09‏/11‏/2012

مسألة القيم وتحولاتها في صدارة الأسئلة الفكرية الراهنة



جيروم بندي
عن جريدة الحياة



نتكلم في أيامنا الحاضرة على «العدمية» و «ضياع المعنى» و «زوال القيم»
او على «صدام الحضارات» وعلى قيم نزعم بأن لا مجال لتجاوزها. إن
مسألة الدمية، وبالتالي مسألة القيم، كانت في صلب التساؤلات الفلسفية في القرن العشرين.

بحدسه التنبؤي، كان نيتشه، ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، يماهي التاريخ
ومسار العدمية الذي لخصه بعبارته: «الحط من قدر القيم العليا» فـ «موت الله»
في مفهومه يؤدي الى موت الانسان. بذلك فتح نيتشه الدرب امام ميشال فوكو
في كتابه «الكلمات والأشياء».

اما بالنسبة لهايدغر، فالعدمية هي هذه الحركية التي تغيّب الكينونة لتتحول كلياً
الى قيمة. وعلى رغم التباين بين نظريتي نيتشه وهايدغر، فإن بعض
الفلاسفة – وبالأخص جياني فاتيمو –رأوا تقارباً بين التحديدين للعدمية، مرده
الى «تحويل الكينونة الى قيمة تبادلية».

والمفارقة تكمن في ان انحسار «القيم العليا» قد يكون هو الذي حرّر مفهوم القيمة
لتنفتح على كم هائل من الاحتمالات. فالقيم يمكن ان تستحضر «طبيعتها الحقيقية
في امكانية التحول والتبدل» من ضمن «المسار المعمم للقيمة التبادلية
في مطلع القرن الحادي والعشرين، وفيما نحن نشهد انهيار مشاريع استعادة
القيم – أكانت مشاريع سياسية ثورية للتحرر، ام رهانات اعادة تأسيس لبرامج
فلسفية وروحية وأيديولوجية او سياسية – وفي الوقت الذي يقوم فيه بعض
المهلوسين بالتنبؤ بعصرما بعد الإنسانية»، لا بل بالعصر «اللاإنساني»

وفي الوقت الذي تحصل فيه احداث مأسوية تزعزع ثوابتنا وتنزع المصداقية
عن نظرية «نهاية التاريخ»، وفي الوقت الذي تكثّف المجتمعات جهودها
للتفتيش عن قيم جديدة... في هذا الوقت بالذات لا يمكن للأونيسكو ان تبخل
بجهودها للمساهمة في التفكير الاستشرافي والفلسفي الذي يجهد للإجابة عن

السؤال:القيم الى أين؟.

بدوره فولتير،في عصر التن وير، لم يكن يساوره أدنى شك: «لا يوجد إلا منهج
أخلاقي واحد كما لا يوجد إلا علم هندسي واحد». إلا ان هذا اليقين الشمولي
قد تصدّع منذ زمن بعيد أمام الإقرار بأن مصدر الأخلاق هو إنساني بحت.
فالميل الى الاعتقاد بالنسبية التاريخية والثقافية كما المحاولات المتعددة
لتجريد القيم من قدسيتها وتحويلها الى أغطية أيديولوجية تتسترخلفها آليات
سلطوية، اسهم في زعزعة الاعتقاد الفلسفي والديني والفني بالحق والخير
والجمال كقيم مطلقة. هذه الازمة القيمية الكبرى التي هزّت بعمق القرنين
الماضيين، أفضت الى تشويش الثوابت اليقينية في مناحي متعددة. فهل أن
غياب اساس تجاوزي يتيح إسناد القيم المستقرة الى سماء دهرية، او تلقيها
خالصة عبر وحي لا تشكيك فيه، يعني ان القيم الى أفول؟ أم انه يجب في
عالم يتميز بالتقاء كوني للثقافات، ان نتوقع تناقضات حادة وصدامات قد
تكون عنيفة بين قيم متعاكسة؟ ام اننا سنشهد ربما تهجينات غير متوقعة
ومجددة بين نظم قيمية تعود الى أصول واتجاهاتهي اليوم غريبة الواحدة
عن الأخرى؟

أعاد القرن العشرون النظر في ثوابتنا اليقينية في ما يتعلق بالمجتمع
والتاريخ والانسان. وأزمة القيم الحالية لا تطاول فقط الاطر الاخلاقية
التقليدية التي أرستها الديانات الكبرى وإنما القيم العلمانية ايضاً التي سعت
لأن تكون البديل (العلم، التقدم، تحرر الشعوب،المُثل التضامنية والإنسانوية).
والفظاعة التي طبعت القرن العشرين لا تزال على ما يبدو، تهدد مستقبلنا.
فتطور التقنيات، وهو العامل الحاسم، وغير المتوقع، والذي لا يمكن كبح
جماحه في التغيير، ألا يُخشى ان يودي بنا الى انسانية لا نعرف ماهيته
والتي يحلو للبعض ان يطلق عليها اسم «ما بعد الإنسانية»؟ هل يمكن لتطور
الثورة الجينية ان يُنتج شكلاً من التدجين الذاتي للجنس البشري؟ في عالم
يسيطر عليه الابتكار والقطيعة الجذرية مع ما سبق، وهو أمر سيؤثر بشكل
متسارع على الجنس البشري بمجمله ويبدّل في التوازنات الجيوسياسية
كيف يمكن ان نتخيل استمرارية التاريخ، وأن نحافظ على هذه اليوتوبيا
المرجوة لحياة افضل للعدد الاكبر من الناس؟ هل بإمكاننا ان نحافظ على
مقاصد مشروع عالمي يتلاءم مع تعدد التراثات،ويغتني من تراكماتها المتداخلة؟

لاحظ بول فاليري ان مفهومنا للقيم الأخلاقية والجمالية ينحو نحو التقارب
في عالم تسيطر عليه المضاربة، على غرار قيمة السلع في البورصة.
ليس هناك من معيار ثابت للسلع، او من مقياس مستقر ودائم، بل ان هذه
السلع تتأرجح في سوق واسع، والقيمة ترتفع وتنخفض وفق الأمزجة
أو الهلع الذي يدب في السوق، او وفق المراهنات المبنية على التقديرات
الذاتية. وكان يحلو لفاليري ان يقول ان «الفكر» كقيمة لا يختلف عن قيمة
«القمح» او «الذهب»، وهو في هبوط مستمر... هكذا فإن ظاهرة الموضة
التي لم تكن تطاول حتى الآن إلا بعض المجالات التي تسيطر عليها
الاعتباطية او الأعراف، كما في الثياب، تجتاح اليوم مفهومنا للقيم. نحن
نعيش في اللحظة العابرة، في الزائل المتسارع، في النزوة الذاتية
كما لو ان القيم الاكثر قدسية والتي صارت بلا اساس، يمكن ان تُعرض
في هذا السوق الكبير للسلع المنقولة وان يكون لها بدورها سعر متأرجح.

هذه الطريقة الظرفية، والآنية و«المضاربة» في النظر الى القيم، تولّد عدداً
كبيراً من الظواهر الاخلاقية والجمالية في عالمنا المعاصر. ان دور الإعلام
والوسائل التي يستخدمها يعزز هذا التوجه، بما ان المنطق الذي يخضع
القيمة لقانون السوق، كما منطق الموضة والفورات القصيرة المدى، يقتضي
الاخذ في الاعتبار جملة «مؤشرات» يجب التقاطها في اللحظة العابرة
مما يجعل المعلومة الآنية تحل مكان معنى التاريخ والتعرف الى تحولاته
البعيدة التي لم يعد بالإمكان قراءتها.

في هذا الاطار المؤثر بقوة، والذي يبدو انه يفضل «تقلّب» القيم، كيف لنا
ان نفكر في جدية هذه القيم؟ في عالم متأرجح، متبدل، يعيش تحت التأثير
الانفعالي والفكري للصور العابرة كيف يمكن لقضية مركزية كالتربية إن
تجد لها مكاناً؟ ان القرن الحادي والعشرين قد يقع في شرك تناقض غريب :
فما من زمن كان للآني فيه مثل هذا الاعتبار، ومع ذلك، فإن بروز مجتمعات
المعرفة التي تسعى لتأمين التربية للجميع وعلى مدى الحياة لم يعد حلماً
وإنما أصبح مشروعاً يؤذن بنشوء منظومة قيم جديدة بعيدة المدى، تتمتع
بالجدة، كما بالمرونة وروح الشباب. حين تُلغى الحدود بين مراحل الحياة
الثلاث، تنشأ قيم جديدة معرفية واستشرافية.

انها قيم مبتكرة اكثر مما هي موروثة، مبتدَعة اكثر مما هي مكررة، قابلة
للانتقال اكثر مما هي منقولة.

هل نحن، والحال كذلك، متجهون نحو تجميل القيم، ما ان يكون علينا، وقبل
كل شيء ان نكوّنها؟ هل اصبحت الجمالية العامل الافعل في الاقتصاد
والاخلاق؟ لقد زال اليوم التناقض بين الفنان والبورجوازي، بين «الجماليةوالاقتصاد السياسي»، على حد قول مالارميه.
لم يتم الاعتراف بالفنان وتمجيده فحسب، وإنما يمكن القول انه لم يحتل موقعاً
متميزاً في أي وقت كما الآن، بعد ان اعتُبر النموذج للنشاط المنتج للمعنى
وللجدة. «الإبداع» يجتاح كل شيء. نحن كلنا «مبدعون»، أو نطمح لأن
نكون كذلك. كل انتاج، وكل مشروع، وكل عمل يُخطط له على قاعدة
الابداع الفني. في حياتنا الخاصة، وفي غياب الأطر المستقرة والدائمة
يجد كل واحد منا نفسه ملزماً بالإبداع، وإن يكن لطريقة وجوده :
علينا ان نخترع «نمط حياة». وفي الحياة الاقتصادية، يُعتبر التجديد
المحرّك الاساس للتطور ذاك ان قوى السوق اكثر ما تهتم باغراءات العرض
وخلق الحاجات، وهذا ما يستوجب دينامية متواصلة للابداعات الجذّابة.
هذا التجميل المعمم لا يطاول اذن المجتمع فقط كساحة عرض وسائل
الإعلام، الإعلان، المدى السمع – بصري)، وإنما النواة الاساسية للمبدأ
الاخلاقي وللدينامية المؤسساتية.

انطلاقاً من ذلك، هل يمكننا تشخيص نشوء قيم جديدة؟ ما من شك في ان
القرن العشرين شهد، وفي مناطق عدة من العالم انحساراً كبيراً في التعلّق
بالعقائد الدينية التقليدية، ولكن في الوقت ذاته عرف تنوعاً هائلاً، لدى الافراد والجماعات، في البحث عن الروحي.

هل تحمل هذه الخطوات المحدودة قيماً هامة يمكن ان تشكّل قاعدة للمستقبل
ومصدراً للتجديد؟

بالاضافة الى ذلك، وفيما نحن نرى تداعي الترابط الاجتماعي امام تنامي
الفردانية الجذرية التي تلغي الروابط الموروثة والهويات القائمة، نلحظ تنامياً
غير مسبوق لأشكال جديدة من التجمعات التعاضدية، وولادة نماذج جديدة
للتضامن. أي قيم تحمل هذه الشبكات المستحدثة من التناغم والترابط والتواصل
والتي يسهّل التطور التكنولوجي قيامها؟ في عالم تتنامى فيه دوافع المصلحة
الاقتصادية والقيم المادية والنرجسية للاستهلاك وإشباع الملذات والنزوات

هل يمكننا تلمّس بروز قيم بديلة نُطلق عليها اسم «ما بعد المادية»؟

يرتبط بهذه الاسئلة انهيار الاطر البطريركية (بأبعادها الاخلاقية والمؤسساتية
والثقافية والميتافيزيقية)، وهو تصدّع هام يؤدي الى «تأنيث» القيم، وما لذلك
من نتائج عميقة يصعب تحديدها بالكامل، ولكنها ستؤثر ان التساؤل حول القيم
هو المؤشر على التحولات العميقة التي تعيشها مجتمعاتنا الخاضعة للتأثير
المزدوج الناجم عن ظاهرتين واسعتي الانتشار هما العولمة والتكنولوجيات
الحديثة. فالعولمة، وبعكس ما يظن غالباً، لا يمكن اختزالها في تحرير الاسواق
او في سيطرة فكرة شمولية.

العولمة، كشعور بالانتماء للعالم نشأت منذ زمن بعيد، وهي حالة تعود
بجذورها الى قرون عدة. ألم يفكر الفلاسفة داخل الامبراطورية الرومانية
وللمرة الاولى، بمفهوم الكوزموبوليتية؟ وكما يلاحظ ادغار موران، فإن تاريخ
العولمة الاولى – أي تلك المرتبطة بالمستكشفين والاكتشافات الكبرى
والاستعمار، والتي ارست كل انواع السيطرة والتسلط السياسي والاقتصادي
او الثقافي – لا يجب ان يحول نظرنا عن وجود عولمة ثانية، وهي عولمة
الضمائر – من لاس كازاس ومنتاني، الى المنظمات غير الحكومية والتجمعات
المدنية العالمية المعاصرة، المرتكزة على فكرة انسانيتنا المشتركة، وعلى
الرؤية الاستشرافية لمواطنة كونية -، والتي هي ظاهرة سياسية وفلسفية
وروحية بقدر ما هي ثقافية. هل يعني ذلك انه بالامكان قيام تعايش متناغم بين
الثقافات كما ينادي المدافعون عن عولمة توافقية وسلمية؟ هنا لا بد من ملاحظة


استمرار الفوارق النافرة على المستوى الدولي والوطني. لابد ايضاً من اثارة
دور التكنولوجيات الحديثة وثورة المعلومات: المواكبة للعولمة.ويخشى كثيراً
في ضوء التطورات المتسارعة، ان تتعمق الهوة الرقمية والاقتصادية
والاجتماعية بين الاغنياء والفقراء، والتي لم تعد تشتمل تحديداً على الانقسام
بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب. اكثر من أي وقت مضى، من الملائم ان نتبصر
في انماط التوزيع العالمي للمعارف والتبادل الحقيقي بين الثقافات.

انطلاقاً من هذا المنظور، فن التساؤل حول تعددية الثقافات لا يمكن ان يقتصر
على النقاش حول القيم ومسألة النسبية. ان التحدي الجديد في زمن العولمة والتكنولوجيات الحديثة يكمن في السؤال: ما السبيل للمحافظة على التنوع الثقافي؟
ذاك انه لا يمكن التقليل من حجم المخاطر التي تهدد التنوع الثقافي بحد ذاته
ومسألة مستقبل اللغات تبين ذلك بشكل نافر: هناك ما بين خمسة وسبعة آلاف
لغة محكية اليوم، ويمكن ان يتقلص هذا العدد الى النصف في نهاية القرن الحالي.
ولا يمكن لغياب التعدد اللغوي الحقيقي على الانترنت، الا ان يضاعف ظاهرة
انقراض أو تآكل اللغات. فابعد من النقاشات المستقبلية حول الوسائل الملائمة
للحفاظ على التنوع الثقافي، لا بد وان يُطرح اولاً تشخيص المخاطر التي تهدد
هذا التنوع.

ان التحديات الجديدة تتطلب أجوبة جديدة. أي علينا ان نعرف ما اذا كان العالم
الجديد الذي ترتسم ملامحه يفترض منه اعادة تقويم جذرية للعقود الاجتماعية
التي تشكل عماد مجتمعاتنا. ان التحولات الشاملة التي ذكرناها آنفاً تستوجب
جهداً من اجل بلورة مشروع يعيد التأسيس في المجالين السياسي والاجتماعي
على الصعيد الدولي، وهذا ما حاولت الاونيسكو في اعمالها ان تصوغه انطلاقاً
من فكرة «العقود الاربعة». عقد اجتماعي جديد اساسه التربية
للجميع على مدى الحياة، وعقد طبيعي، وعقد ثقافي، وعقد اخلاقي يشكلون
المحاور الاساسية لهذا المشروع، في مجتمع شمولي برهاناته الكونية. فبدون
تعميم التربية على الجميع ومدى الحياة، كيف يمكننا استئصال الفقر الشامل
وكيف يمكننا نشر القيم الديموقراطية بفعالية وكيف يمكننا بناء جتمعات المعرفة
الحقيقية؟ بدون عقد طبيعي لا يكون فيه الانسان بعد الآن «السيد والمسيطر»
على الطبيعة وانما المؤتمن عليها، كيف يمكننا وضع حد لانتهاك الموارد القائمة
الذي قد يقضي نهائياً على امكانات التنمية المستدامة، وبالتالي على حظوظ
الاجيال المقبلة؟ من دون عقد ثقافي، ما هي السبل التي نملكها لمواجهة القضاء
على التنوع الثقافي؟ بدون ان نعيد تحديد المتطلبات الاخلاقية التي تتضمن
هدف حقوق الانسان وتسمح بتحديد اطار للأمن البشري، كيف يمكننا ارساء
اسس ديموقراطية استباقية ومواطنة كونية؟

لو استرسلنا في الاسئلة، اما من خشية ان نصاب بالدوار وان نشخص بشكل
متسرع ضياع المعنى الذي رأينا فيه ملامح العدمية؟ بالتأكيد ان خطر ضياع
المعنى يبقى الافق المتواتر لعدد من الاسئلة التي تواجهنا. يكفي ان ننظر الى
تنوع اشكال الامراض النفسية المعاصرة لنفهم ان مجتمعاتنا الحالية، وبعد ان
ضيعت الزمن، هي على وشك ان تخسر الروح كذلك.كل شيء يحدث وكأننا
في عصر الانتاج القصير المدى قد استسلمنا لعبودية الضغط النفسي
وتسلط الاستعجال.

----------------------------------------------------
الكاتب هو محرر كتاب «القيم الى أين؟» الذي صدرت ترجمته عن دار
النهار، ومنظمة اليونسكو، بقلم زهيدة درويش جبور وجان جبور.
والنص هو مقدمة الكتاب .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق