07‏/12‏/2019

سؤال الجسد لدى الأجيال الجديدة

                 سؤال الجسد لدى الأجيال الجديدة

عبدالخالق مرزوقي

في ظل ما نشهده من تحولات تجري على الأرض، في المجتمعات العربية والخليجية منها تحديدا، ومازالت خارج إطار البحث العلمي في المجال الإجتماعي، نرى
أن "الجسد"- اختيار كلمة جسد هنا بدلا من جسم مقصود لكون الأولى تعبر أكثر عن المعنى المادى المجرد - من المحرمات الثقافية التي تقترب الأجيال الجديدة من 
كسر تابو الحديث العلني عنها في مجتمعاتنا "المحافظة"، أعني الجسد في واقعيته 
المادية، عذاباته، حاجاته، وجماله.

بالتاكيد أن الجسد كمادة لم يكن غائبا، عن غالب الحضارات الإنسانية، لكننا نتحدث عن تعميم مفاهيم جديدة تتناوله فمنذ العام 1960 بحسب (ديديه انزيو) حدث "تطور" للأفكار والأذواق والعادات في المجتمعات الغربية، فرنسا تحديدا وبرزت توجهات تبرز مكانة الجسد في الثقافة الجديدة، كمعارضة الحكم بالإعدام وحق تحديد النسل استقلالية المرأة في الحياة المهنية والخاصة، ثم ابتداء من السبعينات والحديث مازال لديديه انزيو برز وجوب أخذ الجسد بعين الإعتبار "كتجذر للذات في الكائن"، وكالآلة الأولى للإتصال والتبادل في آن معا، وفي تعددية اشكاله الجنسية.*

في مجتمعاتنا وصلت هذه الأسئلة للتناول العام والمعمم متأخرة، فقد كانت تتداول في العقود الماضية في الأوساط الفكرية والثقافية وحدها، وعلى استحياء غالبا بمعزل عن المشاركة العامة في الحديث، التي اتاحتها وسائل التواصل الإجتماعي أسئلة من نوع هل اجسادنا مجرد "مادة" نمتلكها كما نمتلك أي شيء آخر؟ فقط مجموعة "اعضاء" وخلايا عصبية مترابطة، وبالتالي اذا كانت الإجابة بنعم يترتب على ذلك اننا نستطيع التصرف بها كما نريد. 

و"نمتلكها" هنا شائكة، فإن كانت اجسادنا مجرد مادة 
نمتلكها، فأين نوجد "نحن"! وهل نستطيع فصل وجودها عن وجودنا؟

أم تمتلكنا هي! وبالتالي نحن مجرد كائن مادي، تحركه خلايا عصبية، كما تقول بعض الإتجاهات المادية في الفكر وبالتالي نحن مجبرين على الإستجابة الآلية لكل متطلبات تلك المادة واحتياجاتها التي تعبر عنها.

أم نحن "كائنات متجسدة"، فلا نستطيع فصل الذات المتجردة عن اجسادنا، وبالتالي كما نتحدث عن احتياجات الجزء غير المادي فينا، بشكل اعتيادي ومعلن، علينا 
ايضا أن نولي الجانب المادي الإهتمام، وأن نمتلك القدرة 
على الحديث عنه بشكل طبيعي واعتيادي كذلك.

اجابة هذا السؤال ليست هدفي هنا، ولا اطلب تجاوزه 
كذلك، ما اهدف إليه هو تجاوز الإجابة، الي سيقترحها كل من يقرأ ما سبق - اذا فعل - للسؤال الذى تضمره بعض تلك الإجابات بدورها.

وهو أن الإجابات التي تقترحها اجيالنا الجديدة، كممارسة عملية، وتتداولها فيما بينها، سواء في ظاهرة العمليات التجميلية، أو استغلال الجسد وحينا بعضه كأداة 
للتسويق، سواء التسويق التجاري أو تسويق الأفكار - هذا 
لا يقتصر على اتجاه معين، أو جنس محدد - أو في 
الحديث الذي مازال يتم استحياء حول "الحرية الجنسية"
وكما ذكر (ميشيل مارزانو) "كون الجسد موضوع مادي
فإنه يدخل في حقلي التحول والظهور"**، فإن هذه الممارسات العملية تعبران تعبيرا واضحا عن تحول وظهور الجسد في الثقافة الإجتماعية القادمة، وتتم هذه
الإجابات بناء على افكار ذاتية واهواء نفسية، لكونها غير مصحوبة بتأسيس معرفي عميق يضع تلك الأفكار في سياقها الفكري، ويجعل الذات فاعلة، وليست فقط منفعلة امام هذه الأفكار، أو بمواكبة من المشتغلين بالحقول الفكرية والثقافية الذين مازالوا بعيدين عن مواكبة الأسئلة العملية في مجتمعاتنا.

-------------
*ديديه انزيو
* *ميشيلا مارزانو


15‏/11‏/2019

الميل للسيارات الصينية، واعتراف الطبقة الوسطى بهزيمتها



الميل للسيارات الصينية، واعتراف الطبقة الوسطى بهزيمتها


عبدالخالق مرزوقي



من النادر أن نسمع بعلم الإجتماع الإقتصادي، أو نقرأ عن دراسات أو تحليل 
يستند على هذا العلم، عوضا عن تدريسه في الجامعات الخليجية، كتخصص 
مستقل رغم اهميته، وارتباطه بكل من علمي الإجتماع والإقتصاد من جهة
والحاجة له لتفسير الكثير من التغيرات، والسلوكيات التي تظهر داخل المجتمع.

وأهمية هذا الفرع، من العلم، تأتي من كون النشاط الإقتصادي، كأي نشاط اخر
احد الظواهر الإجتماعية، التي لا يمكن فهمها، وتفسيرها، إلا في ضوء التفاعل 
والتأثير المتبادل لها، مع بقية الظواهر الإجتماعية الأخرى.


في العقد الاول ونصف العقد الثاني، من القرن الحالي، اي منذ العام 2000 
إلى العام 2015 تقريبا، شهدنا تفوق كبير للسيارات الكورية، في الاسواق 
الخليجية، على حساب السيارات من الدول الأخرى، لأسباب عدة اهمها التطور
الكبير في صناعة السيارات في كوريا، مع الإنخفاض " النسبي" لاسعارها 
مقارنة بالسيارات اليابانية القريية منها، هذا فيما يتعلق بالصناعة والتكنولوجيا
وهذا يمكن الحديث عنه، اذا تناولنا الموضوع من جانب اقتصادي بحت.

من باب علم الإجتماع الإقتصادي، ندخل للعلاقة بين الميل للسيارات الكورية 
في العقد الماضي، وللصينية في السنوات الثلاث الأخيرة - مع عدم اهمال الجانب
الاصناعي والتكنولوجي في الموضوع - وبين اوضاع الطبقة الوسطى وتحديدا 
للشريحة الدنيا منها، في دول الخليج العربي.

في العقود القليلة الماضية، كان من "دلالات" رغبة واندفاع، افراد الشريحتين
الوسطى والدنيا من الطبقة الوسطى، في الترقي الإجتماعي ومشابهة الشرائح
الاعلى، في التملك والإستهلاك، هي في امتلاك المسكن، من نوع "فلة" والسيارة
والتي تفوق في قيمتها المالية، مقدار ما يملك من مال خاص، وما يستطيع دفعه
من اقساط، وكان يعوض ذلك عن طريق القروض البنكية، وفي ال 15 عام 
الأخيرة، رأينا هذه الشريحة، تلغي "الفلة" السكنية من طموحها، وتتجه به نحو
امتلاك "دبلكس"، وهي ذات الفترة الزمنية التي شهدت التحول الكبير نحو 
السيارات الكورية، نتيجة للضغوط الإقتصادية، التي تعرضت لها هذه الطبقة
واثرت كثيرا على قدراتها الشرائية، وكانت مازالت - عن طريق الإقتراض 
والتقسيط - تستطيع امتلاك سيارة، والسفر في الصيف كعائلة، بما يفوق امكاناتها
المالية الخاصة.

في الخمس سنوات الأخيرة، تزايدت الضغوط الإقتصادية، على هذه الطبقة، سواء
نتيجة لتأثرها بالتضخم الإقتصادي، وانخفاض القدرة الشرائية لديها، لعدم تناسب
نسبة ارتفاع معدل الأجور، خاصة في القطاع الخاص، مع نسبة التضخم وارتفاع
الأسعار من جهة، ولإستحداث مجموعة من الضرائب والرسوم، ورفع اسعار 
منتجات الطاقة والكهرباء وغيرها من جهة اخرى.

تزايد الضغوط الإقتصادية، على هذه الطبقة، ادى بها إلى التحول، قسرا، نحو 
مزيد من العقلانية في سلوكها الإقتصادي، والتغير في السلوك الإجتماعي ايضا
ونرى مظاهر من ذلك، في التحول حتى عن المركبات الكورية، نحو الصناعة
الصينية، وفي القبول بوظائف ذات اجور، لم يكن هناك اقبال كبير عليها من 
الشريحة ذات التعليم الجيد، وعلى المستوى الإجتماعي نرى ذلك في تأخر سن 
الزواج، وفي تفضيل المرأة الموظفة على غير الموظفة عند الزواج، وفي التنازل
عن "الدبلكس"، والإتجاه نحو امتلاك "الشقق" السكنية، خاصة في المدن الكبيرة
وفي الانخفاض النسبي للسفر إلى الخارج للسياحة - كعائلة- لصالح السفر بشكل
فردي، أو على شكل مجموعات، ولولا برامج الإبتعاث الحكومية، لم نكن لنرى 
نسبة تذكر من هذه الشرائح، تستطيع الدراسة خارج دولها.

