17‏/11‏/2012

هيلين كيلر -لو ابصرت ثلاث ايام (7/2)




لو ابصرت …


اعتقد أنه من الممكن أن ارسم على سبيل التخيل ماذا يكون علي
أن ارى لو أنني وهبت نعمة البصر فقط لمدة ثلاثة أيام ..فحاولوا
أن تشاركوني في هذا الخيال كذلك..ركزوا تفكيركم فيما اقول
وأنا احاول معكم أن نجد استعمالا للزمن طوال هذه الأيام الثلاثة
التي سنبصر فيها بأم عيوننا نحن.

عندما تشعر بأن الليلة الثالثة ستحمل معها اقتراب عودة الظلمة الدائمة
وعندما تشعر بأن الشمس سوف لا تعود ابدا للظهور مرة اخرى, كيف
تقضي تلك الأيام الثلاثة الثمينة المحددة المزدحمة؟ ماذا ستختار أن يقع
بصرك عليه ؟

سأختار أنا طبعا أن ارى اكثر الأشياء التي اصبحت عزيزة علي طوال
السنوات المظلمة التي عشتها وانتم كذلك ولا شك ستفضلون أن تتركوا
لعيونكم الحرية الكاملة لتقع على الأشياء التي امست محببة لديكم
وذلك حتى تستطيعوا أن تحتفظوا لأنفسكم بذكراها في الليل البهيم
الذى يعترض طريقكم.

نعم اذا ما منحت بقدرة قادر فرصة النظر لمدة ثلاثة أيام اكون بعدها
مهددة بانتكاسه تسلمني إلى الظلام الدائم , آنذاك سأوزع هذه الفترة
من حياتي على ثلاث مراحل:



في اليوم الأول


في اليوم الأول سيكون أول ما اقوم به هو رؤية هؤلاء الناس الذين
جعلوا من حياتي شيئا يستحق الذكر بفضل عطفهم ولطفهم واخلاصهم
أولا سيكون علي أن أنعم النظر طويلا في محيا عزيزتي واستاذتي
الآنسة سوليفان ماسي التي وردت علي ذات يوم أنا ما ازال طفلة وفتحت
أمامي هذا العالم الجديد..

لا اريد أن تكون رؤياي عابرة تقتصر على تلمح الخطوط البارزة لأسارير
وجهها من اجل الإحتفاظ بذكراها في مخيلتي فقط, ولكني اريد أن ادرس
ذلك الوجه درسا, لأقرأ فيه الشاهد الجلي على ذلك العطف والود والصبر
الذى كانت تتحلى به, وهي تقوم لأداء مهمتها الشاقة من أجل تربيتي
وتعليمي.

أريد أن ارى عيونها المليئة بالعزم والقوة التي جعلتها تقف وقفة شهم
حازم أمام سائر المصاعب.. عيونها المليئة بالرحمة والشفقة بجميع
أفراد الإنسان !

لا اعرف ماذا سأراه في اعماق قلب صديقة من خلال العين :
" نافذة الإنسان " كنت استطيع أن " ارى" بواسطة أناملي واصابعي فقط
الملامح المتجسدة لوجه من الوجوه, استطيع أن اكتشف الفرح والحزن
وسائر الإنفعالات الظاهرة..اعرف صديقاتي واصدقائي عن طريق لمس
وجوههم لكني لا اقدر حقيقة أن ارسم صورة في مخيلتي لأشخاصهم عن
طريق مجرد اللمس اعرف شخصياتهم طبعا من خلال " الوسائل الأخرى"
من خلال الأفكار التي يعبرون لي عنها, من خلال اعمالهم وتصرفاتهم
مهما كانت.. ومع ذلك فإنني محرومة من النفوذ إلى اعماقهم, ذلك النفوذ
الذى يتم دون شك عن طريق النظر لوجوههم عن طريق ملاحظة ردود
الفعل التي يقابلون بها مختلف النظريات التي يسمعونها أو الظروف
والملابسات التي تمر بهم عن طريق التفاعلات والإحساسات المباشرة
والعابرة التي تتحلى من العيون وملامح الوجوه .

اعرف جيدا الصديقات اللاتي يترددن علي لأنهم ظللن عبر الشهور
والأعوام, يشخصن أمامي في شتى المظاهر بيد أن الزملاء العابرين ليس
لي منهم إلا بعض الإنطباعات الناقصة , انطباعات توفرت عليها عن
طريق احتضان أو سلام ,عن طريق بعض الكلمات التي ألتقطها من
بين شفاههن, بمساعدة أناملي أو ببعض الكلمات التي ينقرن بها على
راحة يدي.

كم سيكون سهلا وكم سيكون من بواعث الإرتياح بالنسبة إليكم. انتم
الذين تستطيعون أن تبصروا بعيونكم وأن تدركوا بكل سرعة الصفة
الأساسية لأشخاص الآخرين بمجرد رؤية الحركات التي تصحب التعبير
عادة بمجرد رؤية اهتزاز الأطراف بمجرد اشارات اليد.. ولكن هل خطر
مرة ببالكم أن تستعملوا بصركم لتنفذوا به إلى الطباع الداخلية لصديق لكم
أو لرفيق ؟ أليس معظمكم – أيها الذين تبصرون – إنما تدركون عن
طريق الصدفة فقط معالم الوجوه وقسماتها ثم تتركون ذلك يمر كأنه
لا يعني ..؟

ولأضرب مثلا ادق , اسألكم هذا السؤال: هل تستطيعون أن تصفوا بدقة
وجوه خمسة من الأصدقاء الذين تعرفونهم جيدا؟ بعضكم ربما قدر على
ذلك لكن عددا كبيرا منكم لا يستطيع.. وكتجربة خاصة قمت بها انا..اذكر
انني سألت بعض الأزواج ممن عاشروا زوجاتهم طويلا عن اللون الذى
تمتاز عيون زوجاتهم..وفي اغلب الأحيان عبروا لي عن خجلهم وارتباكهم..
واعترفوا بأنهم لا يعرفون حقا ألوان عيون زوجاتهم ! ولهذا اتذكر بهذه
المناسبة أن كثيرا من الزوجات لا يفتأن رافعات عقيرتهن بالشكوى من
ازواج لهن لا يولون اهتمام لما يطرأ على البيت من ترتيبات طارئة.. إن
عيون هؤلاء الذين يبصرون لا تلبث أن تعتاد رؤية الأشياء ولا تلبث أن
تصبح تلك الأشياء التي تجري من حواليهم رتيبة مبتذلة والناس لا يعيرون
عادة اهتمامهم إلا لبداية الأمور أو للغريب غير العادي منها, على أنه مع
كل هذا ففي غلب الأمور التي تستحق المشاهدة نلاحظ أن العيون تمسي
كسلانة لا تتحمل استجلاء وهناك حقيقة ينبغي أن تسترعي اهتمامنا هي
أن مجالس القضاء والمحاكم تكشف كل يوم عن خطأ الذين يتقدمون إليها
على أنهم " شهود عيان" فعلا هناك عدد من الحوادث يشاهد على عدة
طرق تبعا للأداء المختلف لشاهدي العيان ! احدهم تكون ملاحظته اقوى
من الآخر لكن القليل من الناس هو الذى يري كل شيء يدخل تحت
مجال بصره .

آه… ما اكثر الأشياء التي علي أن ازورها لو توفرت لدي حاسة البصر
لمدة ثلاثة ايام فقط .

نعم سيكون اليوم الأول من اكثرها ازدحاما في العمل .وسيكون علي أن
ادعوا اصدقائي واعزائي لأتملى من النظر إليهم طويلا, وذلك لأطبع
على مخيلتي المشاهد الظاهرة للجمال الذى يعلوهم سيكون علي أن
اترك الفرصة لعيوني كيما تأخذ راحتها في النظر العميق إلى وجه طفل
من الأطفال وذلك لآخذ فكرة عن الجمال الصاعد البرئ الذى يتقدم على
مرحلة شعور الشخص بما ينتظره في الحياة من صراع ونزاع.وكذلك
فإن مما اضطرني دون شك أن احدق بإمعان في عيون كلابي الوديعة
الأمينة الصغيرة اللذين يمتازان بجديتهما وذكائهما.. وكذلك كانت لي
نعم العزاء ونعم السلوى بملمسهما الناعم وصداقتهما الوفية.

في هذا اليوم الأول المليء بالأشغال سيكون علي أن ارى هذه الأشياء
البسيطة الصغيرة التي يضمها بيتي, اريد أن ارى هذه الألوان الدافئة
التي تتوفر عليها هذه الزرابي التي اطؤها بقدمي هذه الصور التي تزدان
بها الجدران نعم هذه الأشياء الزهيدة والمحببة في الوقت ذاته التي تحول
البناء من مجرد بناء إلى حيث يمسي بيتا نأوي إليه ونشعر بالحنان نحوه
إن عيوني ستتركز بإجلال على هذه الكتب بحروفها البارزة التي مرت
بها قراءة منذ زمن ستكون عندي اكثر حظوة واعتناء من تلك الكتب
المطبوعة التي اعتادها المبصرون إن جميع تلك الكتب سواء منها التي
قرأت بنفسي أم التي تليت علي أقامت أمام مخيلتي طوال الليل الذى
صحبني في حياتي اقامت الفجوات العميقة للحياة الإنسانية, وللفكرالإنساني
وفيما بعد ظهر اليوم الأول من هذه الأيام المبصرة الثلاثة, سيكون من
برنامجي أن اقوم بجولة طويلة داخل الغاب لأني اريد لعيوني أن تسكر
أن تغيب في جمال الطبيعة في محاولة من اجل أن استوعب – في اوقات
قليلة جدا – هذا البهاء العظيم الذى يعرض نفسه باستمرار على اولئك
الآخرين الذين يتوفرون على حاسة النظر ..وفي طريقي إلى بيتي من
الضيعات , حتى يتسنى لي أن اشاهد بعيني الجياد الكادحة التي تشق
الأرض بمحراثها , أو اشاهد فقط جرارا من تلك الجرارات , واقف بعين
رأسي على أولئك الرجال الذين يفترشون الغبراء في هدوء وايمان وقناعة
وهناك سأقوم بأداء صلاة الشكر أمام هذا الرواء الذى يتجلى في ألوان
الشمس عند مغربها.

وعندما يخيم الظلام هناك ايضا سيكون في متناولي أن استمتع بالمتعة
المزدوجة عندما يكون في استطاعتي أن ارى ايضا ,عن طريق النور
الصناعي الذى شاءت عبقرية الإنسان أن تبتكره حتى يمدد في أمد الضوء
في الوقت الذي تحكم الطبيعة فيه على الناس بالظلام !
وعند الليلة الأولى من هذا اليوم أيامي الناظرة سوف لا يجد النوم سبيلا
إلى عيوني , لأن ذكريات الساعات الماضية ستزدحم على مخيلتي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق