28‏/12‏/2012

الأسس الإقتصادية للقوة العسكرية : دراسة في فكر ادم سميث (3/2)



أسس القوة العسكرية في "ثروة الأمم" 

عندما نشر آدم سميث كتابه “ثـروة الأمــم” في عام 1776, كان الوقت مناسباً في بريطانيا,للنقد السليم لنظريات وأسس السياسة المركنتيلية. كانت ثورة المستعمرات الأمريكية قد إجتذبت الأنظار والإنتباه الى أصول الأساليب والقوانين والنظم التجارية التي جاءت في أعطاف سياسة بريطانيا الإستعمارية. والواقع أنه كانت هناك مشاعر قوية تعارض هذه الحروب التى بقيت قائمة لعدة قرون, كما توافرت مشاعر السخط على هذا العبء الثقيل من ديون الحرب, هذا فضلاً عن أنه, بعد إنتصار بريطانيا على فرنسا في حرب “السبع السنين” La guerre de Sept Ans ). لم يعد هناك من ينافس إنكلترا لا في القوة التجارية, ولا في القوى البحرية. على أنه بسبب التزايد في الدراسة التشكيكية للفلسفة السياسية والإقتصادية و “التي تعلّمت بها الأمم أن مصلحتها الخاصة تتوقف على إفقار جيرانها”, فقد بدأت المشاعر تنمو وتتزايد مشيرة إلى أن بريطانيا قد وطّـدت مركزها كقـــوة عالمية. ولهذا فإنه من الممكن أن توجد سياسة أكثر تحرراً وأن "ثروة أي أمة مجاورة * مهما كان خطرها في الحرب والسياسة * لها بالتأكيد فائدة أكبر في التجارة".

وكان هناك أيضاً الشعور المستفيض بمضار هذا النظام السائد والذي مكّن من أن تنتفع الحقــوق الموطدة للطبقـــات بإتحادهـــا وتناسقهــا مع المصالح الحقيقية بل وحتى المصالح المتوقعة للأمة. وقد وجه سميث حملته ضد هذه المضار عندما هاجم طبقة التجار عامةً والشركات التجارية خاصةً؛ لما تقوم به من إحتكار يوفر ويخـــدم مصالحهـــا الخاصة فقط ويضر بألف طريقة مختلفـــة بالمصلحــة العامة للوطن؛ ولإستخدامها كامل سلطات الحكومة, وإفساد سير العدالــة من أجل أعمـالها, ولتشجيعهـا الحرب, لأنهـا أمــــة يحكمهــــا رجـال دولـــــة من أصحــــاب الحوانيت أو تحت سطوتهم, رجال من هذا النوع فقط, يكون بإمكانهم إستخدام دماء مواطنيهم وثروة بلدهم من أجل بناء إمبراطورية مركنتيلية والدفاع عنهـا. ويضيف سميث في وصفـــــه المـوضوعي للـروح الإحتكـاريــــة الضيقة التي يمارس بها التجار أعمالهم : “إن الأطماع الشخصية للملوك والوزراء لم تكن ــ في القرنين السابق والحالي ــ أكثر إضرراً بهدوء وسلم أوروبا من هذا التنافس وهذه الغيرة من جانب التجار والمنتجين الصناعيين. إن عنف وظلم الحكام شر قديم, ولكن هذا الجشع الرخيص وهذه الروح الإحتكارية التي تبدو واضحة في التجارMerchants)) والمنتجين Manufacturers) )الذين ليسوا ولا ينبغي أن يكونوا حكاماً للجنس البشري, هذا الجشع الرخيص يمكن بسهولة جداً أن نحول دون تسببه لأي ضرر إلا لهؤلاء التجار والمنتجين الصناعيين وحدهم”.

وقد نقد سميث مبادىء “النظام المركنتيلي” بشكل عنيف, ووجه حملته على نظريات التجاريين الخاصة بالنقد Currency) ) بما في المبدأ القائل إن “كل وطن في وضع يتوقع فيه حرب يجب أن يحاول, في وقت السلم, أن يراكم الذهب والفضة, والإحتفاظ بهما لوقت الحاجة من أجل دعم حربه” بما يسميه لاحقاً “صندوقاً للحرب”. ولكن آدم سميث تقبَّل أن على بريطانيا أن تستعد للإنفاق على الحرب, ذلك لأنها كدولة متحضرة وغنية تكون أكثر تعرضاً لأن تُهاَجم أكثر من أن تُعرض غيرها من الأمم للهجوم؛ ولم يغفل سميث كذلك عن أن بريطانيا, بسبب مستعمراتها الكبيرة ولمصالحها التجارية الواسعة ما وراء البحار, تحتاج إلى الإحتفاظ بقوات عسكرية ومنشآت بحرية, ولكنه رفض إعتبار صناديق الحرب ضرورية أو حتى نافعة للدفاع عن الوطن؛ ذلك لأنه “لا يُحتفظ بالأساطيل والجيوش بواسطة الذهب والفضة بل بالسلع الإستهلاكية. فالوطن الذي من دخله السنوي المنتَج من صناعته الوطنية ومن دخله السنوي المنتَج من زراعة أرضه ومن يده العاملة, ومن سلعه الإستهلاكية المنتَجة محلياً والذي يستطيع أن ينتج فائضاً يدعم به شراء السلع الإستهلاكية من ممالك بعيدة؛ هذا الوطن يستطيع أن يقوم بالحروب خارج أراضيه”. وقد ثبت هذا بما قامت به بريطانيا من إعداد لحرب السبع سنوات (1756*-1763) من فوائد إتساع نطاق صناعاتها, ومن الزيادة الكبيرة في منتجاتها الخارجية. بطريقة أخرى, فإن آدم سميث قد إعتقد بأن قدرة أمة ما على الإنفاق على الحرب إنما تقاس أحسن ما تقاس بقدرتها الإنتاجية.

وإذا ما ربطنا هذا التفكير بعصرنا الحالي, فإن بناء إقتصاد قوي يعني أن يكون هذا الإقتصاد ذا هيكلية تعطيه القدرة على إنتاج فائض لتصديره إلى الخارج. وهذا هو الهدف المنفعي المفترض من التجارة الخارجية, وليس العكس أي بناء سياسة إقتصادية تشجع الإستيراد إن كان من سلع وخدمات أو تحويلات من الذهب والفضة (التحويلات النقدية في عصرنا الحالي) وهذا ما قاله أيضاً آدم سميث حين تحدث عن الفوائد الرئيسية للتجارة الخارجية.

تمويل مصاريف الحرب ومعارضة سميث للإستدانة
بالإضافة إلى معارضة سميث لإنشاء "صناديق الحرب"


which maintained the foreign wars) (The Fundsفإنه عارض أيضاً قروض الحرب, كوسيلة أساسية لتمويل الحروب. وقد فضل بدلاً من هذا فرض الضرائب الفادحة ؛ إن الحروب التي تدفع نفقاتها تدريجياً تتم من وجهة عامة بسرعة أكبر, كما أنها تنفذ من جانب الحكومات بأسلوب تدريجي نظراً لأنها بدون دافع قوي, ثم إن الأعباء الثقيلة للحرب التي لا يمكن تجنبها تعطل الناس من تطلبها عندما لا تكون هناك أية مصالح حقيقية للقتال من أجلها.

ويحظر آدم سميث اللجوء إلى الإستدانة, حتى في زمن الحرب, لما لذلك من إنعكاسات سلبية على النمو (croissance La ) الإقتصادي وعلى السيادة الوطنية قائلاً: “إن إزدياد المديونية التي تسبب إضطهاد الوطن في الحاضر وربما القضاء عليه على المدى الطويل, كانت متشابهة بنتائجها في الأوطان الكبيرة الغابرة في أوروبا”. وقد كشف ســميــث * مستبقاً بذلك تجربة نيكــــر * عن حال الركود الذي “تنوء تحت ثقله فرنسا ... على الرغم من أهمية ثرواتها الطبيعية كلها”. غير أن سـميـث لم يكن يدرك بالتأكيد أن الدولة سوف تلجأ إلى الاقتراض. “عندما تقع الحرب, ليس لدى الحكومات القدرة ولا الوسائل لزيادة عائداتها على قدر ازدياد حجم إنفاقها ... سهولة الإستدانة تخلّصها من التعثر الذي يمكن أن يتسبّب به في تلك الحال هذا الخوف وهذا العجز”. وللعديد من المواطنين المتفرجين من بعيد على الصراع, هذه الحرب ليست سوى استرسال مسلٍ طالما أنه لا يكلف الكثير.

“في الإمبراطوريات الواسعة الأرجاء, فإن سكان العاصمة, والذين يعيشون في المقاطعات البعيدة عن مسرح العمليات الحربية, قلما يشعرون, بغالبيتهم, بمخاطر الحرب. غير أنه تستهويهم لذة القراءة في الصحف عن الحملات التي تقوم بها أساطيلهم وجيوشهم. وهذه السلوى تمثل بالنسبة اليهم تعويضاً مقابلاً للفرق البسيط بين الضرائب التي يدفعونها بسبب هذه الحرب, وتلك التي اعتادوا أن يدفعوها في زمن السلم”.

يكفي أن تتمكن هذه الضرائب الإضافية من تغطية فوائد الدين العام كي يصبح تمويل الحرب أمراً ممكناً. وتغدو المسألة وكأن للضريبة “أثر عمل الرافعة

Un effet de lier) ) ــ كما نقول في علم الإقتصاد المعاصر ــ على مجموع الموارد التي يُمكن أن تتوافر للدولة. الفكرة هذه, عبر عنها سميث بكل وضوح حين ذكر بأن السلطات الحاكمة” تجد نفسها قادرة على رفع مداخيلها النقدية سنوياً الى أكبر مبلغ, عبر فرض أقلّ زيادة ممكنة من الضرائب”. عند ذلك يصبح مفهوماً تماماً كيف يمكن, بشكل مصطنع (Artificiellement ), تخفيف العبء الضريـبي.

في كافة الأحوال, ينبغي أن يتم تسديد الدين يوماً ما بشكل أو بآخر..., حتى لو كانت له صفة الاستمرارية. إذ إن الفوائد المترتبة والمتصاعدة باستمرار, سوف تشكّل في النهاية مبلغاً من الضرائب لا يستهان به. ومن الممكن عندئذ اعتبار هذه المدفوعات بدون تأثير “إقتصادي*كلي” Macroéconomique) ) طالما أن ذلك عبارة عن تحويلات بين مجموعتين من قطاع العائلات في البلد نفسه (هذا بالطبع إذا اعتبرنا أنه لا يوجد دائنون من خارج الإقتصاد الوطني). بتعبير آخر, ليست الديون العامة, كما وصفها ميلون , “إلاّ نوعاً من الديون التي تدين بها اليد اليمنى لليد اليسرى”. إلا أن آدم ســميــث من جهته, ينتفض بعنف ضد وجهة النظر هذه, واصفاً إياها “بسفسطة” النظام المركنتيلي المضلِِّلَة(54)؛ ففي رأيه, إن إنتزاع الأموال من الملاّكين وأصحاب الرساميل لصالح أصحاب الإيراداتRentiers) ) أو “المرابين”, يُعتبر مجازفةً بالثـــروة الوطنية: “إن أي إجراء, أو عملية انتزاع من أصحاب المصدَرين الكبيرين للدخل (الأرض ورؤوس الأموال), أي من الطرفين اللذين لهما بشكل مباشر مصلحة بأن تكون كل قطعة أرض صالحة للزراعة بصورة دائمة وكل جزء من رأس المال موظفاً بأفضل وجه, إذ إن القسم الأكبر من المداخيل الوطنية تأتي من هذين الموردين؛ إن إنتزاع الأموال من هذين الموردين, أي دائني الدولة, لمصلحة طبقة من الناس, الذين لا يهمّهم مصادر الدخل الوطني؛ إن عملية من هذا النوع سوف تؤدي بالضرورة مع الوقت إلى إهمال الأراضي وإلى تشتت رؤوس الأموال وهروبها إلى الخارج”.

وبالرغم من أن كتاب “ثروة الأمم” قد بات المرجع المقدس للمدرسة الإقتصادية الكلاسيكية, وأن آدم سميث قد إستمر منبعاً للتبصر لهذه المدرسة خصوصاً ولعلم الإقتصاد عموماً, فالحقيقة أن آدم سميث, في الواقع, لم يتنكر لأسس معينة من المدرسة المركنتيلية, إذ إعترض على بعض وسائلها أو أساليبها, ولكنه وافق على الأقل على واحدة من غاياتها هي الحاجة لتدخل الدولة في المسائل الإقتصادية إلى المدى الضروري اللازم للأمة. وكان أولئك الذين إتبعوه أكثر إيماناً بحرية التجارة من سميث نفسه, والمقصود المدرسة الليبرالية. وقد كتب سميث يقول: “إن الواجب الأول للملك هو حماية المجتمع من عنف وغزو وتسلط المجتمعات المستقلة الأخرى, ومن الممكن الوصول إلى هذا فقط بواسطة القوة العسكرية. ولكن تكاليف ووسائل إعداد هذه القوة في وقت السلم وإستخدامها في وقت الحرب تتباين وتتغير بتغير الأحوال المختلفة للمجتمع في كافة مراحل تطوره”.

لقد باتت الحرب ــ وهي أنبل الفنون على الإطلاق ـ أكثر تعقيداً وأكثر نفقات تبعاً للتقدم الصناعي للمجتمعات, وتبعاً لإختلاف التنظيم العسكري ووسائل تدعيمه وإمداده في الدول التجارية والصناعية عن هذا التنظيم ووسائل تدعيمه في المجتمعات الأقرب الحال إلى البدائية. بمعنى آخر, فإن صور التنظيم الإقتصادي هي التى تقرر ما يستخدم من آلات الحرب كما تقرر طبيعة العمليات الحربية, ومن أجل هذا لا يمكن تجنب القول إن القوة العسكرية تبنى على أسس إقتصادية.


سياسة القوة وقوانين الملاحة

بما يتعلق ببريطانيا, فان عقد السياسة المركنتيلية كان “قوانين الملاحة” ولربما كانت السياسة المركنتيلية في مظاهرها الأخرى لازمة ضرورية في فترة مبكرة من تطورها الإقتصادي. ولكن في نهاية القرن الثامن عشر أصبحت إنكلترا متقدمة صناعياً بدرجة كبيرة, وكانت الإجراءات الوقائية أقل أهمية بالنسبة لها مما هي بالنسبة لفرنسا أو للولايات الإلمانية, وكانت تستطيع, إذا لزم الأمر, ألا تفرض أي رسوم على معظم الصناعات؛ ذلك لأنها لم تكن تواجه منافسة قوية لا في أسواقها المحلية ولا في أسواقها ما وراء البحار. والواقع أنها في ما بعد, واعتباراً لمصلحتها الخاصة, قد نفضت يديها من هذه السياسة الوقائية ؛ ذلك لأنها عرفت أن التجارة الحرة هي سلاح الأقوى, ولكن القوة البحرية شيء آخر, وكان من الواجب أن ينظر الى كل ما يتعلق بها تبعاً لمبادىء أخرى تكون هي الأساس للحكم والتقدير. كان أمن بريطانيا ثم أمن إمبراطوريتها يتطلبان أن تتوافر لها على كل خطوط الملاحة في المحيطات سيادة غير مهددة, بل وأن تعمل في غير هوادة ضد أية قوة تحاول تهديد هذه السيادة. وبالإضافة إلى هذا, فان التكوين الصناعي والمالي والتجاري قد قام على أسواقها وموارد تموينها من وراء البحار, وكانت البحرية التجارية تعتبر بالنسبة لبريطانيا رأس مال إقتصادياً كما أنها كانت عاملاً ضرورياً في أمنها العسكري وعلى الأخص في عصر كان من الممكن فيه أن تحول السفن التجارية إلى سفن حربية بسرعة. فالأسطول والتجارة البريطانية مرتبطان معاً بصلة وثيقة قوية ويؤثر كل منهما بالآخر تأثيراً تعاونياً كبيراً, ولا يمكن أن يُفصل أيهما عن الآخر. فتجارة بريطانيا كانت هي الأم التي ترعى رجال بحريتها, ورجال بحريتها هم عصب الحياة لأسطولها, وأسطولها هو وسيلة الأمن والوقاية لتجارتها, والاثنان معاً كانا الثروة والقوة والأمن لبريطانيا.

ولهذه الأسباب فان الإختيار الحقيقي لوجهات نظر آدم سميث في السياسة المركنتيلية وسياسة القوة, انما يقوم على أساس موقفه من قوانين “الملاحة والمصايد”, وقد نص سميث : “ان الدفاع عن بريطانيا يتوقف بدرجة كبيرة على عدد سفنها وملاحيها Its Sailors and Shipping) ), ولهذا فان قانون الملاحة كان جهداً موفقاً لإعطاء بريطانيا وملاحيها حق إحتكار تجارة بلادهم”. ويتابع سميث فيقول: “عندما صدر قانون الملاحة, قام بين بريطانيا وهولندا عداء عنيف بالرغم من انهما لم تكونا في حالة حرب معاً, لقد بدأ هذا في حكومة البرلمان “الطويل الأجل” الذي وضع الأسس الأولى لهذا القانون, ثم لم يلبث أمر هذا العداء أن اشتد في عهد كرومويل وشارل الثاني, ولهذا فانه ليس من الخطأ بأن نقول بأن نظم هذا القانون قد جاءت نتيجة للكراهية والعداء الشعبي, انها مليئة بالروية والعقل وكأنها قد جاءت كلها من المعين الذي لا ينضب من الحكمة. ان الكراهية الشعبية قد هدفت في ذلك الوقت الى الغرض نفسه الذي لا بد وأن تكون الحكمة قد أوصت به, ألا وهو اضعاف القوة البحرية الوحيدة التي كانت تستطيع أن تعرّض أمن بريطانيا للخطر”.

“ان قانون الملاحة ليس في جانب التجارة الخارجية, ولا الى جانب اطراد الرخاء أو الثراء الذي يمكن أن ينتج عنها, ولكن لما كان الدفاع أكثر أهمية من الرخاء فان قانون الملاحة ربما كان أكثر النظم التجارية البريطانيا حكمة”.

وقد اتخذ بالتبعية الإتجاه ذاته بالنسبة للمصايد البحرية : “ولكن بالرغم من أن ضريبة الحمولة لسفن الصيد لا تتوافق مع رخاء الأمة الا أنها ربما تتوافق مع الدفاع عنها تبعاً للزيادة المستمرة في عدد السفن التي تعمل فيها, وعدد الملاحين الذين يعملون في هذه السفن”.


الحمائية بواسطة الرسوم الوقائية

وقد وافق آدم سميث على القوانين التي فرضت الرسوم على إنتاج المحطات البحرية في المستعمرات الأمريكية التي نصت على تحريم تصدير منتجاتها من أمريكا إلى أي بلد آخر عدا بريطانيا. وكان هذا التنظيم التجاري عادلاً من وجهة نظر آدم سميث, ذلك لأنه يُمكِّن من جعل بريطانيا مستقلة عن جيرانها وغيرهم من البلاد الشمالية في الإمداد بالإحتياجات الحربيـــــة, كما أنه يسهم في الكفايـــــة الذاتية للامبراطوريـــة .

ولم يقف سميث موقف الإعتراض من الرسوم الوقائية عندما كانت ضرورية لازمة لأغراض الأمن العسكري, وقد قال : “انه من النافع والمفيد, من وجهة عامة, أن يُلقى جانب من العبء على الصناعات الأجنبية بقصد تشجيع الصناعات المحلية عندما تكون هذه الصناعات ضرورية للدفاع عن البلاد”. فقد منحت مثل هذه الوقاية لصناعة السفن بواسطة قوانين الملاحة, ولكن سميث كان راغباً في فرض رسوم ووضع حواجز جمركية لصالح الصناعات الأخرى ولغير هذا من الأغراض العامة, ذلك لأنه “من الاهمية بمكان ألا تعتمد الدولة الا لأقل ما يمكن على جيرانها من ناحية الصناعات اللازمة لدفاعها عن نفسها, فاذا لم يكن هذا مستطاعاً في أرض الوطن فمن المنطق اذن أن تفرض الضرائب على كل الصناعات الأخرى لمعاونة هذه الصناعات الضرورية للدفاع”. أي أن المعاونة تكون عن طريق الحصيلة التي تتجمع من الرسوم المفروضة على الصناعات الأخرى.

لقد كان سميث من أصحاب مبدأ “حرية التجارة” عن ايمان قوي بصدق نظريته, ولهذا فقد دحض تماماً بعض النظريات التي كانت من أسس السياسة المركنتيلية بالصورة التي عرفتها بريطانيا في أيامه, والتي كانت في نظره غير مقبولة. كان يشك في تدخل الدولة في أعمال وجهود الأفراد, ولم يكن محباً لسلطة الدولة من أجل اظهار هذه السلطة وحدها, ولكن السؤال لتقدير صلته بالمدرسة التي كانت تعنى برسم السياسة التجارية, هذه الصلة لم تكن في السؤال حول صحة نظريات التجاريين, بل في هل يجب ـ عند الضرورة ـ استخدام القوة الإقتصادية للدولة كوسيلة سياسية؟

ومن الواضح أن إجابة سميث على هذا السؤال, في “ثروة الأمم”, كانت بالإيجاب وأن القوة الإقتصادية يجب أن تُستخدم بين الوسائل السياسية التي تستخدمها الدولة.

25‏/12‏/2012

الأسس الإقتصادية للقوة العسكرية : دراسة في فكر آدم سميث (3/1)






د. زكريا فوّاز أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية
( عن مجلة الجيش اللبناني)


             
أوضح تطوّر صورة الحرب أن التخطيط للستراتيجيـــة يتطلب دقّــة المعرفــــة بعدة عوامــل أخرى ليست ذات طابع عسكري بالرغم من التأثير العسكــري الذي لها, هـــذا التخطيط الذي يستهـــدف إضعاف مقاومة العدو وتعطيله بشل تجارته وتدمير إقتصادياته, أو بالتحديد تدمير بنية الإقتصاد المعادي التحتية infrastructures économiques) (Les وقدرته الإنتاجية, وإن هذا جديداً في طابع إستخدامه ولكنّه ليس جديداً في أصل وجوده.والواقع أن الناس قد عاشوا لأمد طويل وهم يظنون أن الحـــرب صناعة تحترفها جماعات خاصة من الناس هي التي تكون وحدات المقاتلين, سواء أكانوا مأجورين أم مواطنين مجنّدين, وأن الحديث عن الحــرب بمختلف نواحيها النظرية والعملية, وبتباين صورها وألوانها و “أشكالها التي لا يمكن إحصاؤها, من حرب الإفناء إلى حرب الإنتظار التي نقوم بها ضد إرادتنا, تنفيذاً لإتفاق تحالفي موقع بالإكراه, أو غير ثابت”. وكل ما يؤثر في هذه أو تلك من العوامل وما يتحكم فيها أو يسيطر على توجيهها من أصول ومبادىء, إنما يرجع إلى الكتاب العسكريين الذين خرجوا من صفوف الجيش أو الذين عاشوا على هامش الجندية وان لم يكونوا أصلاً من طلاب المعاهد العسكرية.

ولم يكن هذا كل شيء, بل إن كل الكتب التي تحدثت عن الحرب من الناحية الفنية والتي تعرضت للحديث عن الستراتيجية, لم تُعنَ إطلاقاً إلا بالنواحي العسكرية بالرغم من أنها كلها كانت تكرر ما قاله كلاوزفيتز من “أن الحرب ما هي إلا إستكمال للمناقشات السياسية ولكنها تجيء فقط بأسلوب آخر”. ولم تتعرض هذه الكتب للعوامل من الناحية البشرية والمعنوية والإقتصادية والتي تؤثر في التوجيه السياسي ثم بالتبعية في التوجيه العسكرية. وإن كان بعض الكتاب العسكريين في مطلع القرن العشرين قد عنوا بمسائل المواصلات البرية والبحرية ومروا سراعاً بعوامل التجارة والمواد الأولية. 

كان يجب أن ننتظر “الإكتشاف” الذي يفخر به الدكتور بلوم الإشتراكي من أن الحرب الحديثة ذات أربعة جوانب تجمع في جملتها طبيعة هذه الحرب, وهذه الجوانب الأربعة هي : الجانب السياسي, الجانب الإقتصادي, الجانب السيكولوجي, وأخيراً يجيء الجانب العسكري * كي تتقدم الدراسات الوثيقة الصلة بالحرب وكي يدرك الناس عن إيمان أنه توجد في الستراتيجية الحديثة بعض النواحي غير العسكرية وأن هذه النواحي يجب أن تُراجــع في دراسات نفر من الأعلام كلّهم من غير العسكريين ؛ هم رجال إقتصاد وعلماء إجتماع, ورجال تاريخ واعلام سياسة ومهندسون. وبرزت إلى الضوء أسماء آدم سميث, وألكسندر هاملتون, وفريدريك ليست وفريدريك إنجلز وكارل ماركس, وهم مجموعة تنتمي في الواقع إلى عدة مدارس من مدارس الفكر في علم الإجتماع بمختلف نواحيه من إقتصاد وسياسة وتاريخ. 

فلا عجب أن المفكرين الذين صنعوا علم الإقتصاد أكثرهم من الأطباء وقد مارسوا مهنة الطب إلى آخر حياتهم, أمثال وليم بيتي, باربون, ماندفيل وفرونسوا كيني * ولا عجب إذا لعب علماء الإقتصاد دوراً في تطور الفكر العسكري وستراتيجيته. والوقائع التاريخية تدل على تلازم العلمين ووجود علاقة ترابط (Corrélation) بينهما, إذ أن أفضل خبراء مالية فرنسا في “العهد القديم” كان جنرالاً في الجيش الفرنسي وقائداً له, والمقصود فوبان (VAUBAN, 1633-1707) ماريشال فرنسا.

أما في العصر الحديث, فثمة منهجان رئيسيان يتنازعان دراسة “الحرب”, منهج المدرسة الوقائعية البحتة (التاريخية والقانونية) والتي ترى في الحرب مجرّد عمل من أعمال الحاكمين, ومنهج علم الإجتماع الذي يرى في الحرب ظاهرة إجتماعية, تكمن حقيقتها في طبيعة علاقاتها بغيرها من الظواهر.

أوّلاً: المدرسة الوقائعية.

تبدأ من فرضية قوامها “إن الحرب عمل إرادي من أعمال السياسة الخارجية للدول”, وهذا يعني ربط السلام بإرادة الحاكمين. إنها الفرضية التي تشكل المقدمة التي ترتكز عليها شتى الدراسات التاريخية وشتى الدراسات القانونية للحرب والسلام, تلك الدراسات التي تنظر إلى الحرب منعزلة عما عداها من ظواهر واقعها الإجتماعي, بل منسلخة عن طبيعة أطرافها. 

وخلاصة القول إن هذه المدرسة ترتكز في تفسيرها لعلاقات الحرب والسلام إلى قناعات فكرية مضمونها: إن الحرب عمل إرادي بحت, إنها مجرّد قرار سياسي, ومن ثم تخضع لسلطان العقل وحده. وما يهمنا أن نقولـــه هنا, إن من هذه المدرسة خرجت “نظرية الحرب المستحيلة”. وهذه النظرية تبدأ من فرضية هشة, إنها عمل إرادي يحكمه العقل وحده, كما قلنا, بينما هي في حقيقتها فعل تتحكم فيه غريزة بشرية ملحة والمقصود غريزة القتال, ومن ثمة قادر على أن يفلت من كل رقابة عقلية. وزيادة على هذا الدحض, فإن نظرية الحرب المستحيلة التي كانت سائدة (وما تزال) خلال كل فترة الحرب الباردة, لم تمنع قيام عشرات الحروب المميتة بنتائجها, وأيضاً بعد سقوط القطب الإشتراكي, شهد العالم, بين العامين 1990 و1992, إنفجار 92 حرباً في كافة أنحاء الكرة الأرضية

إنّ الحديث عن الحرب, لا هو وهم سيكولوجي ولا مرتبط “بعقدة أبراهام”, في حين أن الحديث عن السلم الدائم هو الوهم. فالعلاقات الدولية هي ـ بالضرورة وعلى طول تاريخها ـــ علاقات ما بين الأعداء اللهم إلا ما يقتضيه العداء ذاته من مهادنة ليست البتة من طبيعة هذه العلاقات. وما فكرة المجتمع البشري العالمي المتخلّص من أسباب التصادم ومن ثم الذي ينعم بالسلام الدائم, إلا من نسج الخيال البحت, إنها تنتمي إلى عالم “ما يجب أن يكون” ولا صلة لها البتة بعالم ما هو كائن. إن “السلام” كالمحبة, قيمة أخلاقية جمالية, لا مكان لها في الواقع الدولي.

ليس من الضروري أننا نقدر أن حرباً طاحنة وشاملة لابد وأن تقع في أي لحظة, وأنه يجب أن نعيش في إستعداد دائم للحرب, ولكن الحرب هي دائماً مستمرّة طالما نحن نعيش في كيان مستقل. ولكن هذه الحرب تأخذ شكلاً أو عدة أشكال من الجوانب الأربعة التي ذكرناها. ومن دون أن تأخذ شكل القتال العسكري الشامل.

ثانياً: مدرسة “علم الإجتماع”

يبدأ منهجها, ومنهج علم العلاقات الدولية المعاصر, ـ في ما نحن بصدده ـ من أن الحرب ظاهرة إجتماعية مرتبطة بالطبع الإنساني, وبظروف أوضاعه الحياتية, وبطبيعة البيئة الدولية, وأن في هذا الإرتباط تقبع حقيقتها ومنه تنطلق شتى الدراسات العلمية للعلاقات الدولية. وفي هذا الصدد, إن للأوضاع الإقتصادية المقام الأول في تشكيل إتجاهات الدول في علاقاتها الخارجية, وعلى مقتضياتها تتحرك الدول نحو الحروب وعليها تعتمد في تحقيق النصر.

ومن هنا كان التجاريون les mercantilistes) ) ـ وهم أتباع أول مدرسة فكرية تأسست في علم الإقتصاد ـ الذين يرفضون التمييز بين التفوق التجاري من جهة والتفوق السياسي والعسكري من جهة أخرى. فلقد كانوا يتصورون أن من يحكم المحيط يحكم تجارة العالم, ومن يحكم تجارة العالم تدين له ثروته, ومن يسيطر على ذلك كلّه يحكم العالم وأنه, تبعاً لذلك, فإن “ميزان القوة مرهون بالميزان التجاري”

ولكن هل يعني تصور التجاريين هذا أن ثمة علاقة إرتباط (Corrélation) بين الظاهرة الإقتصادية وظاهرة الحرب ؟
إنّ من أكثر القضايا العلمية إنتشاراً في الدراسات التي تعنى بظاهرة الحروب في عالم اليوم, هي قضية العلاقة بين السياسات العدوانية للدول من جهة, وبين الحالة التي عليها إقتصادياتها وأهدافها وأطماعها الإقتصادية من جهة أخرى. ومن هنا, إن موضوع دراسة الأسس الإقتصادية للقوة العسكرية كان وما زال من المواضيع الأساسية التي تهم المفكرين الإقتصاديين في عالم “البارحة” وعالم اليوم.

مفهوم القوة العسكرية في فكر المركنتيليين

وفي ضوء هذه الفرضية ـ التي تعني الإرتباط بين الظاهرة الإقتصادية وظاهرة الحرب ـ نستطيع أن نجري تقييماً موضوعياً العقلية التي كانت سائدة في غرب أوروبا لأكثر من قرنين ـ قبل أن ينشر آدم سميثAdam SMITH) )(12) كتابه “ثروة الأمم” عام 1776 ـ والذي كان يُحكم بواسطة نظم وأصول ومعتقدات تُعرف في مجموعها بإسم المركنتيلية أو “السياسة التجارية”.
لقد كان التجاريون (Les mercantilistes) يتصورون إرتباطاً قوياً بين الإقتصاد والسياسة ينطلق من العبارة الشهيرة التي تنحدر إلينا عنهم : “المال عصب الحرب”
L'argent est le nerf de la guerre) ). ولقد كان التجاريون يقصدون بالمال هنا المعادن, فعندهم كانت قوة الدولة مرهونة بما يتحقق لها فعلاً من هذه المعادن. وثمة وسيلتان, في تصور التجاريين, لتحقيق ذلك الهدف : الحرب والتجارة, فعلى الدولة أن تزيد من أسباب قوتها بالعمل على زيادة أحتياطياتها من المعادن الثمينة بالتجارة أو بالحرب, ولا فارق بين هاتين الوسيلتين, فكلاهما ينتمي إلى الطبيعة نفسها. فالتجارة ليست إلا عملاً من أعمال الحرب.

إنّ التجارة هي الدافع إلى الصراع الدائم بين الشعوب في حالتي الحرب والسلم على السواء, ومن ثم فإن إلتزام شعب ما بسلام من أجل ما يحققه من إزدهار لتجارته, هو في ذاته محاربة لأعدائه. ولذا كانت النظم التجارية أساس سياسة القوة, فقد عملت في الشؤون الداخلية العامة لزيادة قوة الدولة ضد التعاليم الموروثة من العصور الوسطى, أما الشؤون الخارجية فقد عملت لزيادة قوة الدولة ضد غيرها من الدول. ولذلك, يبدو حسب أكثر المركنتيليين, “أن العلاقات الإقتصادية الدولية عبارة عن مجموعة من المبادلات تتعاكس فروقاتها حتى تؤول محصلتها إلى العدم (Un Jeu à Somme Nulle): فإثراء بلد ما لا يمكن أن يكون إلا بمضرة دول أخرى. وكذلك العلاقات الإقتصادية الدولية هي إذاً وبالضرورة علاقات نزاعية”, وفي إيجاز, إن أهداف السياسة المركنتيلية كانت التوحيد القومي للدولة وتنمية مواردها الصناعية والتجارية والمالية والعسكرية والبحرية؛ ولإدراك هذه الأهداف تدخلت الدولة في المسائل الإقتصادية, وبذلك وجهت نشاط رعاياها أو مواطنيها إتجاهات خاصة بقصد زيادة القوة السياسية والعسكرية. وكانت “الدولة المركنتيلية” في ذلك العصر, شأنها شأن “الدولة الدكتاتورية” الفردية في عصرنا الحديث؛ دولة تعمل على الحماية التجارية وتتخذ سياسة وقائية, كما أنها تعنى بالإكتفاء الذاتي الإقتصادي وأن تسير الدولة دون أي تبادل تجاري مع غيرها من الدول, كما أنها تهدف إلى الإستعمار والتوسع وتتبع سياسة عسكرية قوية لتنفيذ أهدافها العامة.

على أننا إذا نظرنا إلى الأمر في ضوء المفاهيم الإقتصادية الحديثة, فإننا نستطيع أن نقول إن الغرض الرئيسي للنظم التجارية إنما كان تنمية الإمكانيات العسكرية, أو إمكانيات الحرب, ولهذا السبب توضع الصادرات والواردات تحت سيطرة أو رقابة عنيفة, وتجمع المعادن الثمينة ويحافظ عليها, وتصنّع مستلزمات البحرية أو تستورد على أساس دفع إعانات مالية Subventions) )أو هبات لتشجيع المصانع على الإنتاج, كما يشجع بناء السفن للنقل البحري وصيد السمك كمورد للقوى البحرية, وتنظم المستعمرات كما تعد وسائل حمايتها لإستكمال الثروة وللوصول إلى الكفاية الذاتية للدولة الأم, كما يشجع نمو عدد السكان بغرض زيادة القوى العددية في الرجال. وكانت هذه وغيرها من التدابير بقصد زيادة وحدة الأمة وقوتها.

وقد أدى النظام المركنتيلي بالطبيعة إلى الحرب, شأنه في ذلك شأن أي نظام تكون القوة فيه غرضاً في ذاته, كما تُعبأ فيه الحياة الإقتصادية أساساً للأغراض السياسية. ويعتقد ممثلو سياسة القوة أنه يمكن تحقيق أهدافها بحالة جيدة * ان لم يكن بحالة أحسن* نتيجة لاضعاف القوة الإقتصادية للدول الأخرى بدلاً من تعزيز قوتهم الإقتصادية هم أنفسهم ؛ إن إعتبار الثروة كهدف لهو في الواقع حماقة وان كان يعتبر أمراً منطقياً لا غبار عليه من جهة نظر القوة السياسية؛ وتبدو أية محاولة للتقدم الإقتصادي بجهود الدولة وفي داخل أراضيها وكأنها غير محدودة الهدف إلا إذا إشتملت على إغتصاب أجزاء مما تملك الدول الأخرى ومن النادر أن نجد عاملاً آخر في فلسفة سياسة التجارة يسهم بدرجة أكبر مع تشكيل السياسة الإقتصادية بل والسياسة الخارجية في جملتها وقد كان هذا المنطق السبب الرئيسي للحروب العلنية والمستترة التي قامت في أوروبا من منتصف القرن السابع عشر إلى الحقبات الأولى من القرن التاسع عشر وكان النظام الذي وضعه نابليون لقارة أوروبا, والنظام الإنكليزي الذي قام لمناهضة نظام نابليون, ذروة التطور لسلسلة طويلة من التدابير المماثلة.

وخرجت إنكلترا وحدها منتصرة من الحروب التجارية, وحصلت على وحدة قومية متماسكة قبل أي دولة أوروبية أخرى وتمتعت بالأمن الذي مهد له مركزها البحري؛ وكانت أقدر من غيرها في وضع “قوة أساطيلها وقوانين الملاحة في خدمة المصالح الإقتصادية للأمة والدولة مع السرعة والجرأة ووضوح الأغراض”. وبذلك إستطاعت الوصول الى المركز القائد في الصراع من أجل الزعامة التجارية والسياسية.

وفي قرابة عام 1763, كانت إنكلترا قد قضت على الأطماع البحرية والتجارية والإستعمارية لإسبانيا وهولندا وفرنسا, وقد أهلكت في واترلو (1815) فرنسا التي نهضت بها الثورة وإنتقمت من نابليون أيضاً. وفي عام 1815, بالرغم من أن إنكلترا كانت قد فقدت مستعمراتها الأمريكية بعد إستقلال الولايات المتحدة (1776), إلا أنها وصلت في الميدان العالمي إلى درجة من القوة تعيد للذاكرة ماضي الإمبراطوريات العظيمة القديمة.

وصحيح أيضاً أن إنكلترا هي الدولة الأولى التي فرضت سيادتها العسكرية على العالم, بانية سيطرتها تلك على أسس إقتصادية لقوتها العسكرية. “ففي كل العصور كانت هناك مدن ومقاطعات إمتازت على غيرها في الصناعة والتجارة والملاحة, ولكن لم يشهد العالم من قبل مثل هذه السيادة التي لبريطانيا في عصرنا هذا (في القرن التاسع عشر). فقد حاولت الأمم والدول في كل العصور الوصول إلى السيادة على العالم, ولكن واحدة منها لم تستطع أن تنشىء قوتها على مثل هذه الأسس ؛ فكيف ذهبت هباء هذه الجهود التي حاول أصحابها أن يقيموا سيادتهم على أساس القوة عندما نقارنها بمحاولة إنكلترا أن تنهض بصناعتها وتجارتها وبحريتها, وأن تكون لها بين الدول وممالك الأرض مكانة الصدارة بالنسبة للبلاد التي تحيط بها, وأن تتوافر في داخليتها كل الصناعات والفنون والعلوم, وأن تتوافر لها كذلك الثروة والقوة البحرية التي لمركز الثقل في العالم”.

وعلى أساس السياسة المركنتيلية لإنكلترا, وضع آدم سميث A. Smith السياسة الإقتصادية والأسس السياسية العامة للدولة التي هو من رعاياها, ومن الممكن أن نفهم ما أراد أن يقوله خاصاً بالأسس الإقتصادية للقوة العسكرية داخل الإطار العام للعصر الذي عاش فيه وروح الأحوال الخاصة بوطنه. 

03‏/12‏/2012

هيلين كيلر (4 /7)





في اليوم الثالث



وفي الصياح التالي لابد لي ايضا أن استيقظ مع الفجر لأنني ارغب في أن اظل 
على موعد مع اكتشاف المتعة الرائعة التي تتجلى في مطالع الشمس..

إنه من الجدير بأولئك الذين لهم عيون تبصر حقيقة أن يتخذوا من اغنية الفجر 
ومشهد الفجركل يوم وبكيفية دائمة يحتفلون فيها باستقبال هذا الجمال المتجدد..!

إن هذا اليوم سيكون في برنامج رؤياي المتخيلة هو اليوم الثالث والأخير من 
ايامي.. سوف لا يكون لدي وقت اضيعه في التأسف والتمني, هناك كثير من 
الأشياء التي ما تزال تستحق الرؤية.. لقد خصصت اليوم الأول لصديقاتي 
واصدقائي سواء منهم الحيوانات والجمادات بينما كشف لي اليوم الثاني عن 
تاريخ الإنسان وتاريخ الطبيعة..أما هذا اليوم سأقضيه في هذا العالم المتحرك 
المشتغل، عالم الحاضر بين ديار الناس ومتاجرهم, يغدون ويروحون لمشاغلهم 
في الحياة, واين يجد المرء هنا مكانا يحتوي على اكبر قسط من النشاط والحركة 
كما يجده في نيويورك ؟ ولهذا فإني اتجه شطر هذه المدينة في يومي هذا.

سأبدأ انطلاقاتي من بيتي بالضاحية الهادئة الصغيرة ( فوريست هيلس ) لونغ 
ايلاند، هنا حيث الحشائش الخضراء والأشجار والزهور وحيث تنصب بيوت 
أنيقة جميلة حيث اشعر بالسعادة مع الأصوات والحركات التي تنبعث من 
جماعات السيدات والأطفال, حيث ينعم الرجال بالراحة المطلقة بعد رجوعهم 
من عنائهم المتتابع بالمدينة.. سأخترق هذه المجموعة من الأبنية المتراصة من 
الفولاذ التي تكون جسرا غرب الوادي, وهناك سأشعر ببداية جديدة لمشاهدة 
القوة والعبقرية اللتين يتوفر عليهما هذا الإنسان.

سيقع بصري على هذا المراكب الراسية هنا، وفيها ما ينهمك اصحابه في 
الشغل المتواصل به، هناك سفن اخرى نزمجر في محاولة للقيام ببعض 
الحركات لو كانت لدي أيام اخرى طويلة ما تزال تنتظرني لكنت اقضي منها
نصيبا في تتبع هذا النشاط الرائع الذى يجري حوالي الوادي، ارى أمامي ذات 
اليمين وذات الشمال تنتصب المنارات الغربية, ناطحات السحاب التي عرفت 
بها مدينة نيويورك المدينة التي يظهر انها انحدرت من صفحات تاريخ مهول
ما اعظمه من مشهد مثير مرعب يتجلى في هذه البروج اللامعة! في هذه 
المصارف الرحبة الواسعة الأرجاء المشيدة بالصخور والفولاذ، بنايات يخيل 
إليك أنها من صنع جن بنوها من أجل انفسهم هم.. وهذه الصورة الحية هي 
جانب من جانب حياة ملايين الأشخاص كل مطلع شمس.. كم هو يا ترى عدد
الذين يعطونها اكثر من نظرة ثانية! إنهم قليلون فيما ارى إن عيونهم عمياء 
عن هذه المناظر الرائعة، لأنها بالنسبة إليهم أمست أمرا عاديا لا يحتاج لإعادة 
نظر، سأدير الخطى لأصل إلى قمة احدى هذه البنايات الشاهقة الضخمة بناية
إمباير ستيت لقد كنت في أوقات قصيرة خلت " رأيت " مدينة نيويورك ولكن 
من خلال عيون كاتبتي الخاصة، أما الآن فإني في اشد الشوق لأقارن بين 
الخيال وبين الحقيقة الواقعة في أني متأكدة من أنني سوف لا اشعر باكتشاف
مطلقا وأنا هذه المباني المتناثرة أمامي سيكون هذا بالنسبة لي مشهدا من عالم 
آخر.

والآن سأشرع في تجولاتي عبر المدينة بعد أن اخذت فكرة عنها من فوق 
أعلى بناية بناية, وفي بادئ الأمر سأقف في زاوية جد مزدحمة من المدينة 
يقصدها على الخصوص جمهور الناس وذلك لأحاول عن طريق النظر إليهم
 معرفة بعض الأشياء عن حياتهم وارى البسمات تعلوا الوجوه وأنا بعض 
مسرورة، وأرى العز والنشاط بشع من عيون الناس وأنا جد معتزة، وارى 
كذلك العذاب والعناء وأنا مشفقة.

سأتجول في شارع " فيفث أفنيو" وسأسلط نظراتي على النقاط التي يتجمع فيها
النور وذلك لأتمكن ليس فقط من رؤية الأشياء الخاصة ولكن فقط لمشاهدة 
الألوان الزاهية، إني متأكدة من أن هذه الألوان التي تمتاز بها ملابس النساء 
اللائي يسرن في هذه المواكب المتراصة.. إن هذه الألوان نمثل وحدها مشهدا 
بديعا لا اشكو منه التعب أبدا بيد أنه من الممكن – اذا كان لي بصر – أن اكون 
مثل أولئك النساء الأخريات مهتمة ايضا بالأشكال والأزياء التي تثير انتباه العامة
اكثر لجمالها وبهائها..ولأني مفتنعة كذلك بأن علي أن لقف أمام احدى واجهات 
المتاجر لأرى من خلال النوافذ..سأشعر يمتعة زائدة وعيوني تطوف بين آلاف الأصناف الجميلة المعروضة.

ومن شارع فيفث أفينيو سأطوف على المدينة " بارك افينيو" عبر الأحياء الشعبية
عبر المعاقل وعبر الحدائق التي يقصدها الأطفال للتلهي, وسأقف قليلا لأزور 
الأحياء الأجنبية.. وفي كل هذه التحركات ستكون عيوني مفتوحة على مصراعيها 
كما يجب وعلى كل المناظر التي تقع عليها عيوني , سواء منها الجميل والردئ
وذلك لأتمكن من النظر بعمق لأضيف إلى إلى معلوماتي شيئا حول الطريقة التي 
يعيش عليها الناس ويشتغلون إن قلبي مليء بالصور: صور الأشخاص وصور 
الأشياء ايضا.. وعيوني تمر دون ترو متغاضية عن الأمور الزهيدة إنها تكد 
وتجاهد من اجل أن نلتقط معها وفي انتباه ويقظة كل شيء تقع عليه, هناك بعض 
المناظر مما يدخل السرور على القلب بل مما يملأه انشراحا وغبطة, لكن بعض
المشاهد محزن فعلا.. وبالنسبة إلى هذه أيضا فإني لا اغمض عيني عنها كذلك
لأنها في نظري تمثل جانبا من جوانب الحياة, واعتقد أن صرف العيون عن مثل 
هذه المشاهد, ولو انها محزنة هو بالذات اغلاق للقلب واغلاق للفكر..

إن يومي الثالث من أيام البصر يقترب من نهايته ومن الممكن أن يكون هناك 
عدد من الأشياء الجدية التي تقتضي مني تخصيص بعض الساعات الباقية 
لرؤيتها بيد أني اعتقد أن مساء هذا اليوم الأخير يجب علي أن اقصد فيه ايضا 
إلى المسرح حيث انعم برؤية تمثيلية هزلية مضحكة وذلك ليتسنى لي أن آخذ 
فكرة عن واقع الكوميديا في الفكر الإنساني .

وعند منتصف الليل تكون الرخصة المؤقتة التي قضيتها بعيدا عن ظلمتي قد 
اخذت نهايتها, ويحل الليل البهيم الدائم من جديد ليخيم في ساحتي مرة اخرى
وبالطبع لم أر في هذه الأيام الثلاثة القصيرة كل ما كنت اريد أن اراه، وعندما 
ينيخ الظلام بكلكله علي, هناك سأعرف كم هي الأشياء الكثيرة التي تركتها 
واغفلتها دون أن اتمكن من رؤيتها بيد أن ذاكرتي ستزدحم بالذكريات المشوقة
 التي احتفظ بها منذ ذلك الوقت القصير الذى لآسف على فراقه, ومنذ هذا 
الوقت فإن لمس أي شيء سيحمل معه ذكرى حية عن حقيقة ذلك الشيء


ختاما .. افتحوا أعينكم !

ربما يكون هذا العرض الوجيز عن استعمال الزمن طوال هذه الأيام
الثلاثة من أيامي المبصرة أقول ربما لا يتفق مع المنهاج الذى قد
تختارونه لأنفسكم لو كنتم مكاني, ولكني مع ذلك متأكدة من انكم
اذا واجهتم هذا القضاء فإن عيونكم ستفتح أمام الأشياء التي لم
تروها من قبل مدخرين ذكرياتكم إلى الليل الطويل العريض الذى
ينتظركم..

كل شيء رأيتموه سابقا يمسي بالنسبة إليكم عزيزا.. ينبغي أن ترى
عيونكم كل شيء يدخل في دائرة عملكم..

عليكم أن تبصروا حقيقة الأشياء



إنكم إن فعلتم ستشعرون بأن عالما جديدا من الجمال يكشف نفسه
أمامكم..

أستطيع – أنا الكفيفة – أن اعطي اشارة فريدة لأولئك الذين يبصرون
أعطيهم عظة وتنبيها لأولئك الذين يرغبون في أن يستغلوا هذه النعمة:
نعمة البصر استفيدوا من عيونكم كما لو كنتم مهددين غدا بافتقاد هذه النعمة.

ولأن نفس النصح ينبغي تطبيقه على سائر الحواس الأخرى :
استمعوا إلى الصوت الجميل , إلى هزيج الطير إلى نغمات الموسيقى
كما لو كنتم غدا ستصابون بالصمم.. إلمسوا كل ما يستحق منكم
اللمس.. تنسموا أريج الزهور وعبير العطور, تذوقوا لذة كل طعام سائغ
لذيذ تتناولونه كما لو انكم ستفقدون غدا حاسة الشم والذوق.. تمتعوا
بكل مظاهر الجمال التي تتفتح أمامكم في هذه الدنيا على شتى الأشكال
التي تتقدم إليكم بها الطبيعة الخلابة..

إن كل هذه الحواس هبه تستحق الشكر بيد أن نور البصر
يعتبر من أجمل وأروع ما يدخل البهجة إلى النفوس !..

نهاية .


30‏/11‏/2012

وجوه الفرد الغارق في الفردية


إفلين بياييه

لماذا تقرَّرَ، منذ ثلاثين عاماً لا أكثر، عرض عربات أطفالٍ يدير فيها الأولاد
ظهورهم إلى أهلهم؟ لماذا تبدو "الشفافيّة" فضيلةً شبه خلاصيّة؟ ولماذا ذاك
الذي كان يسمّى بكل وضوحٍ "رئيس الموظفين" مُنح صفة مدير الموارد
البشريّة؟ لماذا يلقى تلفزيون الواقع كل هذا النجاح؟ ولماذا تحتلّ الكتب
المخصّصة لتألّق الشخصية رأس القائمة في المبيعات؟

قد تبدو هذه الأسئلة، مع غيرها، ممّا شكل نقطة انطلاق لأربع دراسات
متنوعةً إلى درجةٍ مستغربة بعض الشيء. إذ كلّها تعود إلى سؤالٍ أساسي:
كيف علينا أن نقيّم التطوّر الجاري لديموقراطياتنا؟ كيف ننظر إليه؟ وكيف
نتصرّف إزاءه؟

فعندما ننظر بالتفصيل في ممارساتٍ فردانيّة تزداد... فرديّةً، ابتداءً من تطوّر
مواقع الانترنت المخصصّة للّقاءات بين الأصدقاء، إلى شغف المراهقين
بالماركات، مروراً بتسخيف الـ"زابينغ" (التنقّل بين أقنية التلفزيون عن
طريق التحكّم عن بُعد)، فإنّ ما يخضع للتحليل في الواقع هو العلاقة بين
المفهوم المعاصر للـ"أنا"، وأهدافها وحريتها وبين ديموقراطيات الاقتصاد
الليبرالي. إذ لا يتمّ هذا دون قلب بعض أنماط التفكير المألوفة ولا حتّى دون
مساءلةٍ ما: هذا يعني أن هذه المؤلّفات، التي تقيم الحوار مع روسو أو كانط
أو أرندت أو فوكو أو هابرماس، بدون أن تكون بذلك حِكراً على حَمَلَة الإجازات
في العلوم الإنسانية فقط، هي منشّطةٌ للتفكير ومربكةٌ في آنٍ معاً.

إن فكر "أوليفييه راي"، عالم الرياضيات والباحث والمعلّم، خصوصاً في
مدرسة البوليتكنيك، يتوسّع انطلاقاً من سؤالٍ مركزي: كيف نربّي الأولاد في
مجتمعٍ ديموقراطيّ فعلاً ومن أجل هذا المجتمع؟ ففي نظره أنّ النظريات
التربوية السائدة تميلُ كي تقدِّم على المعرفة وعلى دراسة الآثار الأدبية
"ثقافة الأصالة والتعبير عن الذات والتواصل". فعلى الولد أن "يبني
معارفه". وفي ذلك ديموقراطياً، احترامٌ للفرد وإيقاعه وغناه الخاص: وذلك
بالسماح له بفرض شخصيّته وتمايزه بمعزلٍ عن الموروثات العزيزة
على... "الورثة"، بحسب قول بيار بورديو، وعن سائر الموجبات الشكلانيّة.
لكن ما يراه "راي" مطبّقاً بحسب هذه المفاهيم التربوية، والتي يجد ما يؤكّدها
في أمثلةٍ عديدةٍ أخرى، وتحت شعار الرغبة في احترام الولد وجعل الفوارق
الاجتماعية أقلّ حسماً، هو نوعٌ من الانزلاق نحو توهّم إعداد الفرد "المكوّن
ذاتياً"، ممجّداً حرّية موهومة كلّياً.

وبالطبع يدور النقاش حول تحديد مفهوم الحرّية. فهل أن الحرّية هي حرّية
أن يكون الفرد هو ذاته تلقائياً؟ ولكي يكون الإنسان ما هو عليه ألا يجب
أوّلاً تعلّم ما هو هذا الفرد العزيز جداً في أيامنا؟ ويؤكّد راي، في تتبّعه خيطٍ
مستقيمٍ لتيارٍ فكريّ بأكمله يصل إلى أعمال رجل القانون "بيار لوجاندر"
أن الفرد لا يمكن أن يحقّق استقلاليةً فعليّةً بدون الاعتراف بأنّه مرتبط :
مرتبطٌ بالآخرين، مرتبطٌ بمجتمعٍ يسمح له بممارسة هذه الاستقلالية، مرتبطٌ
بتاريخٍ، مرتبطٌ بأوهامه الخاصة. والاعتقاد بالـ"مرجعية الذاتيّة"، بحسب
ما تستدعي النظريات التربوية الحالية، وبشكل أوسع نظام القيم القائم،
يعني التنكّر لعلم السلالة العائلية وللمعرفة وللمؤسسات. ونفي هذه العلاقة
يعني نفي حدود الفرد الخاصة، تلك الحدود التي تحدّد وحدها الحقل الذي
يُعدّ فيه الشخص المعنيّ.

وبعبارةٍ أخرى، لا يمكن للحرية أن تقوم إلاّ على أساس التخلّي؛ وهي لا تبدأ
بالتجلي إلاّ عندما تُدرَك الحدود وتُستوعَب؛ فالحريّة الفردية، أساس
الديموقراطية وشرط ديمومتها، تفرض أن يعرف الفرد أنّه فانٍ ابن فانٍ، وأنه
واحدٌ بين آخرين، ويرفض قانون الأقوى، ويخضع للقوانين التي تسمح
بالعيش المشترك. هذا هو إذن السبب الذي يحمله على عدم الانجرار وراء
غرائزه الخاصة، وذلك لكي يستطيع، كبشريٍّ بين سائر البشر، أن يساهم في
التاريخ المشترك ويكتب تاريخه الخاص. وهذا هو السبب الذي يجعله يفهم
أن الآخر ليس شيئاً، بل هو "أنا" مثله، والتي لها يدين الإنسان بإنسانيته
التي تجعله جديراً بان يكون له حقوق، بحسب تعبير ريمي براغ الرائع.


والحال أن الاستناد إلى العقلانية بدلاً من بديهية الشهوة وأسوار الأنا ليس
أمراً تلقائياً وليس سهلاً ولا شفّافاً. فإذا ما كان كلّ واحدٍ يتمتّع بهذه الطاقة؛
إلاّ أن المطلوب هو تغذية هذه الطاقة. فكل شخص يولد حرّاً... حرٌّ نعم، إنما
ليعمل على تحرّره أمام معوّقات الغرائز والبديهيات. أما مفهوم الشخص
الواحد العامل "منفرداً"، والكفيل بألاّ يستمدّ إلا من أعماقه هو وحيداً أسس
منطقه، والمعتبَر أنّه لا يستأذن إلا ذاته؛ هذا المفهوم ينزع إلى تحديد كلّ فردٍ
على أنه "دولةٌ مصغّرة" حيث يفرض كلّ واحدٍ قانونه. أما معنى المحظورات والموجبات والضوابط فقد ينتهي إلى الزوال على أساس أن كل ذلك ليس سوى 

"محصّلةٍ بسيطةٍ للتجاذبات بين المتطلّبات الفردية من جهة، وفرائض المجتمع
من جهة أخرى "، أو العنف بالمعنى الأسوأ.

الحكمة، سمحت باستقلالية الفرد فقط عندما تحوّلت مؤسسات
فعدم الاعتراف بأن "ما من أحدٍ هو صانع نفسه في الأساس" وعدم التخلّي
عن الحلم الطفولي والخطير بالقوّة المطلقة، والاعتقاد بأنّ الانسياق للرغبات 

الشخصية يساعد في إنجاز الحقيقة، يعني تناسي أنّه إذا كان يمكن حقاً تحقيق
الذات فذلك لأنّ المجتمع وبناه وضوابطه وقانونه كلّها تسمح بذلك، وليس
لأن هذا حقٌّ "طبيعيّ" يقف المجتمع عائقاً في وجهه؛ ويعني أيضاً تناسي أنّ
الحكمة التي، بإصدارها قوانين، قد تحوّلت مؤسسات وجعلت استقلالية الفرد
ممكنة، وتناسي أن الإنسان يتلقّى أولاً القوانين والمحظورات والضوابط قبل
أن يمتلكها، وأنّه هكذا تستمرّ المؤسسة الاجتماعية القائمة على الحكمة
كضرورة لممارسة الحرية الحميمة والجماعية.

إذاً عندما يهاجم راي بغبطة حماسية وبفورة جائشة، طواطم الحداثة
المفترضة، واحتقار الميراث، ورفض الواجبات، وحريّة التأكيد على
الشخصية الخاصة وادعاء التمايز ككيان، فذلك لكي يبدِّد ما يبدو له فخاً
مغرياً ومرعباً يهدّد القيم الديموقراطية بدلاً من أن ينجزها، في حين أن
هذه المفاهيـم تدّعي كل ذلك.

وليس من السهل المغامرة في هذا المجال، فعدم الإيمان بأن كل ما يسمّى
تقدّما هو دائماً تقدّمي سرعان ما يمكن أن يتحوّل نوعاً من الفكر الرجعي.
والحال أن هذا التحليل يرمي إلى التذكير بفكر عصر الأنوار، ويسعى إلى
تبيان الانحراف في هذا الفكر. فبالتأكيد أن هذه الدراسة، في مرحها وطرافتها 

باستشهادها بإيفان إيليتش كما بفيليب كي. ديك، وبرينه جيرار أو بأرنولد
شواترزنغر (بطل فيلم "تيرميناتور")، هذه الدراسة المشوّشة والقاسية
والحماسية، لا تسعى إلى الاحتفاء بالماضي في وجه الحداثة، بل إنّها تعمل
على تبيان كيف أن عملية التحديث الثقافية تسير في موازاة الحداثة
الاقتصادية، وهذا ما يثير القلق.

فمن عربة الأطفال المجدّدة حيث يفترض بالولد أن يتعرّف على العالم بكلّ
حرية، بمعزلٍ عن أنظار أهله التي تسمح بإعطاء معنىً لما يراه، إلى انزلاق
العلم في اتجاه التقنية الموضوعة في خدمة السوق، ومن استبدال الإبداع
بدراسة الإرث الأدبي، إلى الحيّز الذي احتلّه الاستنساخ في الصحافة والخيال
هناك ما يولّد نظرةً إلى عالمٍ يبدو أنّه نسي أن الحرية تُبنَى بالحكمة. فهذا
العالم متصالحٌ تماماً مع مفهومٍ اقتصاديّ ليبرالي انتشر تحديداً بتغطيةٍ من
مُثُل التحرير ذاتها ومن احترام الفرد المغلوط تماماً - "وكما أنّه بحسب
المبادئ الليبرالية، هناك يدٌ خفيّة يُفترَض أنها تؤمّن الازدهار العام، لكي
تجعل البشر يتخلّون عن إدعائهم حق التدخل في الاقتصاد، ولا يهتمّون
إلا بمصلحتهم الشخصية، كما أن التنظيم الذاتيّ يقود الأفراد إلى التألّق
والسعادة". وعندها، في مجتمعٍ سائرٍ إلى "إلغاءٍ معمَّم للمؤسسات"
بحسب ما قاله داني-روبير دوفور، يصبح الفرد وحيداً، مجبراً على خلق
ذاته بذاته، وبشغف: متحرّراً من الواجبات ومتحرّراً من المنطق، حرّاً إلى
أقصى الدرجات في الإنصات إلى استدعاءات لاوعيَه، واستدعاءات السوق
ولا يحبّ أي شيءٍ بقدر ما يحبّ إرضاء غرائزه البالغة القِدَم.

سيقرأ أيّ ميلٍ نحو الإضراب كفوضى حميميّة يجب تفكيكها
كما أن دانيال بونيو، أستاذ الشرف في الجامعات، ورئيس تحرير مجلة
"كايي دو ميديولوجي" (دفاتر علم التوسّط) ثم مجلة "ميديوم" (الوسيط)
اللتين أسسّهما ريجيس دوبريه، يتابع المساءلة ذاتها، إنّما في حقل الفنون
ووسائل الإعلام. وهو في ما خصّ هذه الأهمية المعطاة للتعبير عن الذات
وهذا التطلّع إلى عالمٍ لا معوّقات فيه، مصدر المتعة، يجمع تجليّاتها تحت
كلمةٍ معبّرةٍ هي "العَرْضِية" (من فعل العرض والإظهار). والإثبات الذي
يقدّمه حول ذلك هو كلاسيكيٌّ إنما منبّه؛ لأنه يقترح نظرةً إجمالية. فمن
الصحافة التي تقترح قراءةً مثيرةً يحلّ فيها "التخيّل الشخصي" مكان
"الروايات الكبرى" السابقة، مزيّنةً بفتنة الحداثة ذاتها، مثل البوح
الحقيقي وواقعية السرد والتقارب بين البطل والقارئ، من "الكليب"
إلى "السبوت" مروراً بالـ"بثّ المباشر" والنشاط المشترك التي تسمح
باعتبار ما يُعرَض على "أنّه حقيقي" وتسمح سواءً بالتصديق أم بالمشاركة
وكل ما على طريقتها توفّره أيضاً "التجهيزات" و"القدرات"، التي غالباً
ما تخضع لـ"لمؤثرات الحقيقية" وإشراك المشاهد "بفعّالية"، أي باختصار
من تلفزيون الواقع إلى العاب الفيديو، وذلك من ضمن أمثلةٍ أخرى
(وكم هي كثيرة!)، على غرار ما كان يعلنه فيما مضى شعار راديو "أر.تي.إل
RTL": "المهمّ هو التأثّر". فما يسعى وراءه هنا هو "التأثير" والمباشر،
المرتبط دونما اعتراضٍ بالحقيقيّ، وبالتالي بالصادق، وربما هذا هو الأهم.
ويرى "بونيو" أن هذه "العَرْضِية" تؤسس "لطغيان الحقيقيّ والمعيوش"

وهو ما لا بدّ من التوافق معه بدون أي أسفٍ بالضرورة. فلماذا يتمكّن
المتمسّكون بالثقافة القديمة، مثل الرواية "المتباطئة" أو الأعمال الأدبية
الصعبة، من الوصول وحدهم الحقيقة السامية؟ أليس هذا هو الصراع القديم
بين النخبويّة والشعبويّة، أو هو وجهه الآخر المثقل بالمسؤولية، أي صراع
أدب الجهد مقابل التفتيش عن المتعة؟

والجواب هو كلاّ! فكما عند راي، إنّما عبر "أخلاقية العرض"، هناك النظرة
في الموضوع الديموقراطي، ودراسة تحريف ما في مفهوم الفردانية :
ما وضعت مواصفاته عبر مسيرةٍ طويلةٍ من "تفكيك المشاهد الفنّية
والإعلامية"، واختُصِرَ إلى "فقّاعةٍ نرجسيّة"، والذي، عبر التمتّع
"بالتسميم العاطفي" الناتج عن نفحات "الواقع" هذه، قد ينتهي إلى الغرق
في نسيان "الموضوع المشترك" وفي مجرّد الأحلام والكوابيس، الحميميّة.
وفي الواقع ما الذي يحدث عندما لا يتبقّى للأفراد من فضولٍ إلاّ لما يلامس
عالمهم الخاص، وهذا ما يمكن أن يحدث مع الانترنت (حتّى وإن لم يقتصر
الأمر عليها)؟ وعندما يُفضَّلُ ما يؤثّر مباشرةً على الأعصاب، والإغراق في
الاحتفال، والتواصل في إحساسٍ مشترك، و"الحضور الكليّ"، على الرؤية
من بعيد، عبر الرموز، بشكلٍ متميّز، باختصار عندما يُفضَّلُ "المعيوش"
على الإيحاء؟ عندها "تتمّ الإطاحة بالتصوّر الفكريّ وبمواصفاته النقدية"
ويَختَصِرُ "الصراع الجسديّ" طريق المنطق، ويؤدّي إلى الانصياع دون
نقاش، ويَمْحِي بروز "الحياة" "التصوّر الفكريّ"، وهو ما يجعل أيّ رؤيةٍ
مستقبلية سطحيّةً، إن لم يلغِها. هذا ما توحي به تماماً العبارة الشبابيّة "إننا نتفجّر!

on s’éclate".وهكذا بيتلاشى الحسّ-الدلالي لصالح الحسّ-الانفعالي
الذي يأخذ شرعيّته من نفسه. هذا ما سيولّد "مجتمعاً مقتصراً على
الأحاسيس"، لا عالم آخر مشترك فيه إلا المشترك النرجسي، ولا أيّ معيارٍ
آخر للأثر الفنّي الفاعل سوى قوة التأثير الفوري؛ وهذا على كلٍّ ما أدركته
بسرعة دعاية الأنظمة التوتاليتارية الخبيرة بالعروض الجماعية المشتركة.


بالطبع إنّ الأمر لم يصل بنا إلى هذه الحالة - رغم أن هذا ما توحي إليه خطّة
السيد سيلفيو برلوسكوني للوصول إلى السلطة، والمقدَّمة هنا على أنها
خطابٌ صحيحٌ مغلوط -، ولا يقوم بونيو بقراءة مانوية (الصراع بين الخير
والشرّ) لتحوّلاتنا المعاصرة. لكن أن تكون العاطفة والانصهار في شكلها
البديهي، وفي تجلّيها، كافيتين كضمانة للحقيقة، فهذا أمرٌ مقلق للديموقراطية
بشكلٍ جوهري.

ذاك أن المنطق يُقصى عندها، وبالتالي المشاركة في الدلالات. فالإيمان
بشفافية الأنا وهي من طينة المتخيَّل، والاعتقاد بصفاء العاطفة، يعني قبول
الميول الفطرية، و"انفلات" الغرائز واتّخاذها كل حجمها. لكن المكبوت
الذي يُصوَّر على أنّه حقيقيّ هو ما يغذّي "البربرية"، فتمّحي الحدود بين
الغريزة والخارج، ويزول الفارق في الوضع بين مختلف حاجات الفرد، تلك
الخاصة به وحسب، وتلك التي تكون ملكٌ للجميع.

وليس دون بعض الرطانة أحياناً، يقدّس بونيو السرّ الحميم، وأدب المشهد
مثل الانقطاع المستحسن الذي كان متوفّراً سابقاً، ما بين الواقع والوهم
في المسرح وفي السينما؛ وبكل شجاعةٍ يعاكس التيّار: مقابل طليعةٍ ما
ومقابل غنائية "غي دوبور"، وخصوصاً مقابل بعض قيم "نزعة المساواة الديموقراطية"، التي تساهم، إذا ما أردنا طرح الموضوع الديموقراطي
في تقويض ما هو ضرورةٌ مطلقة، أي الإبقاء على الفرق بين القوى الفظّة
للـ"هذا"، التي يمكن التلاعب بها ببراعة.

ودانيال بونيو، على غرار أوليفييه راي، هو "مزعجٌ" محبّب، وهاتان
الدراستان تشدّدان على خطورة الخلط ما بين توخّي الجماهيرية وتوخّي الديموقراطية؛ والثمن هو تحريفٌ خطيرٌ في مفاهيم الحرية والمساواة. لكن
إذا كانت براعة هاتين الدراستين الذكيّتين ممتعة، إلا أنّه يحوم فوق القارئ
ظلّ إرهاقٍ عميق؛ إذ لا يُعرَفُ كيف يجب النظر في هذا التحوّل نحو نرجسيةٍ
مدمّرةٍ، سواء لدى الشخص أم في المشروع الجماعي. فهل أن الإنسان هو
ذو طبيعةٍ سيّئةٍ للغاية، تميل فوراً إلى تفضيل ما يرضي نزواته، ومؤهّلةٌ
تلقائياً للرضوخ أمام غرائزه الأنانية؟ وهل أن أزمة "القيم" هذه، أزمة
الاستبطانية، أزمة العقد الاجتماعي، هي التوجّه الفعلي لتاريخ الديموقراطيات
الغنيّة؟ وهل هناك تلاقٍ حتميّ ما بين تطوّر الديموقراطيات والقيم التي يبشّر
بها النظام الليبرالي الاقتصادي؟ إنها أسئلةٌ مركزية. وما سيقدّم الوسائل
اللازمة للشروع في الإجابة عنها هو عمل "إيفا إيللوز" و"ميكي ماك غي".
تدرّس " إيللوز"، أستاذة علم الاجتماع في جامعة القدس العبرية، نشوء
"إنسان العاطفة". ولا حاجة للتعليق على هذه العبارة، فمن الجليّ جداً أن
حداثتنا مرتبطة بـ"ثقافة العاطفة المستجدّة"، من "الجانب الأنثوي" عند
البشر إلى "شعبويّة" رجال السياسة، مروراً بهاجس الدوافع النبيلة، الخ.
والحال أن الأحاسيس، في نظر إيللوز، هي بالطبع ظواهرٌ سيكولوجية
إنّما أيضاً "وربما أكثر حتّى، حقائقٌ اجتماعية وحضارية". وهكذا فإن
الفرضيّة التي تعالجها بطريقةٍ آسرةٍ تقيم علاقةً وثيقةً بين تطوّر الرأسمالية
وبين تغيّر الأهمية المعطاة للعواطف وللتعبير عنها والتي شيئاً فشيئاً
أصبحت خلاصة الهوية الشخصية. وهذا ما يفاجئ، وما يزيل الغشاوات
عن الأبصار.

وما تدرّسه إيللوز بشكلٍ أساسيّ هي الحداثة بحسب الولايات المتحدة؛ إنّما
من الواضح أن عرضها ينطبقُ أيضاً على مجمل الدول المتطوّرة. وهي تلفِتُ
الاهتمام أولاً كيفَ، إثر دخول التحليل النفسي، (ويستحق هذا الاهتمام أن
يتوضَّح أساساً) تمّ تصميم "الأنا العادية" على أنّها "كيانٌ غامض"، على
كل فردٍ أن يدركه ويعبّر عنه.

ففي عشرينات القرن الماضي، جاء دخول "متخيّل التحليل النفسي" إلى
عالم العمل، فالمدير الجيّد يجب أن يكون محلّلٌ نفسيٌّ جيّد؛ وسوف تُعتَبَر
النزاعات موضوعاً يبحثه علم النفس؛ وسوف تُعطَى الأهمية "للإنصات"
وسوف تكون الأخلاقية التواصلية جوهر الشركة بالذات. ولم يعُد الصراع
الاجتماعي سوى نوعٍ من سوء التفاهم. وفي هذا السياق سوف ينظر إلى
الكفاءات والقدرات المهنية على أنّها من نتاج الأنا العميقة. والفشل، أو الميل
إلى الإضراب، سوف يُعتَبَر نوعاً من الاضطراب الحميميّ الذي يجب حلّه. 


وهذا المفهوم، الذي يساعد في زيادة الإنتاجية يمتدّ خارج الشركة بفضل
مأسسة علم النفس. وهكذا تحوّلت العلاقات الحميمة أغراضاً خاضعة للقياس
"يمكن إقامة المقارنة بينها، وتخضع للتحليل بعبارات الكلفة والربح"، فيما
تتضخّم النزعة الذاتية والشعوريّة طالما لعواطفنا قيمة، وبمجرّد أنّه يمكن
التعبير عنها.

إذاً باتت الصحة وتحقيق الذات أمراً واحداً ووحيداً. فلكلّ "أناه"، وتمايزه
وعواطفه التي أصبحت رأسمالاً جديداً. ويجب الاعتراف بكل معاناةٍ لا على
أنها خطأٌ أخلاقي، بل على أنها مركّبٌ للفردانية، مع دائماً محاربة العطل:
وهذا ما يؤكّده تصنيف الأمراض في "كتيّب تشخيص وإحصاء الاضطرابات
الذهنية" الصادر في العام 1954، والذي وسّع كثيراً كلاًّ من حالات
الاضطراب التي تعوّض عنها شركات التأمين، وسوق شركات تصنيع
الأدوية. لكن هذا الكتيّب الذي وبشكلٍ أجوف الحالة "الطبيعية" على أنّها
الاستعداد "للانفتاح". وهكذا يُعاد ضخّ الأنا المُعانية في السوق، على أنّها
نتاجٌ متهاوٍ يجب إصلاحه، وعلى أنها ورقة قوّة خصوصيّة يجب الاستفادة
منها، وبدون أن يحدّدُ أبداً بشكلٍ واضحٍ كيف يكون "تحقيق الذات" الناجز.


هكذا تتّخذ الرأسمالية وجهاً إنسانياً، وتنمحي الحدود بين العام والخاص
وتنتصر إيديولوجية الخيار الليبرالية التي يتمّ التعبير عنها بكل تناقضاتها
ومآسيها على مواقع التلاقي على الانترنت... وهكذا أصبح ما كان يبدو
وعداً بالتحرّر وبالسعادة ضغطاً مستبطناً خفياً "طبيعياً"، إذ أُلغيَ "بناؤه".
فبدفعٍ من هذه المعايير الجديدة للمساواة والحرية والشفافية والعقلانية
اكتسبت الفردانية الحديثة حياةً عاطفيّةً "خاضعةً لمنطق العلاقات والمبادلات الاقتصادية". وتزاوج الاقتصاد الخاص مع اقتصاد السوق باسم قيم
الديموقراطية المعدّلة والمفسّرة والمعتمَدة من جانب نظامٍ اقتصاديٍّ بعينه
عازمٌ على تصوير نفسه على أنّه هو المرادف للديموقراطية.

إذاً يبدو أن هذه "الحالات المرضية للفردانية" تنتج فعلاً عن التلاقي بين
مُثُل الديموقراطية وأهداف رأسماليةٍ جديدة. لكن كيف لنا، إلاّ إذا كنّا نأمل في
حدوث ثورة، أن نتصوّر مستقبلاً لا يزاوَج فيه بين المواطن والمستهلك، بين
"الحقّ لـ..." والحقّ في..."؟ إنّ ميكي ماك غي، عالمة الاجتماع الأميركية
الشمالية، وبعد أن درست ظروف ظهور تقنيات التفتّح الذاتي في الولايات
المتحدة ودلالات تزايد الطلب بشكلٍ مكثّفٍ عليها، تذكّر هي بدورها أن "البنى الاجتماعية والكيانات الفردية تتضافر في عملية التكوين، إذ هي مترابطةٌ
فيما بينها لدرجة أن أيّ تغييرات في الأولى تؤدّي إلى تغييرات في الثانية
والعكس يصحّ أيضاً".

مدانٌ لأنّه لم يَعزِمَ أن "يُصبِح ... كل ما يمكن أن يكونه"


لكن إذا بات كل فردٍ مجبراً من الآن وصاعداً أن "يعمل على نفسه" وأن
يعتبر نفسه "رأسمالاً بشرياً"، وذلك بحدّةٍ أكثر كلّما تزايد عدم الأمان
الاجتماعي، أي إذا بلغ الارتهان أشدّه وحمّل الفرد نفسه مسؤولية عدم
الاكتفاء الاجتماعي، على أنّه مذنب في كونه لم يتحلّى بالعزم الكافي
"ليصبح كل ما يمكنه أن يكونه". إلا أن الكاتبة تسلّم على الأقل بأن هذا
السعي الحثيث إلى تحقيق الذات قد "يشكّل عامل استقطابٍ لتغييرٍ اجتماعي"
وهو ما يبدو لها شكلاً "ما قبل سياسيّ" للاحتجاج، يمكنه أن يدفع في اتجاه 

"المشاركة السياسية".

وهذا ما يفترضُ في آنٍ معاً الاعتراف "بأن رغبة الفرد في صنع حياته لم
تعد تمتّ إلى النرجسيّة، أو إلى حميّة تحرّرية بديلة، بل إنّها حوِّلَت بالأحرى
أكثر فأكثر ضرورةً، كشكلٍ جديدٍ من "العمل غير المادي"، مثل النشاطات
الذهنية والاجتماعية والعاطفية"، المطلوبة من أجل المشاركة في سوق
العمل"، وكذلك الاستناد إلى هذا التطلّع لكي يطال المطالبة بعالمٍ حيث
"التنمية الحرّة لكل فردٍ تُفهم على أنّها شرطٌ للتنمية الحرّة للكلّ". وهذا
ما يعني بالتأكيد أنّه لكي يُعاد التأكيد على القيم المؤسِّسة للحسّ المشترك
يجب إسقاط أوهام الحرية، لكن بالاستناد إلى ما يحمل في ذاته، بطريقةٍ
متناقضةٍ إنما متماسكة، التطلّع إلى حياةٍ أفضل، في ظلّ خلافات الحداثة
وشِراكها.

25‏/11‏/2012

هيلين كيلر (7/3)



في اليوم الثاني


وفي اليوم التالي , اعني اليوم الثاني من أيام النور سأستيقظ مع الفجر لأرى
تلك المعجزة الهائلة: معجزة انسلاخ الليل عن النهار وتحول الطبيعة مع
عالم مطبق

إلى مشرق, سأقف باجلال وخشوع أمام هذا المنظر البديع الرائع للشمس
وهي تنتشر على الأرض توقظ من سبات المنام.

وسأخصص هذا اليوم لشيء آخر.. إني اريد أن آخذ لمحة سريعة عن هذا
العالم, ماضيه وحاضره سيكون عليِ أن أقف على مظاهر تقدم الإنسان
وعلى الآثار التي تعبر عن مختلف العصور..لكن كيف استطيع أن اضغط كل 

هذا في يوم واحد؟

من خلال المتاحف طبعا..لقد سبق لي أن زرت في اكثر الأحيان متحف
نيويورك للتاريخ الطبيعي لألمس بيدي كثيرا من الأشياء المعروضة هناك
بيد أني كنت اتوق لأرى هذا بعيوني أنا تاريخ الدنيا المتشابك المتكاتف بما فيه
من أولئك الذين كانوا يعيشون هاتيك العصور اجناس بشرية حيوانات نحتت
أو صورت في بيئتها الأولى وشكلها الأصلي سأرى الجثث الهائلة لحيوانات
زاحفة انقرضت الآن كالديناصور التي جابت هذه الأرض قبل أن يظهر
الإنسان بقوامه الصغير وعقله الكبير ليفتح مملكة الحيوانات تلك معارض
واقعية لمظاهر التدرج والإرتقاء بالنسبة للحيوانات وبالنسبة للإنسان وبالنسبة
كذلك للأدوات والعدد التي استخدمها الإنسان من اجل أن يجد لنفسه حياة آمنة
على ظهر هذا الكوكب.. وألف مظهر ومظهر للتاريخ الطبيعي
كم يا ترى عدد قراء هذه الأشياء من الذين تنبهوا لضرورة مشاهدة هذه المعالم
الموسومة الحية في ذلك المتحف الملهم بكل معاني الحياة؟ كثير منهم بطبيعة
الحال لم تكن لديه الفرصة ليطبق ما يشاهد على ما يدرس,على أنني متأكدة من
أن كثيرا من أولئك الذين سنحت لهم الفرصة لم يستعملوا ابصارهم كما يجب..

هناك في تلك المتاحف يوجد بكل تأكيد المكان الذى يستحق من المرء أن 

يستعمل بصره ..انت الذى ترى يمكنك ان تقضي اياما منتجة هناك,أما أنا في 
هذه المرحلة الخيالية التي لا تتجاوز ثلاثة أيام من عمري فلن استطيع أن 
احظى بأكثر من لمحة عابرة ثم أغدو إلى ليلي الحالك .

وستكون وقفتي التالية في متحف العاصمة للفن, وكما كشف المتحف الوطني
للتاريخ الطبيعي عن مختلف المظاهر المادية لهذا العالم فإن متحف العاصمة
يكشف لنا عن العديد من حقائق الفكرالإنساني . فمن خلال تاريخ الإنسانية
نرى أن حااجة إلى التعبير الفني كانت من الضرورة بحيث تضاهي الحاجة
للطعام,إلى المأوى , إلى الأولاد..هناك في تلك الغرف الفسيحة الأرجاء من
متحف العاصمة تنتصب أمامي حياة مصر واليونان وروما متجلية في فنونها
كنت أعرف جيدا عن طريق اللمس الهياكل المنحوتة,وقد اخذت صورة عن
هيكل بارثيون – هيكل الآلهة أثينا في اكروبوليس أثينا كما يزعم - وادركت
الجمال البديع الذى كان طابع المحاربين اليونانيين الأمناء: أي أبولو إله
الجمال, وفيتيس ربه العشق, وتمثال النصر المجنح في ساموتراس,كل هذه
صديقة لأناملي,كانت قسمات وجه الشاعر اليوناني هوميروس – شاعر
اعمى صاحب ملحمتي الإلياذة والأوديسا - بلحيته واساريره كانت عزيزة
على ملمسي, إنه هو كذلك كان اعمى, كانت يدي تجد راحتها وهي تلمس
الرخام اليوناني المنقوش تماما كما ألمس نحت الأجيال المتأخرة.. قد مررت
بيدي على لوحة جبسية من صنع النحات الإيطالي مايكل انجلو للنبي موسى
واركت عبقرية النحات الفرنسي رودان– اشهر اعماله تمثال المفكر - لقد
ظللت معجبة بإبداع الفكر المتجلي في النحت الخشبي القوطي إن هذه الفنون
التي يمكن لمسها لها معان خاصة بالنسبة إلي بيد أن معانيها وهي مرئية افضل
منها وهي ملموسة.استطيع فقط أن اصل عن طريق الحدس والتخمين إلى
الجمال الذى تظل بقاياه وملامحه غائبة عني استطيع أن ابدي اعجابي
بالخطوط البارزة التي تزين زهرية من الزهريات الإغريقية بيد أن الزخارف
المرسومة تظل بالنسبة إلي مفقودة .

نعم هكذا سأقضي ثاني يوم من أيام نوري, سيكون علي أن انفذ إلى اعماق
الروح الإنساني من خلال ما خلفه ذلك الإنسان من فنون. إن الأشياء التي
اعرفها عن طريق اللمس يجب علي اليوم أن اراها رؤيا العين..هذه الروعة
الكاملة التي يتوفر عليها عالم الرسم, ينبغي أن تتفتح أمامي في ابهى مظاهرها
من العهود الإيطالية الأولى بمظهرها الديني الهادي إلى العصور الحاضرة
بمظاهرها المحمومة المضطربة.. سيكون علي إن انظر بإمعان إلى الصور
على القماش والتي هي من عمل رفاييل وليوناردو دافنشي , تيتانم ,رمبرانت
سأقدم لعيوني عيدا عندما لها بأن تقف قليلا أمام اللون الدافئ لفيرونيز , وبأن
تدرس اسرار الكريكو, وبان تكتسب نظرة للطبيعة من كوروت آه هناك كثير
من المعاني الثرية, ومن الجمال البديع في شتى الفنون التي تمثل مختلف
العصور بالنسبة إليك انت الذى تنعم بعيونك تستطيع أن ترى بها
كلما اردت ذلك .

وبعد هذه الزيارة القصيرة لمتحف الفن هذا سوف لا استطيع أن اعيد النظر
إلى جانب واحد من هذا العالم العظيم, من عالم الفن الذى بظل في متناولكم
انتم كل وقت وحين.. سأستطيع فقط أن احصل على بعض الإرتسامات
السطحية..عدد من الفنانين يذكرون لي أن تقدير الفن العميق الصحيح من
شأنه أن يعمل على تربية حاسة النظر.

إن المرء عن طريق تجربته يعرف كيف يقدر الكفاءات
يتعلم عن طريق التجربة وامعان النظر كيف يزن الأمور ويتأمل الإمكانات
وابعاد الخطوط وترتيبها واشكالها وألوانها.. لو كانت لي عيون كم اكون سعيدة
الحظ أن اتعاطى دراسة جذابة من هذا التنوع.

يحكى لي دائما عن عدد من الناس من بينكم –ايها الذين تبصرون– لا يهتم
بعالم الفنون هذا, وأنه بالنسبة إليكم يظل عالما مجهولا بل ليلا مظلما..
فهو – أي ذلك العالم – لا يري النور ولا يحظى بمن يحاول اكتشافه .

سأترك متحف العاصمة وأنا اشعر بمرارة ما عليها من مزيد. فقد كنت افضل
أن اظل هنا بجانب " المفتاح " الذى يحتضن انواع الجمال , الجمال الضائع
المهمل..نعم إن هؤلاء الذين بيصرون لا اراهم في حاجة إلى متحف من هذا
النوع يبحثون فيه عن مفتاح الجمال ذلك, إن هذا المفتاح يظل منتظرا على
الأبواب, فهناك متاحف صغيرة تمثل في تلك الكتب التي تضمها رفوف المكاتب
لكني بطبيعة الحال وفي هذا الوقت المحدد من أيام " رؤيتي الخيالية " ملزمة
أن اختار المكان الذى يوجد فيه المفتاح الذى يكشف لي عن اعظم كنز واثمنه
وفي اقصر وقت ممكن كذلك .

وفي مساء اليوم الثاني من ايام النور سيكون علي أن اقضيه في مسرح أو سينما
لقد حضرت إلى الآن طائفة من التمثيليات المسرحية من كل نوع وشكل , بيد
إن حركة الممثلين إنما كانت نهجى لي من طرف رفيقتي ..لهذا فكم اكون سعيدة
أن ارى اليوم عن طريق عيوني وانا دون حاجة إلى ترجمان شخص "هاملت"
الفاتن و"فالستاف" العاصف بين الزخارف الملونة لإليزابيث, وكم اكون سعيدة
أن اتتبع سائر حركات هامليت الرشيق القد وسائر اطراف فالستاف القوى
الجسم سأشاهد فقط تمثيليه واحدة , وسيكون علي أن اجابه عددا من المفاجآت
بما في ذلك الإشارات الفنية التي ارغب في أن أراها بعيني..انتم الذين لكم
عيون يكون في متناولكم أن تروا أي شيء يروقكم مهما تريدون,فكم منكم
يا ترى عندما يقع بصره على تمثيلية في مسرح أو رواية في سينما أو ألعوبة
كم منكم يزجي آيات شكره وتقديره لمعجزة البصر التي ينعم بها والتي تجعله
قادرا على أن يستمع بلونها وحسنها وحركتها؟

لا استطيع أن اتمتع بجمال الحركات الإيقاعية, وكل ما كنت استطيعه في
دائرتي الضيقة هو أن ألمس بيدي.. كل ما كان بمقدوري أن لتخيل, ولكن في
غموض فقط جمال بافلوفا " – راقصة روسية - ومع ذلك أعرف بعض
الأشياء البهيجة في ايقاعها وهي تنساب من تحت قدمي على وجه الأرض
اتصور جدا أن حركة ايقاع النغم يعتبر من اجمل المناظر في العالم واستطيع
كذلك أن ادرك بعض الأشياء عن طريق التحسس بأناملي عن السطور
المنقوشة, فإذا كان هذا الجمال الهادئ محببا إلى الناس فكيف يمكن أن نتصور
الإبتهاج الذى يتملكنا ونحن نرى هذا الجمال الصاخب أمام ابصارنا ؟
ولا انسى احدى الذكريات العزيزة علي يوم أذن لي الممثل الأمريكي جوزيف
جيفرسون فسمح لي بلمس وجه ويديه عندما كان يقوم ببعض الحركات ويلقي
بعض الكلمات من قصته المحببة لدى الشعب الأمريكي " ريب فان وينكل "
لقد استطعت فقط أن ادرك بعض الملامح عن عالم القصة لكنها كانت تافهة
وسوف لا انسى ابدا تلك المتعة التي شعرت بها في تلك اللحظات ومع ذلك
فكم هي الأشياء التي ضاعت مني وكم هي المتعة الفائقة بالنسبة للذين يرون
والذين يمكنهم أن يقتبسوا عن طريق ابصارهم ومسامعهم الكلمات والحركات
المتبادلة بين الفنانين وفي تمثيلية ما .

لو استطعت أن ارى يوما واحدا فقط سأعرف كيف ارسم في ذاكرتي مشاهد
لآلاف التمثيليات من التي قرأتها أو التي تقلت لير عن طريق الحروف
الهجائية.. وهكذا فإنه في هذا المساء من يومي الثاني لرؤيتي الخيالية فإن
الرسوم والخطوط العريضة للأدب الدراماتيكي ستزيح النوم عن بصري.


17‏/11‏/2012

هيلين كيلر -لو ابصرت ثلاث ايام (7/2)




لو ابصرت …


اعتقد أنه من الممكن أن ارسم على سبيل التخيل ماذا يكون علي
أن ارى لو أنني وهبت نعمة البصر فقط لمدة ثلاثة أيام ..فحاولوا
أن تشاركوني في هذا الخيال كذلك..ركزوا تفكيركم فيما اقول
وأنا احاول معكم أن نجد استعمالا للزمن طوال هذه الأيام الثلاثة
التي سنبصر فيها بأم عيوننا نحن.

عندما تشعر بأن الليلة الثالثة ستحمل معها اقتراب عودة الظلمة الدائمة
وعندما تشعر بأن الشمس سوف لا تعود ابدا للظهور مرة اخرى, كيف
تقضي تلك الأيام الثلاثة الثمينة المحددة المزدحمة؟ ماذا ستختار أن يقع
بصرك عليه ؟

سأختار أنا طبعا أن ارى اكثر الأشياء التي اصبحت عزيزة علي طوال
السنوات المظلمة التي عشتها وانتم كذلك ولا شك ستفضلون أن تتركوا
لعيونكم الحرية الكاملة لتقع على الأشياء التي امست محببة لديكم
وذلك حتى تستطيعوا أن تحتفظوا لأنفسكم بذكراها في الليل البهيم
الذى يعترض طريقكم.

نعم اذا ما منحت بقدرة قادر فرصة النظر لمدة ثلاثة أيام اكون بعدها
مهددة بانتكاسه تسلمني إلى الظلام الدائم , آنذاك سأوزع هذه الفترة
من حياتي على ثلاث مراحل:



في اليوم الأول


في اليوم الأول سيكون أول ما اقوم به هو رؤية هؤلاء الناس الذين
جعلوا من حياتي شيئا يستحق الذكر بفضل عطفهم ولطفهم واخلاصهم
أولا سيكون علي أن أنعم النظر طويلا في محيا عزيزتي واستاذتي
الآنسة سوليفان ماسي التي وردت علي ذات يوم أنا ما ازال طفلة وفتحت
أمامي هذا العالم الجديد..

لا اريد أن تكون رؤياي عابرة تقتصر على تلمح الخطوط البارزة لأسارير
وجهها من اجل الإحتفاظ بذكراها في مخيلتي فقط, ولكني اريد أن ادرس
ذلك الوجه درسا, لأقرأ فيه الشاهد الجلي على ذلك العطف والود والصبر
الذى كانت تتحلى به, وهي تقوم لأداء مهمتها الشاقة من أجل تربيتي
وتعليمي.

أريد أن ارى عيونها المليئة بالعزم والقوة التي جعلتها تقف وقفة شهم
حازم أمام سائر المصاعب.. عيونها المليئة بالرحمة والشفقة بجميع
أفراد الإنسان !

لا اعرف ماذا سأراه في اعماق قلب صديقة من خلال العين :
" نافذة الإنسان " كنت استطيع أن " ارى" بواسطة أناملي واصابعي فقط
الملامح المتجسدة لوجه من الوجوه, استطيع أن اكتشف الفرح والحزن
وسائر الإنفعالات الظاهرة..اعرف صديقاتي واصدقائي عن طريق لمس
وجوههم لكني لا اقدر حقيقة أن ارسم صورة في مخيلتي لأشخاصهم عن
طريق مجرد اللمس اعرف شخصياتهم طبعا من خلال " الوسائل الأخرى"
من خلال الأفكار التي يعبرون لي عنها, من خلال اعمالهم وتصرفاتهم
مهما كانت.. ومع ذلك فإنني محرومة من النفوذ إلى اعماقهم, ذلك النفوذ
الذى يتم دون شك عن طريق النظر لوجوههم عن طريق ملاحظة ردود
الفعل التي يقابلون بها مختلف النظريات التي يسمعونها أو الظروف
والملابسات التي تمر بهم عن طريق التفاعلات والإحساسات المباشرة
والعابرة التي تتحلى من العيون وملامح الوجوه .

اعرف جيدا الصديقات اللاتي يترددن علي لأنهم ظللن عبر الشهور
والأعوام, يشخصن أمامي في شتى المظاهر بيد أن الزملاء العابرين ليس
لي منهم إلا بعض الإنطباعات الناقصة , انطباعات توفرت عليها عن
طريق احتضان أو سلام ,عن طريق بعض الكلمات التي ألتقطها من
بين شفاههن, بمساعدة أناملي أو ببعض الكلمات التي ينقرن بها على
راحة يدي.

كم سيكون سهلا وكم سيكون من بواعث الإرتياح بالنسبة إليكم. انتم
الذين تستطيعون أن تبصروا بعيونكم وأن تدركوا بكل سرعة الصفة
الأساسية لأشخاص الآخرين بمجرد رؤية الحركات التي تصحب التعبير
عادة بمجرد رؤية اهتزاز الأطراف بمجرد اشارات اليد.. ولكن هل خطر
مرة ببالكم أن تستعملوا بصركم لتنفذوا به إلى الطباع الداخلية لصديق لكم
أو لرفيق ؟ أليس معظمكم – أيها الذين تبصرون – إنما تدركون عن
طريق الصدفة فقط معالم الوجوه وقسماتها ثم تتركون ذلك يمر كأنه
لا يعني ..؟

ولأضرب مثلا ادق , اسألكم هذا السؤال: هل تستطيعون أن تصفوا بدقة
وجوه خمسة من الأصدقاء الذين تعرفونهم جيدا؟ بعضكم ربما قدر على
ذلك لكن عددا كبيرا منكم لا يستطيع.. وكتجربة خاصة قمت بها انا..اذكر
انني سألت بعض الأزواج ممن عاشروا زوجاتهم طويلا عن اللون الذى
تمتاز عيون زوجاتهم..وفي اغلب الأحيان عبروا لي عن خجلهم وارتباكهم..
واعترفوا بأنهم لا يعرفون حقا ألوان عيون زوجاتهم ! ولهذا اتذكر بهذه
المناسبة أن كثيرا من الزوجات لا يفتأن رافعات عقيرتهن بالشكوى من
ازواج لهن لا يولون اهتمام لما يطرأ على البيت من ترتيبات طارئة.. إن
عيون هؤلاء الذين يبصرون لا تلبث أن تعتاد رؤية الأشياء ولا تلبث أن
تصبح تلك الأشياء التي تجري من حواليهم رتيبة مبتذلة والناس لا يعيرون
عادة اهتمامهم إلا لبداية الأمور أو للغريب غير العادي منها, على أنه مع
كل هذا ففي غلب الأمور التي تستحق المشاهدة نلاحظ أن العيون تمسي
كسلانة لا تتحمل استجلاء وهناك حقيقة ينبغي أن تسترعي اهتمامنا هي
أن مجالس القضاء والمحاكم تكشف كل يوم عن خطأ الذين يتقدمون إليها
على أنهم " شهود عيان" فعلا هناك عدد من الحوادث يشاهد على عدة
طرق تبعا للأداء المختلف لشاهدي العيان ! احدهم تكون ملاحظته اقوى
من الآخر لكن القليل من الناس هو الذى يري كل شيء يدخل تحت
مجال بصره .

آه… ما اكثر الأشياء التي علي أن ازورها لو توفرت لدي حاسة البصر
لمدة ثلاثة ايام فقط .

نعم سيكون اليوم الأول من اكثرها ازدحاما في العمل .وسيكون علي أن
ادعوا اصدقائي واعزائي لأتملى من النظر إليهم طويلا, وذلك لأطبع
على مخيلتي المشاهد الظاهرة للجمال الذى يعلوهم سيكون علي أن
اترك الفرصة لعيوني كيما تأخذ راحتها في النظر العميق إلى وجه طفل
من الأطفال وذلك لآخذ فكرة عن الجمال الصاعد البرئ الذى يتقدم على
مرحلة شعور الشخص بما ينتظره في الحياة من صراع ونزاع.وكذلك
فإن مما اضطرني دون شك أن احدق بإمعان في عيون كلابي الوديعة
الأمينة الصغيرة اللذين يمتازان بجديتهما وذكائهما.. وكذلك كانت لي
نعم العزاء ونعم السلوى بملمسهما الناعم وصداقتهما الوفية.

في هذا اليوم الأول المليء بالأشغال سيكون علي أن ارى هذه الأشياء
البسيطة الصغيرة التي يضمها بيتي, اريد أن ارى هذه الألوان الدافئة
التي تتوفر عليها هذه الزرابي التي اطؤها بقدمي هذه الصور التي تزدان
بها الجدران نعم هذه الأشياء الزهيدة والمحببة في الوقت ذاته التي تحول
البناء من مجرد بناء إلى حيث يمسي بيتا نأوي إليه ونشعر بالحنان نحوه
إن عيوني ستتركز بإجلال على هذه الكتب بحروفها البارزة التي مرت
بها قراءة منذ زمن ستكون عندي اكثر حظوة واعتناء من تلك الكتب
المطبوعة التي اعتادها المبصرون إن جميع تلك الكتب سواء منها التي
قرأت بنفسي أم التي تليت علي أقامت أمام مخيلتي طوال الليل الذى
صحبني في حياتي اقامت الفجوات العميقة للحياة الإنسانية, وللفكرالإنساني
وفيما بعد ظهر اليوم الأول من هذه الأيام المبصرة الثلاثة, سيكون من
برنامجي أن اقوم بجولة طويلة داخل الغاب لأني اريد لعيوني أن تسكر
أن تغيب في جمال الطبيعة في محاولة من اجل أن استوعب – في اوقات
قليلة جدا – هذا البهاء العظيم الذى يعرض نفسه باستمرار على اولئك
الآخرين الذين يتوفرون على حاسة النظر ..وفي طريقي إلى بيتي من
الضيعات , حتى يتسنى لي أن اشاهد بعيني الجياد الكادحة التي تشق
الأرض بمحراثها , أو اشاهد فقط جرارا من تلك الجرارات , واقف بعين
رأسي على أولئك الرجال الذين يفترشون الغبراء في هدوء وايمان وقناعة
وهناك سأقوم بأداء صلاة الشكر أمام هذا الرواء الذى يتجلى في ألوان
الشمس عند مغربها.

وعندما يخيم الظلام هناك ايضا سيكون في متناولي أن استمتع بالمتعة
المزدوجة عندما يكون في استطاعتي أن ارى ايضا ,عن طريق النور
الصناعي الذى شاءت عبقرية الإنسان أن تبتكره حتى يمدد في أمد الضوء
في الوقت الذي تحكم الطبيعة فيه على الناس بالظلام !
وعند الليلة الأولى من هذا اليوم أيامي الناظرة سوف لا يجد النوم سبيلا
إلى عيوني , لأن ذكريات الساعات الماضية ستزدحم على مخيلتي.

13‏/11‏/2012

هيلين كيلر - لو ابصرت ثلاث ايام (7/1)



مقدمة


تعرضت هيلين كيلر آدامز وهي في الشهر الخامس من عمرها لمرض حرمها 

من بصرها وسمعها ومنعها ايضا من الكلام بيد انها بفضل العون الذى قدمته لها 
استاذتها الآنسة آن سوليفان جون ماسي استطاعت أن تتعلم النطق وهي في سن 
العاشرة وبمرور الأعوام عرفت كيف تتخلص من عالم البؤس والصمت إلى عالم السعادة والكلام، وبعد تخرجها بتفوق من كلية رادكليف سنه 1904 انصرفت 
للقراءة والتأليف وقد مكنتها شهرتها من التنقل عير كثير من يلاد الدنيا حيث لقيت الترحيب والتكريم من كل رجال الفكر وقد كان في ضمن اليلاد التي زارتها مصر
 سنه 1952بصحبة سكرتيرتها بلي طمسون

وكان كتابها ( قصة حياتي ) The Story of My Life أول ما ألفت
ولها : " The World I Live In"
و : " The Song of The Stone Wll"
و : " The Practice of Optimism"
وغيرها عشرات المقالات والكلمات التي توحي بالشكر لله على نعمة الحواس
وتدعو إلى استعمالها فيما خلقت من اجله , وإلى التأمل في مقدار ما نملكه من 

ثروة تشغلنا عنها متاعب الحياة ومشاغلها

وقد ترجم كتابها ( قصة كتابها ) إلى العربية الأستاذ أمين موسى قنديل
كما ترجم كتابها حول معلمتها الكدتور حسين فوزي النجار .

وسأقوم هنا إن شاء الله بنقل مقالة طويلة لها بعنوان ( لو ابصرت ثلاثة ايام )
ترجمها د. عبدالهادي التازي وصدرت في كتيب في 47 صفحةعن دار 

الرفاعي في الرياض عام 1990


تمهيد


كل واحد منا قرأ اساطير رائعة, عاش ابطالها لحظات معينة تطول احيانا
حتى ليخيل إلينا أنها بلغت السنة كاملة, وتقصر احيانا حتى لا تتعدى في
اعتبارنا اربعا وعشرين ساعة بيد أننا نهتم دائما بمعرفة الرغبات التي
اختارها هذا البطل أو ذاك ليقضي معها أواخر أيامه أو أواخر ساعاته.
اتحدث طبعا عن أولئك الذين لهم نوع من الإختيار وليس عن الآخرين
من الذين حكم عليهم أو من الذين ضاقت امامهم الآفاق .

إن مثل تلك الأساطير تجعلنا نفكر ماذا يجب علينا أن نفعل لو عشنا نفس
تلك الظروف ما الأشياء ؟ ما التجارب ؟ ما الأعمال التي نختار منها في
هذه الساعات الأخيرة من حياتنا ؟ ما نوع السرور الذى سننعم به ونحن
نعيش هذه الفترات ؟ وما نوع الأسى والأسف الذى سنحسه ؟

لقد فكرت في بعض الأحيان بأن افضل طريق واحسنها هي أن نعيش كل
يوم كما لو أننا سنموت غدا

وان مثل هذا الشعور منا سيقوي من قيمة الحياة ومتعتها في نظرنا, يجب
علينا أن نعيش كل يوم ونحن نقدر تمام التقدير وندرك تمام الإدراك النعم
التي تحيط بنا, والتي غالبا ما تفقد قدسيتها عندما يمر أمامنا الزمان في هذا
المشهد الدائم الذى يمضي بأيامه وشهوره واعوامه أولئك طبعا هم الذين
يعيشون دوامة ابيقور المتلخصة في " كل واشرب وامرح " بيد أن اغلب
الناس يريدون أن يعيشوا في عذاب, وهم يشعرون بحقيقة الفناء الوشيك.

إن البطل المحكوم عليه في مختلف الأساطير كثيرا ما نراه في آخر لحظة
يعرب عن طريق لإسعافه من حظ سعيد , لكن الملاحظ أننا في اغلب الأحيان
نرى احساسه بقيم الحياة كثيرا ما يتغير, انه يمسي اكثر تقديرا لمعاني الكون
واسراره الروحية الدائمة..وفي جل الحالات ترى اولئك الذين عاشوا أو يعيشون
في ظلال الموت, وعلى مقربة من شبحه هم الذين يتذوقون لذائذ الظروف
التي يحيونها .

لكن معظمنا مع كل ذلك يأخذ الحياة على أنها ممنوحة له مخولة. فنحن نفهم
أنه لا بد من يوم آت لا محالة نسلم فيه الروح, بيد أننا غالبا ما نتصور أن
هذا اليوم بعيد وبعيد جدا !!

وعندما نكون في حالة صحية جيدة فإن الموت عندئذ يمسي أمرا غير وارد
بتاتا , بل لا يخطر على بالنا إلا عابرا, وهكذا إن الأيام تتعاقب في طريق
غير ذي حد, وهكذا ايضا نسير في زحمة اشغالنا الطفيفة الزهيدة
عالمين – ولكن بصعوبة – بموقفنا إزاء هذه الحياة .

وإن هذا السبات نفسه هو الذى يهيمن علينا فيما اعتقد حتى فيما يتعلق باستعمال
حواسنا وطاقاتنا إن الأصم وحده هو الذى يقدر نعمة السمع, وإن الكفيف وحده
هو الذى يقدر ضروب السعادة التي تكمن في نعمة البصر. إن هذه الملاحظة
تنطبق عمليا على اولئك الذين فقدوا حاسة النظر أو حاسة السمع في حياتهم
المبكرة. لكن الذين لم يسبق لهم أن اشتكوا من الحرمان لم يسبق لهم أن فقدوا
بصرا أو سمعا اولئك قليلا ما يحسون بعظمة النعمة في الإستفادة من هذه الحاسة
المقدسة إن ابصار هؤلاء تقع على كثير من المناظر، كما أن اسماعهم تتلقى
مخنلف الأصوات, ولكن دون اكتراث ودون امعان , بل وبقليل من التقدير!

إنها نفس الكلمة التي تردد: لا يعرف المرء مقدار النعمة إلا عندما يسلب منها
ولا يعرف الإنسان مقدار عافيته إلا عندما يكون طريح الفراش. كثيرا ما فكرت
في أن هذاالإنسان, أي انسان لو اصيب بفقد بصره أو فقد سمعه لبضعة أيام
من بداية حياته الأولى لظل يشعر سرمدا بأريج السعادة الذى يحف به
إن الظلام سيجعله لا محالة اكثر تقديرا للنور الذى يراه صباح مساء
وأن الصمم المطبق سيعلمه دون شك متعة وقع الصوت على مسمعه .

لقد كان يلذ لي احيانا أن اسأل رفاقي الذين يبصرون لأعرف عن بعض
ما كانوا يرون وقد تقبلت في هذه الأيام زيارة صديقة من اهم صديقاتي كانت
قد رجعت منذ قليل من جولة طويلة في احدى الغابات المجاورة, سألتها ماذا
رأت؟ وماذا لاحظت؟
فكان جوابها بالحرف : " لا شيء يستحق الذكر!"

ولو أنني أنني لم اكن معتادة مثل هذا الجواب لداخلني الشك فيما سمعت
لقد اقتنعت منذ زمن بعيد أن هؤلاء الذين يبصرون لا يرون إلا قليلا
قلت في نفسي: كيف يكون من الممكن أن يتجول المرء لمدة ساعة من الزمن
بين منعطفات الغاب ولا يرى شيئا يستحق الذكر!؟

أنا التي لا استطيع أن ابصر شيئا اكتشفت مئات الأشياء التي تهيمن من
خلال اللمس العابر اشعر – وأنا ألمس – بالتناسق اللطيف الذى اجده بين
اوراق الشجر, أمر بيدي اتحسس هذا الأديم الناعم الذى يلف بعض الأشجار
الفتيه, بل حتى هذا اللحاء الأشعث الخشن الذى يكسو الصنوبر .. وفي فصل
الربيع أتلمس الغصون وفروع الشجر وكلي امل في البحث عن البراعم عن
الطلائع الأولى للطبيعة اليقظة بعد سباتها العميق في فصل الخريف
احس بالبهجة والنعومة وانا اربت على الزهور, واكتشف ما في طيات هذه
الورود من جمال هناك تظهر لي معجزة الطبيعة في احلى مظاهرها..ومن
وقت لآخر – اذا ما اسعدني الحظ – اضع يدي بلطف وتؤدة على شجرة
صغيرة لأتحسس الرعشات المنعشة التي تنبعث من طائر وهو في أوج سروره
سأكون سعيدة عندما اشعر – من خلال اصابعي المتفتحة – ببرودة المياه
المتدفقة في الجداول, بالنسبة إلي فإن فراشا ناعما من أوراق الصنوبر المتناثرة
أو مع الربيع الإسفنجي احب إلي من أروع بساط حتى لو كان فارسيا, وبالنسبة
إلي فإن مشاهدة تدرج الطبيعة من فصل إلى فصل تٌعد عندي رواية تمثيلية
أخاذة غير ذات نهاية أتنعم بها من خلال تلمس أناملي

يصرخ قلبي من اعماقه في بعض الأحيان وفي شوق متزايد ليشاهد هذه الأشياء
واذا استطعت أن احصل على متعة مثل هذه بمجرد لمس عابر فأي جمال
وأي بهاء أشعر به وانا ارى ذلك رؤيا عين إن أولئك الذين يتوفرون على عيون
لا يبصرون فعلا كما يجب, إن المنظر الشامل لمختلف الألوان ومختلف الحركات
التي يزدان بها هذا الكون, كل ذلك يلاحظه معظم الناس دون ادني تفكير
قد يكون من الإنسانية أن نقدر قليلا الأشياء التي تحت تصرفنا وأن نتوق إلى
الأشياء التي ليست في متناولنا بيد أنه مما يدعوا إلى الإشفاق الكبير في عالم
النور ان نلاحظ أن حاسة البصر تعد لدينا أداة زهيدة فقط قبل أن تٌعد وسيلة
تضيف على الحياة الكمال والجمال .

لو كنت رئيسة جامعة لكان علي أن أفرض مادة اجبارية حول موضوع :
( كيف تستفيد من عيونك ؟ ) يكون على الإستاذ في هذه المادة أن يحاول
افهام طلبته الوسائل التي تمكنهم من أن يضاعفوا المتع التي تزدان بها حياتهم
عن طريق الرؤية الحقيقية للأشياء التي تمر امامهم , أن يعيروها ادنى اهتمام
نعم يكون عليه أن يحاول ايقاظ طاقة طلابه وبعثها من نومها وفتورها.

09‏/11‏/2012

مسألة القيم وتحولاتها في صدارة الأسئلة الفكرية الراهنة



جيروم بندي
عن جريدة الحياة



نتكلم في أيامنا الحاضرة على «العدمية» و «ضياع المعنى» و «زوال القيم»
او على «صدام الحضارات» وعلى قيم نزعم بأن لا مجال لتجاوزها. إن
مسألة الدمية، وبالتالي مسألة القيم، كانت في صلب التساؤلات الفلسفية في القرن العشرين.

بحدسه التنبؤي، كان نيتشه، ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، يماهي التاريخ
ومسار العدمية الذي لخصه بعبارته: «الحط من قدر القيم العليا» فـ «موت الله»
في مفهومه يؤدي الى موت الانسان. بذلك فتح نيتشه الدرب امام ميشال فوكو
في كتابه «الكلمات والأشياء».

اما بالنسبة لهايدغر، فالعدمية هي هذه الحركية التي تغيّب الكينونة لتتحول كلياً
الى قيمة. وعلى رغم التباين بين نظريتي نيتشه وهايدغر، فإن بعض
الفلاسفة – وبالأخص جياني فاتيمو –رأوا تقارباً بين التحديدين للعدمية، مرده
الى «تحويل الكينونة الى قيمة تبادلية».

والمفارقة تكمن في ان انحسار «القيم العليا» قد يكون هو الذي حرّر مفهوم القيمة
لتنفتح على كم هائل من الاحتمالات. فالقيم يمكن ان تستحضر «طبيعتها الحقيقية
في امكانية التحول والتبدل» من ضمن «المسار المعمم للقيمة التبادلية
في مطلع القرن الحادي والعشرين، وفيما نحن نشهد انهيار مشاريع استعادة
القيم – أكانت مشاريع سياسية ثورية للتحرر، ام رهانات اعادة تأسيس لبرامج
فلسفية وروحية وأيديولوجية او سياسية – وفي الوقت الذي يقوم فيه بعض
المهلوسين بالتنبؤ بعصرما بعد الإنسانية»، لا بل بالعصر «اللاإنساني»

وفي الوقت الذي تحصل فيه احداث مأسوية تزعزع ثوابتنا وتنزع المصداقية
عن نظرية «نهاية التاريخ»، وفي الوقت الذي تكثّف المجتمعات جهودها
للتفتيش عن قيم جديدة... في هذا الوقت بالذات لا يمكن للأونيسكو ان تبخل
بجهودها للمساهمة في التفكير الاستشرافي والفلسفي الذي يجهد للإجابة عن

السؤال:القيم الى أين؟.

بدوره فولتير،في عصر التن وير، لم يكن يساوره أدنى شك: «لا يوجد إلا منهج
أخلاقي واحد كما لا يوجد إلا علم هندسي واحد». إلا ان هذا اليقين الشمولي
قد تصدّع منذ زمن بعيد أمام الإقرار بأن مصدر الأخلاق هو إنساني بحت.
فالميل الى الاعتقاد بالنسبية التاريخية والثقافية كما المحاولات المتعددة
لتجريد القيم من قدسيتها وتحويلها الى أغطية أيديولوجية تتسترخلفها آليات
سلطوية، اسهم في زعزعة الاعتقاد الفلسفي والديني والفني بالحق والخير
والجمال كقيم مطلقة. هذه الازمة القيمية الكبرى التي هزّت بعمق القرنين
الماضيين، أفضت الى تشويش الثوابت اليقينية في مناحي متعددة. فهل أن
غياب اساس تجاوزي يتيح إسناد القيم المستقرة الى سماء دهرية، او تلقيها
خالصة عبر وحي لا تشكيك فيه، يعني ان القيم الى أفول؟ أم انه يجب في
عالم يتميز بالتقاء كوني للثقافات، ان نتوقع تناقضات حادة وصدامات قد
تكون عنيفة بين قيم متعاكسة؟ ام اننا سنشهد ربما تهجينات غير متوقعة
ومجددة بين نظم قيمية تعود الى أصول واتجاهاتهي اليوم غريبة الواحدة
عن الأخرى؟

أعاد القرن العشرون النظر في ثوابتنا اليقينية في ما يتعلق بالمجتمع
والتاريخ والانسان. وأزمة القيم الحالية لا تطاول فقط الاطر الاخلاقية
التقليدية التي أرستها الديانات الكبرى وإنما القيم العلمانية ايضاً التي سعت
لأن تكون البديل (العلم، التقدم، تحرر الشعوب،المُثل التضامنية والإنسانوية).
والفظاعة التي طبعت القرن العشرين لا تزال على ما يبدو، تهدد مستقبلنا.
فتطور التقنيات، وهو العامل الحاسم، وغير المتوقع، والذي لا يمكن كبح
جماحه في التغيير، ألا يُخشى ان يودي بنا الى انسانية لا نعرف ماهيته
والتي يحلو للبعض ان يطلق عليها اسم «ما بعد الإنسانية»؟ هل يمكن لتطور
الثورة الجينية ان يُنتج شكلاً من التدجين الذاتي للجنس البشري؟ في عالم
يسيطر عليه الابتكار والقطيعة الجذرية مع ما سبق، وهو أمر سيؤثر بشكل
متسارع على الجنس البشري بمجمله ويبدّل في التوازنات الجيوسياسية
كيف يمكن ان نتخيل استمرارية التاريخ، وأن نحافظ على هذه اليوتوبيا
المرجوة لحياة افضل للعدد الاكبر من الناس؟ هل بإمكاننا ان نحافظ على
مقاصد مشروع عالمي يتلاءم مع تعدد التراثات،ويغتني من تراكماتها المتداخلة؟

لاحظ بول فاليري ان مفهومنا للقيم الأخلاقية والجمالية ينحو نحو التقارب
في عالم تسيطر عليه المضاربة، على غرار قيمة السلع في البورصة.
ليس هناك من معيار ثابت للسلع، او من مقياس مستقر ودائم، بل ان هذه
السلع تتأرجح في سوق واسع، والقيمة ترتفع وتنخفض وفق الأمزجة
أو الهلع الذي يدب في السوق، او وفق المراهنات المبنية على التقديرات
الذاتية. وكان يحلو لفاليري ان يقول ان «الفكر» كقيمة لا يختلف عن قيمة
«القمح» او «الذهب»، وهو في هبوط مستمر... هكذا فإن ظاهرة الموضة
التي لم تكن تطاول حتى الآن إلا بعض المجالات التي تسيطر عليها
الاعتباطية او الأعراف، كما في الثياب، تجتاح اليوم مفهومنا للقيم. نحن
نعيش في اللحظة العابرة، في الزائل المتسارع، في النزوة الذاتية
كما لو ان القيم الاكثر قدسية والتي صارت بلا اساس، يمكن ان تُعرض
في هذا السوق الكبير للسلع المنقولة وان يكون لها بدورها سعر متأرجح.

هذه الطريقة الظرفية، والآنية و«المضاربة» في النظر الى القيم، تولّد عدداً
كبيراً من الظواهر الاخلاقية والجمالية في عالمنا المعاصر. ان دور الإعلام
والوسائل التي يستخدمها يعزز هذا التوجه، بما ان المنطق الذي يخضع
القيمة لقانون السوق، كما منطق الموضة والفورات القصيرة المدى، يقتضي
الاخذ في الاعتبار جملة «مؤشرات» يجب التقاطها في اللحظة العابرة
مما يجعل المعلومة الآنية تحل مكان معنى التاريخ والتعرف الى تحولاته
البعيدة التي لم يعد بالإمكان قراءتها.

في هذا الاطار المؤثر بقوة، والذي يبدو انه يفضل «تقلّب» القيم، كيف لنا
ان نفكر في جدية هذه القيم؟ في عالم متأرجح، متبدل، يعيش تحت التأثير
الانفعالي والفكري للصور العابرة كيف يمكن لقضية مركزية كالتربية إن
تجد لها مكاناً؟ ان القرن الحادي والعشرين قد يقع في شرك تناقض غريب :
فما من زمن كان للآني فيه مثل هذا الاعتبار، ومع ذلك، فإن بروز مجتمعات
المعرفة التي تسعى لتأمين التربية للجميع وعلى مدى الحياة لم يعد حلماً
وإنما أصبح مشروعاً يؤذن بنشوء منظومة قيم جديدة بعيدة المدى، تتمتع
بالجدة، كما بالمرونة وروح الشباب. حين تُلغى الحدود بين مراحل الحياة
الثلاث، تنشأ قيم جديدة معرفية واستشرافية.

انها قيم مبتكرة اكثر مما هي موروثة، مبتدَعة اكثر مما هي مكررة، قابلة
للانتقال اكثر مما هي منقولة.

هل نحن، والحال كذلك، متجهون نحو تجميل القيم، ما ان يكون علينا، وقبل
كل شيء ان نكوّنها؟ هل اصبحت الجمالية العامل الافعل في الاقتصاد
والاخلاق؟ لقد زال اليوم التناقض بين الفنان والبورجوازي، بين «الجماليةوالاقتصاد السياسي»، على حد قول مالارميه.
لم يتم الاعتراف بالفنان وتمجيده فحسب، وإنما يمكن القول انه لم يحتل موقعاً
متميزاً في أي وقت كما الآن، بعد ان اعتُبر النموذج للنشاط المنتج للمعنى
وللجدة. «الإبداع» يجتاح كل شيء. نحن كلنا «مبدعون»، أو نطمح لأن
نكون كذلك. كل انتاج، وكل مشروع، وكل عمل يُخطط له على قاعدة
الابداع الفني. في حياتنا الخاصة، وفي غياب الأطر المستقرة والدائمة
يجد كل واحد منا نفسه ملزماً بالإبداع، وإن يكن لطريقة وجوده :
علينا ان نخترع «نمط حياة». وفي الحياة الاقتصادية، يُعتبر التجديد
المحرّك الاساس للتطور ذاك ان قوى السوق اكثر ما تهتم باغراءات العرض
وخلق الحاجات، وهذا ما يستوجب دينامية متواصلة للابداعات الجذّابة.
هذا التجميل المعمم لا يطاول اذن المجتمع فقط كساحة عرض وسائل
الإعلام، الإعلان، المدى السمع – بصري)، وإنما النواة الاساسية للمبدأ
الاخلاقي وللدينامية المؤسساتية.

انطلاقاً من ذلك، هل يمكننا تشخيص نشوء قيم جديدة؟ ما من شك في ان
القرن العشرين شهد، وفي مناطق عدة من العالم انحساراً كبيراً في التعلّق
بالعقائد الدينية التقليدية، ولكن في الوقت ذاته عرف تنوعاً هائلاً، لدى الافراد والجماعات، في البحث عن الروحي.

هل تحمل هذه الخطوات المحدودة قيماً هامة يمكن ان تشكّل قاعدة للمستقبل
ومصدراً للتجديد؟

بالاضافة الى ذلك، وفيما نحن نرى تداعي الترابط الاجتماعي امام تنامي
الفردانية الجذرية التي تلغي الروابط الموروثة والهويات القائمة، نلحظ تنامياً
غير مسبوق لأشكال جديدة من التجمعات التعاضدية، وولادة نماذج جديدة
للتضامن. أي قيم تحمل هذه الشبكات المستحدثة من التناغم والترابط والتواصل
والتي يسهّل التطور التكنولوجي قيامها؟ في عالم تتنامى فيه دوافع المصلحة
الاقتصادية والقيم المادية والنرجسية للاستهلاك وإشباع الملذات والنزوات

هل يمكننا تلمّس بروز قيم بديلة نُطلق عليها اسم «ما بعد المادية»؟

يرتبط بهذه الاسئلة انهيار الاطر البطريركية (بأبعادها الاخلاقية والمؤسساتية
والثقافية والميتافيزيقية)، وهو تصدّع هام يؤدي الى «تأنيث» القيم، وما لذلك
من نتائج عميقة يصعب تحديدها بالكامل، ولكنها ستؤثر ان التساؤل حول القيم
هو المؤشر على التحولات العميقة التي تعيشها مجتمعاتنا الخاضعة للتأثير
المزدوج الناجم عن ظاهرتين واسعتي الانتشار هما العولمة والتكنولوجيات
الحديثة. فالعولمة، وبعكس ما يظن غالباً، لا يمكن اختزالها في تحرير الاسواق
او في سيطرة فكرة شمولية.

العولمة، كشعور بالانتماء للعالم نشأت منذ زمن بعيد، وهي حالة تعود
بجذورها الى قرون عدة. ألم يفكر الفلاسفة داخل الامبراطورية الرومانية
وللمرة الاولى، بمفهوم الكوزموبوليتية؟ وكما يلاحظ ادغار موران، فإن تاريخ
العولمة الاولى – أي تلك المرتبطة بالمستكشفين والاكتشافات الكبرى
والاستعمار، والتي ارست كل انواع السيطرة والتسلط السياسي والاقتصادي
او الثقافي – لا يجب ان يحول نظرنا عن وجود عولمة ثانية، وهي عولمة
الضمائر – من لاس كازاس ومنتاني، الى المنظمات غير الحكومية والتجمعات
المدنية العالمية المعاصرة، المرتكزة على فكرة انسانيتنا المشتركة، وعلى
الرؤية الاستشرافية لمواطنة كونية -، والتي هي ظاهرة سياسية وفلسفية
وروحية بقدر ما هي ثقافية. هل يعني ذلك انه بالامكان قيام تعايش متناغم بين
الثقافات كما ينادي المدافعون عن عولمة توافقية وسلمية؟ هنا لا بد من ملاحظة


استمرار الفوارق النافرة على المستوى الدولي والوطني. لابد ايضاً من اثارة
دور التكنولوجيات الحديثة وثورة المعلومات: المواكبة للعولمة.ويخشى كثيراً
في ضوء التطورات المتسارعة، ان تتعمق الهوة الرقمية والاقتصادية
والاجتماعية بين الاغنياء والفقراء، والتي لم تعد تشتمل تحديداً على الانقسام
بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب. اكثر من أي وقت مضى، من الملائم ان نتبصر
في انماط التوزيع العالمي للمعارف والتبادل الحقيقي بين الثقافات.

انطلاقاً من هذا المنظور، فن التساؤل حول تعددية الثقافات لا يمكن ان يقتصر
على النقاش حول القيم ومسألة النسبية. ان التحدي الجديد في زمن العولمة والتكنولوجيات الحديثة يكمن في السؤال: ما السبيل للمحافظة على التنوع الثقافي؟
ذاك انه لا يمكن التقليل من حجم المخاطر التي تهدد التنوع الثقافي بحد ذاته
ومسألة مستقبل اللغات تبين ذلك بشكل نافر: هناك ما بين خمسة وسبعة آلاف
لغة محكية اليوم، ويمكن ان يتقلص هذا العدد الى النصف في نهاية القرن الحالي.
ولا يمكن لغياب التعدد اللغوي الحقيقي على الانترنت، الا ان يضاعف ظاهرة
انقراض أو تآكل اللغات. فابعد من النقاشات المستقبلية حول الوسائل الملائمة
للحفاظ على التنوع الثقافي، لا بد وان يُطرح اولاً تشخيص المخاطر التي تهدد
هذا التنوع.

ان التحديات الجديدة تتطلب أجوبة جديدة. أي علينا ان نعرف ما اذا كان العالم
الجديد الذي ترتسم ملامحه يفترض منه اعادة تقويم جذرية للعقود الاجتماعية
التي تشكل عماد مجتمعاتنا. ان التحولات الشاملة التي ذكرناها آنفاً تستوجب
جهداً من اجل بلورة مشروع يعيد التأسيس في المجالين السياسي والاجتماعي
على الصعيد الدولي، وهذا ما حاولت الاونيسكو في اعمالها ان تصوغه انطلاقاً
من فكرة «العقود الاربعة». عقد اجتماعي جديد اساسه التربية
للجميع على مدى الحياة، وعقد طبيعي، وعقد ثقافي، وعقد اخلاقي يشكلون
المحاور الاساسية لهذا المشروع، في مجتمع شمولي برهاناته الكونية. فبدون
تعميم التربية على الجميع ومدى الحياة، كيف يمكننا استئصال الفقر الشامل
وكيف يمكننا نشر القيم الديموقراطية بفعالية وكيف يمكننا بناء جتمعات المعرفة
الحقيقية؟ بدون عقد طبيعي لا يكون فيه الانسان بعد الآن «السيد والمسيطر»
على الطبيعة وانما المؤتمن عليها، كيف يمكننا وضع حد لانتهاك الموارد القائمة
الذي قد يقضي نهائياً على امكانات التنمية المستدامة، وبالتالي على حظوظ
الاجيال المقبلة؟ من دون عقد ثقافي، ما هي السبل التي نملكها لمواجهة القضاء
على التنوع الثقافي؟ بدون ان نعيد تحديد المتطلبات الاخلاقية التي تتضمن
هدف حقوق الانسان وتسمح بتحديد اطار للأمن البشري، كيف يمكننا ارساء
اسس ديموقراطية استباقية ومواطنة كونية؟

لو استرسلنا في الاسئلة، اما من خشية ان نصاب بالدوار وان نشخص بشكل
متسرع ضياع المعنى الذي رأينا فيه ملامح العدمية؟ بالتأكيد ان خطر ضياع
المعنى يبقى الافق المتواتر لعدد من الاسئلة التي تواجهنا. يكفي ان ننظر الى
تنوع اشكال الامراض النفسية المعاصرة لنفهم ان مجتمعاتنا الحالية، وبعد ان
ضيعت الزمن، هي على وشك ان تخسر الروح كذلك.كل شيء يحدث وكأننا
في عصر الانتاج القصير المدى قد استسلمنا لعبودية الضغط النفسي
وتسلط الاستعجال.

----------------------------------------------------
الكاتب هو محرر كتاب «القيم الى أين؟» الذي صدرت ترجمته عن دار
النهار، ومنظمة اليونسكو، بقلم زهيدة درويش جبور وجان جبور.
والنص هو مقدمة الكتاب .

06‏/11‏/2012

«الجلاد» لبار لاغركفست: لن ينتهي قبل نهاية الإنسان



ابراهيم العريس
عن جريدة الحياة



لكارل ماركس بحث جدي وطريف في الوقت نفسه، حول دور المجرم
في صناعة التاريخ. وهو يقول في هذا البحث انه لو لم يكن ثمة وجود
للمجرم أو الشرير في كوننا هذا، كانت أمور كثيرة ستتبدل، وليس على
الصعد الأخلاقية وحسب، بل كذلك على الصعد الاقتصادية. إذ، لولا وجود
اللص، ما حاجتنا إلى الأبواب والنوافذ والأقفال والمفاتيح، وما إلى ذلك؟
إذاً، صناعات بأسرها كانت ستختفي، إضافة إلى انتفاء الحاجة إلى
الشرطة والسجون والمحاكم... شيء من هذا القبيل نجده، وإن على
مستويات أخرى، في كتاب للمؤلف السويدي بار لاغركفست، الحائز
جائزة نوبل للآداب سنة 1951، وعنوانه «الجلاد». هذا الكتاب قد لا يكون
أشهر أعمال لاغركفست ولا أكثرها امتاعاً في القراءة، لكنه بالتأكيد واحد
من كتبه الأكثر تعمقاً في القضية الإنسانية وفي تاريخ البشرية. بل إن هذا
الكتاب يكاد يكون التعبير الأفضل في أدب لاغركفست عن مسألة هجس بها
هذا الأدب كله، وهي مسألة العلاقة بين الإنسان وخالقه، علماً أن أول عمل
أدبي كبير أطلق شهرة لاغركفست في العالم، كان «باراباس» الذي تحدث
فيه بقوة وعمق عمن سماه «المؤمن الذي لم يكن مغموراً بالإيمان». في
معنى ان باراباس كان بالنسبة إليه رجلاً وصل إلى إيمانه وحده من دون
أي مساعدة من أي تبشير ديني على الإطلاق. وفي هذا المعنى أوضح
الكاتب فكرته عن الوصول إلى الإيمان بالله من طريق العقل وحده.

في «الجلاد» لم يدن الكاتب من هذا الموضوع في شكل مباشر
بل هو وصل إليه مواربة، وانطلاقاً من سؤال كان قد بدأ يطرحه على نفسه
منذ مطلع شبابه: هل صحيح أن البر والإحسان والحب، هي التي تحكم
الحياة الإنسانية؟ وفي محاولة للرد على هذا السؤال كان لاغركفست يرى
أن الأديان السماوية إنما كان هدفها الأساس دائماً أن توجه الإنسانية نحو تلك
الدروب... يبد أن الوجه الذي كان يقف دائماً فوق وعي الإنسان وفي درب الحب والإحسان، لم يكن وجه السيد المسيح أو الأنبياء الآخرين، بل وجه الجلاد.
ومن هنا يرى الكاتب هذا الجلاد، الذي إنما خلق من أجل توطيد الاحتفال بالفداء والتضحية، أو من أجل الاحتفاء بالنظام العام، يطل هو الكائن الوحيد الذي
لم يعرف ملكوته عبر الأزمان كلها أي خسوف أو نهاية... انه الوجه الملائم
الحضور في رأي لاغركفست.

في هذا الإطار يصح هنا ان نبدأ من الصفحات الأخيرة من كتاب لاغركفست
حين يوجه الجلاد حديثه إلى بني البشر قائلاً: «إنني اتبع بكل أمانة درب البشر.
ليس هناك درب وطأتها قدم الإنسان. ومهما كانت غامضة وسرّية، إلا وزرعت
فيها حطباً ورطبتها بالدم. لقد تبعتكم منذ البداية، ولسوف أظل ألاحقكم حتى نهاية الأزمنة». صحيح أن هذا الجلاد يوضح بعد ذلك أنه إنما يتطلع، في وحدته الدائمة
القاتلة، إلى أن ينتهي ملكوته الذي يعذبه بقدر ما يعذب الآخرين، لكنه يعرف أن
هذا غير ممكن إلا في حال واحدة: ان يمحي وجود النوع الإنساني من على سطح الأرض. فلو حدث هذا، يقول الجلاد: «سوف يتاح لي ان أذهب غائصاً في الليل
لأبدي، بعد أن أرمي فأسي المدماة على التربة الصحراوية البيداء، كذكرى لذلك
النوع الذي عاش يوماً ها هنا».

واضح هنا ان هذا الجلاد دائماً يربط مصيره نهائياً بمصير النوع الإنساني
منذ البداية حتى النهاية. فهو لم يوجد في هذا الكون من أجل أي من الكائنات
الأخرى. فما الذي يمكن لهذه الكائنات ان تفعل به؟ لماذا قد تحتاجه هي التي
لا يمكن لها، في أي حال من الأحوال، أن تعرف الشر؟ ذلك هو الدرس والمغزى الأساس هنا. وفي هذا المعنى يصبح هذا الجلاد هو نفسه الشيطان والشر...
وبالتالي الوجه الآخر لوجود الإنسان.

ولكن كيف يقدم لنا بار لاغركفست جلاده هذا في هذا النص الذي من الصعب
اعتباره رواية أو قصة، حتى وإن اتخذ في شكله العام طابعهما؟ إنه يقدمه في
نص يغلب عليه الطابع الرمزي، حيث ان الكاتب يجعل ميدان النص، نادياً
ليلياً، تختلط فيه الأزمنة على تنوعها واختلافها. إذ أمام عيني القارئ ترتسم
العصور الوسطى التي كانت فيها المخيلة الشعبية هي التي تعطي رونق الحياة
للجلاد في عالم «يقترن فيه الشر والسحر والعقابان الفردي والجماعي في بوتقة
واحدة»، وانطلاقاً من صورة العصور الوسطى هذه تتتابع بقية العصور، وصولاً
إلى الزمن الحديث، حيث لا يفوت الكاتب ان يصور لنا أنظمة الحكم الشمولية
التي هيمنت على القرن العشرين بعد ان ارتسمت استعداداتها في القرون السابقة
وحتى في داخل الثورات التي كانت تقول ان أول ما يهمها هو خير الإنسان وتقدمه.
كل هذا يبدو هنا غير صحيح، حيث يفيدنا لاغركفست، بأن الجلاد كان دائماً هنا
في قلب الصورة وفي خلفية الأفكار، بما فيها الأفكار الأكثر افتخاراً بإنسانيتها
وتقدميتها.

في الحقيقة إن هذا الوجود الدائم والمتواصل لـ «الجلاد» هو العنصر الاساس الدائم والقاسم المشترك بين العصور والأفكار والتحركات، مهما كان جوهر هذه
التحركات. بالنسبة إلى لاغركفست، كما بالنسبة إلى هذا النص، الذي يبدو في نهاية الأمر سوداوياً وغريباً، لا يمكن الوثوق بأي تفكير همه الأساس أن يذبح ويزيل
من لا يتفق معه في الرأي، جسدياً أو معنوياً. فالجلاد بالنسبة إليه انما هو الرمز
الواضح على تلك الأنظمة وأولئك الزعماء الذين لا يستقيم لهم وجود إن كان ثمة
من يجرؤ على ان يطل برأسه ليعارضهم، أو ينتقدهم أو حتى يستنكف عن
امتداحهم ليلاً ونهاراً.

وفي رأي لاغركفست، إن كل سلطة، ومهما كان شأنها لا يمكنها ان تحس
بوجودها إلا إذا مارست دور الجلاد هذا. ولاحقاً حين سئل الكاتب السويدي
عما جعله، حين أكد هذا، يستنكف عن الحديث صراحة عن سلطات بعينها
كمثال على ما يقول، أجاب أنه ليس في حاجة إلى أي مثال، طالما ان العالم
كله يقدم لنا أمثلة حيّة ومقنعة في كل لحظة وفي كل ساعة ويوم «لو كان ثمة
شذوذ عن هذه القاعدة، لكان من الأسهل إعطاء الأمثلة المضادة...أليس كذلك؟».
كتب بار لاغركفست هذا النص عام 1933، أي في العام نفسه الذي وصل فيه
نازيو هتلر إلى السلطة في ألمانيا، وبالتالي عزز فاشيو موسوليني وجودهم،
فيما زاد ستالين من هيمنته على مقدرات الاتحاد السوفياتي وراح يمضي في
تصفية خصومه (رفاق الأمس). ولم تكن الأحوال أفضل وسط الاخبار
السياسية التي ترد من كل مكان في العالم في ذلك الحين. ومن هنا كان في
الإمكان اعتبار هذا النص صرخة يأس لولا ان الطابع الميتافيزيقي الوجودي
الذي أضفاه لاغركفست على نصه، أخرجه من دائرة الوصف الآني لزمن
يعيش فيه ويرصده حزيناً مرتعباً، ليضعه في دائرة التفكير حول المصير
البشري في شكل عام. والحقيقة ان أحداث السنوات التالية – وربما معظم
الأحداث التي يشهدها عالمنا حتى اليوم – لم يكن من شأنها ان تطمئن الكاتب
أو أن تخفف من رعب قرّائه الذين قرأوا هذا النص وفي لغات عدة ترجم إليها.
مهما يكن من أمر، لا ريب أن نص «الجلاد» نسي بعض الشيء لاحقاً، لا سيما
حين راح الحديث عن بار لاغركفست، يتناول أعماله الأخرى التي أضحت أكثر
شهرة، ومعظمها يتراوح بين مسرحيات لم تخف تأثرها بسترندبرع، وبين روايات معاصرة أو تاريخية كتبت خلال أكثر من نصف قرن ظل بار لاغركفست خلاله
سيداً كبيراً من سادة الأدب في بلاده. ومن بين أشهر أعمال هذا الكاتب الذي عاش
بين 1891 و1974، عدا عما ذكرنا «رجل لا روح فيه» و «انتصار الظلام»
و «القزم»، ومسرحيات مثل «سر السماء»، و «ذاك الذي يعيش حياته ثانية». 


وفي سنوات العشرين أصدر لاغركفست سيرة حياته، حتى ذلك الحين، في
جزأين عنونهما «ضيف الحقيقة» و «غزو الحياة»... ولقد حول بعض رواياته
إلى أفلام.