ولأن هذا التغيير، لم يكن نتيجة لوعي عام، مسبق، ورشد اقتصادي، فإنه كان 
يضمر في داخله، اعلان هزيمة للطبقة الوسطى، عبر تخليها عن احلامها
وطموحاتها، في الإلتحاق بالشرائح العليا من ذات الطبقة، وهو الطموح الذى 
كان ظاهرا بشكل كبير خلال العقود الماضية، ليتحول نحو تحسين نسبي لمستوى 
المعيشة، وضمان حياة جيدة وآمنه اقتصاديا بعد التقاعد.

هذا الضغط الذى تتعرض له الطبقة الوسطى، وهي في العادة الطبقة التي يشكل
استقرارها واتساعها، استقرار المجتمع بكامله، سيتجه بالمجتمعات باتجاه
تحولات اكثر عمقا، مازلنا في بداياتها.


02‏/11‏/2019

المعاني الظاهرة والمضمرة، بعض الصور كمثال




من منهما ترمم الأخرى؟ أو تتوحد معها؟

في هذه الصورة، والصورة هنا كمثال على فقط على
وجود معنيين للشيء، مباشر يدلنا عليه البصر، وذهني
موجود في اللاوعي، أي اننا امام صورتين، صورة ظاهرة
هي ما تراه العين، والصورة الذهنية له لدينا، التي تفعل في
الذهن ويمكن أن نستشفها من نظرة العينين الشغوفة
للفنانة والمتوحدة مع كليوباترا.

الصورة المضمرة الموجودة في الذهنو واللاوعي
عن كليوباترا، الأنثى، الفاتنة، المراده، الملكة
ذات القوة والسلطة، الشغوف بها كل من في عصرها

وتلك الصورة المضمرة، التي ساهم في تشكيلها التاريخ
والأدب والفنونت، تجعل الأنثى التي تقترب منها، تحاول
التلبس ببعض روحها، أو التوحد مع تلك الصورة الذهنية
واعتقد أن ذلك ما دفع لتكون هناك تلك النظرة، والشغف
المرتسم في الوجه وفي العينين، لهذه المرأة المختصة
في الآثار، اثناء ترميمها لما يمثل صورة كليوباترا.


12‏/10‏/2019

عرض كتاب: المرجعية والمنهج



عرض كتاب: المرجعية والمنهج 
"دراسة نظرية تطبيقية"

IMG_٢٠١٧١١٢٧_١٧١٤٠٣_٨٩٣



المؤلف: الدكتور أحمد مرزاق
عرض: عبدالخالق مرزوقي


د. أحمد مرزاق، من مواليد مدينة وجدة المغربية عام 1974، حاصل على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث عام 2010، ويعمل معلما في التعليم الثانوي.


يثيركتابه (المرجعية والمنهج) أسئلة معرفية مهمة، حول المرجعية والمناهج، ومنها تصل الأسئلة لمدى اعمق، حول الهوية الثقافية، والتمايز الحضاري بين الأمم، ولا يدعي تقديم اجوبة كاملة بقدر ما يحاول فتح الطريق للوصول إلى الوعي بها، والبحث عنها.

فيقول في مقدمة الكتاب:


يتطلب الحديث عن المنهج فتح ملفات تطول تراثا بأكمله، تراثا يبدأ مما يسمى النهضة العربية إلى حدود الوقت الراهن، لكي نسأل ونلح في السؤال عن المناهج القارئة والمفككة للتراث والواقع، فنحن قد نكون دخلنا في طريق مسدود منذ اللحظة التي أقصي فيها سؤال المنهج وعلاقته، الوصل أو الفصل، بالمرجعية، إذ كان الأولى أن ننقب في مجموعة قضايا أولها وأهمها قضية المفهوم، وهي من اخطر القضايا واعوصها.

يذهب الباحث التونسي عمر الشارني إلى أن المصطلح "
يرتبط ارتباطا متينا بأرضه وموضعه الذى نشأ فيه -المقصود بالموضع هنا حقل معرفي معين -لا يغادره إلا وتعرض حتما للتشويه، وعلينا أن نعلم أن المفاهيم العلمية ضاربة في الخصوصية
غير قابلة لأن يتحول بعضها إلى بعض". مما يعني أن المصطلح متجذر في تشكيل حضاري له لغته المعجمية والحضارية.

لهذا استعارة المفاهيم من حقل معرفي إلى حقل آخر قد يحمل مخاطر ومزالق
أما نقلها من نظام معرفي، أو مجال حضاري معين، واستنباتها داخل نظام آخر 
مغايرلا يؤدي إلى النسف، بل إلى خلخلة وشل الحركة داخل المنظومة المستورِدة
 خصوصا إذا تم هذا الإستيراد في لحظة الوهن الحضاري.

وثاني هذه القضايا قضية تداخل الحقول المعرفية، فهذا التداخل يفرض على كل 
قارئ الإلمام بالسياسات المختلفة للعلوم ليلاحظ الوشائج والعلاقات التي تقيمها هذه 
العلوم فيما بينها.


وقد حاولت في هذا البحث أن أشير إلى العلاقات التي تربط الحقول المعرفية، الفلسفية والإنسانية، والطبيعية والأدبية فيما بينها، وهذه الإشارة دافعها الأساس هو الكلام الكثير الذى نسمعه، في مجال المعرفة العربية عامة، والدراسات الأدبية خاصة، عن 
الأستعارة الإستلهام، الإستيحاء، الإقتراض، النحت، التركيب، التكييف، التطبيق التوظيف. 

وغيرها من المصطلحات التي تخفف من عملية النقل من خزان المعرفة الغربية، ثم الحديث المتواصل عن الفصل بين الدين المسيحي واليهودي والمعرفة الفلسفية 
أو الأدبية.

هذا الدافع يلح على اعادة الإعتبار للسؤال والشك في كل شيء، ومن هذا المنطلق 
جاء البحث عبارة عن سؤال كبير هو: ما علاقة المنهج بالمرجعية؟ بكل مكوناتها: 
الدين، الأسطورة، العلم، الثقافة؟


ثم يقول في سؤال المنهج والمرجعية:

يخلص الباحث السعودي سعد البازعي، في دراسته التي قدمت إلى ندوة (إشكالية التحيز)، إلى نتيجة مفادها أن "القول بإمكانية فصل المنهج عن سياقه دون إحداث 
أيه تغييرات، أو بعد ادخال تعديلات طفيفة، هو نوع من الوهم الذى سرعان 
ما يتكشف تحت محك التحليل التاريخي للخلفية الثقافية الفلسفية التي تحملها تلك 
المناهج"

تأتي تلك النتيجة بعد إقراره أن الناقد العربي مخير بين أمرين: إما أن يعمل على 
تطبيق المنهج المستورد كما هو، والنتيجة هنا هي إساءة فهم المادة الأدبية
وإما يعمل على تغييره تغييرا جذريا، فيصبح أمام منهج جديد لا صلة له بالمنهج 
الأول.

وأظن أن القضية نفسها وما يتعلق بالإختيار الثاني خاصة، قد عالجها أبو القاسم 
حاج حمد، حينما تعرض المحاولات التي رامت تطعيم الماركسية بالنزعة الإنسانية يقول: "حين يتفاءل احمد حيدر بالنزعة الإنسانية، عليه أن يتذكر أن هذه النزعة الإنسانية هي نزعة خارجية (ذاتية)، وبالتالي فإن كل محاولات التجديد في الفكر الماركسي لا تعني سوى نهاية الماركسية نفسها".

لماذا نهاية الماركسية؟  "لأن تجريد الماركسية من الجبرية، ليتخذ الديالكتيك مكانُة بحرية في حياة الإنسان، منطلقا من الحوار بين الذات والموضوع، هو أمر غير ماركسي"، يعني هذا أنه حين يختار الباحث منهجا معينا، للتعامل مع حقل من 
حقول المعرفة الإنسانية، فهو ملزم بمجموعة من الثوابت والسمات التي تؤسس 
المنهج وتحدد خصوصيته بالمقارنة مع منهج آخر، وعليه فلا يمكن مثلا أن يكون الباحث بنيويا وتفكيكيا في الوقت نفسه.

هذا القول بالتلازم بين الخلفية الحضارية وبين المنهج، ليس جديدا في الثقافة العربية الإسلامية، ولا نشاطر البازعي رأيه في قوله إن الآراء في هذا التلازم (لا تكاد 
تتجاوز القناعة البداية)، لأننا نملك نماذج معينة حاولت التصدي لهذا الإشكال
والمساهمة بالفعل في اضاءته عبر مجموعة من مؤلفاتها، أولها شيخ الإسلام 
ابن تيمية، من خلال مصنفة (الرد على المنطقيين)، فهو يعتقد أن المدخل الفعال 
لإصلاح عقائد اهل عصره يتم عبر اصلاح طرق تفكيرهم، ولما كان المنطق 
الأرسطي هو "الأرغانون" أو القانون الناظم لذلك العقل، فقد كان لابد من التوجه
لدحض أسسه الفلسفية.

فيصبح بذلك منطق أرسطو منطقا للغة اليونانية، وليس لكل اللغات، لكن الثورة 
الفلسفية التي دعا لها -ابن تيمية – أهمِلت، كما أهمِلت قبلها ثورة الغزالي، الذى 
رأى ومن خلال نقده للفلسفة اليونانية، أن العقل الإنساني قادر على العلم الوضعي
وأنه يبقى جدليا في الإشكالات الماورائية، فهذا العمل الجبار الذى قام به لدحض 
الفلسفة كان أهم إسهام ايجابي له في تاريخ الفكر الإنساني.

والتأسيس للعقل العلمي أو للعلم الوضعي الذى قام به الغزالي ستظهر نتائجه في 
لحظتين مختلفتين: لحظة النهضة الأوروبية، ولحظة ابن خلدون، فهو ايضا وقف 
موقفا حازما من الفلسفات الحلولية الغنوصية، وكذلك من المنطق.

النموذج الثاني الذى يقف مستوعبا لخصوصية المعرفة، أو لإشكالية التحيز في 
الإبداع البشري، هو حازم القرطاجني، حيث يقول:
" فإن الحكيم أرسطوطاليس، وإن كان اعتنى بالشعر بحسب مذاهب اليونانية فيه
 ونبه على عظيم منفعته وتكلم في قوانين عنه، فإن اغراض اليونانية إنما كانت 
اغراضا محدودة في أوزان مخصوصة، ومدار جل اشعارهم على خرافات كانوا يضعونها/ يفرضون فيها وجود أشياء وصور لم تقع في الوجود، ويجعلون 
احاديثها أمثالا وأمثلة لما وقع في الوجود، وكانت لهم ايضا امثال في اشياء موجودة 
نحوا من امثال كليلة ودمنة، وكانت لهم طريقة ايضا، في اشعارهم، يذكرون فيها 
انتقال أمور الزمان وتصاريفه، فأما غير هذه الطرق فلم يكن لهم فيها كبير تصرف كتشبيه الأشياء بالأشياء، فإن شعر اليونانيين ليس فيه شيء منه، وإنما وقع في 
كلامهم التشبيه في الافعال لا في ذوات الأفعال"

المهم من كل هذا هو أن هناك محاولات كانت في جوابها على سؤال العلاقة بين المرجعية والمنهج مستوعبة للإشكال، وهذا يظهر جليا في مثال ابن تيمية، الذى 
يرى أنه لا يتم دحض المناهج - هنا المنطق – إلا عبر دحض أسسها الفلسفية
ومستوعبة ايضا لقيمة التمايز، ولو بشكل متفاوت بين مجالين حضاريين، وإلم 
تصدر عنه في كل انشطتها المعرفية كما رأينا مع الغزالي.

هذا التمايز وهذا الوعي سيلغى مع عميد الأدب العربي، وذلك لكي نُشعِر"الأوروبي"
بأننا نرى الأشياء كما يراها، ونقوم الأشياء كما يقومها، ونحكم على الأشياء كما 
يحكم عليها.

هل لأن المغلوب مولع بتقليد الغالب؟، أم لأن الذات التي كانت تستحضر ككيان 
مستقل في مواجهة الآخر لم تعد عذراء، بل مغتصبة بعدما أعيد ترتيب داخلها
بشكل يخدم الإتجاه النازع نحو توحيد العالم وتنميطه.

فنحن حسب طه حسين، لو اخذنا نتائج العقل الإسلامي كلها، فستعود وتؤول لتتطابق
مع "المركز" وهو "المرآه"، فكل شيء عند "الأنا" ينحل ليعود إلى الأصل اليوناني
أو الروماني أو التوراتي المسيحي، وهو عينه ما فعله الإستشراق، وإن كانت 
للإستشراق دوافعه.

فطه حسين وهو يستعين بالفرنسي بول فاليري، الذى شخص العقل الأوروبي 
فأرجعه إلى اليونان (فلسفة، أدب، فن)، وإلى الرومان (سياسة، فقه)، وإلى المسيحية (دعوة إلى الخير والإحسان)، نسي وهو في هذه الزحمة منهجة الديكارتي الذى كان 
قد تبناه ونسي القاعدة الأولى والأساسية بتعبيره لهذا المنهج وهي: "أن يتجرد الباحث 
من كل شيء كان يعلمه من قبل"، وطه حسين باعتباره (المرجع لنهضتنا العلمية في الدراسات الأدبية)، كما يزعم شوقي ضيف، كان أول من دشن الإشكالية المنهجية 
التي ستتعاظم مع مرور الزمن، اعني إخضاع الذات الثقافية بجوانبها المتعددة
لمعيار غربي، والنظر إليها بمنظور الآخر.

نعم، فطه حسين لم يهتم بالمعري، إلا لأن "الإفرنج قد عنوا بالرجل عناية تامة"  
والقول لطه حسين، وترجموا له، واكثروا من القول في نبوغه وفلسفته، ولا ينظر 
إليه إلا عبر منظار الآخر الذى هو ( المنهج التاريخي)

فالغرب صار "مركز" يحدد موضوع البحث، ثم المنهج وما يتصل به من مفاهيم واجراءات ومصطلحات، وبهذا يكون "الإنسان العربي الحديث والمعاصر قد فقد 
القدرة على تسمية الأشياء"

واشارة بسيطة وعابرة إلى المشاريع العربية، توضح أن السؤال حول المنهج 
والمرجعية دخل في عداد المسكوت عنه، أو (اللا مفكر فيه)، مما حدا ببعض 
المفكرين العرب إلى القول: "يكاد يذهب بنا القول إلى التأكيد، انه لم تعرف الثقافة العربية الحديثة، منهجا نقديا، اكتسب شرعيته المنهجية إلا وقد كان تأثر بصورة 
مباشرة أو غير مباشرة، بالموجهات والإجراءات التي اتصفت بها المركزية 
الغربية في حقل البحث الأدبي ونقده، بل في جل الحقول المعرفية".


وبعد أن يعرض المؤلف لآراءه، حول إستلهامات كل من حسن حنفي ومحمد برادة ومحمد مندور والجابري كأمثلة، يكتب:


وهل يكفي أن نقول إن معظم النقاد العرب الذين يعمدون إلى اختيار مناهجهم 
وأدواتهم التحليلية من مستودع المناهج الأجنبية، لم يتمثلوا هذه المناهج تمثلا نقديا
ولم يراعوا خصوصية المعطيات التي يدرسونها..ف (الإستلهام) و (التمثل)
و(الإستعانة)، و(الإستيحاء)، وغيرها، كلمات تعمل عمل السحر، لتبرر النقل السهل والعجز عن الأبداع.

بعد كل هذا التماهي في ثقافة (الآخر)، والتطابق معها، سواء على مستوى الرؤية 
أو المنهج، بل حتى في الموقف من الذات، لا نستغرب الآراء الطالعة علينا كل حين 
ومرة، بوعائية المنهج واجرائية المفهوم، بل حتى كونيته، فالبنيوية "ليست فلسفة
لكنها طريقة في الرؤية ومنهج في معاينة الوجود" (كمال ابوديب – جدلية الخفاء والتجلي).

وكأننا نحقق نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم.." 
هذا لا يعني أن الرسول يؤسس للجيتو، إنما المسألة لا تخرج عن التحرر من 
"إمبريالية المقولات"، ومن حالة السيولة التي كان يتعامل أو يدرك بها الفكر 
العربي الحضارة الغربية، فالذين يصرون على استيراد الميزان (الكليات 
أو المطلقات أو الغائيات)، يصرون في واقع الأمر على استيراد اختيارات 
الآخرين ورؤيتهم.


يقول في المرجعية بعد ذلك:
يثير الكلام حول المرجعية كثيرا من الأسئلة الشائكة، التي تحتاج لعقل جبار
ليتسنى له تجريد المرجعية الكامنة خلف كل الإبداعات الحضارية، أو تجريد 
(النموذج المعرفي) الكامن، على حد تعبير عبدالوهاب المسيري، والحفر يجب أن 
يأخذ بعين الإعتبار بدايات التشكل، فلا يمكن مثلا فهم النهضة الغربية، بمعزل عن التراث الإغريقي والروماني، فكل ما حدث أن إنسانيي النهضة "ازاحوا جانبا آباء الكنيسة وأرسطو ورجال اللاهوت في العصور الوسطى، واحلوا محلهم مجموعة 
من الكتابات التي حفظها لهم التاربخ عن الإغريق والرومان" 
(كرين برينتون- تشكيل العقل الحديث)


وعن مركزية التاريخ في تشكيل المرجعية:

المرجعية تتشكل داخل التاريخ، وهي اشبه ما تكون بكرة ثلج تحمل نواتها داخلها 
وتتدحرج من قمة الجبل، فتضاف إليها عبر مسيرتها عناصر تساهم من جهتها في إثرائها واغنائها، وتحاول هي – المرجعية أو النواه- من جهتها تذويب وهضم هذه العناصر.

