28‏/11‏/2018

خطاب العاشق ( ميثولوجيا ورؤى )



                          الكتاب: خطاب العاشق (ميثولوجيا ورؤى)

  

                            من عشتار سيدة الحب الأولى إلى المتنبي عاشقاً 











المؤلف: محمد الجزائري
الناشر: دار الشروق 1996

عرض: عبدالخالق مرزوقي 


"أنا عشتار..النار الملتهبة، التي استعرت في الجبال..اسمي الرابع هو: نار المعركة الملتهبة.."



هكذا اختار محمد الجزائري أن نبدأ مصافحتنا للكتاب القيم، الذى قسمه لمجموعة اوراق – فصول – حملت كل منها مجموعة عناوين، تتناغم فيما بينها، يحفر بها المؤلف عميقا، نحو المعاني المضمرة، في خطابات العاشق، ثم، وبما يشبه وضع "علامات" الطريق، يضع المؤلف امامنا العبارات التالية:


 * الخطاب هو كأداة النص وموجهه، رسالته بما تحمل من اشارات وعلامات.
 * يقول رولان بارت: الانسان يعشق بحضارة، بأدب، هما حضارته وادبه.




متن الكتاب 



  • خطاب العاشق من عشتار للشعر الجاهلي هو خطاب تضرع وشفاعة وصلاة إلى السيدة كمجاز حضور العالي: 
   

انت يا عشتار جعلت اسمي جميلا، منحتني أن اخلِص وارحم الأبرار، نطَقتِ بأمر إلي، بأن اجدد الآلهة المُرحلة وانا جددت المعابد المتروكة، صنعت ايضا سريرا من بقس فراشا بديعا لراحة ألوهيتك، داخله موشح بالذهب الثقيل، الموشح بالابداع، وزينت شكله بأحجار نفيسة من الجبال، جعلته مشعا للنظر وغاية في البهاء جعلته يتلألأ، مثل شعاع الشمس المشرقة.


نلاحظ في هذا النص، أن اسقاط الخوف والاحترام والاجلال والرهبة من قبل الحكام والملوك، لمعشوقة الشعب ورمزه المحبوب- عشتار- ظل عادة متوارثة، نجدها متجسدة ومبجلة دائما، كما في المعابد السومرية والأكدية والبابلية والآشورية، كما نجدها بصورة أو باخرى- في المعابد الهندوسية والبوذية، كما في الكاتدرائيات والكنائس بمسميات مختلفة لكنها الآلهة/ الجميلة/ السيدة/ العذراء/ البتول. في الأيقونات كما في التماثيل، إنها حالات عشق، تتصل بكل تلك الرموز أو تتحد معها.

إنها امتداد لنسق.. لخطاب، وسيلته (عشق)، تعبير عن تمجيد الحب والمحبوبة، حيث يدنو العاشق من المعشوق، لكسب رضاه.. عشتارا كانت التسمية بشكل ألهة أو نجمة أو أي إله آخر، انه خطاب موجه إلى (سيدة الحب).. سنراه لاحقا، ظاهرة متميزة في شعر التشبيب والنسيب، تماما كما هو في جوهره موجه إلى (السيدة) لتشفع لآشور ناصريال، عند حبيبها (أبي الآلهة): البطل آشور، ليمجد ألوهيتها إلى الأبد.

- خطاب من آشور ناصربال، موجه مباشرة إلى الشفيعة/ المحبوبة/ المعشوقة وترى كم من (الخطابات) توجهت بالشفاعة إلى المحبوبة.. عبر الأزمنة من آشور حتى الآن؟

كيف لا اكون في الخطأ وفي الخطيئة؟ دوما، رغم كوني غنيا، ها أنذا تعيس أنا محروم من كل شيء ولا أستطيع أن اجد الراحة على عرشي الملوكي، ليس سوى الحرمان لا يسعني الدنو من الطعام، الذى بودي تناوله الشراب النفيس الضروري الحياة تحول عندي إلى شراب مر. وبت لا ابالي بالقيثار، والأغاني التي تناسب الملوك ومن الفرح الذى هو شأن الأحياء، ها أني محروم كليا عيناي رغم كونهما مليئتين بالألوان، لا تريان بعيدا ولا يسعني - من بعد- أن ارفعهما عن الأرض نحو العُلا إلى متى، ايتها السيدة، ستتركين هذا الألم المتواصل يلازمني. أنا ناصربال، المبتلى بالأرق، أنا الذى اخافك الذى أمسك حاشية ثوب ألوهيتك الذى اتوسل إليك كسيدتي إلتفتي إلي، يا سيدتي، لكي اتضرع إلى ألوهيتك انت المغتاضة كوني رحيمة، ولتهدأ نفسك ليمل قلبك إلى المغفرة، إن كان غاضبا علي إطردي مرضي، ولتكن خطيئتي في نظرك طفيفة لينزل من فمك يا سيدتي الهدوء لي! على اميرك المفضل، الذى كان أمينا دوما، اشفقي واطردي أرقه تشفعي لي عند حبيبك أبي الألهة، البطل آشور واطري إسمي بين جميع آلهة السماء والأرض.

 انه خطاب عاشق بصيغة (الرجاء) و (التضرع)، فكم من رسائل وادعية وصلوات ومناجاة محبين، ولهين، أو قصائد عذريين يتناقلها (عشاق)، حتى يومنا هذا، تجد مقاربها، أو حالاتها، أو بعض خطوطها العامة، في مثل هذا النص/ الصلاة الخطاب.. الذى وضعه كاتب النص - النص كُتِب زمن الحضارة الآشورية - على لسان الملك آشور ناصربال، مثل رسالة حب متوسلة، متضرعة ترجو شفاعة، وتطلب رضا المعشوق.


ما يعرف ب (الزواج المقدس) والحزن الجماعي على الإله تموز، ناتج من اعتقاد الانسان في بلاد الرافدين، بأن في مقدوره استحداث تلك التغييرات، التي من شانها أن تساعد إله العشق والخصب، المحتجز (أو الميت) في العالم السفلي في صراعه ضد القوى الشريرة ليعود ثانية، وتعود معه مظاهر الحياة إلى الارض، وعلى هذا النحو امتزجت العقيدة الدينية القائلة على سبيل المثال، بموت وبعث إله الخصب بالعقيدة السحرية القديمة، القائلة بإمكان استعادة الإله من الموت، ومن هنا نشأت ايضا فكرة (الدراما) السنوية، التي كانت تجري خلال طقوس، وهي في حقيقتها تقليد/ محاكاة للآلهة نفسها في قصة ( الزواج المقدس)، والحزن الجماعي على موت الإله أو في صراعها مع بعضها، وخلقها الكون والانسان كما في نص: (الخليقة البابلية).      

تعليق: هنا موقع تساؤل في ضوء ما ذكره المؤلف ، حول هل للطقوس والمراكب التي تجري في عاشوراء، صلة ما بتلك الطقوس البابلية. 




- ولقد تاثرت النصوص التوراتية، بالخطاب العشقي الذى يشع من نصوص عشتار عند السومريين، فظهر "نشيد الانشاد" لسليمان بن داود، في الكتاب المقدس/العهد القديم/ الإصحاح الأول: 985، مقاربا غزليا، يستلهم من عشتار صفات العشق والأنوثة والرغبة:


"ليقبلني بقبلات فمه.. لأن حبك اطيب من الخمر.. لرائحة دهانك الطيبة، اسمك دهن مهراق.. لذلك احبتك العذارى اجذبني وراءك فنجري.. أدخلني الملك إلى حجاله.. نبتهج ونفرح بك.. نذكر حبك اكثر من الخمر.. بالحق يحبونك."


نص واحد فقط، قدم عشتار غير مطلوبة، غير مرغوبة، باطلة ومتقلبة الأهواء والأمزجة، بالرغم من انها قدمت - داخل هذا النص - خطابا: راغبة، طالبة، مشتهية.. إنه نص ملحمة جلجامش، الذى يتجلى فيه خطاب عشق، من نوع (مضاد) يتجلى فيه ايضا مزدوجة صراع، بين الرغبة والرفض، بين العشق المشبوب بالشهوة، وبين التعالي حد الهجاء.. والتعرية وتقديم قائمة غدر عشتار بعشاقها، إنه يفصح عن حركية جدل عالية، بين قطبين قويين، شديدي الإعتداد بنفسيهما وبأنهما مرغوبان ومطلوبان، ولا يقف شيء أو أحد ضد تنفيذ رغباتهما، ففي الرقيم السادس/ من الملحمة.. يعود البطل كلكامش منتصرا في معركته الضارية، ضد (خمبابا) العفريت الموكل بحراسة غابة الأرز، نزع ملابسه واغتسل عاريا، ثم ارتدى ثيابا نظيفة.. وضع التاج على رأسه.. نظرت إليه عشتار، واسرت بجمال فحولته، فعرضت عليه أن يتزوجها قائلة في خطاب رجاء/ تضرع/ اغراء: 

"تعال يا كلكامش، وكن حبيبا- زوجا- لي
تعال وامنحني من ثمرتك تعال وكن زوجا لي، واكون زوجتك وإني سأعد لك عربة من اللازور والذهب عجلاتها من الذهب وقرناها من البرونز ، وستكون لك شياطين العاصفة، لتشد عليها بدلا من البغال الضخمة، وستدخل بيتنا على نفحات الأرز،  وعندما تدخل البيت ستقبل العتبة والدكة قدميك وسيمثل الملوك والحكام بين يديك، ليقدموا لك الجزية محاصيل الجبال والسهول، وستضع عنزاتك ثلاثا ثلاثا ونعاجك التوائم، وسيفوق حمارك في الحمل بغلك، وستكسب خيول عربتك شهرة في السبق، ولن يكون لثورك مثيل تحت النير.


هذه (الوعود) لم تغر كلكامش، فيرفض خطاب عشتار كاملا.. ويرفض طلبها الزواج منه.. وهو موقف يتجاوز " المناددة" وينطوي على قوة المثال الذكوري، والحكمة لدى كلكامش حيث الملحمة/ النص مكرسة لبسالته.. فيظهره مؤلف النص بموقف يتناسب مع مديح بسالته، وخصاله وعظمته، حيث يشير النص، إلى أن كلكامش لم تقف عذراء بعيدة عن سطوة ذكورته وفحولته، لكنه اختار حريته وخياراته، ولا يريد أن يخضع لسطوة امرأة، فإن هاجسه كان الخلود.

ولانه يعرف عشتار، الانثى، المغرية، الغادرة، لم يرد اخضاع قواه لهيمنتها.. لذا راح في خطاب الجواب يعدد مثالبها وغيرتها، ويسخر منها، ومن تنكيلها بعشاقها، وعشتار تغضب.. وتنتقم.. إذ تاتي لكلكامش بالثور السماوي، فيصارع وصديقه (انكيدو) ذلك الثور، وينتصران عليه.

وهكذا يتصاعد في النص ذلك التدفق الحار، ويعطي مثاله الرائع في خطاب وخطاب مضاد..في الموقف ونقيضه، الرغبة ورفضها.. الإنتقام والصراع والإنتصار، فماذا قال لها كلكامش كخطاب مضاد:

"ماذا علي أن اقدم لو تزوجتك؟ هل اقدم الزيت والكساء للجسد؟ هل اقدم الخبز والطعام؟ طعاما يليق بالألوهية؟ شرابا يليق بالملوكية؟ 

إذا ما تزوجتك ما انت إلا موقد.. سرعان ما تخمد ناره في البرد، وباب في الخلف، لا ينفع في صد ريح ولا عاصفة وقصر.. يتحطم داخله الابطال، وبئر ابتلع غطاه، وقير يلوث حامله، وقربة تبلل حاملها، ومرمر.. جدار الحجر يستقدم العدو ويغريه.. وآلة حصار.. بلاد الأعداء، ونعل يقرص قدم منتعله، فأي من عشاقك احببت إلى الابد؟ وأي من رعاتك من طاب لك على الدوام، تعالي.. أسمي لك عشاقك (أو اقص عليك مآسي عشاقك).

ويستمر النص الطويل في سرد مآسي العشاق، وهو النص الوحيد، الذى ينطوي على خطاب (هجاء) صارخ ضد عشتار ويميز بين الحب والشهوة.. والعشق والرغبات.

إن حالة عشتار -هنا - كما يصفها كلكامش هي: الحب الأناني/ الإثرة/ الشهوة. 


وهكذا كَشِف ما وراء (خطابها) العشقي، المغري له، أو الذى حاولت فيه اغراء كلكامش، ومن هنا.. وإن كان يبدو (خطاب) كلكامش سليطا، هجاءا ومفردات، لكنه كان "تحصينا " لذاته.. ضد " تسلط الشهوة " - وليس العشق - لدى عشتار.

انه خطاب ضد الهيمنة والإحتواء.

وهكذا كشف كلكامش طيه المضمر المستور، في نص عشتار (خطابها العشقي/ المعلن)، وهو كشف ايضا لأغوار النفس.. والطبيعة البشرية على حقيقتها، وكشف ثالث عن هذا المزدوج الخطير (الخير+ الشر)، حين يكون في واحد، فلا يتغلب الخير بل الشر في النهاية، ويموت الحب أو يسقط شهيدا، حتى كمفهوم وليس كحالة، كون (التملك بالقوة) حتى في الزواج والإحتواء، عبر خطاب عشقي، ليس سوى كراهية/ انانية/ عسف.. والضحية هو الطرف الثاني من المعادلة: المحبوب.

- كثيرا ما يخلق الاختلاف في الطباع، مبررا للابتعاد، أو الانفصال، اذا كان العاشقان في حالة اندماج وجودي مندفع، بسبب الهوى الضارم.. أم انهما كانا يعتقدان بانهما واحد، حتى تكشفت عناصر الاختلاف، في الطباع والسلوك والادراك والتفهم فباعدت، في حالة كلكامش، هو الذى رأى عشتار منذ البدء، يدرك خصالها وافعالها، ويعرف حاله وماله، لذا يعي الفجوة التي لا يمكن تجسيرها بعاطفة ملتهبة وقتية، أو رغبة أو شهوة يصف كلكامش عشتار: "موقدا.. سرعان ما تخمد ناره"، لأن "نار" عشتار في تلك اللحظة هي نار اشتهاء وتملك، رغبة في الحصول على " الآخر" لقضاء "وطر"، نار عشتار هنا هي (دال) و(كناية).. فعلى أي مرجعيات تنفتح، أو على أيه إحالات تتكئ؟ 

-
كانت العلامة السومرية الدالة على الحب، هي: (شعلة داخل الرحم)
- في انجيل متى/ الإصحاح الخامس والعشرين: تحمل العذارى "مصابيحهن" للقاء العريس.
- وفي ذات الطريقة كانت المشاعل تحمل في طقوس "باخوس" للحب .
- والنار في فلسفة الاخصاب، ليست مصدر الحياة الجديدة فحسب، بل تظهر القديمة ايضا
- واصبحت عند اللاهوتيين نار الجحيم الأبدية مطهرا لارواح الموتى

 
واقتران الحب بالنار معروف منذ القدم، ففي الأساطير الإغريقية إن هيفا إستوس Hephaestus، هو الذى يشع في النار- حسب روبرت غريفز- أو لعله الصيغة المقابلة لكلمة Yavishtha السنسكريتية، وتعني (في عز الشباب) - حسب قاموس لاروس الميثولوجي - و(يافشنا) لقب لإله النار الهندي (آغنا Agni)




- نار الحب حين (تلهب) قلب العاشق، تحيله من (الأخرس- الصامت)، إلى (المتكلم) بخطاب عشق، يبوح خارج فوضى الأشياء، أو تقنينها الرتيب، وربما (يصرخ)، لأن (الصمت) يؤذيه، يدمره، فالعاشق يتصل بخطابه مع الآخر.. يريد للآخر (المحبوب) أن يعرف، ويشارك، بفعل، أن يندمج، ويتوحد، لذا الصوفي، يصعد بخطابه، إلى اعلى مراتب المكالمة، كي يخاطب الله، لأن سر وجوده أن يندمج بخالقه، المتصوف لا يصور، بل يكون هو الرسالة، وهو المعطى، يقطن غياهب الليل، لكنه يملك روحه، حيث تتم معجزة الخلق، ويتحقق تجسيد الكلمة.


- يرى ابن عربي أن عشق الرجل للمرأة يكون جسديا وروحيا عند "الانسان الكامل" وعبر هذا "الوصل" يتم التوصل إلى المطلق، ويوظف ابن عربي قصة خلق ادم وحواء، ليبرز منها الابعاد الصوفية لوحدة الوجود، حيث تجد الذكورة جوهرها في الانثوي، وتجد الأنوثة اصلها في الذكوري، باعتبار حواء خارجة من ضلع ادم ومشَكِلَة جوهره الداخلي، كما ان آدم يشكل لها الاصل والمبدأ، الكاتب المتصوف لا يطرح جانبا امور الدنيا، بل يعيش في خضمها ، ولذلك تأتي الكتابة بمثابة مخاطبة أو ألم، وتكون محاولة لدفع ما هو ذو طبيعة باطنية إلى الخارج.


- ماركيز يستمد من مخيلة ثرية، ومن واقع ووقائع، وحوادث وتواريخ، الكثير الذى يشحذ كتاباته، ويشحنها بذلك الدفق العالي من المحبة، لذا حقق خطابه ألقا ساميا في النفوس، لعالم يطفو فوق الواقع، إنما بجذور متأصله فيه، تغتني بنسغه.. لأن ماركيز يعتمد الخيال/المخيلة، وسيلة كبرى في الحياة والكتابة.. والعشق: 
" إن اعظم ما يمتلكه الإنسان هو الخيال" قال بورخس، لكن ماركيز يضيف: " الخيال هو في تهيئة الواقع ليصبح فنا"، "والغرائبي يأخذني ولا يبقي من الواقع إلا ارض القصة

 على وفق هذا المنظور ندرك أن أفق "خطاب العاشق" في    "الحب في زمن الكوليرا"،  وهو لا يماثل أفق الخطاب العشقي في "قصة حب مجوسية" مثلا لعبدالرحمن منيف، حيث (تترسب) في الاخيرة "عذرية" شرقية خارقة في مثاليتها:


"عيناها..عيناها..المتألقتان الحزينتان..عيناها..بداية العالم ونهايته بالنسبة لي..وهي الشوق والنشوة واللهفة..هل اضعت هاتين العينين؟ ..هل غابتا إلى الأبد؟ لا احد يمكن أن يقنعني بانها انتهت، أو قد تنتهي.. قد تمر سنة، وعشر،.. لكن سأجد هاتين العينين مرة اخرى، سأجدهما واغرق فيهما مرة واحدة وإلى الأبد."

منيف يظل مشدودا إلى تلك المثالية، في علاقة عشقية من طرف واحد، فالكائن الذى يراه، هو امراة، انثى، تعيش، تتحرك، امام انظار (بطله) العاشق من النظرة الأولى، حية متدفقة هي، وهو العاشق يعيش بوجوده الحي، وشموخه الابدي، الذى لا تستطيع عقارب الزمن أن تغيره.

ذلك هو خطاب العاشق العاجز عن اتمام مهمته، غير المقدام/ المتردد.. لكن الخطاب عند ماركيز، بالرغم من شاعريته العالية، و"عذريته" الاولى، وروح الوفاء للحبيبة الذى يغمر مشاعر البطل، فهو حسي في النهاية، ومقدام، لأن الكاتب الكولومبي ابن هذا العصر، المادي، الخشن، وهذا المجتمع القائم على صراع المنافع والطبقات.

قدم ماركيز "عذريته" بالروح فقط، وليس بجسد العاشق "المزمن"، "العاشقة المزمنة"، وبذلك أسس خطاب العاشق على بنيه روح، لا اختراقات جسد.. هو هنا يلتقي تلك "النار" الملتهبة، التي استعرت في داخل العاشق، وظلت تصوغ حلمه فصاغ منها امثولته الرائعة.. إنه ادرك الطريق الاساس للفهم وهو أن يصير كالمحبوب، لان المرء لا يفهم إلا بمقدار ما يصبح متحدا مع الشيء الذى يحبه فعلا.

- في كتابنا – الحديث للمؤلف - "خطاب الإبداع: الجوهر، المتحرك، الجمالي" اسسنا على مفهوم : "الإنسان يعشق بحضارة.. بأدب، هو حضارته وادبه" بحيث اصبحت سوسيولوجية الأثر الابداعي، هي مادة عشق، نبع منها خطاب المبدع، كذلك فالشعر مثل العشق..الشاعر يعني مرجعيته الثقافية  ومكتسبه الحياتي، فالذين تثقفوا ثقافة (شعبية) (بالأغاني الدارجة والافلام والمسلسلات، يعشقون بأغانيهم وافلامهم ومسلسلاتهم) أو على وفقها! والمثقفون النخبويون يعشقون بقراءاتهم ذات النوعية الاخرى.

فالشاعر ليس عزلويا.. إن لامس أو تناغم مع أو اندمج في واقع.. في ثقافة.. في تاريخ بشر، وعند الشاعر بدر شاكر السياب، يتجلى هذا التنوع في العاطفة، من قصيدة لاخرى: الشناشيل، انشودة المطر، المومس العمياء، الأسلحة والاطفال

العشق - هنا - بالتبعية يتفجر في تنوع خطاب، تنوع اشارات، انه ناتج حالة ثقافية حقبة تاريخية، تقاليد،..الفلسفة فيها والشعر يأخذان على عاتقهما مسؤولية صياغة العشق.




- في الحب العذري قد يفتعل العاشق ظاهرة روحية/ رمزا/ حالة يتعلق بها/ بواسطة هذا الحب بمحبوبة واحدة، يرى فيها مثله الاعلى الذى يحقق له متعة الروح ورضى النفس واستقرار العاطفة . 

- في الفن التشكيلي، كما في الشعر والرواية والموسيقى، على اللغة أن تستبدل وسائلها التعبيرية، أو أن تظل جاهزة لتلقي الشحنة العاطفية، الشحنة العاشقة، التي تشع من الابداع لتغمر المتلقي، وكأنها كلام مسموع في العشق، كلام تواصل، شد بين جوهرها وبين الاخر، الذى في اللحظة الشعورية تلك، يشعر بالتوحد مع العمل الابداعي، بقوة فنه المشعة بالحب.

 إن التماثيل والنصب، ورسوم الاختام الأسطوانية والدمى احتفظت بشحنتها التعبيرية في التواصل، تماما ومنذ سنوات ما قبل التاريخ، وكأنها تحمل سحرها معها، في التأثير وتبادل الحوار، وتماما كما تفعل ابتسامة الموناليزا لدافنشي، في لحظة النظر إليها.

نفس العاشق، لانه يمتلك ثراء ابداع داخل عمله، لانه احبه بالفعل، قبل ان ينقل هذا الحب مشعا إلى المتلقي، كأن الاثر الابداعي هنا، خطاب عاشق، المبدعون عشاق اندمجوا بفنهم، اندمجوا بخاصة، بذلك الوهج الذى يقدمه خطابهم، تماما مثل نحاتي سومر وأكد وبابل وآشور...، اندمجوا بالذات العامة، ضمن فضاء التعبير الخالص الإنتماء، إلى آلهتهم، ملوكهم، مقاتليهم، طقوسهم.

كذلك الحال في قصص البطولة والمقاومة والنضال، الهيمنة تبقى لعاطفة الخطاب، لأن العاشق يمد خطاب عشقه إلى الوطن، الناس، الأرض، ضد قطيعة خارجية، ضد قطيعة تفتعلها قوى ضاغطة، كي ينأى بنفسه وانسانيته، عن نفسه وانسانينه.

في التمثال اذن، كما في اللوحة والموسيقى، ثمة "سرد"، روي، خطاب اتصال، ينبع من الداخل ويدرك بالشعور، يبدا بتفصيل صغير، ويكبر في النفس، في سمو عاطفة نبيلة، هي الإرتباط بالمحبوب.. شخصا، أرضا، حضنا.

انه خطاب يبثه العمل الفني ضد القطيعة..، وإلى توحده مع جوهر عشقه ينتمي... ويشع.




- يعتقد دنيس رجمونت في كتابة (الحب والغرب) :            

"أن ليس للحب السعيد من قصة تروى"، وكانه يجزم - ظاهريا- بأن خطاب العاشق هو تعبير عن حالة عشق ضد قطيعة.. مكتنز بذاته.. ومعبر عنها، ورجمونت أوجد علاقة بين شعر الغزل و" التروبادور"، و "الهرطقة"، وقد بدأ هذا الشعر كأنه احتجاج ضد ركني المسيحية في الغرب: الزواج والنسل.. فيقوى الهوى كلما اشتد البعاد وانتشرت الفحشاء، ويلخص هذا الامر اسماء سحرية في تاريخ الغرب، كشخصيتي : "تريسان وايزول" فلأول مرة، كما يبدو يظهر تقريض للحب المؤلم/ أو التعيس/ أو المستحيل.. إذ من خلاله، لا يتلقي العشاق، إلا في لحظة الموت..أو بعبارة ادق لا يجمعهما سوى الموت.. فالحب السعيد ليس قصة، أو انه ليس بحب، فرواية الحب هي في كونه (قاتلا مميتا).. إنه الحب المهدد والمدان من قبل الحياة ذاتها. 

يؤكد رجمونت: ان الحب المدان سمة من سمات ثقافة الغرب، والذى يخفي في ثناياه مباهج "المازوخية" ، وقبل أن يصاغ هذا المصطلح كان "كريستيان ترويس" يقول: انا مريض بالحب، وبمرضي هذا أتلذذ. 



- تنغلق الدائرة أم تنفتح.. يبقى السؤال:
هل العاشق يعيش عشقه في الإحباط (ويشكل خطابه: بهجة)، كما في شعر السياب؟ الاحباط من المحيط والمرض، الإحساس بالموت، قريبا منه..، الإلتصاق بالمومس تعويضا عن الحنان المفقود في الام وفي الحبيبة، وفي الاخت..ربما.. وفي (الزميلة) التي كان بإمكانها أن تكون كل ذلك، ولم تفعل.. كذلك نرى هذه (القطيعة).. في نماذج ادبية ليست قليلة، قصص عبدالستار ناصر..تحديدا.. وروايات عبدالرحمن مجيد الربيعي، وبخاصة: " خطوط الطول خطوط العرض"، حيث النساء محبطات بالحنين المقطوع، والرجل (ينام) مع (بطلاته) جميعا.

انه الدنجوان الذى له في كل مدينة (امراة فراش)، هو ليس عاشقا، بل "ينتقم" من العشق بالجنس، وكانه ينتقم من (إمراة) مختبئة في لاوعيه، أو انه يداري فراغا عاطفيا قديما، لم يسد بالحبيبة المرتجاة، ولا بالزوجة، ولا بالعابرات على اعصابه ورغائبه، في شارع الهوى.

انها تعويض عن قطيعة بالجسد، وبالمحمول في العقل، ومن الماضي، من قريته هو غريب إلى غربته الاكبر، مستلب في المدينة، ومستلب في السياسة، ومحبط في الحب، لذا فإن هذا (الإلتقاط) هو جوهر تلك (العلاقات).. في اغلب قصص
كاتب مبدع وكبير مثل الربيعي، لا يأبه بالحب العذري، بل بالنساء.

وتتحول المدن العربية، المنتهكة في رواياته ايضا، إلى "بائعات هوى"، هل هو وجه التباعد/ والقطيعة/ واللاحب..، القناع، الغطاء الفني والحقيقة المرة؟ انهن كل ذلك معا.


- في "سفينة" جبرا ابراهيم جبرا..، الفلسطيني يتشظى، إنه "التائه"، ويكون "الدونجوان" في "البحث عن وليد مسعود" مع بقاء "ثيمة" الضياع، فوليد يهرب، يعذًب، يفترق، ويلتذ بالافتراق والتعذيب، حيث "يدوخ" عشيقاته واصدقائه بتلك اللعبة البوليسية، النساء في "البحث عن وليد مسعود"، ينمن مع وليد بسهولة! إلا تلك "الإنجليزية"، فهي "الشريفة" الوحيدة، التي لا تضاجعه في الرواية! 

هل هي قناع ثقافي؟.. أن الشرق بغي، والغرب عذري ونقي وعفيف!؟ يا المفارقة! 

لكنها مفارقة مثاقفة! و(الغربية) - ثقافة وولاء - هي  
"النقاء" الوحيد من وجهة نظر (جبرا)، تماما عكس "رجمونت"، اذ لا (حب) في روايات جبرا، قطيعة من نوع اخر..توازي الشتات، وربما بسببه.. عدا "يوميات سراب عفان"، ففيها حب نادر وشفيف، بالرغم من علاقات اخرى، تتفاوت بين العشق والجنس والقطيعة.

- "الحب الناضج" كما نراه، أو اراده كلكامش، من وراء رفضه الزواج من عشتار اللعوب، ليس في الحقيقة هوى، وليس تولهاً، فكلكامش يصرف العلاقات والاوضاع تصريفا جدليا واعيا.. يناقش عشتار، يقدم لها الادلة، وهو "صاحب تجربة" في الجنس وليس في الحب، هو بالرغم من "فحولته" غريب، منفصل، يعيش قطيعة مع العاطفة العشقية.

ربما بسبب سلطته الملوكية، التي تبعده عن علاقة حميمة..، ولانه لم "يتحضر" كفاية بحيث يتعامل مع الحب، في اطار رفيع، هو غير تعامله مع البغاء، ولأن "البداوة" لا زالت في طبعه، فهو "مغتصب"، اكثر منه محبا، لم يدرك الحب الناضج ولم يبحث عنه، كما بحث عن "الخلود"، ويبدو لي أن بحثه عن الخلود، هو ايضا محاولة ضد القطيعة، محاولة للتواصل، لانه بعد لم يحقق ذلك بالكفاية الحضارية والإنسانية، بغض النظر عن فلسفة كاتب النص/ الملحمة.

وأن رفضه لعشتار ليس فقط لانها لعوب، وتغدر بالأزواج، فهو ليس احسن منها، ما دام "لم يبق عذراء في أوروك"، فالكفتان متعادلتان في الوزر، إنما هو يبحث عن التعويض العشقي، بموازاة وبمستوى البحث عن الخلود، اذا كان فيه سمو المكانة له، أو حتى بما يتناسب وموقعه في قمة هرم السلطة، انه يحتاج (ملكة) تضاهيه..، وعشتار هي كذلك، بل اقوى..، لانها علاوة على ملوكيتها، فهي إلهه، وابنة الآلهه الكبار... هنا (الحب الناضج)../ قطيعة..لأنه ليس إمكانا..ولن يكون!.


- يقول "نوفاليس": الحب صامت، الشعر وحده يجعله ينطق"، الشاعر عاشق يتكلم..والعاشق يتكلم دائما مع نفسه، لا وجود لحب اخرس! 


قد لا يفصح عن نفسه، ولكنه ليس اخرس ابدا.. فخطاب العاشق هو خطاب سلوك وإن كفله بلغة، بتعبير لساني، فذلك يزيد من وصال شوقه، فالعاشق اذا امتلك الثراء اللغوي، حول عاطفته كنايات، استعارات، بفضل احتفاره اللغة كي تقول له..، ومن ثم يقول بها ما يريد، فيصير هكذا شاعرا..

فالخطاب الداخلي عند العاشق مؤلف من مقاطع، من خطاب صنع خارجه..! ودائما.. هناك هذا " الحوار مع الذات"، وكأنه حوار مع المحبوبة.. دائما هناك "المنلوج"

- ويكون في "مقولة" اللوحة، حين "تتحدث" عن العشق، مثل قصيدة، خطابها يتجلى في تشابك خطوط، ألوان، كتل، وجوه، ايحاءات إيماءات..؟ 
الرسامون، يعشقون ايضا بلوحاتهم، أو يعبرون عن خطاب العاشق، في اللوحة، لتقول تبوح اولا، بهمس خافت، عبر شفافية لون،... من ثم تصرح، وتصدح. 

في اعمال الفنانة (بتول الفكيكي) حيث ادخلت ثنائية العاشق والمعشوق، في كيانية اللوحة، بدل تلك القطيعة مع الاخر، وذلك التغرب الفردي الذاتي، للمرأة المتحدة، المقهورة الصارخة، المنتجة، ولكن المتجذرة والمتناهية مع الشجرة، كأنهما واحد.. محققة ذلك السرد الحكائي لتوليد "دراما الذات" التي تتواصل ولا تتقاطع.. مع المحبوب.

حيث اللوحة خطاب افصاح، عارم بالحب، عنوانا ودلالات، بوجه الحبيبة بالتذكر يظهر، بالإسترجاعات، بطفلة، بنخلة، بالأم والزوجة..، يتسع حتى تتأنسن الأشياء، فتكون هي كائنات حيه، تحب، تشكو، تئن وتتوجع، وتبكي من بعاد قسري/ من نفي.. أو نأي أو حنين.. فتتصل بالآخر، تندمج مع جوانيته، تتواتر وتشتق لذاتها طرائق كي تكون معه.. مرة في "الهور هذا تنفس"، واخرى في " حوار الصمت بين كلكامش وعشتار"، وثالثة في حلم " حلم بابلي".

وحين يغمر، هذا الفيض الشاسع من الشعور، فضاء المخيلة والواقع وسطح اللوحة، يمتد الخطاب خارج اللوحة، تماما - كانها نص - وعبرها إلى المتلقي، كي تتوحد مع/ ضد همومها، ولكن للفرادة والتفرد، صولة وآليه في التمثل، والأداء الموصل والتعبير الذى يتحد، مع مدرك المتلقي وحسه، ووجدانه.

في اللوحة.. تماما كما في حركة الجسد، لدى ممثل المسرح، والراقص بالإيماء والإشارات، وفي الصوت، في الغناء والموسيقى... التوصيل ضرورة فن، ضد القطيعة.. ومن اجل هذا المضمون المكتنز بالعشق، معبر عنه مباشرة، أو بفيض من العلاقات.


- العاشق يلجا في خطابه إلى التضرع احيانا، لان التضرع الى المحب، يسمُ بالعاشق إلى مرتبة التضرع إلى الله، أو الإله، فالتضرع خطاب عاشق ضد القطيعة، لأنه يتوجه إلى بالنداء إلى المعشوق بإسمه. 

وطبقا لتقاليد الكتابة عند الاقوام القديمة، فقد كانت الفكرة تتجسد حقيقة اذا تحولت إلى لفظ، فالملفوظ يحضر اذا لفظ، بغض النظر عن حقيقة وجوده، ومن ثم صار كل شيء لا يكتسب وجودا محسوسا، إلا اذا اضفى عليه الإسم الذى يمنحه القوة والديمومة في الوجود، ولهذا ظهرت قيمة "الاسم"، بوصفها ظاهرة اساس من ظواهر الوعي والممارسة.

- الإسم صلة اتصال بالآخر، ضد قطيعة العشق والعاشق، وسيلة للتضرع / للدنو/ للاقتراب من المحبوب/ للاتحاد به، وكما كان ترديد الاسم لإله معين تضرعا، له اثره في اعتقاد الانسان بحصوله على ما يريد، فإن التقرب إلى صاحب (الاسم المقدس) يجلب اشياء جيدة، ومازال هذا الإعتقاد سائدا رسخته علوم البابليين، فقد كان لمردوخ الإله خمسون اسما، في ملحمة ( قصة الخلق البابلية) وافردت له الأديان السماوية من بعد مكانة خاصة، كما هو في الديانة الاسلامية حيث اسماء الله الحسنى. 

ولأن من ضرورات التلفظ الملزمة للأسم، أن يتحقق وجود 
" المسمى" في كينونته ويتحقق فيها الأمر من " كان"، وردت الأيات الكريمة في القرآن الكريم لتؤكد هذا المنهج: " ويوم يقول كن فيكون".

اصبح الاسم وسيلة مخاطبة، تضرعا، وصولا إلى المحبوب، اقترابا منه.

اسم المحبوب / المعشوق/ هنا هو صلة اتصال، خطاب مكثف مشحون بالتضرع المضمر، لأن "الاسم/ المقدس" المحبوب يرقى إلى مكانة القدسية عشقا، يجلب الحظ ويحقق النذر، وياتي بالمراد.

لذا نرى في زيارة المراقد والاضرحة والعتبات المقدسة، من يلهج بالاسم/ اسم المحبوب/ مصحوبا بالتضرع والدعاء والبكاء، والإستجارة والطلب، لأن قدسية اسم المحبوب ذات تاثير عميق، لازال قائما في موروث الانسان العربي ووعيه، وهو يعطي الأمان والحماية والشعور بالإطمئنان، وكأن صاحب الاسم هو معه، في السراء والضراء والسفر والتنقل...إلخ



- ..و"الحب العذري" مشكوك في معناه وحقيقته، لأن اقوى حوافز الحب، هو الميل إلى الآخر المحبوب، عاطفة واشتهاء.. لكننا حين نتوغل في حفريات المصطلح، ومرجعياته، نجد الخطاب العشقي الذى يغتني بالروحي، الإشتياقي، ونجد الحرمان الذى يدفع إلى الموت حبا.. هو "حب حتى الموت"، إذا بدأ فلا نهاية له إلا بنهاية المحب، وهو أعلن خطاب مأساوي يقدمه العاشق فعليا.

- إن شعر الغزل في الاصل ادعية وصلوات، كذلك رأينا إلى مثال عشتار، ثم كان تحوله، من بعد، عن طريق التدهور، فالطفرة إلى الغزل في المرأة، في القرآن الكريم، خلع الطابع الانثوي على الملائكة، وانثوا الأشياء الكبيرة: الأرض، الحياة، والشمس، وجعلوا لها رموزا مقدسة: الغزال، المها، النخلة، الدرة 
ولعله قد ترتب على وجود صورة "المرأة المثال" - كما شهرزاد - أو (عشتار) التي ظلت مهيمنة على صورة المرأة في الشعر العربي لحد الآن..، معنى هذا أن المرأة نظر إليها كالآلهة، ثم تحولت إلى جوهر مشرب بالألوهية نتيجة العشق.

وكما في الميثولوجيا الرافدية، ظاهرة (القداسة) احاطت بالمرأة، كذلك الأمر في المجتمع العربي الوثني القديم، عرفت منهم آلهات كاللات ومناة، وساحرات وكاهنات ايضا.

خطاب العاشق اذن امتد في بنيه المرأة، منظورا، وصلة اتصال، وتعبيرا، منذ أنانا - عشتار و" تيامه" في " قصة الخليقة "، ثم الربه " كالي" عند الهنود و" ايزيس" لدى الفراعنة.


كان العرب القدماء يعيبون الحب على المرأة، ثم شاع شعر الغزل عند العاشقات كأم خالد الخثعمية، وليلى الأخيلية، وهناك أم الورد العجلانية وشعرها العابث الماجن. 

حتى اتسعت افاق خطاب العاشق، بعد الإسلام، ثم في العصر الأموي والعباسي ودخول الجواري بالكثرة الكاثرة، في صميم المجتمع، اجتمعت لكل شاعر جارية يعرف بها ومعنى هذا أن (الجلال) الذى نظر به إلى المرأة العربية (سابقا)، تحول إلى عالم (الجمال)، حد عرفت، في هذا المجتمع، كيف تعبر المرأة عن عواطفها الملتهبة بالحب شعرا، حتى بين بنات الخلفاء.

(النموذج الخلقي) للمحبوبة، وبالتالي الحب الذى توحي به (تسوية)، وقف عندها النسيب، بين المحبوبة (الجارة) سهلة اللقاء - في البداوة - وبين النائية، سجينة الرخاء في المدينة، وتبقى النساء المريبات وحدهن تحت تصرف الشاعر.

ولكن مثل هذه المرأة غير جديرة بالمثول في النسيب الحريص على (سيدة) تمثل أرستقراطية البادية، إن الملامح المتعددة والمتناقضة التي نشهدها في شخصية (المحبوبة)، والتي يتقدم بها خطاب العاشق، وفي غرامياته، لهي انعكاس لموقف اجتماعي في أوج تطوره... وإشكاليته!

ولدى الشاعر البدوي لم تبرز " حكاية كاملة" عن الحب/ عن حبه، ولا تميل العقلية البدوية، بطبعها إلى التجريد، لذا تأخذ حالة (الحب / والذكرى) حيزا كبيرا في خطاب العاشق (البدوي)، خلافا لتنوع الحكايات لدى عمر بن ابي ربيعة، ولم يكن العاشقان في ذلك الزمن المثالي، منزعجين من وجود الوشاة، ولم تعتد لمحبوبة ذاتها الإصغاء إلى نمائمهم، فهي (تغدق) على الحبيب نعما مقدرة بعناية وقابلة دوما للنقض..


- هل يتمثل خطاب العاشق في السلوك، اكثر منه في الكلام، في الشعر؟

وهل ينتمي العاشق الى خطابه المعلوم، حتى لو كان سلوكه مثل ( عمر بن ابي ربيعة) لا يحفل بالكثير من مظاهر وتقاليد عصره؟!.

هل القصيد الذى ينتج عن غضب من المحبوبة/ المطلوبة/ المشتهاة...مهما بلغ جماله، يعتبر خطابا عشقيا، أم يدخل في حافزية الانتقام والهجاء، لانه (الفضيحة) من وجهة التقاليد، وإن كان يسبب الشهرة، ويضاف إلى جميل القول في المتداول الذى يتجاوز عصره، إلى عصور لاحقة، كنص جميل متألق يبحث فيه من خلال مضمونه وشكله لا من خلال دوافع القول؟!.

كحصيلة، إن الحب " الحب المصطفى" بين العاشق/ الشاعر/ وبين امراة من أي عصر، هو - ما يصلنا- هو "النص"، وليس
 " الحادثة"، صحيح أننا في البحث في تشكل الخطاب، نرجع إلى مرجعيات الروي، والرواة، ولكن لا يهمنا اذا كان الشاعر محض عاشق مجنون، أم رجل وقح متهور، إن ما يهم هو النص، في القراءة المعاصرة هو (الخطاب)، الذى يفيض بالجمال والشعور، حيث يعتلي عن جدارة ابداعية، منصة قراءة، متأنية، ويؤثر في المتلقي من اي عصر جاء، والسيدة المعشوقة كالشاعر، لا تفكر إلا بالأبيات التي تختم المشهد، وتحيي ذكراه.

خطاب العاشق في مهيمنته العشقية، لدى العذري، يحتضن نواة في غاية الوضوح هي "المحادثة"، العفيفة المهذبة غالبا، والسر غير الثقيل على حامله، والذى مع ذلك يمكن ارقاده سنين طوالا دون الكشف عن فضاء المكان/ التفاصيل.. وذلك الخطاب يعتمد احيانا على واقعة جد صغيرة، انعشت الحب، وجعلته عشقا بهذا الفيض: لقاء/ نظرة / حديث عفيف/ سلام.

هذه هي مكونات ( العلاقة).. تتشكل - كأجزاء - لتظهر
 "علاماتها " في سهم النص ومؤشره، ودافعية العلاقة، وغنائيته ايضا.

 - ...حين تخاطب الأميرة ولادة حبيبها ابن زيدون، فهي تتجاوز تلك (الأسلبة)، التي نظر فيها للمرأة داخل مفهوم (الحريم)، وهي و(حفصة) و(نزهون) - شاعرات اندلسيات- والأندلسيات عموما، خرجن على (نص الحريم)، بجرأة وجسارة قول وسلوك، ففي النظر إلى الخطاب، عبر موجهاته، لا نرى فيه ما يرى البعض من محرمات، لأنه منطوق على لسان امرأة...وكأن خطاب العاشق/ غزلا/ تشبيبا/ هو محض اختصاص الرجل، ومساحته فقط في حرية التعبير، حتى لو كانت (الرواية) التي ينسجها في نصه كاذبة، أو إدعائيه، بخاصة حين ترتبط بمغامرات نسائية، وهمية، إنها شعور مقارب إلى الفخر بالغزو والغزوات.

في البند الفلسفي الذى يشير إليه نص (الحريم) لابد أن نقف عند الانسلاب كمفهوم وحالات، اذ معروف مفهوميا أن المستلب يأخذ اشكالا عدة في عصرنا، بدءا بالعامل اليدوي أو المثقف، إلى المرأة الملزمة بأعباء الاعمال المنزلية، أو المهمشة في المجتمع، وانتهاء بالمستغَل أو المحتل أو السجين او الامتثالي المغالي في اصوليته، الذى لا يرى في خطاب العاشق إلا ما يشينه، من وجهة نظره.

وحتى اللا امتثالي، الواقع ضحية الدين، أو المذهب المضاد، والذى يرى في كل قول (غزل) عشقي يصدر عن المرأة   
"حراما"، انه في ذلك كمن ينتزع ملكية أو حقا من صاحبه كنزع امتلاك المرء لذاته ومشاعره وحركاته وافعاله ونتاجه والإمتلاك من الآخر المتسلط/ رب العمل/ المستعمر/ الجلاد/ والذى ينتزع من المرأة حقها في التعبير عن ذاتها، بمثل الغزل. 
إن فعالية المرأة غير مخزية، إن هي تحررت من العبودية والهيمنة والتسلط، ومعروف أن التحرر يكن نتيجة صراع فردي/ أو جماعي...لأن مكون عظمة زماننا هو الاعتراف بالحرية،... والإرتداد إلى الذات أولا لتفحص حالتها، وانماء المظهر الأساس في الوعي/ الشمولية الفكرية لتطور الرؤى/ النظرة والحقوق معا...شرح الآنية/ الذاتية، بالحرية/ التفكير/ بتملك الفكرة والتعبير عنها، بفتح الذات على فعل.. إلخ

يمكن تجاوز الإنسلاب / التوضيع/ في المعرفة المطلقة أو بواسطتها - (هيجل) في (ظواهرية الفكر) - وإنه بالإمكان تجاوز الإنسلاب ( الديني/ السياسي/ الاقتصادي، في (البراكسيس) حسب (ماركس)، ونعني به التطبيق العملي لمحاولات تغيير العالم أو أن التخلص مو تكدر المدينة هذا - أي من الإنسلاب- يكون في التكيف بواسطته، حسب
 ( فرويد) في كتابه: "انحراف في المدينة"، أو كما يطرح (سارتر) في "نقد القل الجذري": النزوع لتجاوز الإنسلاب الكامل، لكن (فرانز فانون) يرى في " معذبو الأرض"، أن نضال التحرر الوطني، هو السبيل لتخطي الإنسلاب والإستعمار. 

في خطاب النساء الأندلسيات أو الغزل "الأنثوي" الأندلسي، تماثل مع حرية..، ترف في الفكر، والجدل أولا، وليس ترفا خاصا بالنظام، وانعكاسه في الحرية الشخصية والمجالس الأدبية.

هنا الخطاب الحر للعاشق، نمط، سياق، تأصيل لحرية، هي شمول وليست فردا أو أميرة، هي حالة عامة، وليست ضيقة الافق أو احاديةاحادية.

إذا المراة العاشقة، تجعل من الابداع درعها الواقي، ضد الاسلبة، وهو درعها تعبيرا أو صدا، من الألم والاحزان والسهام الطائشة... كي لا تحس غربة روحها ولا خسارة ايامها... ولأن قلبها/ قلب العاشقة/ ينفتح على شهية الانغمار بالابداع/ تعويضا/ أو حرية متجذرة../ أو بحثا عن خلود الذِكر والفعل، والذات في تحققها.. غمست خطابها بالألم وبالاحزان كي يشرق فرحا حبيا، أو نجوى.

22‏/09‏/2018

اهمية مقاييس الشخصية والميول في اختيار الموظفين


اهمية اختبارات ومقاييس الميول الشخصية في اختيار الموظفين

عبدالخالق مرزوقي

ممارسة مهمة ولا اراها تستخدم في الشركات العربية كثيرا وهي
 اختبارات المهارات الشخصية والاجتماعية، كمقاييس الشخصية
وتحديد الميول

اهميتها تكمن في تحديد مدى فعالية الشخص وقدرته على الإنجاز
وليس فقط كفاءته

الكفاءة ممكن قياسها من خلال السيرة الذاتية، والتعليم والمهارات
الخاصة بالعمل

لكن هناك خصائص لكل وظيفة تجعل شخصا ما اكثر فعالية من
غيره، على سبيل المثال لو كانت الوظيفة في مجال العلاقات العامة
يفضل الشخص الذى لديه مهارات تواصل وانفتاح اجتماعي، وقدرة
على بناء علاقات، اكثر من شخص ميله وتفضيله الشخصي
نحو تقليل العلاقات أو الإنطوائية، أو منغلق في تفكيره

 ولو كانت الوظيفة في مجال المحاسبة أو الشؤون القانونية مثلا
وجود شخص لديه القدرة على التركيز على التفاصيل، ولا يتشتت
في اكثر من موضوع في ذات الوقت، ويستطيع التركيز لمدة طويلة
في موضوع واحد، وقدرة على التحليل تحسب كميزه له

أو وظيفة في مجال التصميم فإن القدرة على التخيل والابتكار
والتفكير خارج الصندوق ميزة فضلى

ونحن نعلم من خلال حياتنا اليومية، أن هناك من لديه استعداد ذاتي
لتكوين علاقات اجتماعية وقدرة تواصل مع الآخرين، ومن لديه ميل
للتدقيق في التفاصيل أو عقلية نقدية، أو تفكير استراتيجي، بغض
النظر التعليم الأكاديمي والمهارات العملية الحاصل عليها، والجمع
بين ذلك يحقق الإستفادة القصوى من وجود الفرد في المنظمة

السيرة الذاتية والمقابلات لا تظهر هذا.

21‏/09‏/2018

ذهنية تبسيط الاعمال أو المزيد من السيطرة واثرها العملي

ذهنية تبسيط الأعمال أو المزيد من السيطرة
واثرها العملي.

عبدالخالق مرزوقي

من الأقوال المهمة في الإدارة:
 "هناك طريقة واحدة لإدارة أي شيء ألا وهي التبسيط"

لكن فعالية هذه المقولة النظرية، تتعارض عمليا في اوقات معينة
مع بعض النوازع البشرية الداخلية من جهة، والثقافة المؤسسية
داخل المنظمة من جهة اخرى، والتي تصوغ الأنظمة والإجراءات
البيروقراطية اليومية، بذهنية فرض المزيد من التحكم والرقابة
والسيطرة على اداء الأعمال، وليس بذهنية انسياب العمل.

لذا لا اميل ابدا لعملية اسقاط الأنظمة من المستويات الإدارية
العليا، في المنظمات الكبيرة، على وحدات العمل الصغرى دون
نقاش أو استطلاع اراء المعنيين بالتنفيذ أو المستفيدين والعملاء
الداخليين، فتلك المستويات العليا غالبا، ليس لديها إلمام دقيق
بتفاصيل تنفيذ الأعمال والإجراءات داخل وحدات العمل الصغرى
ويتجه تركيزها اكثر على الرقابة وفرض السلطة والنتائج العامة.

نتيجة لذلك تلجأ وحدات العمل الصغرى، لأحد امرين:

إما الإلتزام الصارم بتلك الأنظمة البيروقراطية على مضض، وبدون
اقتناع ورغبة، ونتيجة لذلك يتعطل العمل أو يستغرق وقت اطول
في انجازه.

وإما محاولة الإلتفاف على الأنظمة الداخلية بطريقة غير رسمية
وانجاز اعمالها بشكل اسرع، مع وجود هاجس المساءلة من قيادتها
الإدارية، اذا لم تكن القيادة متعاونة في ذلك.

وفي حال لم تكن القيادة الإدارية متعاونة، فإنه لا يتم اطلاعها
غالبا على تفاصيل انجاز العمل فعليا، وهذا يخلق فجوة معلومات
بين الطرفين.

08‏/09‏/2018

مفهوم الموارد البشرية وتشيؤ الإنسان


مفهوم الموارد البشرية وتشيؤ الإنسان

عبدالخالق مرزوقي


برغم تخصصي الإداري، إلا اني لا انظر بود تجاه مفهوم الموارد_البشرية منذ أن تم استبدال مفهوم ادارة العاملين به
فالحديث هنا ليس عن مجرد استبدال كلمات بأخرى، ولا حول تعريفات اكاديمية نظرية جميلة للمفهوم، ومحفزة، بل عن واقع عملي، وتحول قامت به الرأسمالية والتي قامت بالهيمنة على العلوم الإدارية منذ نظرية الإدارة العلمية لتايلور، القائمة على أسس فلسفية عقلانية

وتشييء الإنسان يستخدم لوصف التعامل مع البشر كشيء

مع تجاهل شخصيته واحساسه ومشاعره، أي العملية التي يتم بها جعل مفهوم تجريدي موضوعيًا، وفي هذا المجال يكون المصطلح مرادفًا للمصطلح التحويل إلى أدوات.

وبحسب الفيلسوفة مارثا نوسباوم أن الشيء يكون موضوعيًا في حالة تواجد أي عامل من العوامل التالية: اذا تم التعامل مع البشر كأدوات، في حال رفض الإستقلالية وفي حال إذا كان يتم التعامل مع الأمر كما لو أن شخصًا آخر يمتلكه، إذا كان يتم التعامل مع الشيء على أنه قابل للتبادل إذا كان يتم التعامل مع الشيء على أنه مسموح به التلف أو التدمير، وفي حال رفض الذاتية أي اذا كان يتم التعامل مع الشيء ، كما لو لم تكن هناك أي حاجة إلى إظهار الاهتمام بمشاعر وخبرات "الشيء.

كان التحول البارز في استبدال مفهوم ادارة العاملين أو الشؤون الإدارية بمفهوم الموارد البشرية، الذى ينتزع مفهوم الروح البشرية من الإنسان، ويحولهم إلى مجرد مورد، آلة - شيء ما - تتعامل معه المنظمات كما تتعامل وتتصرف مع اي مورد آخر، كالأرض والمال، مجرد ادوات انتاج.

مجرد اداة انتاج رأسمالي، لا مشاعر أو احاسيس لديها، ولها قيمة بحسب ما تقدم من انتاجية، ويمكن استبدالها أو الإستغناء عنها بسهولة متناهية.

وهذا التحول الذى فاقمه مزيد من التخصص في العلوم
الادارية، باعد بينها اكاديميا وبين علمي الإجتماع والنفس
خاصة في الجامعات العربية، فلا ينظر في الجامعات العربية
تحديدا في المجالات التي تتقاطع فيها العلوم الإدارية مع بقية العلوم الإنسانية بجدية، كالسلوك التنظيمي، علم الإجتماع الإداري، علم الإجتماع الصناعي، وغيرها
جعل اقسام "الموارد البشرية" في المنظمات المختلفة، خاصة الكبيرة منها، وبحكم كل تلك المعطيات المسبقة، خاصة انها لم تعد تتعامل معهم مباشرة، جعلها

تنظر لهم كمجرد اسماء وارقام وملفات، موجودة على اجهزة الكمبيوتر، يمكن استبدال عشرات ومئات الإرقام منها بغيرها
بقرار لا يأخذ ثواني معدودة.

وهذا ينسحب ايضا على نسبة قد تكبر أو تصغر من القيادات
الإدارية العليا، التي تنظر للعاملين على انهم مجرد ارقام انتاجية أو معايير لمؤشرات الأداء، أو ادوات تحقيق اهداف

بالتأكيد لا اعني انه ينبغي عدم النظر لهذه الأمور، لكنك
عندما لا ترى الجانب الروحي/ البشري في الإنسان، عليك ألا تتوقع أن تراه داخلك انت.

فأنت حينها ايضا تكون قد تحولت، بفعل الإتجاه الرأسمالي
المهيمن إلى مجرد آله صماء "شيء ما"


لذا لابد في الفكر الإداري، وواجب على العاملين في المجال 
الإداري، من اعادة اكتشاف وتعريف الجانب البشري في الإنسان. 

18‏/07‏/2018

عرض كتاب: رسائل حب مفترضة



الكتاب: رسائل حب مفترضة
 بين هنري ميللر وأناييس نن








للكاتبة: ليلى البلوشي





" هذه الرسائل من قلب وفكر ليلى، أما الكاتبان الشهيران هنري ميللر وأناييس نن فهما مجرد افتراض" 

ملحوظة للمؤلفة: "العبارات التي وضعت بين قوسين دون ذكر قائلها، هي بلسان هنري ميللر واناييس نن، ويمكن التمييز بينهما من خلال الرسائل الخاصة بإسم كل منهما"





من الكتاب 


2

أدير وجهي إلى الأمام كرمح.. لكن ثمة ريح عازمة على كسر رقبتي..!


الأب كالريش على القلب..!

حينما انجبني أبي مع أمي.. شاطرت كشقية حبهما السري.. تلصصت عليهما.. كانا راضيين بمعنى ما.. أمي وأبي كانا مبهورين بمعجزة قذفي على وجة هذا العالم، ولكن لما تبين لهما خسته بصقا على قفا المعجزة، وكنت انا طفلة لم تحبُ بعد.

حين نكون مركبين كيميائيا من أب رائع، تبهجنا معادلة أبوته، يصطف كل رجل حينئذ في المرتبة الثانية أبدا.. فذاك العجين الكيميائي البيولوجي وحده الجدير بالمرتبة الأولى في اولويات القلب.

يردد لي دائما: يا أناييسي..إن أمك تشبهك..!

وحين ترجوه الطفلة بالتفسير.. يرد عليها بحشرجة لا تفارقها ابتسامة تعرفها: تشبهك امرأة تهدم طوب حيطانها الداخلية من أجل سكن الآخرين..!

حب معافى ابدا هو حب الأب..!

كل انثى تضع يقينها في هذا الحب الأبوي كامل الدسم، يُغني..يُشبع حتى الإفراط..صحي ولا يسمن، خالي من مغبة التملك ولهاث الهجران والآه والتيه.. فياليتها من خلاصة عاطفية ساحرة مشحونة بجل الإنفعالات سوى عاهة " الخسارة".

فالأب يحب دون غاية، حبه مطلق لا يبرره سبب سوى عاطفة أبوة شاسعة.. غريزة أبوية لا تنطفئ.. بينما الرجل.. أي رجل في حياة انثى.. فإن حبه لها يكاد لا يخلو من غايات متضافرة.. كيفما كانت نياتها: صالحة، سافلة، حقيرة، محبة، دنيئة..!

فبحسبما احترام الرجل لنفسه تعجنه غاياته:
يحبها لأنه يخشى أن تخنقه عقارب الزمن وحيدا دونها.. يحبها لأن لها عينين جميلتين كأيقونتين تلهمانه.. يحبها لأنها مادة اغراء ملفوفة كسيجارة يمجها بلذة.. يحبها كي تكون عكازته التي يتوكأ عليها في دروب الأرض الشاقة، يحبها كي يعتشي على جيبها كأي وضيع اعتاد التسول من جيوب النساء.. يحبها لأن لا فحولة دون انثى، أما الذى يحبها لأجل غاية الحب، هذه الغاية وحدها دون غيرها.. فما اندره.

كثيرا ما تخضني حيرة بأبعاد شاسعة من الرجل الآخر: ألا يغدو الرجل دون غريزة ابوة في مرتبة التمساح..؟! ففي حياة التماسيح تسعى الأم دائما لحماية أبنائها من الأب الذى يستسيغهم وجبة شهية.

ألم يصدق " مورافيا" حين قال: "تستطيع المرأة أن تعرف في حياتها رجالا كثيرين، لكنها لن تعرف إلا ابا واحدا".


-هنري بعث لي حزمة من انفاسه..!

آآآآه.. كم اخشى عليه مني..من امراة مضطربة الحنين والغياب وكل شيء..!
إنني راهبة في معبد هذا المجنون...!
يلهم روحي كمجموعة رجال في قامة إنسانية واحدة: أب، عاشق، شريك، صديق.. يال مسارب العشق بين سهم وقوس..!

أعشقك أسمعها لقلبك في ارتجافة الروح واضعة روحي قبالة سرير روحك.. وثمة خشية مريرة تستند فيما بيننا كضوء شاحب.. فالحب..هذه التفعيلة النبيلة..هذا الصلصال الذى اعجز الكون عن ملامحه.. مرعب يا حبيبي هنري.. كم مرعب الحب في موضع هش كالعالم..!


هل تذكر..؟

ذاكرة حب كلينا مشتعلة على صوت الشاعرة "صوفيا دي ميللو"، وهي تسربه إلى راسينا:

" رعب أن احبك
مرعب أن احبك في موضع هش كالعالم
مؤلم أن احبك في مكان الشبهة هذا
حيث كل شيء يهشمنا ويحرسنا
حيث يفتري علينا الجميع ويفصل ما بيننا"


أن ترخي الستار على يومياتك، يعني أن تنشر على حبل الاخرين اكاذيبك.. صدقك وحقدك المبطن والظاهر.. حبك.. فضائحك.. عليك ان تعرض كل غسيلك، كي تغدو نفسك غسالة وهي تدلق في وجه العالم خسته ودناءته.. طهره ونقاءه المخيفين.. كي يعترف حزنك الخنوع لأي طفل بالقرب منك ببراءة مماثلة:

انج بكلك..إن قابلت موتاً يضاهي براءتك فلا تتردد..!
3


أنا اليوم مهزوم..!

وسأبقى في سجن انهزامي ما لم تصلني انفاس أناييسي..!
أخشي ان يطول انحباسي في هذه الهزيمة.. إن كان " همنغواي" تخلص منها بطلقة فأي خيار هو امامي، كي أستأصلها من اعماقي..!

إنني كائن يرى وجوده في الحياة.. أ
جل.. فمذ اطلالتي من ذاك الشق البتولي كان قلمي وروحي وكل جزء من أوصالي يحفل بالحياة في حيوات كثيرة.. يرغب فيها كلها دفعة واحدة.. والموت هو خصمي اللدود... هو الدودة التي تتسلل تحت جلدي.. تقتاتني وأنا   ما ازال راغب في الحياة كنطفة لم تقذف بعد. 

وحين يفترسني خطر حقود، ابكي بل اصرخ بشدة:

افتحوا بوابات العالم كلها"..!

4


هل علقت "أحبك" على مشجب أمنية مذلة، وقلبك منه شحاذ رغبة؟

لم اتمنى بالمعنى "الواقعي"، أنا اشتهيت بالمعنى "العاطفي"، والشهوة مطية المحرومين في الليالي المضببة بخذلان لقاء روحين على شرشف مصنوع من الغيوم..!

حذرتني: أن الحب لابد له من كفين متعانقين وإلا سقط من مفهوم الحب الحقيقي، وصار بمنزلة الوهم المعذب لا أكثر...!

علمتني: لا ينبغي للإنسان ان يترقب الحب من الذين ينبهر بهم، بل عليه أن يترقبه من الذين لا يتوقعهم.


أعشق رجلا يبهرني..يناقضني..يرقص على مزاجي بحب حين أبغضه، ويرشقني ببغضه حين احبه بجنون..!

رجل خارج قواعد مزاجي.. مطلق الشخصية.. يمشي على طريق ملغم كبهلوان.. يرتشف الشاي مع الملح.. يعبر ذاكرتي ككرة مطاطية.. يحتويني كقنبلة تنفقئ في لحظة جنون.. أهدد كينونته كمرض مستعص على العلاج.

بماذا تهمسين لكل إنسان على وشك الحب..؟


ساهمس له بنبرة جد حريصة: إذا أردت ان تحب يوما فلا تعط هذا الحب كلك.. امنحه جزءا منك، واحتفظ بالباقي في حب أشياء اخرى.. لئلا يشمل شلل الإنهيار البقية الباقية من وجودك، فيعطل سير النبض في حياتك المتبقية.




سأقابلها غدا على نهر السين، وحينئذ سأضع راسي الثقيل امامها.. ساقدمه لها وارجوها أن تقطعه كما قطعت السيدة "دي باري" رأس حبيبها بالمقصلة أثناء الثورة..!

ساقول لها مذعنا بحنان: حبي.. اريحيني منه.. إن راسي مستعار إليك.. إنه ملكك وحدك، فكل افكاره وفوضاه.. كل تكتلاته الساخرة والمؤلمة والمبهجة حد الالم كلها تعنيك وحدك.. خذي رأسي.. فل تكوني انت مليكته..!

إنني افقد توازني أمام هذه المرأة، كما فقد البدائي توازنه أمام ديناصور ضخم إلتبس عليه كمعجزة..!

حين شممتها في الصدفة الأولى تفرعت فيٌ بهجة كبيرة.. شجرة ميلاد مزركشة في اعماقي نبتت.. فرح اكبر من أن يستوعبه قلبي الطفل.. طوقني خبل ما، لا بل خفة غامضة وكانني ابتلعت برميلا من النيبذ..!

سأقابلها اليوم بشرارة الرعد، وسوف استغيث رقتها اللامتناهية: هاك قسوتي.. ثمة وحش قابع هنا في سابر روحي، إلم تروضيه فسوف يقتل نفسه ويقتلك.

وإلم تفلح لغة رجائي فإنني لن اتوانى عن الصراخ في وجهها كطفل عنيد، مصر على إمتلاك كل اللُعب الموجودة في الكون: " اطعنيني في القلب، في الدماغ، في الرئتين، في الكلى، في الأحشاء، في العينين..اذا بقي عضو واحد حي فأنت مقضي عليك، قدرك أن تكوني لي، في هذا العالم وفي العالم القادم، إنني مستميت في الحب، قاتل، عيار، نهم"، سأُحمِل صراخي كل هذا واكثر..!


9


ألم يصدق "نيتشه" حين اطلق رجاءه على قفا البشرية: "رجاء، لا تحرموا الإنسان من الكذب، لأنه لن يتمكن من العيش.. الإنسان يعيش من خلال الأكاذيب، لا تحرموه من تخيلاته، لا تدمروا خرافاته، لا تخبروه الحقيقة، لانه لن يتمكن من العيش من خلال الحقيقة"..!

الحياة تسير على هذا المنوال، لا يمكننا أن نتعاطى معها.. مع الآخرين.. مع انفسنا.. دون أكاذيب حمراء.. بيضاء.. دون اختلاقات كيفما كان لونها ومذاقها.. ألم يعترف "كافكا" بدوره في رسالته الأخيرة ل "فليبس" قائلا: " أنا مخلوق كاذب، وهذه هي الوسيلة الوحيدة للمحافظة على توازني، فقاربي هش"... وكل بني آدم وحواء "كافكا"

ومن طريف ما اذكره أن الحكاءة الحاذقة "ايزابيل الليندي" زوج امها كان يطلق عليها لقب "مجنونة الأكاذيب"

نحن - صانعي الحكايات - اكاذيبنا لها مذاق شجرة البامبو.. تلك النبتة العجيبة، التي تنحت التربة بصمت طوال ردح من الزمن، حتى تختال معانقة شمس الحياة بصلابة اكاذيبنا تحيي الارواح المثقوبة وتلك الضجرة، واخرى هائمة في مهب الخيبات والاحباطات لتنتشلها بقوة سحرية.. تفتت الحزن الكبير إلى احزان متضائلة.. تصنع ما تصنع لكنها لا تؤذي ولا تخلف خدوشا.. شفيفة كفستان من دانتيلا تزدان به كل روح ترتديه.. تتلمس كالمرآة غوامض الروح الغاطسة في الكذب فتعريها.. إنها ببساطة تعني "الحياة" لكثير من المعدمين، حين تزن قيمة تلك الأكاذيب حجم احلام طارئة، يجسونها من سطر عابر او عبارة خلاقة في روح مخلصة.



10 


لهنري صوت كأمنية يؤنسك..!

تتوق لتخزينه في قمقم، وسد فوهته بإحكام كي تهزك لهفة الحنين همسة بعد همسة، كلما استكان القمقم على قلبك.. بعض الأصوات تسبرنا كصلاة خشية..!



11 


إنني اعري بلا خجل كل قطعة من حياتي..!

الكاتب الذى تتاجج إنسانيته في كتاب، ثم ينال رضا العامة او يثير بركان غضبهم.. يلفت قسطا من إهتمامهم أو لعناتهم.. تبقى حياته كتابا مغلفا على رف في مكتبة، أو على رصيف في الشارع أو مأوى في قمامة الحي.. كتابا يعودون إليه في وقت ما، أو زمن ما، أو يدوسونه بأقدامهم.. يتوارث.. يلعن يوم طباعته.. يطبع آلاف المرات أو يشحن منفيا إلى زريبة مقفصة محبوسا عن الطبع.. يحكى عنه في المنابر أو يوصم في قضية رأي عام.. هو كاتب ليست حياته مثيرة فحسب بل أسطورة قائمة في ذاتها..!

إنني عبر سيرتي اكتشف متاهاتي.. اعريها على كل الجبهات وكأنني في حرب..هي حرب نفسية في المرتبة الأولى، فحتى "سقراط" كان يحارب نفسه حينما اطلق عبارته الشهيرة: "اعرف نفسك"

فهل يحق لكائن ما في هذه الحياة، أن يحاكمني على حياتي التي غلفتها لهم في هدايا عبر آلاف الصفحات..!

لا يحق لأحد أن يحاكم إنسانا قال يوما ما: هكذا أنا.. اقبلوني أو ارفضوني..!


إن الحرية هي وحدها لها الحق، في أن تقف في وجهي بكل جبروتها.. بكل ما تملك..بل ما تؤمن به..هي وحدها يحق لها ان تقول لي: إن حياتك فضيعة.. إنك مذنب في تعريتي على هذا النحو أمام أولئك الرعاع..!


12 


في حياة الرجل امراة كاملة ومجموعة نساء، الكاملة امه والباقيات نساؤه السابقات..!

من المهارة ان تنتقي رجلا يحب أمه.. يدللها.. يفرطها احتراما، لأنك انت ستغدين أمه الأخرى.. إن رجلا لا يجيد حب أمه، هو رجل لا يجيد حب امرأة من بعدها.. إن رجلا لا تحفل امه بمكانة سامقة في آماد كيانه هو رجل لن يقيم وزنا لأي امرأة مهما كان ثقل جمالها.. مهما بلغت كياستها.. ف "نيرون" الطاغية الذى قتل امه "أجريبينا"، بالسم لم يتوان عن قتل زوجته "أوكاتافيا" دون أن يهز قلبه شيء من الشفقة.

إن من يجسر على خيانه امراة قدسته في رحمها تسعة اشهر لا وفاء في فؤاده لأحد..!



13 


لأنني رجل.. فأنا مجبر على الصراخ..على القتال..على مناكفة الأخرين.. وعلى مصارعة هذا العالم بصورة مستمرة، لأن وجودنا الذكوري يكمن في اثبات شيء ما.. لكن ما هو هذا الشيء، ما لونه ومذاقه وشكله، هذا ما لا ندريه..؟!

لا يوجد رجل في الكون يدرك ماهية هذا الشيء.. خاصيته.. سره.. لذا هم مصارعون على الدوام..!

تستطيع المرأة أن تبقى ساكنة دون أن يلومها احد.. دون يجبرها أحد على الصراخ.. إنها غاية في ذاتها.. غاية كل رجل.. إنها كائن مرغوب فيه، وليس مطلوبا منها سوى أن تمارس طبيعتها في هذا الشان، وعلى الرجل وحده.. انتزاع.. تلك الرغبة إن سلما أو حربا.. وذلك وحده يعتمد على رقي الرجل وثقافته المتراكمة في التصرف..!

إن هذه الصراعات هي التي تفقد الرجل سلامه الداخلي.. تحيله إلى كائن خائر القوى دون أن يجسر على الإمتناع.. إن الكف عن مثل هذه الممارسات هو اعتراف ضمني مخيف بفقدان المآل من كل شيء..!

لذا لا استطيع أن اكف عن قلقي كرجل، حيال ما تنجبه لي الحياة من مخاطر.. علي على الدوام أن اكون في موقف دفاع أبدي، تجاه امور اخافها.. دون أن احيط بماهية هذه الأمور.. اشبه بالذى يجد نفسه في وسط غابة مأهولة بالكائنات الشرهة، وهو في حال يقظة مستمرة لاي مأرب منها إليه..!

إن هذه النزعة من الرجل تسللت منه إلى رفيقته في الحياة، إلى المرأة وسورتها من الجهات كافة كمومياء.. غدت المرأة اليوم مثقلة كالرجل في نزعات توجسه.. بعدما كانت هي الغرض في ذاته.. عليها أن تكافح مثلما الرجل تماما.. أن الحياة القاسية لن تأبه لجنسها الرقيق.. فهي بائسة.. قلقة.. تحمل الصخور وكأنها رجل، عوضا عن مهماتها.

لعل من هنا برزت نظرية كل من "فرويد" و "يونغ" التي تؤكد أن الموجود الإنساني هو ثنائي الجنسية.. أي خليط رجولة مؤنثة وانوثة مذكرة.


15 


تحدثني عن "ليدي غاغا" وعن الزمن، إنهما أمران مثيران حقا..!

يبدو لي أن هذه الدعوة تليق ب "مارسيل بروست"، هو الجدير بالزمن كله.. لعلها اختصرا زمنه الضائع في حفنة من القول..

إن الزمن عدو لمن هو عدو له.. إنه ك "هتلر" لا ولن يرحم كارهيه.. اسأل اليهود عن هتلر واسأل الزمن عن مطارديه..!

الزمن كدفقة ماء.. كخيط منسي انحرف مع الهواء.. كحرارة فستان المنطاد.. كدراجة نارية تقطع دروبا مستعصية.. كإمرأة ثكلى تنوح على ابنها الميت في الحرب.. كل ما سبق توليفات عن معنى الزمن.. وفي الزمن سر.. أنه لا ينتظر احدا.. ولا يدنو منك مربتا كتفك كأب محب مستدرا عطفه: يا عزيزي.. خذ ما تشاء من وقت يمكنني تعطيل انتظاري كيفما يشأ مزاجك..!

فإما أن تكون مهيأ له بكل تبرج وافتتان ومرح وجدية.. وإما أن تقف كتمثال حيث انت وفي يدك منشفة قطنية تمتص حسراتك الهاطلة..!

ولا ندرك متى يضعنا الزمن في حساباته

سأضيف: اصنع آلة زمنك.. اخضع زمنك الضائع لمصلحة زمنك القادم..حوله من مجرد اريكة للإسترخاء إلى منصة للقفز..كن املك.
اصفق ل "ماركيز" حكمته عن الحياة، حينما قال: "لا يولد البشر مرة واحدة يوم تلدهم امهاتهم وحسب، فالحياة ترغمهم على أن ينجبوا انفسهم"

حين تستفزك كل هذه المفارقات، لملم كل هواياتك.. رغباتك.. أحلام الاعوام الماضية.. مارس بجرأة ما لم تجسر على تجريبه سالفا.. إن جمال الأشياء يكمن في النهايات

الزمن هو أن نفعل ما نحبه..
الزمن يملكه أولئك الذين يؤمنون بجمال احلامهم..



17 


تقبضني احيانا فكرة مهولة وهي: ختام حياتي سقطة..!

استطالت هذه الفكرة في مخيلتي برعب مهول، حينما امعنت في آهات "جان جنيه" في نصه الأثير "راقص الحبل"، وهو يخاطب الموت في كيان صديقة الجزائري المنتحر "عبدالله:
" اذا كان لعشقك ولمهاراتك ولذكائك القوة الكافية، أن تكشف قدرات الحبل السرية، إذا كانت حريتك كاملة الدقة ومكشوفة، فسيجن الحبل ليرى قدمك "الملفوفة بالجلد"،لست انت أول من سيرقص وانما الحبل، ولكن، عندما يكون هذا في كينونته حبلا، وفي لا حركته يرقص، وتكون هذه صورتك القائمة بكل القفزات، فأين تكون انت؟ إن الموت - هذا الذى اتحدث عنه هنا- ليس هو الموت الذى ينبع من سقوطك، وإنما هو ذاك الذى يسبق استعراضك.. انت ميت قبل أن ترتقي الحبل.. إنه الراقص الميت"

هكذا أتخيلني دائما.. اسير بأصابع قدمي على حبل شبيه ب "حبل الراقص"، لهذا علي بمهارة وخفة بهلوان أن اعبر دربي إلى الحياة.

ذاك المجهول الذى يترصد استقراري، ليس موتا بمعناه التخيلي في كياني، بل يتوجس كدرب لولبي يسري بي إلى حيث اجهل..!

إن هدا المجهول يتلاعب بي، وأنا عشقت تلاعبه بي على هذا النحو المثير.. ذلك الانتظار المشنوق على فضول مستفز.. من الترقب.. من لهفة التمني..!

لعل ذلك مبعثه كوني امراة تعشق الافتراضات اكثر من مما تعشق الحقائق.. تمارس الحياة في دهاليز احلامها وتقتات بها بعين رضا، احب إليها من أن تكون ماثلة حولها كواقع.

في إمتلاك الأشياء ضجر.. بلادة حد التثاؤب..!

ما يلفت أو يهز كل حاسة من حواسك، هو تلك الأشياء التي ليس بمقدورنا إمتلاكها.. الأمور التي تناقض توقعاتنا هي وحدها تلبس حياتنا ثوب تشويق..!

ما عدت أخشى السقطات..!


إنها تجعل المرء يدرك وزنه الحقيقي في الكون.. إنها تجعل الكاتب - خصوصا- تركيبة غنية بالمفاعلات الإنسانية.. كم تثريه تلك الثقوب، فالمعذبون هم الجديرون بالتعبير عن وجه الحياة الدامي.. إن صرخات حناجرهم لا تدعي مطلقا.. إنهم اشد خصوم الافتراء.. يحتاج الكاتب إلى الخوف كحاجته إلى الأمن.. يحتاج إلى ان يسلخ جلده مشرط الألم كحاجته إلى فرح طويل الأمد.. فالكتابة الجادة المتناغمة مع أوجاع الوجود.. السابرة في اعطافها، لا يخوض عمقها سوى جسد صلبه تاريخ الألم.. قلب متعفن بدم الحياة.. وعقل متخم بغصة واقع مر كنبتة سامة..!

وهذا يشبه ما قاله "ديستيوفسكي" يوما ما، كرد على كاتب شاب جاء يسأله: " كيف يصبح يصبح المرء كاتبا كبيرا..؟ فأجابه: " أن يتعذب، أن يتعذب، أن يتعذب"

وهذا يشبه ما قاله الشاعر المرهف "ريكله": " ينبغي أن تموت ألف مرة لكي تكتب حرفا واحدا"

وحده الإنسان المتألم هو وجه الحقيقة..!

هو جسد منفوخ بالطاقات.. طاقة البوح.. طاقة الغضب.. طاقة القهر.. طاقة التحدي.. طاقة الحرية.. طاقة الرغبة والحق في الحياة حتى اخر قطرة.

عندما تسقط تعَرّف بشخصك الكائن فيك.. أي نعامة أو أسد هو انت.

اذا كان "دانيال سترن" يرى: " أن آلام الآخرين هي لغتنا الثانية"، فإنني. أضيف بإيمان مطلق: " آلام الكاتب هي لغته الأولى إذن..!

ففي حال الألم لا يكتب الكاتب هزائمه، بل حرقته وتمرده عليها..إن اعترافه الضمني في نفسه والمذاع بين الناس، في هيئة نص ادبي هو موقف يحسد عليه لجسارته..!


25 


"أحب أن اتأمل بين حين وحين الوجود من الجانب الآخر.. فمن جانبي كان الأمر مضنيا على الدوام.. ثم إنه منحاز.. احب ان انزظر لنفسي من الخارج.. أن افكر في نفسي بعقل غريب.. واحب على وجه الخصوص ان أشعر بنفسي بحواس العالم.. قاس أن نبقى دائما على الضفة بينما يمتد البحر حرا من كل قيد"

هكذا يعبر "رافايل أرغولول" عن "حواس العالم" في كتابة " صياد اللحظات"، وهو الشعور الذى اجدني فيه بإستمرار، أن تكون لي ضفة خاصة، ومنها أرنو على ضفتك.



26 


صادفت البارحة بين سطور دفتر مهمل في احد الأدراج، كلمات حشرج بها " فرناندوا بيسوا" بعمق:

" أنا اليوم مهزوم كما لو كنت أعرف الحقيقة..صاحي كما لو كنت على وشك الموت"



27 


لم يخطئ " وليام شكسبير" عندما قال: " بالنار يختبر الذهب، وبالذهب تختبر المرأة، وبالمرأة يختبر الرجل"

إن أفضل النساء.. هي تلك التي تخاطب في الرجل طفله الصغير القابع في سراديب روحه.. في قاع كل رجل طفل يحببه اللطف واللين.. طفل يعشق شراسة الحب.. يرغب في شهوة الحنان.. عبثي.. أناني.. مستبد.. غيور.. جانح.. وحدها امرأة من النساء تخضع هذا الطفل.. تلينه.. تعيد تكوينه.. تخاطبه بلسانه وعقله وقلبه وتضاعف من جنون مطالبه، بغرائزها كأم وعاشقة ورفيقة له..!

كل أطفال المرأة يكبرون سوى هذا الطفل.. فهو طفل آخذ بإمتياز..!
أنجبت من خلاله اطفالها الباقين.. لكنه أول طفل في حياة كل انثى.


32 


في خضم إلقاء الضوء على الكاتب وصلته بالموجودات من حوله، ثمة تساؤل قوي يحتك بي في هذه اللحظة بالتحديد وهو: هل الكاتب الذى يعجز عن إثارة التغيير في واقعه الراكد بقادر على أن يفجر تغييرا في العالم الذى يدور في دهليزه..؟!

ابداً.. الكاتب الذى عجز أمام افكار واقعه بالتغيير اكاد اجزم أنه لا يجسر على تغيير في واقع العالم..!

هكذا يواجهني فكري: لقد فشل في تحديه الصغير، فكيف إذن في تحديه الكبير..؟!

فعلى مستوى الواقع كان التمرد لصيق تركيبتهم الإنسانية.. تمردوا على شخوصهم.. تمردوا على واقعهم.. وهذا التمرد سرعان ما تعاظم وتمدد ككائن مهول لم يكتف بعالمه الصغير، فأراد عالما اكبر يليق بحجم تمرده وأحلامخ وتطلعاته في الحياة.

إن الحياة لا تمنح عظمتها على وجه اعتباط..!

" لوركا" قال مرة على لسان أحد شخوصه في مسرحية "ماريانا": " وما الإنسان دون حرية يا ماريانا، ودون هذا الضوء الثابت المتناسق الذى نشعر به في اعماقنا، وكيف يسعني أن احبك إذا لم أكن حرا..؟
قولي لي، كيف يمكنني أن اعطيك هذا القلب القوي إذا لم يكن ملكي..؟!"

في إرضاء الآخرين تكمن الخطورة، لأنك ستظل ذلك العبد الذى تخلى عن حريته الإنسانية التي منحت له.. تركها لأنه لم يجرؤ على تسخيرها لمصلحته، وهو قمة العبودية الإنسانية.. 
لأننا ولدنا احرارا..! 


الكاتب حين يتضاءل تمرده في واقع شخصه مع الآخرين، سوف تتضاءل نفسه أمام مرآته.. فمهما كانت البدائل التي استقاها ليرضي بها رغباته الصغيرة والآخرين لن تجدي نفعا.. فنفسه المتمردة التي عجزت في امتحانها لن تغفر له ذلك.

مفهوم التمرد في ذاته اعتراف بشي ما، سبق واعترف به الإنسان المتمرد.. هو تطلع داخلي يرغب فيه المتمرد بكل كيانه، كي يثبت وجوده أولا في واقعه ثم في واقع العالم.

يقول "رينيه شار": "افرض فرصتك، شد على سعادتك وضمها، واذهب صوب مجازفتك، هم لفرط رؤيتك سوف يتعودون".




الرسالة الأخيرة



من ذاكرة ليلى الصغيرة

سألتك مرة وأنا طفلة : لماذا عيناك صغرتا..؟  

احتوتني بدفء ابتسامتك النقية وانت تشير بيدك نحو عيني وأعين اخوتي، الذين كانوا متلاهين مع شقاوتهم: لأني منحت كل روح منكم جزءا منها. 

وبعدها ضحكت من قلبك وأنا صدقت أن الكبار يمنحون اجزاء من أجسادهم لصغارهم كلما انجبوا..؟ 

17‏/05‏/2018

عن جواد الأسدي، ومسرحية: نساء في الحرب


جواد الأسدي 




فنان عراقي كاتب ومؤلف ومخرج مسرحي، ولد في مدينة كربلاء عام 1947م. وتخرّج من أكاديميّة الفنون الجميلة قسم المسرح ببغداد 1971، وعلى وصايا أمه “بأن يحمل بلاده كنخلة باسقة، إذا كانت لا تقوى على حمله”، اتجه إلى بلغاريا لينال الدكتوراه من معهد الفيتز ببلغاريا، ودَرَس في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، كذلك عمل مع المسرح الوطني الفلسطيني، أخرج مسرحية (العائلة توت) للهنغاري (شتيفان أوركيني). حازت المسرحية على جائزتين ذهبيتين في مهرجان قرطاج بتونس سنة 1983، كذلك حاز عام 2004 على جائزة الامير “كلاوس” للمسرح.

النظام العراقي السابق أعدم شقيقيه، أما هو فترك العراق وعاد بعد سقوط النظام عام ألفين وثلاثة، ثم اختار الرحيل مجددا، متجولا في المدن العربية والعالمية، مع مسرحه النقّال من بيروت إلى بغداد ودمشق ومراكش، وعن ذلك يقول:

الرحلة طويلة، والطموح كبير، صحيح أنني أستمر في المحاولة، لكنني أسّست في رحلتي المدينية مساراتي انطلاقاً من أن العراق المحمول في رحمي سيبقى كذلك الى الأبد، ودائماً أجد نفسي في مهب الاحتمالات الصافية، وأجد الذرائع المقنعة لهجرتي القسرية، بأنني مخلص للأمكنة التي يثمر فيها عملي بشراً وعروضاً ونصوصاً، وربما مسرّات، سأظل في مساحة مفتوحة، في مسافة تطل على مسافات لا تنتهي.

استطاعت تجربة (الاسدي) المسرحية ان تمثل الحنين والحب والغربة، واستطاعت القبض على الممكنات التي مازالت في حوزة انسان مطحون بالمعاناة، لانه على خشبة حياته وعلى خشبة موته يصرخ دائما: “المجد للحياة”.

صدرت له العديد من المؤلفات منها : (المسرح والفلسطيني الذي فينا)، (جماليات البروفة)، (مرايا مريم)، (العاشورائيون)، (الموت نصا)، (خشبة النص)، (آلام ناهدة الرماح)، (انسوا هاملت)، (المسرح جنتي)، و(نساء في الحرب) و (ليالي احمد بن ماجد).

وأخرج الكثير من الأعمال المسرحية، وأكثرها شهرةً: (رأس المملوك جابر) عن مسرحية لسعد الله ونوس، (تقاسيم على العنبر) المستوحاة من نصوص تشيخوف، و(حمام بغدادي) التي نالت شهرةً عالميّة. وفي بيروت أسّس مسرح (بابل) الذي حرّك وجه المدينة وجذب الجمهور الى خشبته

ومن أعماله الاخراجية الأخرى: (ثورة الزنج)، (الحفارة)، (ماريا بنيدا)، (ليالي الحصاد)، (المجنزرة ماكبث)، (الاغتصاب)، (الخادمتان)، (انسوا هاملت)، (المصطبة)، (نساء الساكسوفون) و (نساء في الحرب).

يقول جواد الاسدي:

كأنما صورة المنفى والاقتلاعات المزمنة، صنعت عندي الانتماء الطهراني للمقدس، الذي سيج ارواحنا وسنواتنا التالية، دون ان ادري وبدون قصد مسبق، دخلت في ملكوت المسرح من باب المنفى الآخر، كي اظل امجد مرايا الحريق الابدية، في توحد صلواتي ومع طقوسية نيرانية، ربطت عنقي بعنق فلسطين، ارتديت جبتها ولهثت في مخيماتها، وكتبت أسمها على رأس القصيدة الساحرة، حاولت وبشغف ان اتقدم بحذر، بنيت نور الشخصية في الظل البعيد، صبرا على رأسي وشاتيلا في قلبي، الحريق مظلتي والمضي في سفينة الخراب قدري الصلب المعدني، منحت الممثلين أقصى ما لدي من حسرة ودمع، في البروفات وبعدها ثم قبلها كنا نغرف من يوم القيامة قواميسنا ومفرداتنا

دائما كان هناك ثمة قرين حقيقي تبتكره الطبيعة المتوحشة، كيما تزيد وحشتي، يومها وخلال ايام بروفاتي على مسرحية “ماريانا لوركا” ايضا، جنحت الى قراءة الهيجان، وهي رواية تسجل بشفافية ساحرة موت لوركا، على وقع بروفات ماريانا قرأت موت لوركا، ولعل اخطر ما في مسرحية “ماريا لوركا ” هو ان لوركا حقق فيها نبوءته عن طريقة موته، حقا لقد اطلق الرصاص على لوركا الكاتب الاسباني الرائع، بالضبط كما اطلق فونسيكا الشرطي الوغد الرصاص على ماريانا في نهاية المسرحية، انه شاعر رأى موته على الورق، شاعر منح بطلة مسرحيته دماءه الحية، حال انتهائي من قراءة الهيجان، اشهد اني اجهشت بالبكاء، البكاء الصراخ، البكاء الجنون.


سُئل في لقاء صحفي: “في كتابك (مرايا مريم) كيف تنظر الى الصلة الروحية بين القصيدة والمسرحية، وبخاصة انك تنطوي في الصميم على روح شاعر وهذا ينعكس على اختيارك للنصوص وللممثلين معا؟”، فأجاب:


كتاب النشر ستتصدره فاطمة أمي، وجدانياته ستكون حفلة المنافي، وقافلة الذكريات المتنكرة في ازياء الموتى، والمندثرين في قبة العباءات الكربلائية، حاولت ان اعطي لنفسي في هذا الكتاب فرصة التناوب بين البروفة وانعكاسها على ما بعدها، بعد البروفة دائما كنت احس باللوعة، لفقدان ناري لم تتسع له المساحة المسرحية، ولا الممثلين ولا صورة النص، لهذا فان جذور كتاب النثر أتت من أجل ديالوج المشقة، في انتظار المعشوقة الأم، أو الحبيبة المدينة، أو طوفان الرايات والنقر والنواح المبكر، انه مسرح من نوع آخر، يطلق نذوره ممثل صار القاسم المشترك الاعظم، لكل العروض المسرحية التي لم تتسع له، لهذا صار الكتاب ممثلي في الخلوة المنشودة التائهة، كل هذا الذي لا تتسع له سوى المرايا التي تجذبك دائما للبوح، والمجاهرة في خلوة فجر مدنسة، هناك تنبت مفردات النص هناك في جوف الاسطبل، على مقربة من الخيول الذبيحة المصلوبة علنا امام بكاء السائس، هناك في فترات صمت الممثل الذي اسس سلطته فوق الخشبة، مع حشود من جماهير مبهورة ينتابها نزوع نحو اللطم والتهشيم، كل هذا وسراه قدم له مسودة الكلام في البياض الملطخ بالوحل.

يقول الاسدي عن مؤلفاته ومسرحه:


عندما يستعصي على الفنان ملامسة فضائه الاصيل، أو عندما يتهدم في عقل الفنان وطنه وبيته وذكرياته، فإنه يجنح الى إعادة تأسيسها فضائيا، السينمائي يهرب شريطه النابض بتفاصيله الصغيرة والكبيرة، النحات والتشكيلي يبني فضاءه على اللوحة، الموسيقي في عزفه، والروائي في ملكوت بياض الورق يبني عشه، اما المسرحي فانه يظل يلهث، كي يبني بيت النص والعرض، المكان الضيق الواسع.



سُئل أيضا ذات مرة: “لو ننتقل قليلا الى خارج المسرح.. الى اطرافه او حوافه، فما هو “المنسي” او الغائب هناك في الحواف، اود لو تتذكر ذلك النسيان؟”، فأجاب:


الحريق هو المنسي الدائم الذي لا يتسلل الى خشبة المسرح، اقصد حريق البيوت المهجورة، والأمان الميت، حريق الحرية المصلوب في الساحات العامة، حريق الجسد الذي يقوده جلاده لحفلة الاعدام، حريق قلب الحبيبة التي تمشي على حافة الجنون، وهي ترى مقص الجلاد يقص شعر الحبيب الطويل، وهو يهيئه لهبوط المقصلة، حريق الشجر، حريق النهر، حريق الغبار، حريق الزنارين الانفرادية، لسجين يريد ابتكار لحظة الهروب نحو السماء، حريق الرغيف والعوز والمعدة اليابسة، حريق جولييت التي افتقدت روميو الروح، حريق كورديليا من اجل ابيها الحريق، حريق اطراف ثوب العروس، كل هذا وسواه منسي خارج الخشبة المسرحية، التي يزدهر على ناصيتها التثاؤب ثم النوم في تفاصيل النزف الكاذب.



كما سئل ايضا: "ماذا تمثل إليك ليلة العرض الأولى؟ اهي ليلة زفاف ام ليلة موت، أم هي شيء آخر؟" فكانت الإجابة:

ينفرد المسرح بحقيقة الفقدان الذي يسدل الستار المعدني ليس على خشبة المسرح فقط، بل على فرح الممثلين في عيد التشخيص الحي، قبل فتح الستار يشكل لحظات اضطراب تخفق في الروح بين الشرايين، قبل الافتتاح الاول، ينتظر الممثلون والمخرج والعاملون في المسرح حصاد عرقهم وشقائهم وغرامهم المسرحي، ان ليل الافتتاح هي بحق أشبه بالزفاف الأول، أول مفاتحة ضوء، أول بزوغ للمعنى في الكلمة والاشارة، اول خفقة عزف ادائي سحري، اول مقاربة بين وجدان الممثل والمتفرج، في العرض الاول يختفي المخرج خلف جمر الكواليس المنتظرة، يطلق العنان لامتزاج دمائه بدعاء الايقاع للعرض المسرحي، خلف الكواليس يؤشر المخرج اشارته ويصدر اصواته ويصب لقناته، يركض المخرج على حافة الجنون خوفا على العرض، من هبوط مفاجىء أو نسيان مريع، اين يذهب الممثل الخلاق والمخرج الخلاق بعد نهاية العرض؟ لمن يسلم روح مسرحيته ؟ انه هجران من نوع خاص، اسميه احيانا الهجران المميت المضني، واحيانا الهجران الحي في رغبة ملحة للمعاودة مع الصباح الجديد.




عن مسرحية (نساء في الحرب)، يقول (جواد الأسدي) في المقدمة:

لا حدود لأركان النصوص في الشخصيات المقذوفة إلى امكنة مهددة، لأن النفوس في هذه المخلوقات هي نفوس مضطربة، ممسوسة، تطلب المزيد من الطيران في محرقة الهجرة الكبرى.

نص النساء في هذه حرب الهجرة هذه مهدد جسديا، ومكانيا وتأريخيا، لأنهن النساء هنا يبحثن عن نبعهن، وهوائهن الملطخ، من خلال سرد حكاياتهم في الشبق الملتهب للحكي، أو في تفجر القول المرتجل، هذه الإشارة متروكة للاخراج، الذى يشتهي ردم الحدود والحفر، بعيدا في الماضي من النفس الأنيسة المحتدمة، المحروقة، على الأقل هكذا ارى المسافة بين المبني والمهدوم، المكسور والملحوم، والمرمي على الأرصفة، اقصد ارصفة الممثل في حساسية وعيه الجمالي، الحكي المتفجر، الباحث عن تعقيدات وتدفقات وتوقعات، تعيد لكثافة الدراما الدموية وجها آخر للإنهيارات غير المكتوبة، لأن مجمل العملية المسرحية هي بؤر لإشتباكات، وبحث عن فراديس كلام وامكنة لم تعد ممكنة.

تولدت فكرة نساء في الحرب هذه من تراكم الإحساس، بالفظائع والفضائح والجحيم الذى يتعرض له الإنسان العراقي، عبر بحثه عن مجهول مصيره، بفقدانه لجنة بلاده، في تنقيب مضني عن المكان الآمن، خصوصا بعدما ارتكب بحقهم جريمة التبعيد والتهجير، منقذفين إلى تيه المطارات والبواخر المهربة والحدود الملغومة.

لقد كتب هذا النص الناقص، الذى لن يكتمل إلا بطوفان من الروايات، التي تشكلت على مدار حياة اكثر من ثلاثة ملايين مهاجر عراقي، يتمزقون بين الأرصفة والشوارع والبيوت والأمكنة الملفقة.

لن يستطيع هذا النص إلا القبض على جزء، من تلك الجمرة المتفجرة، في آلام الناس البعيدين عن اوطانهم.

لقد كنت أصرخ بوجه أولئك المستسهلين بالأوطان الجديدة، ألا بديل للعراق، فالإنسان الذى يغادر بيته إلى بيت آخر، يظل في حالة من الإرتباك والظلم، لانه تواق ابدا إلى مكانه الأول، إلى رائحة اشيائه المؤنسنه، إلى مصدر ضوء قنديله في غرفته، إلى نار تنور جدته، هنا اتكلم عن العراقيين بوصفهم المرضى الأكثر ضراوة بأمكنتهم.

مر علي اكثر من ثلاثين سنة، وانا اجوب الطرقات والعواصم، التي ربما اثارت اشياء كثيرة ورائعة في حياتي، لكن الفداحة الأكبر أم يبقى باب وطنك مسدودا بوجهك.

أردت أن أوضح غصة وحسرة العراقيين على عراقهم، وأردت أن يكون هذا النص عراقيا، وأن تكون شخصياته وطبائعها، اضوائها ورائحتها، تماما عراقية.




من نصوص المسرحية

1


ننقذف من جوف النوم إلى فجر مبكر!
من خشبة البيت إلى خشبات الشوارع!
منذ الطفولة ونحن نرسم سر الأرصفة على جباهنا!
ومنذ البدأ إلتهمتنا الطرق!
نحن في ذهابنا ومجيئنا في إلحاحنا على الإكتشاف
الريح تزداد، الموسيقى تعلو…
تحول الأرصفة إلى أمكنة
مرفوعة على تواريخ ويوميات، ومسرات
الأرصفة أوطان متباعدة
مدن محتشدة
بيوت ملتوية
بشر ضالون يحملون أوجاعهم واناشيدهم
ملذاتهم وعطشهم
نصوصهم المحرمة المنبوذة!
الأرصفة بيوت بلا جدران
غرف بلا سقوف
تشبه إلى حد بعيد شيخا، مدمنا على الندم!
لا نعرف إن كانت الأرصفة رحيمة أم أليفة
أهي أنيسة أم فقدت الإحساس بوجودها!
هل للرصيف قلب
الرصيف والغريب جملة واحدة
في سطر مهموم
الرصيف ضوء الغريب
زهرة الغربة
الغريب زاد الرصيف!
ثمة ما نسمية وحل الأرصفة
جحيم الأرصفة، عويلها!
في الغرب، لم تمسني البيوت المطلة على الأرصفة
ولا المقاهي
ولا النساء اللواتي يجرجرن كلابهن بإحتفالية مبهرة!
لا احب أرصفة الغرب
لا ألتوي عليها
لا تلتويني.
أما رصيفي الأول
رغم كهولته، هزيمته، كسوره
فهو يحملني
يؤويني…
عندما يهجر الناس أرصفتهم
ويتركوها بلا إلتفاتات
ولا حسرات ولا دمع
عندما يغلق الناس بيوتهم في الليل ويطفئون المصابيح
عندما تزداد الحلكة والوحشة
يصير من الحكمة أن نطفئ لمبة العالم
ونخلد إلى النوم، كهروب مؤقت
وعربون لسفرة أكثر إيلاما!


2


ريحانة تبالغ بفرحها ترقص، وتصرخ تصعد على الطاولة، ترقص وتكسر 
القناني، ثم ترمي الطاولة إلى الأرض!

ريحانة: انت إمرأة كريهة وعقلك عفن
مريم: شكرا (بنفاذ صبر)
ريحانة: أكرهك
مريم: (صمت)
ريحانة: لم يهمك ويقلقك سوى ألمك!، ولا ترين في العالم كله سوى أنانيتك!
نسهر عليك ونخاف ونتألم، ونشاركك أوجاعك، لكنك لم تسأليني يوما عن وجعي!
أليست الصلاة هي القدرة على حب الآخر!، كيف تصلين وانت حاقدة! كيف؟!

هل سألتني يوماً كيف ولماذا جئت إلى هنا!
هل استفسرت يوما عن عائلتي!، فيما اذا كان عندي عائلة او زوج أو اولاد
هل تقصيت الأسباب التي دفعتني للخروج من بلدي!
ولماذا ذبحوا زوجي عز الدين مثلا، وقطعوه في الشارع إرباً إرباً
لا لشيء، فقط لأنه كان رجلا نزيها ووقف ضد الظلم!
كم كنت أتمنى لو سألتني يوماً لماذا يغرق شعبي في بركة دماء كبيرة
وكيف يولد القتلة؟ أو أية أمهات تلدهم!

اسأليني لماذا جئت إلى جرمانيا، لماذا اخترت هذا الفردوس المستعار
الممزق، الملوث، الكلاب المترفة، الحدائق الرتيبة، الغابات الميتة!
سأؤكد لك بأنني انوي الزواج من رجل جرماني، وانجب اولاداً جرمانيين
ثم أغسلهم من آثار اللغة العربية والعرب
واكسر أمامهم سيوف تاريخهم، واهزأ من فرسانهم
إنني أكرهكم، اكره صلاتك وصلواتكم، عقائدكم وعقائدهم!
لا أحب بلادي
ولا اغنيات بلادي
ولا شجر بلادي
ولا شوارع بلادي
ولا اي شيء في بلادي!
سأرمي بكل شيء إلى الجحيم، إلى المحرقة
ساحرق ذاكرتي كلها!


3


مريم: (تصرخ بجنون) ماذا سأقول؟
بوجه من ينبغي أن ابصق، وأغرز أظفاري!
لو رأيت الدفن الجماعي، والرجال المتفحمين
لإنفجر رأسك سخطاً وغضباً
أريقت دماء أهلنا ببربرية غير مسبوقة
ذبحوهم ثم تركوهم ينزفون
دون أن يستطيع أحد إسعافهم!
هل رأيت بعمرك شعبا مثل شعبي، يتحول ذبحهم إلى فرجة!


20‏/04‏/2018

نماذج من عملية تغيير وعي المجتمعات أو الهندسة الإجتماعية


عبدالخالق مرزوقي



من وجهة نظري أنه في القضايا العامة، خاصة المتوجهه للناس، أنه لا يوجد شيء يحدث عفويا، أو بالصدفة


والكثير من الناس ، حتى ممن يعتقدون أنهم يصلون لقناعاتهم
بإستقلالية وعبر عمليات وعي وتفكير عقلاني، لا يدركون أنه تمارس ضدهم عملية برمجة لمدة طويلة، كي يعتقدون انهم فعلا كذلك. 

ربما من وجهة نظر الأفراد، أو الفئات الإجتماعية التي يتم تطبيق استراتيجيات تغيير الوعي، أو تزييفه، أو الهندسة الإجتماعية - فن اختراق العقول والتلاعب بها - يتم   تعريف هالاعمال بالمؤامرة.

لكن من وجهة نظر من يخطط لتغيير الأفكار، وجهات النظر، التوجهات العامة، تسمى استراتيجيات، تطوير وعي، صناعة "وعي" جديد

من أمثلة ذلك، في السينما الامريكية، الافلام الحربية اللي انتجتها هوليود، عن حرب فيتنام قبل عقود، كانت في خدمة الاستراتيجية السياسية والاعلامية والدعاية الرسمية الحكومية الامريكية، لصناعة رأي عام موجه - هي تجري على مستوى اللاوعي- لتصوير التدخل الامريكي انه لاهداف نبيلة، وأن امريكا لم تخسر الحرب.

ذات الاستراتيجية وبنفس الوسائل والتكتيكات، تم استخدمها وانتاج سلسلة افلام منها 

افلام رامبو - سلفستر ستالون - عن " الجهاد" في افغانستان ضد الشيوعية، وشارك الإعلام المكتوب والمسموع، والمسمى ب "الحر" و "المستقل"، ايضا في تنفيذ 
تلك الإستراتيجية السياسية، وكان " المجاهدين" وقتها يسمون في الاعلام الامريكي 
ب " مقاتلون من اجل الحرية"

وغالبا الافلام الحربية الامريكية، عن حروب امريكا ضد آخرين إما تمول من وزارة الدفاع جزئيا بطريقة غير مباشرة، أو تحصل على تسهيلات منها.

من ضمن الأمثلة الأخرى في العقود الأخيرة، في موضوع المثلية، تم تنفيذ تلك الإستراتيجيات - من وجهة نظري- لكن اختلفت السياسة والتكتيكات والطرق التنفيذ

اشترك الإعلام الغربي سواء كصحافة مكتوبة أو كمواقع مشهورة، واغلبه مملوك لعدد قليل جدا من الشخصيات، مثل ميردوخ، كذلك السينما، والأدب، والفن عموما، وسياسيين يريدون أن يحصلون على رضا ملاك الاعلام والداعمين بالمال عنهم، في الاشتغال على تغيير النظرة داخل المجتمعات تجاه تقبل المثلية

ففي كل الافلام والمسلسلات لو نركز الملاحظة، دائما يتم تصويرهم بأنهم طيبين، مسالمين، عطوفين، بحاجة لاحتضان اجتماعي، افراد فعالين في مجتمعاتهم، لا يؤذون احد

وخلال عقود بسيطة تغير الوعي العام تجاههم من رفض اجتماعي عام لقبول، بدأ التغيير حين شطبت الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين، المثلية الجنسية من الدليل التشخيصي والإحصائي للإضطرابات النفسية، وهذا ألغى تعريفها كإضطراب نفسي أو شذوذ جنسي

وبعد أن كان الزواج المثلي محظورا في العديد من الولايات، تم اقراره فيدراليا في عام 2015، عبر قرار المحكمة العليا في عهد أوباما.

نفس الموضوع والاستراتيجيات حاليا تتكرر تجاه موضوع تشريع وقوننه استخدام المخدرات، تحديدا الحشيش والماريجوانا في امريكا وبعض دول اوروبا

ويتم تغيير الوعي تجاه هالموضوع بتصويرها انها ليست مثل الانواع الاخرى، والسماح بها يقلل عدد المدمنين على الانواع القوية من المخدرات، ويقلل التهريب، ويمكن السماح بها للتعاطي الشخصي وليس للتجارة، في هولندا شرعت قانونا تحت هالحجة، وفي امريكا بعض الولايات شرعتها قانونا، سواء كزراعة أو استهلاك شخصي.

ايضا لدينا في العالم العربي، تمارس مثل هالاستراتيجيات في مواضيع عديدة، ضد المجتمعات، وليس شرطا أن تمارس من قبل السلطة العامة، فقد تمارس من اتجاهات سياسية، دينية، فكرية لتحقيق اهدافها.

تم استخدمها في الثورة المضادة للربيع العربي لتشويهه، ايضا ال
قادة الخفيين للجماعات الارهابية يمارسونها ضد افراد تلك الجماعات تحت مسمى الدفاع عن العقيدة، الكثير مما يقوم به الاعلام والاعلاميين، تحت مسمى الوطنية أو الدفاع عن الوطن مثال آخر على استخدام استراتجيات وأساليب تغيير الوعي.

ويوجد الكثير من الناس، يكون منخرطا في التنفيذ، معتقدا أنه يقوم بعمل نبيل وواعي داخل المجتمع، وهو لا يعي انه مجرد منفذ لاستراتيجيات غيره، والتي اهدافها لا تتطابق بالضرورة مع اهدافه كمنفذ.

02‏/03‏/2018

عن مقدمات نقاش الأفكار والمفاهيم- قضية النسوية كنموذج


عبدالخالق مرزوقي

في امسيتنا الاخيرة عن الادب العراقي، ضمن جمعية كلنا نقرأ كان هناك نقاش جانبي قوي، دار بين طرفين من الحضور، حول من الأفضل في المجال الأدبي والفني العربي، الرجال أم النساء

اثار لدي ذلك النقاش رغبة في التعليق على نقاط محددة، تتعلق بطريقة عرض القضايا من ناحية منطقية، لأنها ورغم كونها تبدو صحيحة منطقيا - علم المنطق عموما يتحدث عن صورة الفكر وليس مضمونه، لذا يسمى بالمنطق الصوري- لكنها ليست بالضرورة كذلك موضوعيا.


الرأي الأول كان يقول إن الرجال افضل في الإنتاج الثقافي والفني وقدم وجهة نظره بطريقة منطقية ضمنيا معتمدا البناء التالي:


1- المقدمة الأولى: معيار الافضلية هو العدد و الكثرة. 
2- المقدمة الثانية: في الإنتاج الثقافي والفني عموما، عدد الرجال البارزين اكثر.
3- النتيجة : إذن الرجال افضل من النساء في هذه القضية. 



منطقيا ارى النتيجة صحيحة وسليمة، ولا اعتقد أن هناك من يستطيع رفض ورد هذه النتيجة، وعدم التسليم بها، اذا اعتمدنا نفس المقدمات. 

لكن هل كانت النتيجة موضوعيا صحيحة؟

من الطرف الثاني، الأخوات اللاتي قمن بالرد في النقاش، كانت ردودهم المتحمسة للدفاع عن المرأة، تقوم على أن هذه النتيجة غير صحيحة وغير سليمة، وقدموا دليل لردها ودحضها، عن طريق ذكر امثلة يرون انها تنفي هالنتيجة، كوجود شاعرات مبدعات من مثال نازك الملائكة وسعاد الصباح، وغيرهم.

هل كانت ردودهم تنفي النتيجة التي وصل لها الطرف الأول حقا؟

اعتقد بشكل خاص، أن الطرفين كانوا على خطأ لأنهم اعتمدوا طرق خاطئة في عرض قضية النقاش وفي طرح الحجج.

الرأي الأول حول افضلية الرجال، رغم انه صحيح من ناحية النتيجة المنطقية التي وصل لها، بالمعيار الذى وضعه للوصول لهذه النتيجة، لكن الخطأ فيه، هو نوع المعيار المعتمد للافضلية والذى وُضِع كمقدمة أولى، وهو معيار العدد، وتم تجاهل حقائق موضوعية من تاريخ طويل من اختلاف الفرص، والتمكين بين الجنسين والظروف الاجتماعية والثقافية، وتجاهل معيار جودة العمل ونسبة المتميزين بين الرجال من ضمن مجموع الرجال، ونسبتهم بين النساء من ضمن مجموعة النساء.



بالنسبة للرأي الثاني حول رد ودحض الراي الاول، والذى ينفي 

الافضلية للرجال، كان النقاش والردود المعلنة في الظاهر، تدور حول نفي أفضلية جنس الرجال على جنس النساء، لكن على مستوى أعمق ومضمر كانت الطريقة المعتمدة تقود لنتيجة منطقية، هي ذاتها تؤكد أن الرأي الاول صحيح، لأن الأخوات في حماسهن للرد - وهذا ملاحظ في النقاشات العديدة حول المواضيع المتعلقة بالمرأة وحقوقها خاصة في وسائل التواصل- لم يلاحظن
أو ينتبهن، إلى أنهم وافقن ضمنيا، على نفس المقدمات، التي طرحها الطرف الأول بإنتقالهم مباشرة لنقاش النتيجة وليس دحض مقدماتها، بدليل انهن لم يرفضن معيار العدد أو يعلن بطلانه، بل ضمنيا وافقوا عليه وتم طرح اسماء قليلة تؤكد اعترافهم بهذا المعيار كأساس للوصول للنتيجة، ولأنهن وافقن عليه ضمنيا كانت النتيجة المنطقية من المفترض أن تقودهم لتأييد رأي الطرف الأول، بدون ذلك سيكن متناقضات في العمق اذا رفضن النتيجة
رغم أنهن ظاهريا ضدها وهذا ما حدث، أعني التناقض.


الكثير من النقاش في مختلف القضايا بين الناس، والجدال في بعضها، يجري بهذه الطريقة، حيث لا يكون هناك اعتماد معايير موحدة لدى طرفي الحوار أو تحديد دقيق لموضوع النقاش، أو تحليل وتفكيك للمقدمات، سواء النقاش المباشر، أو في وسائل التواصل، فتكون النتيجة أن كل طرف يرى ما وصل له، هو الصحيح، بناء على معاييره هو، وكمطلقاته ومقدماته وتحيزاته التي وضعها للوصول إلى النتيجة.


وهذا لا يحدث بين عامة الناس فقط، بل ايضا بين المطلعين والمثقفين احيان اخرى ففي ترجمة كتاب: The Female Eunuch


للكاتبة الإسترالية جيرمين غرير (29 يناير 1939) والتي تُعد أحد أبرز الأصوات النسوية في أواخر القرن العشرين، إلى اللغة العربية، كانت هناك ترجمتين، الأولى في 1981 لهنرييت عبود عن دار الطليعة، بعنوان: "المرأة المدجنة"


أما الترجمة الثانية فحديثة نسبيا وصدرت قبل سنوات قليلة بترجمة عبدالله بديع فاضل، عن دار الرحبة بعنوان: "المرأة المخصية"




ونلاحظ هنا الفارق في اختيار عنوان كل ترجمة، اعني الفرق بين استخدام كلمات العنوانين، الترجمتين استخدمتا ذات الكلمة إمرأة Woman، ولم تستخدما كلمة انثى Female التي يمكن ان يدل

عليها عنوان الكتاب باللغة الإنجليزية، ورغم أنه لا يظهر وجود فرق مهم بين كلمتي إمرأة وانثى، للمتعجل في القراءة، إلا أن بينهما اختلافات مهمة وتزداد اهميتها هنا، لأن الموضوع يتناول قضايا ثقافية تتعلق بالنسوية والذكورة من الناحية الفكرية، لذا اعتقد أن إستخدام كلمة أنثى كان سيكون أكثر عمقا وملائمة لأن
الكتاب ليس عن المرأة كجنس في مقابل جنس الرجل، بل أمر اشمل يتناول الأنثى كمعنى وكمفهوم ثقافي، والمفاهيم النسوية في مقابل الثقافة الذكورية.

كذلك عملية إختيار كلمتي: "مدجنة" و"مخصية" في الترجمتين فهو ليس فرقا لغوية بين كلمتين، يمكن وضع احداهما مكان الأخرى بعفوية فقط، بل يخفي ويضمر فرقا ثقافيا في تناول الموضوع، فرغم أن الكلمتين تمنحان معنى قريب من بعضهما 
حيث تتقصدان القول أن الأنثى مسلوبة الإرادة وتابعة ثقافيا.

فمن ناحية وقع كلمة "مدجنة"، بغض النظر عن صحة إطلاق الكلمة من عدمه، بما يوحي به من مقارنة مع مخلوق آخر أما كلمة "مخصية"، فإضافة لمعناها الأول، الذى يعني أيضا أنها مسلوبة الإرادة ولكن ليست بالضرورة تابعة، بالمقدار الذى توحي به الكلمة الأولى، هناك معنى ثاني اعمق لها، وهو انها تصنف فعالية وقدرة الأنثى، بمعايير ذكورية، فالإخصاء وفي مقابله الفحولة وهما هنا بمعناهما الثقافي هي معايير ومفاهيم ذكورية.

وإستخدام معايير ومفاهيم ذكورية، لوصف الإنثى، في مقام الدفاع
عن الأنثى هو أمر يضمر ثقافة ذكورية ما، سواء كان الإستخدام 
من قبل رجال أو نساء، وهذا مما يجب أن يعيه أي مترجم، فلكل كلمة معاني ومدلولات وسياقات في لغتها الأصلية وفي حقلها المعرفي تفهم من خلالها وعلى المترجم الإلمام بذلك.

وكذلك للكلمات في اللغة المترجم إليها، معاني ودلالات وسياق تفهم من خلالها، وعلى المترجم إمتلاك الحصيلة اللغوية، والخلفية
الثقافية، لإنتقاء الكلمات والمعاني، التي تقرب القارئ من فهم النص الأصلي كما كتب في لغته، ما أمكن ذلك، ولا يمارس علينا المترجم وصايته، ويجبرنا على قراءة النصوص كما يريد منا هو قرائتها.

وبما أن الفكر النسوي الخليجي عموما والسعودي خصوصا حاليا
في مرحلة ظهور كبير، لابد من أن يتنبه جيدا، في بحثه عن الدفاع عن قضايا النساء، لعدم اضمار الخطاب الذكوري بدون وعي.

ولا اتحدث فقط عن تلك الردود المتعجلة العشوائية، فتلك يكون من الواضح تهافتها، حديثي عن تلك التي تقدم الحجج بطريقة تظهرها بصورة منطقية تظهرأنها علمية ومستندة على قواعد حقيقية، وبأن من يقدمها صاحب قوة منطق وحجة وهذا نوع من القوة، تجعل الاطراف الاخرى تسلم بسلطة تلك الآراء، وبما تقدمه كنتائج.

فمن اهم الأمور الغائبة عن الثقافة العربية، عملية تفكيك وتحليل
طرق الوصول للأفكار والنتائج وعرضها، ففي العادة نذهب مباشرة لمناقشة الأفكار والنتائج.

استسهالا للتفكير، واعتقاد أن مجرد التفكير يساوي انتاج فكر ولأن ذلك لا يتطلب تأسيس مسبق ثقافي ومعرفي كبير، ولأن اغلب حواراتنا ونقاشاتنا هي بحث عن مكسب، وتأييد نتيجة وصلنا لها مسبقا بدون بحث، واعتقد هذا خطا وخلل ثقافي كبير.