12‏/03‏/2013

كتاب المذاهب الأخلاقية الكبرى : (2)




الإنشقاقات الأخلاقية


يتم هذا العرض الموجز للأخلاق القديمة بذكر الصوفية الأخلاقية الإسكندرانية
(نسبه إلى الإسكندرية ) التي لم ينقصها في الواقع إلا "التنظيم الكهنوتي" كيما
تشكل دينا اصيلا ( واستخدمت من قِبل جوليان المرتد مثلا لمحاربة
انتشار المسيحية )

بيد أن العرض لا يكتمل بذلك اذ ينقصه الأبيقورية أولا , وهي مذهب موغل
في الصوفية دون ريب ولكن انكاره لكل ماهو "علوي" يحتم اعتباره ضمن
المذاهب الطبيعية , وينقص اذن بالتذكير البسيط بالموقف "الكلبي" المستند
إلى تبرير للجهد وللزهد ’ لكن المفارقات التي غالى بها انصار هذا الموقف
( ديوجين الشهير حوالي 350ق. م ) حين اعتبروا احتقار الثراء مثلا كدعوة
للتسول احاطته بسمعة مزيفة على انه "لا اخلاقية"

ولنذكر ايضا موقف "السفسطائيين" المعاصرين لسقراط الذى يعتقدون
بوجود عقل في الكون دون ريب , لكنه عقل ذو قاعدة وحيدة هي سيطرة
القوي على الضعيف , فليست "الأخلاق" التقليدية بالتالي ( وكذلك كل
مؤسسة انسانية اخرى ) سوى اتفاق وضعي يهدف إلى منفعة
هي الحفاظ على التوازن الإجتماعي .

وهناك النظرة الشكاكة التي استنها "بيرون" (حوالي 300 ق .م) منطلقا
من مفهوم اعتبار الكون "وهما" مستغلقا على العقل , فإستنتج مثلا اعلى
يقوم على اللا انفعال واللامبالاة بالأهواء والرغبات .

وكل هذه نظرات ليست "علوية" بالمعنى الصحيح ولكنها تستند على
أي حال إلى "قبليات"عقلانية اكثر من استنادها إلى دراسة علمية
وتجريبية للطبيعة .


2- الأزمنة الحديثة


أ- مونتاني وباسكال 


اذا لم نشأ النظر إلا إلى المذاهب التي لا يزال تأثيرها محسوسا حتى اليوم
فليس هناك من في أن نتاج "مونتاني" هو الذى افتتح التامل الأخلاقي
"العلماني" في العصور الحديثة وهذا النتاج يبعث على التوجس للوهلة
الأولى , اذ اننا نرى الوجه الذى يظهر فيه "مونتاني" يختلف اختلافا كبيرا
عبر جميع صفحات كتابه "الأبحاث" , فهو رواقي احيانا ( يستلهم
"إيبيكتيت" و"سينيك" بشكل ) ويحتقر الألم والموت و بيروني
" نسبه إلى بيرون" احيانا اخرى في مؤلفه المشهور "تبرير ريمون دي سيبوند"
الذى يندد فيه دون أسانيد بعجز ملكاتنا وبطلان معارفنا المزعومة مع عجرفتها
ويبدو لنا تارة أبيقوريا معتدلا قاعدته الوحيدة أن يقطف جميع الورود الموجودة
في متناول اليد ثم يبدو اخيرا محافظا براغماتيا - مشمئزا من الجدة مهما كان
الوجه الذى تحمله - , يؤمن بالسنه الموروثة وب "الأسلوب العام"

بيد أن هذا التنوع لديه ليس إلا ظاهريا يخفي ورائه في الواقع قناعة راسخة :
فهناك نظام طبيعي لا ريب في أنه من مشيئة الله - على الرغم من أن مسيحية
مونتاني مستترة فلا مجال للشك فيها - , ويوجد لهذا النظام اسباب عميقة كما
أن له غايات إلهية اما عقلنا المعرض للخطأ فلن يتمكن ابدا من معرفة أي شيء
بصورة اكيدة ويجب بإسم التسائل القطعي (ماذا اعرف ؟) ادانة الملحدين , ولكن
ايضا ادانة المتعصبين والمصححين من كل نوع , كما تتحتم بإسم نفس هذا
التساؤل ايضا القاعدة الأخلاقية الوحيدة "الإستسلام للطبيعة"كما خلقها الله مع
احترام تلك المقاييس الإجتماعية والسياسية إلخ - التي يبرهن قدمها على
صحتها وبالتالي الإفادة بكل الإرتياح من جميع المسرات والخيرات التي
تستطيع هذه الحياة تقديمها لنا , والهرب من القسر والإحتراس من تلك
العواطف اللاطبيعية كالتعطش إلى الثراءوعدم الثورة ضد الموت والألم لأنهما ضرورتين طبيعيتين ( وهذا هو المظهر الرواقي لفكر مونتاني ) .

لا ريب اذن في ان هذه الأخلاق تنتمي - بأساسها الخفي إلى زمرة الأخلاق العلوية
ولكنها من التحفظ وبهجة الطابع بحيث لا يمكن اعتبارها إلا كمجموعة مبادئ
تخص "الرجل الصالح "ذا التطلع المحدود بعض الشيء أو كفن سطحي
- لمعرفة كيفية الإستمتاع شرعا بوجودنا - وقد جرى التقليد على التقريب
بين إسم باسكال وإسم مونتاني الذى كان مصدر وحي كبير بالنسبة إليه ولكن
باسكال ليس في الواقع ذا مذهب اخلاقي وليس حتى فيلسوفا بل هو عالم
ومترافع عن الدين المسيحي , ولا يمكن تسميته "اخلاقيا" إلا من حيث كونه
رساما للأخلاق الممارسة , أو بصورة ادق لما يسمى اليوم ب "الوضع البشري"
وفي الواقع فقد اقتبس من هذه الناحية الكثير من "الأبحاث" - كتاب مونتاني - على
انه اسبغ عليها طابعا تشاؤميا بهدف الإمعان في ابراز ضعف الإنسان وقابليته
للعطب , فمخيلة الإنسان تخدعه باستمرار وهو حبيس متطلبات التلاؤم من كل
نوع , ويعجز عن الحكم على نفسه بنفسه , كما انه عبد لاهوائه "الترفيه" التي
يحاول عن طريقها الهرب من ذاته .

ولكن باسكال يضيف قائلا إن مونتاني قد حط كثيرا من الإنسان كما بالغ الرواقيون
وديكارت في المقابل بتقدير عقله , اما الإنسان الأصيل فهو مركب غريب من
البؤس والعظمة ولا يستطيع تفسيره سوى المذهب المسيحي وحده الذى يكشف
فيه عن الكائن الذى اسقطته الخطيئة ولكنه مع ذلك "ينتج من اجل اللانهاية".

وليس ما يتفرد به باسكال استنتاجه "اللاهوتي" ولكن بالأحرى طرائقه التي يبغي بواسطتها اقناع قارئه , وذلك على سبيل كمبدئه الذى ينص على أن لكل مجال
منهج خاص به , وبالتاليفإنه يجب على العقل المتفوق القوة في مجال الرياضيات
أن يخضع في مجال اللاهوت إلى سلطة السُنه الموروثه أو تلك الفكرة "العميقة"
التي قوامها أن ارادة الإيمان تقود إلى الإيمان اذ لا يمكن في الغالب الإنضمام إلى
مذهب إلا عن طريق الأفعال حتى غير الصادقة منها فيالبدء فهي التي تولد دونما   شعور -القناعة ووحدة السلوك .

وهناك على سبيل المثال ايضا تمييزه الأساسي بين "الرتب الثلاث" " جميع
الأجسام لا تساوي اضأل روح من الأرواح ... وجميع الأجسام والأرواح معا
لا تساوي اضأل بادرة احسان " ولعل هذا التميز يشكل اليوم اكثر من أي
وقت آخر أوقع تعبير عن ماهية أية اخلاقية .



ب - ديكارت

كان ديكارت ميتافيزيائيا عظيم الطاقة ولكنه لم يكن اخلاقيا مجددا , وذلك على
الأقل فيما يتعلق بقواعد الحياة التي اقترحها علينا والتي نجدها معروضة في
(مقالة المنهج التي وضعها عام1637) فهذه القواعد مزيج من البراغماتية التقليدية
( اطاعة قوانين واعراف بلادي ... إلخ) والوحي الرواقي ( الثبات في الآراء
ما أن يتم تبنيها وحتى لو لم تكن مؤكدة بشكل كامل [ أن احاول دائما تغيير
رغباتي بالاحرى عوضا عن تغيير نظام العالم] )
غير أن هذه القواعد لم تتصد لأن تكون اكثر من اقؤال اخلاقية ميتة بإنتظار
الأخلاق النهائية التي كان ديكارت يأمل استنتاجها من علمه ومن ميتافيزيائه
بعد اكتمالها , ولكن هذه الأخلاق التتويجية ( التي لم يتح له سوى رسم خطوطها
البدائية في مراسلاته وفي كتاب الأهواء) تلتقي بشكل متطابق تقريبا مع تعاليم
"مقالة المنهج" سوى انها تستند في هذه المرة إلى مفهوم عقلي عن الإنسان .
من المعلوم أن الإنسان يبدو لديكارت مؤلفا من "آله" حياتية- بيولوجية - ومن
"جوهر مفكر" منفعل بالنسبة لبعض وظائفه ( الهواء , الإحساسات , ...... )
ولكنه فاعل من حيث كونه ارادة ( قدرة لا متناهية على اعطاء أو رفض تحبيذنا)
ويسود بين هذه "الروح" وذلك الجسد تفاعل مستمر أو "وحدة" شاملة إلا انها   مستعصية بشكل عميق على الإدراك.

وبنتيجة ذلك فإن الأخلاق , وهي ليست فن القضاء على "الأهواء" كالإعجاب
والحب والحقد , بل فن استخدامها لجل تدعيم الأفكار والسلوكيات الملائمة للفرد
تجد نفسهاأي الأخلاق أمام طريقين :

- التاثير على "الأهواء" عن طريق الجسد (نظرا لوجود تفاعل) وهذا مصدر
الأهمية الأخلاقية للطب.

- التأثير عليها عن طريق الإرادة [ " فإما أن تركز هذه اهتمام العقل على
الأشياء المغايرة لتلك التي تولد الأهواء التي ينبغي القضاء عليها , أو أن تجعل
الجسد يتخذ مواقف تتنافر مع الهوى السيء , أو أن تفيد من تداعي الأفكار
لكي تحمل الهوى على تغيير موضوعه" كما قال "برييه" ] , فتكون هذه
الممارسة الحرة للإرادة في الواقع انقى الينابيع طراً "للإكتفاء" شريطة أن تتم
الممارسة وفقا "للعقل"... هذا العقل الذى يجب تعريفه ( وهذه بالطبع مسَلمة
ديكارتية) بأنه : اتجاه نحو وعي يزداد وضوحا بإستمرار للمحل الذى يشغله
الفرد في "الكل" ( الوطن , الإنسانية , الكون , الإله ) ونحو عاطفة حب وطاعة
للنظام الإلهي تزداد عقلانية بإستمرار , وهذا مصدر سلوك "الكرم" ( بحسب
تعبير ديكارت ) الذى يقوم على هجر كل مصلحة شخصية والخضوع الفعال
بحبور "للعلوية الكاملة" التي يتوقف عليها العالم بأجمعه , ويتفق ذلك فعليا
ولكن بصورة عقلانية هذه المرة مع وجهة نظر الرواقية ومفهوم " التقبل" لديها.


ج - مالبرانش



مالبرانش الأوراتوري ( نسبة إلى سلك الرهبنة الأوراتوري) وتلميذ ديكارت , اراد
في كتاب "بحث في الأخلاق" عام 1684 إكمال اخلاقية ديكارت عن طريق
البرهان على صحة مسلمته القائلة بوجود "استعمال حسن" للإرادة .

ترتبط اخلاق مالبرانش كل الإرتباط بمجموع فلسفته المتمحورة حول فكرة أن توقفنا على الله (توقف كلي شامل) وهكذا - بحسب مالبرانش - فإنه عندما (تعتقد) ملكة
الفهم لدينا أن لديها تمثلات عقلية فالواقع أن الله هو الذى يؤثر فينا بواسطة عقله
الخالد .

وعلى غرار ذلك حين يحثنا "ميلنا" في الظاهر على القيام بتصرف فاضل فإن
الله هو من جعلنا بتماس مع ارادته الإخلاقية أي مع ذلك النظام من الحقائق
الأخلاقية الذى يسود في روحه متناظرا مع تسلسل من الحقائق العقلانية, ونتيجة
ذلك أن كون المرء فاضلا يعني خضوعه لها النظام , دون أن يكون هذا الخضوع
ناجما عن طاعه بسيطة فحسب (لأنه ليس في طاقتنا في الواقع أن نقاوم الله بأي
صورة من الصور) ولكنه ناجم عن حب .

وما يعنيه حب النظام هو أن نوجه تصرفنا تبعا (لإعتبار واحد فقط) هو الرتبة
النسبية من الكمال التي منحها الله للمخلوقات ( فذلك الذى يقدر حصانه اكثر من
حوذيه أو يعتقد أن حجرا اجدر بالإعتبار من ذبابة) يرتكب إثما بحق النظام
وينحدر إلى هوة الشر .


تلك هي القاعدة الوحيدة التي يجب أن توجه الفاعلية العملية , فمن الواجب
الخضوع للأمير على سبيل المثال لأنه التقمص الأعلى في الأرض للجلالة
الإلهية- وذلك طالما كان الأمير ذاته خاضعا لها - كما أن من الواجب بذل
المودة والإحترام للناس على أن يكون ذلك بصورة متناسبة مع جدارتهم
(الحقيقية) , أي درجة مشاركتهم في الإله ( وهذا يعني بالتالي أن المبشر
المتواضع يستحق التقدير اكثر من عالم كبير ) .

ولكن ذلك لم يكن ميسورا إلا قبل الخطيئة الأصلية التي زيفت كل شيء
أما الآن فإن "ميلنا" (الذى كان مستقيما دوما فيما سبق) معرض للإنحراف
وليس معنى ذلك أن هذا الميل يستطيع فعلا معارضة الله , ولكنه يستطيع عدم
المشاركة تماما في ارادة الله الأخلاقية أو التوقف لدى الخيرات الجزئية
والأنانية

أما الفضيلة فتتضمن جهدا في التأمل العقلاني ( قد يكون مستحيلا بمعزل عن
اللطف الإلهي) هو الواسطة التي نصل عن طريقها عبر الظلام المخيم علينا
إلى أن نلمح مجددا نظام الكمالات الثابت .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق