03‏/12‏/2012

هيلين كيلر (4 /7)





في اليوم الثالث



وفي الصياح التالي لابد لي ايضا أن استيقظ مع الفجر لأنني ارغب في أن اظل 
على موعد مع اكتشاف المتعة الرائعة التي تتجلى في مطالع الشمس..

إنه من الجدير بأولئك الذين لهم عيون تبصر حقيقة أن يتخذوا من اغنية الفجر 
ومشهد الفجركل يوم وبكيفية دائمة يحتفلون فيها باستقبال هذا الجمال المتجدد..!

إن هذا اليوم سيكون في برنامج رؤياي المتخيلة هو اليوم الثالث والأخير من 
ايامي.. سوف لا يكون لدي وقت اضيعه في التأسف والتمني, هناك كثير من 
الأشياء التي ما تزال تستحق الرؤية.. لقد خصصت اليوم الأول لصديقاتي 
واصدقائي سواء منهم الحيوانات والجمادات بينما كشف لي اليوم الثاني عن 
تاريخ الإنسان وتاريخ الطبيعة..أما هذا اليوم سأقضيه في هذا العالم المتحرك 
المشتغل، عالم الحاضر بين ديار الناس ومتاجرهم, يغدون ويروحون لمشاغلهم 
في الحياة, واين يجد المرء هنا مكانا يحتوي على اكبر قسط من النشاط والحركة 
كما يجده في نيويورك ؟ ولهذا فإني اتجه شطر هذه المدينة في يومي هذا.

سأبدأ انطلاقاتي من بيتي بالضاحية الهادئة الصغيرة ( فوريست هيلس ) لونغ 
ايلاند، هنا حيث الحشائش الخضراء والأشجار والزهور وحيث تنصب بيوت 
أنيقة جميلة حيث اشعر بالسعادة مع الأصوات والحركات التي تنبعث من 
جماعات السيدات والأطفال, حيث ينعم الرجال بالراحة المطلقة بعد رجوعهم 
من عنائهم المتتابع بالمدينة.. سأخترق هذه المجموعة من الأبنية المتراصة من 
الفولاذ التي تكون جسرا غرب الوادي, وهناك سأشعر ببداية جديدة لمشاهدة 
القوة والعبقرية اللتين يتوفر عليهما هذا الإنسان.

سيقع بصري على هذا المراكب الراسية هنا، وفيها ما ينهمك اصحابه في 
الشغل المتواصل به، هناك سفن اخرى نزمجر في محاولة للقيام ببعض 
الحركات لو كانت لدي أيام اخرى طويلة ما تزال تنتظرني لكنت اقضي منها
نصيبا في تتبع هذا النشاط الرائع الذى يجري حوالي الوادي، ارى أمامي ذات 
اليمين وذات الشمال تنتصب المنارات الغربية, ناطحات السحاب التي عرفت 
بها مدينة نيويورك المدينة التي يظهر انها انحدرت من صفحات تاريخ مهول
ما اعظمه من مشهد مثير مرعب يتجلى في هذه البروج اللامعة! في هذه 
المصارف الرحبة الواسعة الأرجاء المشيدة بالصخور والفولاذ، بنايات يخيل 
إليك أنها من صنع جن بنوها من أجل انفسهم هم.. وهذه الصورة الحية هي 
جانب من جانب حياة ملايين الأشخاص كل مطلع شمس.. كم هو يا ترى عدد
الذين يعطونها اكثر من نظرة ثانية! إنهم قليلون فيما ارى إن عيونهم عمياء 
عن هذه المناظر الرائعة، لأنها بالنسبة إليهم أمست أمرا عاديا لا يحتاج لإعادة 
نظر، سأدير الخطى لأصل إلى قمة احدى هذه البنايات الشاهقة الضخمة بناية
إمباير ستيت لقد كنت في أوقات قصيرة خلت " رأيت " مدينة نيويورك ولكن 
من خلال عيون كاتبتي الخاصة، أما الآن فإني في اشد الشوق لأقارن بين 
الخيال وبين الحقيقة الواقعة في أني متأكدة من أنني سوف لا اشعر باكتشاف
مطلقا وأنا هذه المباني المتناثرة أمامي سيكون هذا بالنسبة لي مشهدا من عالم 
آخر.

والآن سأشرع في تجولاتي عبر المدينة بعد أن اخذت فكرة عنها من فوق 
أعلى بناية بناية, وفي بادئ الأمر سأقف في زاوية جد مزدحمة من المدينة 
يقصدها على الخصوص جمهور الناس وذلك لأحاول عن طريق النظر إليهم
 معرفة بعض الأشياء عن حياتهم وارى البسمات تعلوا الوجوه وأنا بعض 
مسرورة، وأرى العز والنشاط بشع من عيون الناس وأنا جد معتزة، وارى 
كذلك العذاب والعناء وأنا مشفقة.

سأتجول في شارع " فيفث أفنيو" وسأسلط نظراتي على النقاط التي يتجمع فيها
النور وذلك لأتمكن ليس فقط من رؤية الأشياء الخاصة ولكن فقط لمشاهدة 
الألوان الزاهية، إني متأكدة من أن هذه الألوان التي تمتاز بها ملابس النساء 
اللائي يسرن في هذه المواكب المتراصة.. إن هذه الألوان نمثل وحدها مشهدا 
بديعا لا اشكو منه التعب أبدا بيد أنه من الممكن – اذا كان لي بصر – أن اكون 
مثل أولئك النساء الأخريات مهتمة ايضا بالأشكال والأزياء التي تثير انتباه العامة
اكثر لجمالها وبهائها..ولأني مفتنعة كذلك بأن علي أن لقف أمام احدى واجهات 
المتاجر لأرى من خلال النوافذ..سأشعر يمتعة زائدة وعيوني تطوف بين آلاف الأصناف الجميلة المعروضة.