وهنا مسألة مهمة تحتاج توضيح، فالقول أن المرجعية تشكيل تاريخي أمر نسبي 
يرتبط بالحضارات التي لم تعرف الرسالات السماوية، أو التي عرفتها لكن وقع 
التحريف فيها كاليهودية مثلا، فهذا الحكم لا ينطبق انطباقا تاما على الحضارة 
الإسلامية، لأن نواة مرجعيتها هو القرآن الكريم، الذى تكفل الله سبحانه بحفظه 
فهذا القرآن هو المهيمن، على كل الثقافات قديمها وحديثها، وعبره تتم مراجعة 
ابداعات كل البشرية، وقد قام فعلا القرآن بمراجعة وتقويم تراث الأنبياء الذى 
حرفه اتباعهم، هذا التوضيح ضروري، خصوصا في وقت صار فيه المتبني 
لبعض آليات القراءة الغربية بدعوى عالميتها، لا يميز بين النص التاريخي 
والنص القرآني.

والمثال الذى يمكن تقديمه هنا هو عنصر العلم، فرغم ما يقوله الغرب من أن 
"الفلسفة والعلم كما نعرفهما اختراعان يونانيان"، وأن "حضارة الغرب التي انبثقت
من مصادر يونانية، مبنية على تراث فلسفي وعلمي بدأ في ملطية Miletus منذ 
2500 عام"، فإن عبدالحميد يويو يقدم ورقة يطرح فيها سؤالا هو: "إلى أي حد
يمكن اعتبار اليونان مهد العلم ومسقط الروح العلمية في البحث والدراسة للعالم 
الخارجي الكون والمادة؟"

فمما لا شك فيه أن الغرب إلتقط هذا المفهوم من الحضارة الإسلامية، وجرده من 
حوافه ليدخله إلى نسقه حتى يتلائم وروحه التدميرية.

بناء على ما سبق نفهم بعض المحاولات التي تروم رصد إرهاصات مجموعة من 
الأفكار الحديثة داخل أثينا، كمفهوم العلمانية ومفهوم الصراع، أو كما يسميه 
المسيري بالإبادة، هذا المفهوم الذى كانت من بين اصوله مجموعة من الأساطير المؤسسة لنزعة الغلبة، والسيطرة كأسطورة (برومثيوس)، وبعض التأملات 
الفلسفية لكبار الفلاسفة كهرقليطس الذى يقول: "لقد كان هوميروس على خطأ 
حين قال: ليت الصراع يختفي بين الآلهة والناس! إذ أنه لم يدرك، انه كان يدعو 
بذلك لدمار العالم، فلو استجيب لدعائه هذا، لفنيت الأشياء جميعا".

ونفهم كذلك عودة بعض الفلاسفة، بل جل الفلاسفة الغربيين إلى "المركز" أثينا
حين محاولة تحطيم أو تفكيك بعض الثوابت، كثابت العقل (اللوغوس)، والمنطق والحضور مع دريدا، وتمجيد القوة والحياة عند نيتشه، لأن اليونانيين " لم يكونوا عقلانيين بل كانوا مشحونين بإرادة الحياة" ( رونالد سترومبرج)، وان نيتشه 
وذويه "جزء من هذا الكون، وهو اعمى والصراع فيه مستمر ودائم".

هذه الإستمرارية التي تحاول بعض الدراسات تفاديها بإسم (القطيعة المعرفية)
أو التركيز على لحظة معينة خصوصا القرون الثلاثة الأخيرة، هي القادرة على 
فك شفرات مجموعة من الأفكار.

فإذا سلمنا بأن الصراع بين الكنيسة وكل ما يدخل في نطاقها كالدين والفكر 
اللاهوتي والرموز، وبين الفكر" الحر" العلماني قد حسم لصالح الفكر العلماني
فلا يمكن فهم مجموعة من القضايا، واهمها هنا قضية (نهاية التاريخ) كمثال فقط
فنهاية التاريخ أو إشكالية (موت التاريخ)، هي إشكالية كامنة في الحضارة المادية 
الغربية كما يؤكد المسيري.


ثم يستمر د. احمد مرزاوق في الحديث حول مكونات المرجعية الغربية:


يرى مجموعة من الدارسين أن المرجعية التاريخية للفكر الفلسفي والديني الغربي 
هي نتاج ثلاث مكونات هي:
1- الفلسفة اليونانية
2 - لتراث الروماني
3-- المسيحية

وهذه المكونات التي يقدمها عرفان عبدالحميد لا تخرج عما قدمه الإستشراق 
أو المركز فالعقل الأوروبي كما شخصه بول فيري، الذى استعان به طه حسين 
في بحثه عن اصول (العقل) الإسلامي، يرد هذا العقل إلى عناصر ثلاثة، حضارة 
اليونان وما فيها من أدب وفلسفة وفن، وحضارة الرومان وما فيها من سياسة وفقه والمسيحية وما فيها من دعوة إلى الخير وحث على الإحسان.

ولكن هناك أصول اغفلها الغرب في تحقيبه للعقل الإنساني، وذلك عن قصد، وهنا 
لا نقصد الأصول البعيدة كمصر وبابل، ولكن الأصل الإسلامي من جهة، والتراث اليهودي من جهة أخرى، وإن كان الأصل الاول لم يستطع الغرب إستيعابه، وإنما (إلتقط)، وهي كلمة مقصودة، بعض مساهماته كالمنهج العلمي، وبعض مفاهيمه 
كمفهوم العمل، يبقى هناك مكون أو مصدر آخر يذكره الباحث المصري حسن 
حنفي وهو : البيئة الأوروبية نفسها، وهي تتضمن الديانات الوثنية التي عاشت فيها أوروبا قبل إنتشار المسيحية، والأساطير والأعراف وامزجة الشعوب وبيئتها 
الجغرافية، فديانات القبائل كما يؤكد حسن حنفي كانت أقرب إلى "أساطير الغزو والحرب، بعيدا عن المبدئ الأخلاقية"

والأمر المراد هنا هو حضور هذه الأساطير والديانات الشعبية في الوعي 
الأوروبي حتى بعد إنتشار المسيحية، فلقد تم تأسيس مجموعة من العلوم الإنسانية 
في القرن التاسع عشر، وقبل ذلك على أساطير معينة، وتم بناء المشروع الحداثي الغربي على أسطورة برومثيوس وفاوست، أما ازمجة الشعوب وبيئتها الجغرافية
فهي ضرورية ايضا لفهم مجموعة من الأفكار، إذ لا يمكن الفصل بين الفلسفة 
الألمانية والطبيعة الالمانية ومزاج الشعب الألماني: حب الطبيعة، النظام، الإحساس بالواجب العمل. كما لا يمكن الفصل بين الفكر الأنجلوساكسوني وطبيعة الشعب في الجزر البريطانية: الحس، التجربة، العادات والتقاليد كبديل عن القوانين.


ثم يتجه بالحديث إلى تناول ثوابت المرجعية الغربية الحديثة:

يقول عرفان عبدالحميد فتاح، إن أول ما يلاحظ على الفكر الغربي انه "فكر اقام 
بنيانه واسسه على قانون مطرد في تاريخه، لا خلف فيه، هو قانون الصراع بين 
الأقطاب المتضادة"، فعبر هذا القانون يغدو وجود قطب معين يقتضي نفي مقابله
نفي إلغاء، فإما الإنسان وإما الله، وإما الطبيعة وإما الإنسان، في الأول يحل الله في الإنسان أو يصل الإنسان إلى الله فينفيه، فيتمركز العالم حوله، حول الذات 
الديكارتيه العارفة، أو الذات البرومثيوسية المنتصرة، فيعلن الإنسان أنه "سيد الكون ومركزه وانه موضع الحلول، ولهذا فهو مرجعية ذاته"، فيسعى للحصول على كل 
شيء بدون إله او نظرية نرفانا ( الفناء في المطلق). وفي الثاني يحل الإنسان في الطبيعة، بعد ان كان كل منهما مغيبا في الرؤية المسيحية، أو يتم تطبيع الإنسان
فيخضع للقانون الطبيعي، ويبدأ الجوهر الإنساني – الثابت في الإنسان- في الغياب تدريجيا، ويحل الطبيعي محل الإنسان. فالشكل الأول من الحلول، اسسته مجموعة 
من الأساطير في التراث اليوناني والتراث الشرقي القديم، الذى احتضنته اوروبا 
مع اليهودية المحرفة ونموذجه اسطورة بابل، ولكنه أخذ ملامحه الحقيقية مع ظهور مؤسسة (كهنوتية) هي مؤسسة العلم في العصور الحديثة، وكانت اهم تجليات 
الصراع ومظاهره هي ظاهرة الثنائية على المستوى الفلسفي: تجريبي/ عقلي
مثالي/ واقعي، وعلى المستوى الأدبي: رومانسي/ واقعي، تفكيكي/ بنيوي
وعلى المستوى المنهجي: موضوعي/ذاتي.

نأتي إلى الثابت الثاني وهو (مؤسسة العلم)، يؤكد الباحث (إدوارد جرانت)، أن 
لعلوم الرياضية وعلم الفلك والبصريات والطب، كانت حتى عام 1500م 
تقريبا اكثر تطورا في العالم الإسلامي مما كانت عليه في الغرب"، لكنه يستدرك 
ليقول "أن العلم لم يمأسس في العالم الإسلامي"، أي لم يصبح العلم مؤسسة ذات 
قواعد راسخة فيه.

وجواب جرانت، حول لماذا لم يتحقق العلم، كما نعرفه اليوم، إلا في المجتمع 
الغربي، هو وقوع بعض الأحداث الأساسية في أوروبا الغربية بين عامي 1175م 
و1500م، هذه الأحداث يجمعها في ثلاث شروط يراها أساسية وحاسمة، وهي:

1- ترجمة علوم الإغريق إلى اللغة الاتينية، ومن دون هذا الشرط ربما لم يكن 
     بالإمكان تحقق الشرطين الآخرين.
2- تكوين جامعات القرون الوسطى، بعد اكتمال معظم الترجمات، بداية من عام  
    1200م، في كل من باريس واكسفورد وبولونيا، وكانت تختلف عن أي شي 
    سبق أن عرفه العالم من قبل.
3- ظهور طبقة فلاسفة اللاهوت، وتتمثل مساهمتهم في موافقتهم على إدخال 
     فلسفة الطبيعة، واستخدامها في مناهج الجامعات الجديدة.

هذه الشروط مع أسباب اخرى، سمحت بتأسيس ( مؤسسة العلم)، التي ستدخل في 
صراع مرير مع مؤسسة الكنيسة، وسيحسم الصراع غالبا لصالح العلم، الذى 
سيتحول إلى (دوغما) في مشارف القرن التاسع عشر، مع الفلسفة الوضعية.

هذين الثابتين، ثابت الصراع وثابت (مؤسسة العلم) من المهم الوقوف عليهما
لانهما المؤطران لكثير من القضايا والإشكالات، فمؤسسة العلم تحدد العلمي والموضوعي وما دون ذلك، وتحدد كذلك المفَكَر والممكن التفكير فيه، والصراع 
يمنع التأليف بين الثنائيات: عقل/ حس، خالق/مخلوق، طبيعة/انسان، بالإنتصار 
لأحدهما وإقصاء الطرف الآخر.


ويختتم حديثه حول المرجعية الغربية الحديثة، بالقول:
الكلام حول المرجعية يحيل مباشرة إلى صيغة المفرد، لأننا نزعم أن كل الثقافات الإنسانية، تشتمل على نظام معرفي معين خاص بها، قد لا يدركها أبناؤها حتى 
العلماء منهم، لأنه نظام كامن، يدخل في مكونات الوعي الجمعي للجماعة البشرية
يقول (محمد أمزيان): "هو مجموع الخلفيات والتصورات والمفاهيم الفلسفية، التي يصدر عنها الباحث في حقل ما، ومجموع الآليات المعرفية التي تشكل سلطته 
المرجعية، وتحدد جهازه المفاهيمي"، ثم يضيف: " فالمنهج حسب السياق يعني 
(العقل) الذى تشكل وتكون عبر سيرورة تاريخية، حتى اصبح مع الزمن (سلطة) 
يفرض نفسه في كل مجال من مجالات المعرفة.

هذا تقريبا قريب مما يقوله المسيري عن (النموذج المعرفي الغربي المادي)، حيث يتحدث عن اهم تحيزات هذا النموذج، والفارق ان امزيان يقصرها على مجال 
تخصصه (علم الإجتماع)، في حين أن الثاني يرى أن التحيز لهذه الأسس وغيرها
تحيز عام يكمن خلف كل العلوم ومناهجها، فالمنهج أو العقل الذى تكون عبر 
سيرورة تاريخية، أو النموذج المعرفي، هي تسميات لمفهوم واحد، وهي تشير إلى 
ذلك المركب أو الكل الذى يشتمل على:

1- تحديد مصادر معينة للمعرفة

2- يقيم العلاقة بينها
3- يحدد تدرجها وهرميتها
4- يبين طرائق ومناهج الوصل إليها، ويضع ضوابط التعامل معها، وفهمها 
     وتحليلها وطرق نقدها ومعايير هذا النقد.
5- يحدد أسس مشروعيتها، ومبررات الإعتماد عليها، والإعتقاد فيها أنها معرفة 
     حقيقية والرضا بنتائجها واستخدامها وتوظيفها.

فالمصادر تضعنا امام ثنائية العقل والحس ومن الكفيل بالمعرفة، والوحي الذى 
أقصي من مجال المعرفة، ومحاولة الدمج بينه وبين الكون عبر ما يسمى 
ب(القراءتين) من جهة اخرى؟. والعلاقات بين هذه المصادر، تفتحنا على تاريخ صراعي بين العقل ومقولاته القبلية أو معارفه الفطرية أو صفحته البيضاء، وبين
الحس، والتدحرج بينهما في الفكر الغربي خاصة. أما طرائق ومناهج الوصول 
إلى المعرفة (الحقيقية) فكانت تحسم غالبا لصالح المنهج التجريبي، على حساب 
طرائق اخرى، عمل السياق التاريخي والمسير الحضاري على إقصائها.

يبقى سؤال: من يحدد مشروعية المعرفة؟، وإمكانيتها أهو العقل الذى يشهد لها؟ 
أم الله؟ هو الذى منحها، وهيأ اسبابها، ليقوم الإنسان بتسخيرها بعد تحصيلها
فتغدو هبه ربانية، وليس (بروموثيوس) هو الذى سرقها من الآلهة ليعطيها 
الإنسان، ليتمرد بها على خالقه، و(يسيطر) بها على الآخر و(يغزو) بها الكون؟
ثم من الضامن انها معرفة (حقيقية) أهو الله أم الذات الديكارتية؟



ينتقل بعد ذلك بنا الدكتور احمد إلى الحديث عن: المنهج بين اللغة والمفهوم
مفردة المنهج حين تطلق في التداول الحديث يراد بها معان كثيرة:

فهي قد تعني ( فلسفة) معينة كامنة، تضبط الافكار وتنظمها، فالمنهج بهذا المعنى 
هو القانون الفلسفي او المبادئ الفلسفية الناظمة، بتحديد واضح للأفكار ومصادرها ومناهجها.

وقد تعني (العقل) الذى تشكل وتكون عبر صيرورة تاريخية، حتى اصبح مع الزمن (سلطة)، يفرض نفسه في كل مجال من مجالات المعرفة.

كما قد تعني مجرد (الطريقة) أو (الخطة)، التي غالبا ما يغيب فيها الحديث عن البعد المعرفي رغم حضوره.

وقد تطلق مفرده المنهج أو المنهاج ويقصد بها (الباب) الذى يتألف منه مؤلف ما.

أما عن المنهج في الدراسات الحديثة:
يميز (العروي) تمييزا واضحا بين ثلاثة مفاهيم، هي المنهج والمنهجية 
والأبستيمولوجيا ويعرف المنهج بقوله: "الطريقة التي تتبع لعرض موضوع من المواضيع"، وتحديد العروي مقصود، لما سيُؤسس عليه من حكم، فهو يقول إنه 
"يمكن  أن تُرفض التاريخانية أو البنيوية كفلسفة، وتوظف كمنهج للتحليل في 
حدود معينة"، واعتبار المنهج مجرد خطة، يثير كثيرا من الإضطراب، فكلمة 
عرض، المنتقاة بحرص، من قبل العروي، لو رجعنا إلى المعجم الفرنسي، لوجدنا
الأمر يختلف، فحين يعرف (Methode) يستعمل (يكشف) و (يبرهن)، وكذلك بدل (موضوع معين) يستعمل (الحقيقة) في مجال العلوم، هذه الحقيقة اكتشفها وبرهن 
عليها ( العقل) أو ( الذهن) الذى لا نجد له حضورا في تحديد العروي.

ونخلص إلى أن المنهج (Methode) يعني: مجموعة من (الخطوات) التي يتبعها (العقل) أو الذهن، ليكتشف (الحقيقة) ويبرهن عليها.

ويكون المنهج إما صريحا او ضمنيا، في حقل الفلسفة خاصة، فالاول حين يُستخدم إستخداما عمليا، أما الثاني حين يتم تقنينه وتبريره، كما فعل ديكارت في (خطاب المنهج)، ويكون المنهج واحدا، بشكل عام، في حقل العلوم الدقيقة، فهو المنهج الإستنباطي في العلوم الرياضية، وهو الإستقراء في العلوم الطبيعية، اما المنهج 
في العلوم الإنسانية والإجتماعية، فيطرح كثيرا من الأسئلة.

يميز (بياجي) حسب ما يقدم لنا محمد وقيدي بصدد العلوم جميعا بين أربعة مجالات
هي:

1- المجال المادي لكل علم: مجموع الموضوعات التي يتعلق بها هذا العلم
2- المجال المفهومي: مجموع النظريات والمعارف التي تم تأسيسها وتنسيقها من
     طرف كل علم
3- الأبستمولوجيا الخاصة بكل علم
4- الأبستمولوجيا العامة

كثيرا ما يقع الخلط بين علم او حقل معرفي معين، ومنهج ما، فيحشر العلم مع 
مناهج يمكن أن يكون احدها منهج هذا العلم، فنحن نعلم أن (الإتجاه النفساني) 
و(الإتجاه اللغوي أو السيميولوجي) و(الإتجاه السيميوطيقي)، كلها إتجاهات ترتبط 
برؤية تتخطى ظاهر النص، لتبرز فيه بينه صورية، بمعنى أن البنيوية المعتمدة 
في هذه (الإتجاهات)، تحاول كما يؤكد عبدالرزاق الدواي، ان تثبت أنه يوجد خلف 
كلامنا الذى نعتقد أنه حر وتلقائي، وخلف خطاب الأساطير، وخلف الأعراف 
والعادات والمؤسسات وأشكال الثقافة، نوع من (النظام الخفي) يعمل في المستوى العميق كبنية يتحتم الكشف عنها، من اجل فهم وتعقل تلك الظواهر.

ثم هناك أمر آخر يتعلق بالبنيوية التكوينية، واعتبارها شيئا آخر غير الماركسية
ويجب التاكيد على (الناظم المعرفي) الذى يعطي كل فكر تماسكه، حتى لا يتحول 
إلى مجرد خطرات تأملية.

هناك فكرة مسلمة، في الفكر الفلسفي خاصة، تقول: لا تعتبر أي فلسفة متماسكة 
أو فلسفة حقة، إذا لم يتوفر لها شرط القدرة على تفسير كل الظواهر، دون الوقوع 
في التناقض فهي ينبغي لها أن تشكل نسقا، قادرا على إعطاء الأسس المعرفية، لكل (علم) مؤسس أو في طور التأسيس، والماركسية لا تشذ عن هذا الإعتبار، فماركس وإنجلز مثلا يمدان العلوم الإنسانية بأسس معرفية قوية، رغم انهما لم يشيرا إلى
إنشائهما لهذه العلوم.

بناء على ما سبق فالبنيوية التكوينية التي تدرس الأدب وبناء الرواية الحديثة، التي 
نشأت في القرن التاسع عشر، وتوافقها او تماثلها وبناء المجتمع الليبرالي، تستند 
إلى المبادئ أو الاسس الأساسية في الماركسية، والجديد فيها هو حقل الإشتغال الذى 
هو الأدب.


ينتقل بعد ذلك متسائلًا عن المرجعية والمنهج أيه علاقة؟


تشتمل كل الثقافات الإنسانية على نظام معرفي معين خاص بها، قد لا يدركه أبناؤها
حتى العلماء منهم، لأنه نظام كامن يدخل في مكونات الوعي الجمعي للجماعة 
البشرية، وهذا يعني ان كل ثقافة بمعناها الشامل، الذى يحتوي كل ما ينتجه الإنسان 
أو كل ما يخرجه من دائرة الطبيعة البكر، ليدخله إلى نسقه الثقافي، يكمن خلفها 
نموذج:
1- يحدد مصادر معينة للمعرفة: فيثبت مصادر ويغيب او يقصي أخرى، فيؤسس 
    ثابته الذى يؤول إليه في تحريره للمعرفة وتحصيلها، هذا الثابت يتراوح في الفكر   
    الغربي بين الحس والعقل بقبلياته الكانطية أو أفكاره الفطرية، وعبر هذا الثابت 
    تتم قراءة كل ظاهرة إنسانية وترد إليه ولا يمكن تفسيرها خارجه.
2- يقيم علاقات معينة بين هذه العناصر، فتكون الغلبة لمصدر دون الآخر، فيسود         
    وتحال إليه كل المعرفة.
3- يحدد طرائق نقد هذه المصادر والمعرفة المتولدة عنها (المجال الأبستمولوجي)
4- يضع المناهج التي توصل إلى هذه المعرفة ويحددها، فيقصي كل المحاولات التي  
    تروم اعتبار ذاتها (منهجا) للمعرفة، فتظل هذه المحاولات تتقرب من الثابت علها  
    تحصل على رضاه.

هذا النموذج الكامن، هو ما نجده حاضرا، بشكل او آخر، في مجموعة من الدراسات فالمسيري عمل جاهدا ليجرد هذا النموذج، فيقرأ مختلف المنتجات الحضارية الغربية
من مسرح، رواية، موسيقى، عمران، لباس، فلسفة، علوم إنسانية، منتجات 
تكنولوجيا سلوكات معينة، مصطلحات وغيرها، ليضع يده على الناظم المعرفي والباحث السوداني أبو القاسم حاج حمد، يشتبك مع الحضارة العربية ازيد من
عشرين سنة ليكتشف هذا النموذج في (لاهوت الأرض).

ونمثل هنا بمثال، في حقل العلوم الطبيعية، والسؤال هنا: لماذا لم يتأسس الإستقراء 
في اليونان، وظل أمدا طويلا ينتظر الحضارة الإسلامية؟.

يعرض أحمد فؤاد باشا التصور النظري العام، الذى يكون نموذجه العلمي الذى يقاس عليه تقييم العلم عموما، ويقدم فيه مثالا عمليا وهو (نظرية الضوء) ليطبق عليها 
تصوره النظري، بحسبه، إن النظريات التي يقدمها كل من أفلاطون وأرسطو 
وأبيقور، حول الضوء، سواء في طبيعته أم تفسير هؤلاء لعملية الإبصار، تتعدد 
بشكل لا يمكن نفي إحداها وإثبات الأخرى، لأن المنهج المعتمد كان عقليا تأمليا فقط
أو قياسا صوريا بحتا، وقد ظل كل فريق يعتقد أن ما يقوله عقله، ويتصوره ذهنه، هو الأصوب وظلت هذه النظريات تنتظر مرحلة الحضارة الإسلامية، التي ستعرف 
ميلاد المنهج الإستقرائي، لأن القياس الصوري يوصف بانه منهج عقيم واجدب، لأنه
لا يسمح بتقديم العلم خطوة واحدة، مهما تراكمت وتكدست المعارف المستنتجه على أساسه، لكن مع الحسن بن الهيثم تم وضع حد للخلافات القديمة حول تعريف الضوء وتفسير عملية الإبصار.


ويبقى السؤال ملحا - وفقا للدكتور أحمد مرزاق - لماذا لم يتأسس الإستقراء في اليونان؟

ألا يرجع هذا إلى (المرجعية) التي حالت دون حصول المعرفة العلمية التجريبية
فعزفت عن العمل اليدوي، والتجربة في المختبر الآن ليست أكثر من عمل يدوي واعتبرته مهنة العبيد والنساء، وقدست التأمل واعتبرت العلم النظري الذى غايته 
المعرفة فحسب، تشبها بالآلهة، هو العلم الحق، ولم تربط بين العلم والعمل كما 
فعلت الحضارة الإسلامية؟

قول أحمد فؤاد باشا إن الحسن بن الهيثم انطلق من مبدأ عام، هو القول بوجود 
العالم الخارجي، وجودا مستقلا في ذاته، خارج الذهن وخارج النفس، وان العقل والحواس ادوات إدراكه، ألا يحيل إلى مبدا التوحيد وثنائية الخالق والمخلوق في 
التصور الإسلامي، عوض وحدة الوجود الروحية أو المادية، التي لا تعين حدودا للثلاثي: الله، والإنسان، والطبيعة؟

ألا يفتح هذا القول كذلك على تاريخية المعرفة، ونسبيتها، المعرفة التي يحصلها 
الإنسان بجهد، وحسب استعداداته الفطرية، ووليست المعرفة المطلقة المجردة 
التي يسرقها برومثيوس من الآلهة ليمنحها الإنسان فيتجبر ويتكبر في الأرض 
بغير حق؟

نطرح هذه الأسئلة لأننا في امس الحاجة إلى السؤال، بعد أن لم تعد الذات، التي 
كانت تستحضر بإعتبارها كيانا مستقلا، في مواجهة الآخر، عذراء، فكيف نترك 
سؤال العلاقة من أزيد من قرن، وقبل ذلك كيف يسوغ الباحث العربي لنفسه النقل
السهل أو الرد السهل، وسلم بإجرائية المفهوم، ووعائية أو اداتية (المنهج)، وهو 
لم يحدده أصلا- بعض الدراسات العربية لا يستغرق منها الكلام حول المنهج 
المتبنى إلا صفحات معدودة، وفي احيان أخرى لا تضبط دلالة المنهج ويتم القفز 
للحديث عن الإجراء- وكيف رفض هذه الوعائية أو الأداتية؟

يتم الحديث في الغرب عن (المفهوم الرحالة)، الذى ينتقل من حقل معرفي لآخر
داخل النسق المعرفي الغربي الواحد، ولكن بكل حذر وحيطة، لأن الباحث هناك 
واعي بأن المفهوم له تاريخ، وبأنه يتعدد، تبعا لتعدد حقول المعرفة، وتبعا للأثر 
التاريخي الذى يتطور في ضوءه ذلك الحقل، وياتي الباحث العربي ليقول 
ب (المفهوم الرحالة) وب (الإستعارة) و(التبييئ)، و(كونية المفهوم)، و(اجرائيته)
دون أن يبذل جهدا في تفكيك هذا الأمر.

أكان القرآن يرفض من المؤمنين، و(يحرم) عليهم (راعنا)، لأن اليهود كانوا 
يقولونها فقط؟ على وجه الإستهزاء والمسبة، أم أن (راعنا) لها تاريخ وايحاءات 
وظلال وعبرها يتم التواصل مع تراث معين.

في الواقع، لا منهج مجرد من مقولاته ونماذجه، ولأن المنهج يتشكل في أحشاء 
النماذج التي يعالجها، و(يكتسي) باللحم من خلال الموضوعات التي يولدها
والباحث يدخل موضوعه، وهو يحمل ايضا مجموعة كبيرة من القضايا والأفكار
حول الدين والتاريخ والمجتمع والآخر واللغة.

لهذا يحذر منير شفيق من الدخول في نقاش حول مبادئ المنهج وتقنياته من جهة
بمعزل عما قدم هذا المنهج، من نماذج، وأفرز من موضوعات من جهة أخرى
حتى لا يخرج من يدعي انه يعمل بهذه التقنيات، في هذا المجال، وبتقنيات أخرى
في مجال آخر، ويوحد ويدمج التقنيات في مجال ثالث، مشكلا منهجا متكاملا
وللأمر ذاته، يذَكِر (أبو القاسم حاج محمد) الباحث احمد حيدر بأن "النزعة 
الإنسانية التي يحاول تطعيم الماركسية بها هي نزعة خارجية ذاتية"، لأن 
"تجريد الماركسية من جبريتها…هو أمر غير ماركسي"، لأن لكل فكر (منهجه
الضابط والمنظم)، فإذا كان المنهج ماديا فهو ينتج افكارا لا تكون إلا مادية.


05‏/10‏/2019

الجوكر الذى فينا

الجوكر الذى فينا


فيلم يشبه الدخول في تجربة نفسية، تحاكي وتماثل ما يتعرض
له الإنسان في هذا العصر

حيث من الصعوبة جدا، عليك، أن تنجو، وأن تحافظ على
الجزء البشري فيك، في مواجهة ما تتعرض له، ويحاول
أن يثير فيك، كل ما هو غريزي وعدواني، وبمواصلة الضغط
على ذلك الجزء منك، المضطَهَد، الغاضب، الثائر، ومحاولة
تجريدك من المشاعر، وكانها عملية متعمدة ل "حيونة الإنسان"
وهذا عنوان للكتاب الشهير لممدوح عدوان.

العبارة التي تلخص ربما جزء كبيرا، من الناحية النفسية
لما يتعرض له انسان هذا العصر، من جهة انه يعاني، ومن
جهة انه غير قادر على اظهار تلك المعاناة، إلا اذا اظهر
ثورته في وجه الجميع، هي العبارة التي وردت على لسان
شخصية الجوكر: " انك لا تسمعينني، لكنني
موجود، وبدأ الناس يلاحظون وجودي"

وكانت في مواجهة الطبيبة النفسية، والي تمثل في الفيلم
رمزية، ذات بعدين، الأول هو بما تمثله من امتلاك سلطة
ومعرفة، تتيح لها وصمنا كما تريد - كما يفعل كل من يمتلك
سلطة وقدرة على وصم الاخرين وتصنيفهم- والثانية للناس
الذين نحن بحاجة للجوء إليهم، كي يقدموا الدعم والمساندة في
 الوقت الذين يكونون هم، احد عوامل هدمنا من الداخل
 بلا مبالاتهم تجاهنا.

في داخل كل منا، جزء يتم سحقه يوميا، كي يتحول لجوكر
وبقية اجزائنا تقاوم ذلك، لكن بعضنا لا ينجو.

عبدالخالق مرزوقي.


20‏/09‏/2019

"الدوامة"




"وحدي لا يمكنني أن أمضي في الطريق الذي أريد المضي فيه، وفي الحقيقة لا أستطيع حتى أن أريد أن أمضي فيه، باستطاعتي فقط أن أهدأ، لا أستطيع أن أرغب في أي شيء آخر، كما أنني لا أريد أي شيء آخر"

فرانز كافكا


" كما أنني لا أريد أي شيء اخر"

في العادة، غالبا لا نصل لهذه القناعة - ألا نريد أي شي آخر- إلا بعد تضييع سنين وافكار ومشاعر، والمرور بصراعات نفسية داخلية بين نوازعنا النفسية، وقدراتنا، والحياة
وما يجري فيها.

ندرك في النهاية اننا نحتاج للهدوء، وحينا فقط بعضه

لكن بعد أن نكون قد استُهلِكنا كثير، بعد أن نكون قد مررنا بخسارات كان يمكن تجنبها.

وهنا يكون بحثنا عن الهدوء، هو بحث الملقي على الأرض، عن انهاء

ما يتعرض له من ضربات، بحث من ينظر للساعة، وينتظر منها اعلان نهاية الوقت، بحث من بعثرته الريح.

 لا بحث من يختار، منذ البدأ، عدم دخول الحلبة، والاكتفاء ببعض المشاهدة من بعيد.

 مشاهدة المتامل للمآلات، لا مشاهدة المشجع المتحمس، فهذا ايضا جزء من اللعبة، وهو ايضا يتلقى بعض الضربات

اتذكر هنا لعبة "الدوامة" كما نسميها في الخليج
 أو "المدوان"، في تسميه اخرى، التي كنا نلعبها، حين
كنا اكثر هدوءا.

ربما "كافكا"، كان يشعر وهو يكتب النص، انه "مدوان" تعب جدا
ويريد فقط توقف هذا الدوران، حتى يهدأ ويرتاح، وربما انا من
ذاتي من يشعر بذلك، وانسب الشعور لكافكا.

لكن في المدوان، التوقف التام يعني السقوط
بلا حركة للابد.



14‏/09‏/2019

حول دور القيادة في المنظمات



لكل منظمة اعمال دورة حياة، كأي كائن حي، لكنها تختلف
في بعض الخصائص، كأن تعود من مرحلة الهرم أو الإحتضار
للحياة بقوة.

ولكي تكون كذلك ينبغي أن تتوفر على قيادة حقيقية
ذات رؤية استراتيجية، وليس مجرد ادارة عليا.

فالقائد حين يبدأ في تكوين رؤية استراتيجية جديدة للمنظمة
فإنه كمثل من يبدأ بناء هرم جديد،  وبناء الهرم يبدأ من
القاعدة وليس من الوسط أو القمة.

تغيير الهيكل_التنظيمي، استبدال الموظفين، ابتكار اجراءات
جديدة للعمليات، تقليل التكاليف، الإنفتاح على منتجات جديدة
واسواق جديدة، جميعها هي بناء للهرم من وسطه أو اعلاه
وإن تحققت نتائج من ذلك، فهي وقتية.

بناء الهرم من ادناه يستلزم اعادة رسم رؤية ورسالة المنظمة
والتي يتم الإجابة فيهما على الثلاثة الأسئلة التالية، وبذات
الترتيب، واجابة السؤالين الأولين هي قاعدة الهرم:
1- من نحن؟ ( سؤال الهوية)
2- ماذا نريد، لماذا نحن موجودين؟ ( سؤال الرسالة)
3- كيف نصل لما نريد؟ ( سؤال الرؤية)
 والرؤية تشمل الأهداف + الخطة الإستراتيجية.


30‏/08‏/2019

الإتفاق والدمام، اعمق من كرة القدم

الإتفاق والدمام، اعمق من كرة القدم

حين نتحدث عن العلاقة بين الاتفاق و "أهل الدمام"
بشكل خاص، واهل الشرقية بشكل عام، فنحن نغادر
الحقل الرياضي قليلا، ونقيم في الإجتماعي والثقافي
فليس الحديث هنا، عن مجرد نادي رياضي آخر في
السعودية، أو مجرد تشجيع جماهير لناديها

من نشأ وعبر  باحياء الدمام، ومناطقها الداخلية، بالتحديد
العتيقة منها العدامة، الدواسر، العمامرة، الخليج، الدوغة،
مدينة العمال، النخيل، القزاز، سوق الحب، شور الليل، شارع
عيال ناصر، مسجد الشيخ عيسى، ازقتها و"دواعيسها"
وبقية مدن الشرقية، ومازال يمتلك ثقافتها الاجتماعية
الخاصة، يعي انه "ينتمي"، وليس مجرد احد "الجماهير"

اتحدث عما يعتبره "اهل الدمام" سواء كان الفرد
مهتما بكرة القدم أم لا، مكون رئيسي من من عناصر
الانتماء للمدينة - قلة من الاندية في المملكة، يستطيع
جمهورها أن يقول أن النادي ينتمي لمدينته واهلها
وثقافتها- ووجدان اهلها، وثقافتهم الاجتماعية
خاصة في ظل غياب أي رمز عام آخر، يعبر بشكل مباشر
أو غير مباشر، عن المدينة واهلها.

لهذا كان ذلك الحدث غير المسبوق في الرياضة السعودية
 اعني انتخابات النادي قبل عدة اعوام، من إلتفاف ابناء
المنطقة حول النادي، وكذلك ما عبر عنه الحضور
الجماهيري للمباريات حين هبط للدرجة الأولى، لذلك
 بدوره كان النادي، سفير لثقافة اهل المدينة، ومعبرا
عنهم - في الغالب- وعن اهل المنطقة عموما في
سلوكيات لاعبيه والمنتمين إليه بغض النظر عن موقع
الفرد داخل النادي، بساطتهم، حميميتهم، اجتماعيتهم
 لطافة أرواحهم، إنفتاحهم، ترابطهم وبعدهم التام عن
العنصرية.

وربما ليس من قبيل المصادفة، أن يكون النادي طوال
تاريخه، ومازال، يشتهر باللعب الجماعي وليس نادي
النجم الواحد، فالشراكة غالبة، داخل الملعب، وخارجه
كنت لاعبا، أو منتميا من خارج حدود الملعب، وليس
من قبيل الغرابة، أن القادم إليه من خارج المنطقة
يشعر سريعا بالإنسجام والتآلف والحميمية، والشواهد
عديدة.

في السنوات التي ابتعد فيها النادي، عن البطولات الكبرى
اصبح المنتمين له، يعيشون ما يشبه اسطورة "سيزيف"
حيث تكبر الآمال في بداية كل موسم، وتتدحرج صعودا
وسط مكابدات وعثرات، لتعاود تلك الصخرة "المنافسة
على البطولات"، في السقوط من بين ايديهم، ويعودون
لحسرتهم الدائمة في نهاية كل موسم

ثم يعاودون حمل تلك الصخرة، في بداية كل موسم
جديد، وكأنهم في تكرار لل "العود الابدي"، الذى يعبرون
به كل عام، وكأنه مسيرة جديدة لم يخوضوها من قبل

لهذا نعيشها، نحن المنتمين - رغم أن قوة الإنتماء تختلف
في الجيل الحالي، عن الأجيال السابقة- بكل ما لدينا من
حماس وانتماء، بغض النظر عن النتائج في نهاية كل عام.

17‏/05‏/2019

الجانب الآخر من صفقة استحواذ أوبر على كريم



الجانب الآخر من صفقة استحواذ أوبر على كريم



عبدالخالق مرزوقي
نشر في صحيفة مال الإلكترونية

كان الحدث المستولي على الإعلام الإقتصادي، وعلى أحاديث المهتمين والمتابعين لقطاعات المال والأعمال خلال الأيام الماضية، هو خبر استحواذ شركة أوبر العالمية، لخدمات نقل الركاب، على شركة كريم، المنافسة لها في نفس المجال إقليميا، والتي صعدت بشكل قوي خلال سنوات قليلة، لتصبح المنافس الإقليمي الجاد لشركة أوبر.
لنتحدث عن شركة كريم، فهي شركة تم تأسيسها قبل سنوات قليلة في مدينة دبي، على يد ثلاثة رجال اعمال جريئين، من ثلاثة بلدان مختلفة، ثم اخذت تتوسع إقليميا بشكل كبير وسريع، ليبلغ اليوم عدد السائقين المسجلين فيها نصف مليون سائق، فيما يبلغ عدد مستخدمي تطبيقها ما يقارب 20 مستخدم- يمكن العودة لما نشرته صحيفة مال في هذا الموضوع في    - يمثلون حصة سوقية كبيرة على المستوى الإقليمي في هذا المجال من الأعمال
ليس هدف هذا المقال اعادة الحديث العام عما نشر، والإحتفاء الذى صاحبه، بنجاح منظمة اعمال إقليمية ناشئة، خلال عدد سنوات لا يتجاوز الخمس، في الوصول قيمة سوقية تتجاوز 3 مليار دولار، وهو احتفاء في مكانه بلاشك، ويستحق تسليط الضوء على هذا النموذج، وتحليله، والخروج بدروس مستفادة منه، فمن جانب شركة كريم، بالتأكيد الصفقة ممتازة ومربحة جدا.

هدف المقال هو تحليل جانب أوبر من الصفقة، وهل استحقت دفع هذا المبلغ لإتمام عملية الإستحواذ؟ أم بالغت في الأرقام التي اعلنتها؟

ليس سرا أن شركة أوبر عانت من بعض المشكلات في السنوات الأخيرة، سواء المشكلات المتعلقة بإستراتيجيتها واعادة الهيكلة، وانها تحاول عبر الصفقة تعزيز مركزها المالي، قبل الطرح في السوق الأمريكية، أو تلك المتعلقة بالمنافسة في الأسواق، ومنها سوق الشرق الأوسط.

وبالتأكيد لدى الشركة خبراء في التخطيط، وتستعين ببيوت خبرة وشركات استشارية، لدعم عملية صنع القرار، وتحديد اهدافها الإستراتيجية المستقبلية، لكن هذا لا يمنع من اثارة اسئلة، والقيام بمحاولة تحليل استراتيجي مبسطة، بإستخدام طرق وأدوات تحليل متعارف عليها، كتحليل بيستل PESTEL Analysis وهو يستخدم لتحليل البيئة الخارجية المحيطة بالمنظمة، ويشمل ذلك البيئات: السياسية، الإقتصادية،  الإجتماعية، التكنولوجية، البيئية، القانونية، وكذلك لدينا تحليل نموذج القوى التنافسية الخمسة لبورتر
Porter’s 5 Forces ، والذى يستخدم لتحليل السوق والمنافسة، اذا حاولنا تطبيق هذين النموذجين، على هذه الحالة، فما الذى سنجده.

بالتأكيد لن تكون هذه المساحة كافية، للقيام بتحليل عميق لكل الجوانب، لذا سأكتفي ببعض الجوانب من تحليل بيستل، وبشكل سريع، وقبل ذلك لابد من ذكر معطيات (معلومات) مهمة، لا يمكن أن يستغني أي تحليل عنها، كمقدمات منطقية، يبنى عليها التحليل:

1-    الإستحواذ بقيمة تزيد عن 3 مليار دولار
2-    نطاق عمل شركة كريم هو جزء من السوق الإقليمي وليس العالمي.
3-    ما يزيد عن 30% من عمليات شركة كريم موجودة في السوق السعودي
4-    السوق مفتوح بشكل كبير لدخول شركات جديدة
في البيئتين الإقتصادية والإجتماعية، وفي مدى 5 سنوات قادمة – اقصر مدة للتخطيط الإستراتيجي- سنجد أمامنا التغيرات التالية، بدأ تشغيل مترو انفاق الرياض، في جميع المسارات التي يتم العمل عليها حاليا، اكتمال بناء وتشغيل مشاريع قطارات المنطقة الغربية جدة – مكة، مكة – المدينة وغيرها، ، كذلك اكتمال جزء كبير من مشاريع النقل العام (الحافلات)، وبشكل أساسي في مدينة الرياض، بما انها بسبب حجمها السكاني، والنشاط فيها، تمثل السوق الأكبر لشركات النقل بالمشاركة، بغض النظر عن اسم الشركة، ايضا زيادة نسبة النساء الحاصلات على رخص لقيادة السيارات، وامتلاك وسائلهن الخاصة للنقل، وعلى وجه الخصوص الداخلين الجدد لسوق العمل من النساء، بسبب امتلاكهن قدرة شرائية متزايدة، وهن يشكلن شريحة كبيرة من سوق تطبيقات النقل حاليا، خاصة مع تكفل الحكومة السعودية بجزء من تكاليف استخدام هذه الشركات حاليا، اتجاه هيئة النقل العام لإطلاق مشروع مشابه لهذه الشركات – جريدة الرياض، الأحد 1 يوليو 2018- وهو عبارة عن سيارات عائلية تقودها نساء، وتعمل من خلال الطلب عن طريق تطبيق، وتقوم بنقل النساء فقط أو العائلات، ايضا مبلغ الصفقة وما حققته من ربح لمؤسسي شركة كريم، ستدفع بإتجاه دخول شركات جديدة للسوق، وعلى مستوى دول الخليج أيضا، هناك مشروعي المترو في قطر والبحرين، أما في مجال البيئتين السياسية والقانونية فجميعنا يعلم بشأن النزاعات القانونية – وهي شكلت جزءا من مشكلات شركة أوبر في السوق العالمي- بين بعض الحكومات وهذه الشركات، وهناك بالتأكيد تغيرات تكنولوجية استراتيجية قادمة، لكن لن يتم تناولها هنا، لأنها لن تكون ذات اثر جوهري على المدى الإستراتيجي القصير- 5 سنوات – كالسيارات ذاتية القيادة.

فيما لو اتجهنا للتحليل من زاوية اخرى، واستخدمنا نموذج القوى التنافسية الخمس لبوتر، وساضع بعضها كامثلة، سنجد أمامنا التالي:

1- التهديد من دخول منافسين جدد: العوائق قليلة امام دخول منافسين جدد، فلا يمكن احتكار السوق بطريقة قانونية، وعدد المنافسين قليل، ولا يحتاج لرأسمال كثيف.              

2-التهديد من المنتجات والخدمات البديلة: هناك بدائل في طور الإكتمال، كما ذكرت في الفقرات السابقة، كذلك الإتجاه لتقليل اجراءات اغلب الخدمات العامة، سواء التي تقدمها الإدارات الحكومية أو الخاصة، وجعلها تتم من خلال شبكة الإنترنت، من بداية طلب الخدمة، لحين الحصول عليها، بل حتى استلام الوثائق المتعلقة بها، لا يحتاج لتنقل طالب الخدمة، وتردده بين مقر سكنه والإدارات الحكومية والخاصة المعنية.

اختم بالقول انه ليس الهدف من هذا التحليل البسيط، الحكم على صفقة الإستحواذ، وبالمبلغ المعلن عنه، انها فاشلة، أو انها لن تحقق العائد المرجو منه لشركة أوبر – من جهة شركة كريم بالتاكيد الصفقة ناجحة جدا- بل الإضاءة على جوانب لا تنال الإهتمام الكافي، من المهتمين، وتخفى احيان عن الذين يقومون بالتخطيط، واعتقد أن السؤال الجوهري لهذه الصفقة من جانب شركة أوبر، والذى من المفترض أن يهم إدارتها التنفيذية، بعيدا عن زيادة قيمتها السوقية، الذى يهم الملاك بالدرجة الأولى، لتحقيق مكاسب مالية اضافية عند طرحها في اسواق المال، سيكون:

هل كنا نستطيع تطوير عملياتنا التشغيلية، ودخول اسواق/ مدن اقليمية جديدة، وتحسين تجربة المستخدم، وتحقيق عائد اعلى من ناحية القيمة، لشركائنا (السائقين)، وعملائنا، وبالتالي زيادة حصتنا السوقية، وارباحنا، بإستثمار مبلغ مالي اقل من قيمة الإستحواذ؟