18‏/07‏/2018

عرض كتاب: رسائل حب مفترضة



الكتاب: رسائل حب مفترضة
 بين هنري ميللر وأناييس نن








للكاتبة: ليلى البلوشي





" هذه الرسائل من قلب وفكر ليلى، أما الكاتبان الشهيران هنري ميللر وأناييس نن فهما مجرد افتراض" 

ملحوظة للمؤلفة: "العبارات التي وضعت بين قوسين دون ذكر قائلها، هي بلسان هنري ميللر واناييس نن، ويمكن التمييز بينهما من خلال الرسائل الخاصة بإسم كل منهما"





من الكتاب 


2

أدير وجهي إلى الأمام كرمح.. لكن ثمة ريح عازمة على كسر رقبتي..!


الأب كالريش على القلب..!

حينما انجبني أبي مع أمي.. شاطرت كشقية حبهما السري.. تلصصت عليهما.. كانا راضيين بمعنى ما.. أمي وأبي كانا مبهورين بمعجزة قذفي على وجة هذا العالم، ولكن لما تبين لهما خسته بصقا على قفا المعجزة، وكنت انا طفلة لم تحبُ بعد.

حين نكون مركبين كيميائيا من أب رائع، تبهجنا معادلة أبوته، يصطف كل رجل حينئذ في المرتبة الثانية أبدا.. فذاك العجين الكيميائي البيولوجي وحده الجدير بالمرتبة الأولى في اولويات القلب.

يردد لي دائما: يا أناييسي..إن أمك تشبهك..!

وحين ترجوه الطفلة بالتفسير.. يرد عليها بحشرجة لا تفارقها ابتسامة تعرفها: تشبهك امرأة تهدم طوب حيطانها الداخلية من أجل سكن الآخرين..!

حب معافى ابدا هو حب الأب..!

كل انثى تضع يقينها في هذا الحب الأبوي كامل الدسم، يُغني..يُشبع حتى الإفراط..صحي ولا يسمن، خالي من مغبة التملك ولهاث الهجران والآه والتيه.. فياليتها من خلاصة عاطفية ساحرة مشحونة بجل الإنفعالات سوى عاهة " الخسارة".

فالأب يحب دون غاية، حبه مطلق لا يبرره سبب سوى عاطفة أبوة شاسعة.. غريزة أبوية لا تنطفئ.. بينما الرجل.. أي رجل في حياة انثى.. فإن حبه لها يكاد لا يخلو من غايات متضافرة.. كيفما كانت نياتها: صالحة، سافلة، حقيرة، محبة، دنيئة..!

فبحسبما احترام الرجل لنفسه تعجنه غاياته:
يحبها لأنه يخشى أن تخنقه عقارب الزمن وحيدا دونها.. يحبها لأن لها عينين جميلتين كأيقونتين تلهمانه.. يحبها لأنها مادة اغراء ملفوفة كسيجارة يمجها بلذة.. يحبها كي تكون عكازته التي يتوكأ عليها في دروب الأرض الشاقة، يحبها كي يعتشي على جيبها كأي وضيع اعتاد التسول من جيوب النساء.. يحبها لأن لا فحولة دون انثى، أما الذى يحبها لأجل غاية الحب، هذه الغاية وحدها دون غيرها.. فما اندره.

كثيرا ما تخضني حيرة بأبعاد شاسعة من الرجل الآخر: ألا يغدو الرجل دون غريزة ابوة في مرتبة التمساح..؟! ففي حياة التماسيح تسعى الأم دائما لحماية أبنائها من الأب الذى يستسيغهم وجبة شهية.

ألم يصدق " مورافيا" حين قال: "تستطيع المرأة أن تعرف في حياتها رجالا كثيرين، لكنها لن تعرف إلا ابا واحدا".


-هنري بعث لي حزمة من انفاسه..!

آآآآه.. كم اخشى عليه مني..من امراة مضطربة الحنين والغياب وكل شيء..!
إنني راهبة في معبد هذا المجنون...!
يلهم روحي كمجموعة رجال في قامة إنسانية واحدة: أب، عاشق، شريك، صديق.. يال مسارب العشق بين سهم وقوس..!

أعشقك أسمعها لقلبك في ارتجافة الروح واضعة روحي قبالة سرير روحك.. وثمة خشية مريرة تستند فيما بيننا كضوء شاحب.. فالحب..هذه التفعيلة النبيلة..هذا الصلصال الذى اعجز الكون عن ملامحه.. مرعب يا حبيبي هنري.. كم مرعب الحب في موضع هش كالعالم..!


هل تذكر..؟

ذاكرة حب كلينا مشتعلة على صوت الشاعرة "صوفيا دي ميللو"، وهي تسربه إلى راسينا:

" رعب أن احبك
مرعب أن احبك في موضع هش كالعالم
مؤلم أن احبك في مكان الشبهة هذا
حيث كل شيء يهشمنا ويحرسنا
حيث يفتري علينا الجميع ويفصل ما بيننا"


أن ترخي الستار على يومياتك، يعني أن تنشر على حبل الاخرين اكاذيبك.. صدقك وحقدك المبطن والظاهر.. حبك.. فضائحك.. عليك ان تعرض كل غسيلك، كي تغدو نفسك غسالة وهي تدلق في وجه العالم خسته ودناءته.. طهره ونقاءه المخيفين.. كي يعترف حزنك الخنوع لأي طفل بالقرب منك ببراءة مماثلة:

انج بكلك..إن قابلت موتاً يضاهي براءتك فلا تتردد..!
3


أنا اليوم مهزوم..!

وسأبقى في سجن انهزامي ما لم تصلني انفاس أناييسي..!
أخشي ان يطول انحباسي في هذه الهزيمة.. إن كان " همنغواي" تخلص منها بطلقة فأي خيار هو امامي، كي أستأصلها من اعماقي..!

إنني كائن يرى وجوده في الحياة.. أ
جل.. فمذ اطلالتي من ذاك الشق البتولي كان قلمي وروحي وكل جزء من أوصالي يحفل بالحياة في حيوات كثيرة.. يرغب فيها كلها دفعة واحدة.. والموت هو خصمي اللدود... هو الدودة التي تتسلل تحت جلدي.. تقتاتني وأنا   ما ازال راغب في الحياة كنطفة لم تقذف بعد. 

وحين يفترسني خطر حقود، ابكي بل اصرخ بشدة:

افتحوا بوابات العالم كلها"..!

4


هل علقت "أحبك" على مشجب أمنية مذلة، وقلبك منه شحاذ رغبة؟

لم اتمنى بالمعنى "الواقعي"، أنا اشتهيت بالمعنى "العاطفي"، والشهوة مطية المحرومين في الليالي المضببة بخذلان لقاء روحين على شرشف مصنوع من الغيوم..!

حذرتني: أن الحب لابد له من كفين متعانقين وإلا سقط من مفهوم الحب الحقيقي، وصار بمنزلة الوهم المعذب لا أكثر...!

علمتني: لا ينبغي للإنسان ان يترقب الحب من الذين ينبهر بهم، بل عليه أن يترقبه من الذين لا يتوقعهم.


أعشق رجلا يبهرني..يناقضني..يرقص على مزاجي بحب حين أبغضه، ويرشقني ببغضه حين احبه بجنون..!

رجل خارج قواعد مزاجي.. مطلق الشخصية.. يمشي على طريق ملغم كبهلوان.. يرتشف الشاي مع الملح.. يعبر ذاكرتي ككرة مطاطية.. يحتويني كقنبلة تنفقئ في لحظة جنون.. أهدد كينونته كمرض مستعص على العلاج.

بماذا تهمسين لكل إنسان على وشك الحب..؟


ساهمس له بنبرة جد حريصة: إذا أردت ان تحب يوما فلا تعط هذا الحب كلك.. امنحه جزءا منك، واحتفظ بالباقي في حب أشياء اخرى.. لئلا يشمل شلل الإنهيار البقية الباقية من وجودك، فيعطل سير النبض في حياتك المتبقية.




سأقابلها غدا على نهر السين، وحينئذ سأضع راسي الثقيل امامها.. ساقدمه لها وارجوها أن تقطعه كما قطعت السيدة "دي باري" رأس حبيبها بالمقصلة أثناء الثورة..!

ساقول لها مذعنا بحنان: حبي.. اريحيني منه.. إن راسي مستعار إليك.. إنه ملكك وحدك، فكل افكاره وفوضاه.. كل تكتلاته الساخرة والمؤلمة والمبهجة حد الالم كلها تعنيك وحدك.. خذي رأسي.. فل تكوني انت مليكته..!

إنني افقد توازني أمام هذه المرأة، كما فقد البدائي توازنه أمام ديناصور ضخم إلتبس عليه كمعجزة..!

حين شممتها في الصدفة الأولى تفرعت فيٌ بهجة كبيرة.. شجرة ميلاد مزركشة في اعماقي نبتت.. فرح اكبر من أن يستوعبه قلبي الطفل.. طوقني خبل ما، لا بل خفة غامضة وكانني ابتلعت برميلا من النيبذ..!

سأقابلها اليوم بشرارة الرعد، وسوف استغيث رقتها اللامتناهية: هاك قسوتي.. ثمة وحش قابع هنا في سابر روحي، إلم تروضيه فسوف يقتل نفسه ويقتلك.

وإلم تفلح لغة رجائي فإنني لن اتوانى عن الصراخ في وجهها كطفل عنيد، مصر على إمتلاك كل اللُعب الموجودة في الكون: " اطعنيني في القلب، في الدماغ، في الرئتين، في الكلى، في الأحشاء، في العينين..اذا بقي عضو واحد حي فأنت مقضي عليك، قدرك أن تكوني لي، في هذا العالم وفي العالم القادم، إنني مستميت في الحب، قاتل، عيار، نهم"، سأُحمِل صراخي كل هذا واكثر..!


9


ألم يصدق "نيتشه" حين اطلق رجاءه على قفا البشرية: "رجاء، لا تحرموا الإنسان من الكذب، لأنه لن يتمكن من العيش.. الإنسان يعيش من خلال الأكاذيب، لا تحرموه من تخيلاته، لا تدمروا خرافاته، لا تخبروه الحقيقة، لانه لن يتمكن من العيش من خلال الحقيقة"..!

الحياة تسير على هذا المنوال، لا يمكننا أن نتعاطى معها.. مع الآخرين.. مع انفسنا.. دون أكاذيب حمراء.. بيضاء.. دون اختلاقات كيفما كان لونها ومذاقها.. ألم يعترف "كافكا" بدوره في رسالته الأخيرة ل "فليبس" قائلا: " أنا مخلوق كاذب، وهذه هي الوسيلة الوحيدة للمحافظة على توازني، فقاربي هش"... وكل بني آدم وحواء "كافكا"

ومن طريف ما اذكره أن الحكاءة الحاذقة "ايزابيل الليندي" زوج امها كان يطلق عليها لقب "مجنونة الأكاذيب"

نحن - صانعي الحكايات - اكاذيبنا لها مذاق شجرة البامبو.. تلك النبتة العجيبة، التي تنحت التربة بصمت طوال ردح من الزمن، حتى تختال معانقة شمس الحياة بصلابة اكاذيبنا تحيي الارواح المثقوبة وتلك الضجرة، واخرى هائمة في مهب الخيبات والاحباطات لتنتشلها بقوة سحرية.. تفتت الحزن الكبير إلى احزان متضائلة.. تصنع ما تصنع لكنها لا تؤذي ولا تخلف خدوشا.. شفيفة كفستان من دانتيلا تزدان به كل روح ترتديه.. تتلمس كالمرآة غوامض الروح الغاطسة في الكذب فتعريها.. إنها ببساطة تعني "الحياة" لكثير من المعدمين، حين تزن قيمة تلك الأكاذيب حجم احلام طارئة، يجسونها من سطر عابر او عبارة خلاقة في روح مخلصة.



10 


لهنري صوت كأمنية يؤنسك..!

تتوق لتخزينه في قمقم، وسد فوهته بإحكام كي تهزك لهفة الحنين همسة بعد همسة، كلما استكان القمقم على قلبك.. بعض الأصوات تسبرنا كصلاة خشية..!



11 


إنني اعري بلا خجل كل قطعة من حياتي..!

الكاتب الذى تتاجج إنسانيته في كتاب، ثم ينال رضا العامة او يثير بركان غضبهم.. يلفت قسطا من إهتمامهم أو لعناتهم.. تبقى حياته كتابا مغلفا على رف في مكتبة، أو على رصيف في الشارع أو مأوى في قمامة الحي.. كتابا يعودون إليه في وقت ما، أو زمن ما، أو يدوسونه بأقدامهم.. يتوارث.. يلعن يوم طباعته.. يطبع آلاف المرات أو يشحن منفيا إلى زريبة مقفصة محبوسا عن الطبع.. يحكى عنه في المنابر أو يوصم في قضية رأي عام.. هو كاتب ليست حياته مثيرة فحسب بل أسطورة قائمة في ذاتها..!

إنني عبر سيرتي اكتشف متاهاتي.. اعريها على كل الجبهات وكأنني في حرب..هي حرب نفسية في المرتبة الأولى، فحتى "سقراط" كان يحارب نفسه حينما اطلق عبارته الشهيرة: "اعرف نفسك"

فهل يحق لكائن ما في هذه الحياة، أن يحاكمني على حياتي التي غلفتها لهم في هدايا عبر آلاف الصفحات..!

لا يحق لأحد أن يحاكم إنسانا قال يوما ما: هكذا أنا.. اقبلوني أو ارفضوني..!


إن الحرية هي وحدها لها الحق، في أن تقف في وجهي بكل جبروتها.. بكل ما تملك..بل ما تؤمن به..هي وحدها يحق لها ان تقول لي: إن حياتك فضيعة.. إنك مذنب في تعريتي على هذا النحو أمام أولئك الرعاع..!


12 


في حياة الرجل امراة كاملة ومجموعة نساء، الكاملة امه والباقيات نساؤه السابقات..!

من المهارة ان تنتقي رجلا يحب أمه.. يدللها.. يفرطها احتراما، لأنك انت ستغدين أمه الأخرى.. إن رجلا لا يجيد حب أمه، هو رجل لا يجيد حب امرأة من بعدها.. إن رجلا لا تحفل امه بمكانة سامقة في آماد كيانه هو رجل لن يقيم وزنا لأي امرأة مهما كان ثقل جمالها.. مهما بلغت كياستها.. ف "نيرون" الطاغية الذى قتل امه "أجريبينا"، بالسم لم يتوان عن قتل زوجته "أوكاتافيا" دون أن يهز قلبه شيء من الشفقة.

إن من يجسر على خيانه امراة قدسته في رحمها تسعة اشهر لا وفاء في فؤاده لأحد..!



13 


لأنني رجل.. فأنا مجبر على الصراخ..على القتال..على مناكفة الأخرين.. وعلى مصارعة هذا العالم بصورة مستمرة، لأن وجودنا الذكوري يكمن في اثبات شيء ما.. لكن ما هو هذا الشيء، ما لونه ومذاقه وشكله، هذا ما لا ندريه..؟!

لا يوجد رجل في الكون يدرك ماهية هذا الشيء.. خاصيته.. سره.. لذا هم مصارعون على الدوام..!

تستطيع المرأة أن تبقى ساكنة دون أن يلومها احد.. دون يجبرها أحد على الصراخ.. إنها غاية في ذاتها.. غاية كل رجل.. إنها كائن مرغوب فيه، وليس مطلوبا منها سوى أن تمارس طبيعتها في هذا الشان، وعلى الرجل وحده.. انتزاع.. تلك الرغبة إن سلما أو حربا.. وذلك وحده يعتمد على رقي الرجل وثقافته المتراكمة في التصرف..!

إن هذه الصراعات هي التي تفقد الرجل سلامه الداخلي.. تحيله إلى كائن خائر القوى دون أن يجسر على الإمتناع.. إن الكف عن مثل هذه الممارسات هو اعتراف ضمني مخيف بفقدان المآل من كل شيء..!

لذا لا استطيع أن اكف عن قلقي كرجل، حيال ما تنجبه لي الحياة من مخاطر.. علي على الدوام أن اكون في موقف دفاع أبدي، تجاه امور اخافها.. دون أن احيط بماهية هذه الأمور.. اشبه بالذى يجد نفسه في وسط غابة مأهولة بالكائنات الشرهة، وهو في حال يقظة مستمرة لاي مأرب منها إليه..!

إن هذه النزعة من الرجل تسللت منه إلى رفيقته في الحياة، إلى المرأة وسورتها من الجهات كافة كمومياء.. غدت المرأة اليوم مثقلة كالرجل في نزعات توجسه.. بعدما كانت هي الغرض في ذاته.. عليها أن تكافح مثلما الرجل تماما.. أن الحياة القاسية لن تأبه لجنسها الرقيق.. فهي بائسة.. قلقة.. تحمل الصخور وكأنها رجل، عوضا عن مهماتها.

لعل من هنا برزت نظرية كل من "فرويد" و "يونغ" التي تؤكد أن الموجود الإنساني هو ثنائي الجنسية.. أي خليط رجولة مؤنثة وانوثة مذكرة.


15 


تحدثني عن "ليدي غاغا" وعن الزمن، إنهما أمران مثيران حقا..!

يبدو لي أن هذه الدعوة تليق ب "مارسيل بروست"، هو الجدير بالزمن كله.. لعلها اختصرا زمنه الضائع في حفنة من القول..

إن الزمن عدو لمن هو عدو له.. إنه ك "هتلر" لا ولن يرحم كارهيه.. اسأل اليهود عن هتلر واسأل الزمن عن مطارديه..!

الزمن كدفقة ماء.. كخيط منسي انحرف مع الهواء.. كحرارة فستان المنطاد.. كدراجة نارية تقطع دروبا مستعصية.. كإمرأة ثكلى تنوح على ابنها الميت في الحرب.. كل ما سبق توليفات عن معنى الزمن.. وفي الزمن سر.. أنه لا ينتظر احدا.. ولا يدنو منك مربتا كتفك كأب محب مستدرا عطفه: يا عزيزي.. خذ ما تشاء من وقت يمكنني تعطيل انتظاري كيفما يشأ مزاجك..!

فإما أن تكون مهيأ له بكل تبرج وافتتان ومرح وجدية.. وإما أن تقف كتمثال حيث انت وفي يدك منشفة قطنية تمتص حسراتك الهاطلة..!

ولا ندرك متى يضعنا الزمن في حساباته

سأضيف: اصنع آلة زمنك.. اخضع زمنك الضائع لمصلحة زمنك القادم..حوله من مجرد اريكة للإسترخاء إلى منصة للقفز..كن املك.
اصفق ل "ماركيز" حكمته عن الحياة، حينما قال: "لا يولد البشر مرة واحدة يوم تلدهم امهاتهم وحسب، فالحياة ترغمهم على أن ينجبوا انفسهم"

حين تستفزك كل هذه المفارقات، لملم كل هواياتك.. رغباتك.. أحلام الاعوام الماضية.. مارس بجرأة ما لم تجسر على تجريبه سالفا.. إن جمال الأشياء يكمن في النهايات

الزمن هو أن نفعل ما نحبه..
الزمن يملكه أولئك الذين يؤمنون بجمال احلامهم..



17 


تقبضني احيانا فكرة مهولة وهي: ختام حياتي سقطة..!

استطالت هذه الفكرة في مخيلتي برعب مهول، حينما امعنت في آهات "جان جنيه" في نصه الأثير "راقص الحبل"، وهو يخاطب الموت في كيان صديقة الجزائري المنتحر "عبدالله:
" اذا كان لعشقك ولمهاراتك ولذكائك القوة الكافية، أن تكشف قدرات الحبل السرية، إذا كانت حريتك كاملة الدقة ومكشوفة، فسيجن الحبل ليرى قدمك "الملفوفة بالجلد"،لست انت أول من سيرقص وانما الحبل، ولكن، عندما يكون هذا في كينونته حبلا، وفي لا حركته يرقص، وتكون هذه صورتك القائمة بكل القفزات، فأين تكون انت؟ إن الموت - هذا الذى اتحدث عنه هنا- ليس هو الموت الذى ينبع من سقوطك، وإنما هو ذاك الذى يسبق استعراضك.. انت ميت قبل أن ترتقي الحبل.. إنه الراقص الميت"

هكذا أتخيلني دائما.. اسير بأصابع قدمي على حبل شبيه ب "حبل الراقص"، لهذا علي بمهارة وخفة بهلوان أن اعبر دربي إلى الحياة.

ذاك المجهول الذى يترصد استقراري، ليس موتا بمعناه التخيلي في كياني، بل يتوجس كدرب لولبي يسري بي إلى حيث اجهل..!

إن هدا المجهول يتلاعب بي، وأنا عشقت تلاعبه بي على هذا النحو المثير.. ذلك الانتظار المشنوق على فضول مستفز.. من الترقب.. من لهفة التمني..!

لعل ذلك مبعثه كوني امراة تعشق الافتراضات اكثر من مما تعشق الحقائق.. تمارس الحياة في دهاليز احلامها وتقتات بها بعين رضا، احب إليها من أن تكون ماثلة حولها كواقع.

في إمتلاك الأشياء ضجر.. بلادة حد التثاؤب..!

ما يلفت أو يهز كل حاسة من حواسك، هو تلك الأشياء التي ليس بمقدورنا إمتلاكها.. الأمور التي تناقض توقعاتنا هي وحدها تلبس حياتنا ثوب تشويق..!

ما عدت أخشى السقطات..!


إنها تجعل المرء يدرك وزنه الحقيقي في الكون.. إنها تجعل الكاتب - خصوصا- تركيبة غنية بالمفاعلات الإنسانية.. كم تثريه تلك الثقوب، فالمعذبون هم الجديرون بالتعبير عن وجه الحياة الدامي.. إن صرخات حناجرهم لا تدعي مطلقا.. إنهم اشد خصوم الافتراء.. يحتاج الكاتب إلى الخوف كحاجته إلى الأمن.. يحتاج إلى ان يسلخ جلده مشرط الألم كحاجته إلى فرح طويل الأمد.. فالكتابة الجادة المتناغمة مع أوجاع الوجود.. السابرة في اعطافها، لا يخوض عمقها سوى جسد صلبه تاريخ الألم.. قلب متعفن بدم الحياة.. وعقل متخم بغصة واقع مر كنبتة سامة..!

وهذا يشبه ما قاله "ديستيوفسكي" يوما ما، كرد على كاتب شاب جاء يسأله: " كيف يصبح يصبح المرء كاتبا كبيرا..؟ فأجابه: " أن يتعذب، أن يتعذب، أن يتعذب"

وهذا يشبه ما قاله الشاعر المرهف "ريكله": " ينبغي أن تموت ألف مرة لكي تكتب حرفا واحدا"

وحده الإنسان المتألم هو وجه الحقيقة..!

هو جسد منفوخ بالطاقات.. طاقة البوح.. طاقة الغضب.. طاقة القهر.. طاقة التحدي.. طاقة الحرية.. طاقة الرغبة والحق في الحياة حتى اخر قطرة.

عندما تسقط تعَرّف بشخصك الكائن فيك.. أي نعامة أو أسد هو انت.

اذا كان "دانيال سترن" يرى: " أن آلام الآخرين هي لغتنا الثانية"، فإنني. أضيف بإيمان مطلق: " آلام الكاتب هي لغته الأولى إذن..!

ففي حال الألم لا يكتب الكاتب هزائمه، بل حرقته وتمرده عليها..إن اعترافه الضمني في نفسه والمذاع بين الناس، في هيئة نص ادبي هو موقف يحسد عليه لجسارته..!


25 


"أحب أن اتأمل بين حين وحين الوجود من الجانب الآخر.. فمن جانبي كان الأمر مضنيا على الدوام.. ثم إنه منحاز.. احب ان انزظر لنفسي من الخارج.. أن افكر في نفسي بعقل غريب.. واحب على وجه الخصوص ان أشعر بنفسي بحواس العالم.. قاس أن نبقى دائما على الضفة بينما يمتد البحر حرا من كل قيد"

هكذا يعبر "رافايل أرغولول" عن "حواس العالم" في كتابة " صياد اللحظات"، وهو الشعور الذى اجدني فيه بإستمرار، أن تكون لي ضفة خاصة، ومنها أرنو على ضفتك.



26 


صادفت البارحة بين سطور دفتر مهمل في احد الأدراج، كلمات حشرج بها " فرناندوا بيسوا" بعمق:

" أنا اليوم مهزوم كما لو كنت أعرف الحقيقة..صاحي كما لو كنت على وشك الموت"



27 


لم يخطئ " وليام شكسبير" عندما قال: " بالنار يختبر الذهب، وبالذهب تختبر المرأة، وبالمرأة يختبر الرجل"

إن أفضل النساء.. هي تلك التي تخاطب في الرجل طفله الصغير القابع في سراديب روحه.. في قاع كل رجل طفل يحببه اللطف واللين.. طفل يعشق شراسة الحب.. يرغب في شهوة الحنان.. عبثي.. أناني.. مستبد.. غيور.. جانح.. وحدها امرأة من النساء تخضع هذا الطفل.. تلينه.. تعيد تكوينه.. تخاطبه بلسانه وعقله وقلبه وتضاعف من جنون مطالبه، بغرائزها كأم وعاشقة ورفيقة له..!

كل أطفال المرأة يكبرون سوى هذا الطفل.. فهو طفل آخذ بإمتياز..!
أنجبت من خلاله اطفالها الباقين.. لكنه أول طفل في حياة كل انثى.


32 


في خضم إلقاء الضوء على الكاتب وصلته بالموجودات من حوله، ثمة تساؤل قوي يحتك بي في هذه اللحظة بالتحديد وهو: هل الكاتب الذى يعجز عن إثارة التغيير في واقعه الراكد بقادر على أن يفجر تغييرا في العالم الذى يدور في دهليزه..؟!

ابداً.. الكاتب الذى عجز أمام افكار واقعه بالتغيير اكاد اجزم أنه لا يجسر على تغيير في واقع العالم..!

هكذا يواجهني فكري: لقد فشل في تحديه الصغير، فكيف إذن في تحديه الكبير..؟!

فعلى مستوى الواقع كان التمرد لصيق تركيبتهم الإنسانية.. تمردوا على شخوصهم.. تمردوا على واقعهم.. وهذا التمرد سرعان ما تعاظم وتمدد ككائن مهول لم يكتف بعالمه الصغير، فأراد عالما اكبر يليق بحجم تمرده وأحلامخ وتطلعاته في الحياة.

إن الحياة لا تمنح عظمتها على وجه اعتباط..!

" لوركا" قال مرة على لسان أحد شخوصه في مسرحية "ماريانا": " وما الإنسان دون حرية يا ماريانا، ودون هذا الضوء الثابت المتناسق الذى نشعر به في اعماقنا، وكيف يسعني أن احبك إذا لم أكن حرا..؟
قولي لي، كيف يمكنني أن اعطيك هذا القلب القوي إذا لم يكن ملكي..؟!"

في إرضاء الآخرين تكمن الخطورة، لأنك ستظل ذلك العبد الذى تخلى عن حريته الإنسانية التي منحت له.. تركها لأنه لم يجرؤ على تسخيرها لمصلحته، وهو قمة العبودية الإنسانية.. 
لأننا ولدنا احرارا..! 


الكاتب حين يتضاءل تمرده في واقع شخصه مع الآخرين، سوف تتضاءل نفسه أمام مرآته.. فمهما كانت البدائل التي استقاها ليرضي بها رغباته الصغيرة والآخرين لن تجدي نفعا.. فنفسه المتمردة التي عجزت في امتحانها لن تغفر له ذلك.

مفهوم التمرد في ذاته اعتراف بشي ما، سبق واعترف به الإنسان المتمرد.. هو تطلع داخلي يرغب فيه المتمرد بكل كيانه، كي يثبت وجوده أولا في واقعه ثم في واقع العالم.

يقول "رينيه شار": "افرض فرصتك، شد على سعادتك وضمها، واذهب صوب مجازفتك، هم لفرط رؤيتك سوف يتعودون".




الرسالة الأخيرة



من ذاكرة ليلى الصغيرة

سألتك مرة وأنا طفلة : لماذا عيناك صغرتا..؟  

احتوتني بدفء ابتسامتك النقية وانت تشير بيدك نحو عيني وأعين اخوتي، الذين كانوا متلاهين مع شقاوتهم: لأني منحت كل روح منكم جزءا منها. 

وبعدها ضحكت من قلبك وأنا صدقت أن الكبار يمنحون اجزاء من أجسادهم لصغارهم كلما انجبوا..؟ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق