهب لاهوتيو التحرير إلى النص حاملين كل ثقل المشكلات، واحزان وآمال الفقراء يبحثون عن النور والالهام في الكلمة الإلهية، هذه طريقة جديدة في قراءة الانجيل، أي تأويل التحرير الذى يقرأ كل الإنجيل، من موقع المضطهدين، وككتاب للحياة، ويقصد بذلك التفسير المستمر لكلمة الرب حسب كل حقيقة جديدة، ولكن مع التاكيد أن الاسترشاد في هذا الجدل، يعود إلى سيادة كلمة الله، والتي يجب ان تحتفظ بأولوية القيمة وليس بالضرورة المنهج، وتتميز اعادة القراءة من موقع الفقراء وتحريرهم، بخصائص معينة، فهي تأويلات تفضل التطبيق على التفسير، أو الناحية العملية في النص، والبحث عن تفسير يقود إلى التغيير الضروري ( التحول)، والتغيير في التاريخ ( الثورة).

يقول Jon Sobrino: " أن تعرف الحقيقة هو أن تفعل الحقيقة، أن تعرف الخطيئة يعني أن تحمل عبء الخطيئة، أن تعرف المعاناة هو أن تحرر العالم من المعاناة، أن تعرف الله هو أن تذهب إليه في العدل."


الثاني: التيار أو الاتجاهات الماركسية:
يرجع اصحابه كل تخلف وتبعية القارة، إلى النظام الاقتصادي الرأسمالي، ويستفيد هذا التيار من الأدوات الماركسية في بحث الاشكالية الاجتماعية عامة، ويتوق افراده إلى ثورة اشتراكية، بملامح دولية، ومواقف استراتيجية، أي تضامن اممي مبدئي.

- تميزت العلاقات بين الكنيسة والماركسية لفترة طويلة بالعداء المتبادل، واتخاذ مواقف استبعادية صارمة، ولكن لم يتم تحديد الفواصل النظرية والعملية بصورة مطلقة، ففي عدد من الاماكن، وبين كثير من التيارات طرحت الاسئلة القديمة حسب ظروف جديدة، نلاحظ مثلا اختلاف موقف البروتستانت الألمان عن الكاثوليك الروس، وفي امريكا اللاتينية قاد قساوسة من الارجنتين والمكسيك وغواتيمالا، حملة صليبية خلال الاربعينات ضد الشيوعية، ولكن في كوستاريكا حدث تقارب بين الكنيسة والحزب الشيوعي، وتعتبر ألمانيا بتاريخها المختلف، المجال الأول لحدوث الانفتاح والحوار، بسبب تقاليد فكرية معينة، فقد تكيف اللاهوتيون البروتستانت الألمان جيدا، مع الجوانب الهيكلية في الماركسية.

-
 برزت اسماء تجرأت على تخطي تابو الانفتاح على الماركسية والدول الشرقية، مثل (ديترش بونهوفر Bon Hoeffer ) ، الذى ساعدت افكاره في ظهور لاهوت سياسي ساهم في الحوار الماركسي المسيحي، وتحدث عن الله بطريقة علمانية، متسائلا عن كيف تفهم الطبقة العاملة المسيح؟ وكتب: 
"ماذا يعني حين يقول بروليتاري في عالمه المشبوه، أن المسيح رجل طيب؟ لا يقول أن المسيح هو الله، ولكن حين يقول أن المسيح رجل طيب، يعني أكثر من البورجوازي الذى يقول أن المسيح هو الله، فالله عنده ينتمي للكنيسة، ولكن في المصانع المسيح اشتراكي، وفي العالم السياسي مثالي، وفي الوجود البروليتاري طيب يحارب معهم ضد عدوهم: الرأسمالية".

ورغم أن هذه القرابة الفكرية قد تبدو بعيدة، ولكنها حقيقة قريبة فعالة، في تكوين كثير من لاهوتيي العالم الثالث، المنتمين لحركة لاهوت التحرير عامة، بالذات فيما يتعلق بمفهوم "الإله المعاني" المأخوذ عن بونهوفر، وفكرة لاهوت الأمل وقوة المستقبل.

كذلك حاول ماركسيون تأكيد الإحتكاك والتبادل، بمعنى أن يأخذ كل طرف من الآخر دون حساسية، فالماركسية تحتاج إلى إلهام اخلاقي مثالي نموذجي، ومعايير قيمية تجدها في المسيح، واقتفاء اثر المسيح الحقيقي، قد يوصل إلى اهداف متطابقة عند المسيحيين والماركسيين.

-
ازداد تسييس اللاهوت بصورة ازعجت الولايات المتحدة، وفي عام 1969 بعث الرئيس (نيكسون) بنلسون روكفلر لأمريكا اللاتينية، لكي يبحث الوضع هناك، والذى قال في تقريره أن الكنيسة بدات تتحول إلى قوة للتغيير، حتى لو اقتضى الأمر استعمال العنف، كما أن تقرير (مؤسسة راند) ، حسب طلب الخارجية الأمريكية، توصل لنفس النتيجة، كذلك وثيقة سانتا Santa Fe Document ، الشهيرة التي قدمها مستشارو الرئيس (ريغان)، والتي عبرت صراحة بأن على السياسة الخارجية الامريكية، أن تقوم بهجوم مضاد، على لاهوت التحرير، وألا تكتفي برد الفعل، ومن هنا كان انشاء معهد الدين والديموقراطيةInstitute for Religion & Democracy (IRD) ، والذى كان من ضمن اهدافه الاساسية، القيام بحملة ايديولوجية ضد لاهوت التحرير، وقد اوضح احد العاملين بالمعهد وهو لاهوتي كاثوليكي، اهمية الدين في السياسة، قائلا: "لقد اظهرت الاحداث في ايران ونيكاراجوا انه من الخطر- حين نضع تقديراتنا- أن نحذف العامل الديني بالذات افكار اللاهوتيين".

-
 كان التجسيد الاول للتلاقي والتقارب المسيحي الماركسي، في بعض الجوانب، هو حكومة (سلفادور الليندي  1970-1972)، ويبقى دور (فيدل كاسترو) بارزا في الحوار المسيحي - الماركسي، لانه من خلال قربه من الواقع الامريكي اللاتيني، وفهمه المستقل للماركسية، تمكن من التنظير المرن لعمل مشترك، لم ينطلق فيه من حلول وسط أو تكتيك في التعامل مع الدين، بل من حتمية أن يلتزم المتدينون بقضايا الجماهير الحقيقية، ويؤكد بعض الباحثين أن لاهوت التحرير قارب بالفعل المجموعات الماركسية، من خلال رؤية اثبتت مبادىء جديدة، مثل أنه لم يعد التحول التاريخي حكرا على الماركسية، فقد تبنى المسيحيون نفس الهدف، بإسم عقيدتهم، وليس لاهداف تنافسية أو مزايدة، وأن العقيدة المسيحية حررت نفسها نهائيا من قيود الرأسمالية، واخيرا فإن الرب لم يعد مصدرا للاغتراب ولكن تبعا للإلتزام الإجتماعي.

-
اعتقد أن مفهوم غرامشي عن المثقف العضوي، يمكن أن ينحت منه اللاهوتي العضوي، حيث يمفصل دور المثقفين اللاهوتيين العضويين، ضمن حركات التغيير الإجتماعي، وهذا في حد ذاته ينزلهم إلى الواقع ومحاولة فهمه، وأي مقاربة لفهم واقع مجتمعات العالم الثالث، لابد أن تكون في جوهرها جدلية، لأنها بحث في التناقض والصراع، لذلك لم يستطع لاهوت التحرير أن يخاصم الماركسية، مهما اعتدل، ومن هنا اشتركوا في اهمية الماركسية كأداة تحليل، واختلفوا في كونها الحل.

-  اتجه لاهوت التحرير نحو العلوم الاجتماعية النقدية، ليستعين بها في تحليل مجتمعاته، وفهم القضايا الاجتماعية وليس الفلسفة، لان التحدي ليس عقديا دينيا، بل اجتماعي سياسي، ويشرح احد اللاهوتيين هذا الوضع: " لذلك ليس القرار في اختيار الأدوات التحليلية قرارا قبليا او دوغمائيا أو معرفيا (ابستمولوجيا)، فمن الممارسة والعقيدة المسيحيتين، وبتوجيه من المبادئ الاساسية الروحية والرعائية، ولدت الحاجة لمقولات تحليل مناسبة"، ويسميها (دوسيل) ب ( ثورة ابستمولوجية) في اللاهوت المسيحي، لأنه تم ولاول مرة، الاستعانة بالعلوم الإجتماعية النقدية، وبالاقتصاد السياسي، ويؤكد افراد هذا التيار على ابعاد الجانب الايديولوجي المحض، عند تقييم علاقتهم بالماركسية.

-
 يمكن أن نفترض، أن مدخل اللاهوتيين الاساسي للماركسية، كان نظرية (التبعية)، والتي يسميها البعض: (ماركسية امريكا اللاتينية السوسيولوجية الإقتصادية)، وتتميز ماركسيتهم برفض المادية الجدلية، ويقبلون ماركس الناقد الاجتماعي، وليس الفيلسوف، من هنا تفضيل (ماركس الشاب)، أي ما قبل البيان الشيوعي، ويعبر احد رواد هذا الاتجاه عن موقفهم: "ما يهمنا الآن هو ماركس الإنساني- التنويري كما فهمناه آنذاك، ماركس غير الجامد، اللا اقتصادي، المادي غير الساذج".


الثالث: التيار التبشيري التأويلي:
يبدو هذا التيار وكانه يضم كل من هو خارج التيارين السابقين، وبالتالي لا تجد بين افراده افكار مشتركة، ويمكن تعريفهم بالنفي أو السلب، ويضم هذا التيار اللاهوتيين الذين لا يظهر اثر الادوات والمفاهيم الماركسية، بوضوح في افكارهم وكتاباتهم، كذلك لم يتحدد لديهم فهم القضية الاجتماعية، ووسائل حل المشكلات المجتمعية، وطريقة تعبئة الجماهير، هذا الوضع يقود إلى أن يكون الباحث أو المفكر ، متاثرا بعدد من المدارس والتيارات في تركيب فكرته، لذا هو تبشيري لاتصافه بالعمومية، وتأويلي لأنه مرتكز اكثر على الكتاب المقدس، ويمثل الإتجاه الثاني في التوفيقية، والذى يحاول أن يعطي الغلبة للافكار الدينية على الأفكار الإنسانية.

لذا قد يكون تعريف (دوسيل) مدخلا شاملا لأفراد هذا التيار: "هذا اللاهوت هو في الحقيقة خطاب نقي، نظري، يطرح الأسئلة التقليدية ذاتها: الخطيئة، الخلاص، دراسة المسيح، الأسرار المقدسة...، إنما على صعيد ملموس ومناسب، فهو لا ينكر المجرد (الخطيئة في ذاتها)، لكنه يضعه في شروط الواقع التاريخي الملموس (خطايا التبعية)"

نستطيع أن نضع (ألفيس  Rubem Alves) ممثلا رائدا لهذا التيار، وينطلق ألفيس من البعد القيامي (الآخروي) للتاريخ، ومن هذه النظرة يفهم التاريخ مستقبليا، ومفتوح البدايات الجديدة، باعتبار الله هو الامل في الإنجاز النهائي أو الكمال الاخير، ويرى الله كقوة المستقبل، التي تقود الإنسانية نحو تحقيق العدالة الإجتماعية.

في نفس التيار (إلسا تايمز Elsa Games وهي من لاهوتيي التحرير الذين حاولوا تطوير تأويل انجيلي، يركز على مضطهدي امريكا اللاتينية، وفي كتاب بعنوان: (انجيل المضطهدين) قدمت عرضا قويا لموضوع المضطهدين في الانجيل، تجاه الاغنياء، أي دراما الانجيل، كصراع مستمر بين الفقراء من جهة، والأغنياء من جانب آخر - هذا شكل للصراع- كما تقول - لا نجده في امريكا الشمالية وغرب أوروبا، وتعتبر من القلائل الذين عالجوا الانثوية أو (الجنسانية  Sexism) ، كشكل رئيسي للاضطهاد، واخذت من الإنجيل قصة (هاجر) ، التي عانت اضطهاد ثلاثي الجوانب، بسبب الطبقة واللون والجنس.


الرابع: لاهوت التحرير في افريقيا وآسيا:
اصبح يتبادر للذهن أن لاهوت التحرير يطابق دائما لاهوت امريكا اللاتينية الجديد، ولكنه في حقيقة الأمر تجاوز الإقليمية الدينية، ليثَبِت مبادئ جديدة في فهم المسيحية والدين عامة، فهو يتجاوز الفهم التقليدي، المرتبط بقوة الامر الواقع، ليضيف طرقا جديدة، تمكن من الوصول لحياة افضل، ودلالة لاهوت التحرير التاريخية هي في كونه أول لاهوت ينشأ ويتطور في الهامش، على أسس اسئلة تهم الهامش أو المحيط، ولكنها ذات آثار عالمية وعامة.

كما يقول Boff  هو الصرخة الواضحة للمُضطَهَدين، للبرابرة الجدد الذين يدقون على ابواب امبراطورية الوفرة، عند المركز، مطالبة بالإنسانية والتضامن وفرص الحياة، في كرامة وسلام، ويضيف بأن لاهوت التحرير يضع في اجندة النقاش، كل الاسئلة التي تهم كل البشر، مهما كانت ميولهم الايديولوجية، أو ارتباطاتهم الدينية، وتعني كل اولئك الذين لديهم بارقة انسانية باقية، ليعتبروا مشكلات الملايين من الفقراء، ويسعون للعدل العالمي، ويهتمون بمعذبي الارض.

فعلى سبيل المثال اهتم لاهوتيو افريقيا وآسيا، بالجوانب الثقافية اكثر، فقد تأمل لاهوتيو افريقيا في ضرورة التكامل بين العقيدة والكنيسة في القارة الافريقية، ولم يقتبسوا من امريكا اللاتينية، ولكن هناك تبادلات معهم، ساعدت في اثراء تيار الفكر المحلي الموجود اصلا، فقد لعبت الكنائس دورا واضحا في النضال ضد الفصل العنصري، فقد كان (لاهوت التحرير الاسود) و (اللاهوت السياقي Con-textual theology)
اكثر التيارات الملتزمة عمقا في النضال، وقد استفاد لاهوت التحرير في امريكا اللاتينية من هذه الجوانب الثقافية والعرقية.

-
 ارتبطت المسيحية في افريقيا بالاستعمار الأوروبي، فقد جاءت الارساليات مع الجيوش الاستعمارية، عدا الكنيسة القبطية، تكملة لإدعاء حضاري يتحدث عن عبء الرجل الابيض في النهوض بالمجتمعات التي تسمى بدائية، وتاريخ الكنيسة ارتبط بالعنصرية وتجارة الرقيق احيانا، أو علاقة البيض والسود غير المتكافئة، لذلك اضاف اللاهوتيون الافارقة للاهتمام بالاضطهاد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي- كما في امريكا اللاتينية- الاضطهاد العرقي، وانتقدوا اهمال رصفائهم في امريكا اللاتينية للجانب العنصري، كمكون هام لأي لاهوت تحرير، لدرجة ان كاتبا مثل
(كون James Cone) ، يقول بأن تركيز لاهوتيي امريكا اللاتينية على الصراع الطبقي، دون ذكر الاضطهاد العرقي يجعل اللاهوتيين السود، يشككون في هوية أولئك الاوروبية البيضاء، أي يظنون انتمائهم لها.

- كانت نقطة انطلاق لاهوت التحرير الافريقي قائمة على بعد قاعدي، أي تحتي لثقافة معينة، يدور فيها صراع حياة أو موت لعدد من الشعوب والاعراق المضطهدة، بينما يؤسس الآسيويون لاهوتهم على اعادة قراءة المسيحية، على هامش التراث الثقافي للحضارة الغربية، وفي حوار مع الأديان الكبرى في الشرق، بالذات في الصين والهند، وبدأ يغتني من الحساسية لقيم الاديان الشرقية الكبرى، والمنحى الصوفي لتلك الاديان.

-
واتسعت الدائرة لتشمل روافد عديدة، تحمل سمات خاصة حسب ظروفها، ففي الولايات المتحدة الأمريكية تأسس لاهوت التحرير الاسود، على تأييد الحقوق المدنية، واهتم لاهوت التحرير في العالم الصناعي بمسؤوليته تجاه العالم الثالث، ومشاكل الفقراء الجدد في المجتمع الصناعي، والمهاجرين والبيئة، كما انتشر هناك لاهوت التحرير الانثوي الذى يرى تحرير المرأة كبعد تكاملي للتحرير الشامل، ويفهم الصلة بين الاضطهاد الجنسي والاقتصادي.

تم.