ومن شارع فيفث أفينيو سأطوف على المدينة " بارك افينيو" عبر الأحياء الشعبية
عبر المعاقل وعبر الحدائق التي يقصدها الأطفال للتلهي, وسأقف قليلا لأزور 
الأحياء الأجنبية.. وفي كل هذه التحركات ستكون عيوني مفتوحة على مصراعيها 
كما يجب وعلى كل المناظر التي تقع عليها عيوني , سواء منها الجميل والردئ
وذلك لأتمكن من النظر بعمق لأضيف إلى إلى معلوماتي شيئا حول الطريقة التي 
يعيش عليها الناس ويشتغلون إن قلبي مليء بالصور: صور الأشخاص وصور 
الأشياء ايضا.. وعيوني تمر دون ترو متغاضية عن الأمور الزهيدة إنها تكد 
وتجاهد من اجل أن نلتقط معها وفي انتباه ويقظة كل شيء تقع عليه, هناك بعض 
المناظر مما يدخل السرور على القلب بل مما يملأه انشراحا وغبطة, لكن بعض
المشاهد محزن فعلا.. وبالنسبة إلى هذه أيضا فإني لا اغمض عيني عنها كذلك
لأنها في نظري تمثل جانبا من جوانب الحياة, واعتقد أن صرف العيون عن مثل 
هذه المشاهد, ولو انها محزنة هو بالذات اغلاق للقلب واغلاق للفكر..

إن يومي الثالث من أيام البصر يقترب من نهايته ومن الممكن أن يكون هناك 
عدد من الأشياء الجدية التي تقتضي مني تخصيص بعض الساعات الباقية 
لرؤيتها بيد أني اعتقد أن مساء هذا اليوم الأخير يجب علي أن اقصد فيه ايضا 
إلى المسرح حيث انعم برؤية تمثيلية هزلية مضحكة وذلك ليتسنى لي أن آخذ 
فكرة عن واقع الكوميديا في الفكر الإنساني .

وعند منتصف الليل تكون الرخصة المؤقتة التي قضيتها بعيدا عن ظلمتي قد 
اخذت نهايتها, ويحل الليل البهيم الدائم من جديد ليخيم في ساحتي مرة اخرى
وبالطبع لم أر في هذه الأيام الثلاثة القصيرة كل ما كنت اريد أن اراه، وعندما 
ينيخ الظلام بكلكله علي, هناك سأعرف كم هي الأشياء الكثيرة التي تركتها 
واغفلتها دون أن اتمكن من رؤيتها بيد أن ذاكرتي ستزدحم بالذكريات المشوقة
 التي احتفظ بها منذ ذلك الوقت القصير الذى لآسف على فراقه, ومنذ هذا 
الوقت فإن لمس أي شيء سيحمل معه ذكرى حية عن حقيقة ذلك الشيء


ختاما .. افتحوا أعينكم !

ربما يكون هذا العرض الوجيز عن استعمال الزمن طوال هذه الأيام
الثلاثة من أيامي المبصرة أقول ربما لا يتفق مع المنهاج الذى قد
تختارونه لأنفسكم لو كنتم مكاني, ولكني مع ذلك متأكدة من انكم
اذا واجهتم هذا القضاء فإن عيونكم ستفتح أمام الأشياء التي لم
تروها من قبل مدخرين ذكرياتكم إلى الليل الطويل العريض الذى
ينتظركم..

كل شيء رأيتموه سابقا يمسي بالنسبة إليكم عزيزا.. ينبغي أن ترى
عيونكم كل شيء يدخل في دائرة عملكم..

عليكم أن تبصروا حقيقة الأشياء



إنكم إن فعلتم ستشعرون بأن عالما جديدا من الجمال يكشف نفسه
أمامكم..

أستطيع – أنا الكفيفة – أن اعطي اشارة فريدة لأولئك الذين يبصرون
أعطيهم عظة وتنبيها لأولئك الذين يرغبون في أن يستغلوا هذه النعمة:
نعمة البصر استفيدوا من عيونكم كما لو كنتم مهددين غدا بافتقاد هذه النعمة.

ولأن نفس النصح ينبغي تطبيقه على سائر الحواس الأخرى :
استمعوا إلى الصوت الجميل , إلى هزيج الطير إلى نغمات الموسيقى
كما لو كنتم غدا ستصابون بالصمم.. إلمسوا كل ما يستحق منكم
اللمس.. تنسموا أريج الزهور وعبير العطور, تذوقوا لذة كل طعام سائغ
لذيذ تتناولونه كما لو انكم ستفقدون غدا حاسة الشم والذوق.. تمتعوا
بكل مظاهر الجمال التي تتفتح أمامكم في هذه الدنيا على شتى الأشكال
التي تتقدم إليكم بها الطبيعة الخلابة..

إن كل هذه الحواس هبه تستحق الشكر بيد أن نور البصر
يعتبر من أجمل وأروع ما يدخل البهجة إلى النفوس !..

نهاية .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق