14‏/02‏/2013

كتاب المذاهب الأخلاقية الكبرى : (1)






من كتاب : المذاهب الأخلاقية الكبرى
تاليف : فرانسوا غريغوار
ترجمة : قتيبة المعروفي








الأخلاقية العلوية ( العلمانية)



1- العصور القديمة
أ- اخلاق افلاطون 

الأخلاق الأفلاطونية هي المثال الأول في الفكر الغربي للأخلاقيات المبنية على
أساس العلوية ولكنها تشكل من بعض نواحيها مع ذلك تركيبا من التأثيرات السابقة
كما يتضح فيما يلي :
عن الفيثاغورثيين : اقتبست الأخلاق الأفلاطونية عن الفيثاغورثيين كما يبدو فكرة
أن النظام الإلهي الذى يهيمن على الكون ذو طبيعة رياضية , وأن الروح حبيسة
في سجن هو الجسد فلا تستطيع منه فكاكا ذلك بعد تقمصات عديدة كما يؤكد الفيثاغورثيون) إلا عن طريق قاعدة للحياة منسجمة مع هذا النظام قوامها الطهارة والتنسك واحترام التضامن (المتناسق) الذى يوحد بين الكائنات وكذلك ضبط النفس والعدالة , أي كل الفضائل التي يمكن تحديدها ضمن نطاق العلاقات, فالعدالة هي المساواة , والإعتدالهو القياس إلخ .

عن سقراط : سقراط الذى لا نعرفه إلا من خلال (المحاورات) الأفلاطونية فقد
اقتبس منه افلاطون دون ريب فكرة أن الأخلاق علم ومن الممكن تعليمه وذلك
أولا = لأن الإرادة مستقيمة دائما عندما تكون مستنيرة (هذا تاكيد محفوف بالشك)
ثانيا = لأن الخير هو مجموع القضايا التي تحقق التوفيق بين المرء ونفسه من ناحية وبينه وبين الاخرين من ناحية اخرى وهي قضايا عامة وبالتالي شبيهه بقضايا العلم


وما تهدف إليه الديالكتيكية السقراطية ( أي فن توليد العقول الشهير لدى سقراط) هو استخراجها عن طريق جهد تأملي جماعي وودي منصب على المفاهيم المقبولة من المجتمع بوجه عام ... هذه المفاهيم الجزئية والمتناقضة غالبا فيما بينها. وهكذا
فحسب يمكن عن طريق النقد العقلاني للآراء اكتشاف (القوانين غير المكتوبة)
الكلية والملزمة أي النظام الألهي .

وقد عرف افلاطون كيف يوسع مجددا مدى هذه الإتجاهات الأخلاقية وذلك عن طريق اسنادها إلى ميتافيزياء عامة أو بالأحرى عن طريق استخلاص المبادئ الميتافيزيائية التي تفترضها هذه الإتجاهات, وهذا مصدر مفهومه عن الكون ككل منسجم تهيمن
عليه (سماء) من المثل الخالصة غير المخلوقة وغير القابلة للتغير, وليس العالم المحسوس إلا تدنيا لهذه المثل منقوص وفان , أما الروح البشرية فهي من اصل إلهي
وقد عرفت (في السابق) نظام الجواهر هذا ثم انحطت إلى الجسم المادي الذى
يحيطها بالعتمة ويزيفها وهي تحتفظ بالحنين إلى ذلك النظام, وهكذا فإن طريق
السعادة والحكمة واضح إذن كل الوضوح أمامها ويقوم على نبذ المظاهر المحسوسة والفوضى المادية والجسدية, لأجل العودة بالروح إلى طبيعتها الأصيلة, وتحقيق
السيادة ( في داخل الروح وفي المجتمع) للفضيلة, التي هي ليست سوى صورة
المقاييس العلوية المتمركزة حول مثال( بالمعنى الأفلاطوني) للخير والتي ينظمها
مثال العدالة .

ويتم هذا (الهرب) الذى يقود إلى ( تقليد للإله) أي إلى الخير عن طريق سبر عقلاني بحت فهو يبدأ بجدل القلب والنفس ثم الجهد العقلاني للتخلص من ربقة العالم
المحسوس هذا الجهد الذى ينتقل بالروح من حقائق ناقصة إلى حقائق اكثر كمالا
حتى يقودها إلى حالة من التوازن الداخلي والوحدة أي بالتالي السعادة بل لعله
قد يتيح لها أن تنظم بعد الموت خالدة إلى (عالم المُثُل, ويعني ذلك بصورة عملية
أن يحقق المرء في نفسه أولا ثم في الجموعة تناسقا "متناسبا" مستوحى من النظام
الذى يكشفه الجدل العقلي(الديالكتيك) كما يلي :

-- لما كانت الروح مركبة من ثلاثة عناصر(الشهوات الفجة, الهوى الكريم لكن
العنيف, العقل ) فإن الإنسان الفاضل يدخل إليها - شبيها في ذلك بالموسيقى - توازنا صحيحا , وهكذا فإن الحوذي (العقل) يكبح جماح "حصان الهوى" الأبيض
ويستخدمه كمساعد له ضد "حصان الرغبات الأسود", هذا التوفيق صعب يتطلب
توترا مستمرا ولا يسمح بأية تسويات , يشير افلاطون إلى فضيلة التكفير والعقوبة
أما إذا اختل التوازن فإن اعادة النظام تستوجب الشدة- بالنسبة إلينا وإلى
الآخرين- كما تستوجب اعادة الصحة المختلة الكي والبتر (غورجياس)


-- كذلك الأمر بالنسبة للمجتمع حيث يجب اخضاع العدد الغفير لنظام وحيد
مما نجمت عنه " الأوثوبيا" الشهيرة التي بحثت في الجمهورية ....أي ذلك
التنظيم الإجتماعي الصارم الذى تتسلسل فيه طبقات ثلاث صعودا ( الصناع  والمحاربون والحكام) ويسوده مبدأ جماعي يميل إلى إلغاء أية نزعة إلى الفردية
الأنانية لدى المشتركين في المجموعة ,وهذا نوع من " الطغيان الفلسفي" بحسب
جانيه وسياي يهدف إلى اقامة انعكاس على الأرض للعدالة "الرياضية" التي تسود
العالم المثالي بحيث يتجلى هذا الإنعكاس بصورة ولاء شمولي للدولة ( يخفف
افلاطون في "القوانين" من صلابة اخلاقه الإجتماعية النظرية اخذا بعين الإعتبار الطبيعة البشرية العملية الناقصة ).


ب - اخلاق ارسطو



يقدم ارسطو المولود في مستعمرة يونانية في تراقيا صورة عن العقلية
اليونانية بمثله الأعلى الثلاثي ( القياس , العقل , الجمال ) تفوق في
دقتها - كما لوحظ غالبا - تلك التي يقدمها الأثيني افلاطون , فليس لدى
ارسطو شيء من ذلك المزيج الفريد الذى اختصت به الأفلاطونية أي
مزيج الشاعرية الصوفية بعض الشيء والتصلب الأخلاقي ( هذا ما جعل
افلاطون يبدو احيانا وكانه يتحدث منذئذ اللغة المسيحية وجعل من السهل
بالتالي على آباء الكنيسة الأوائل تقبله ), وكانت الخطوة الأولى في ميتافيزيائه
إلغاء مفهوم سماء "المثل" الصوفية :
فليست الحقيقة خارج عالمنا ولكن تحت ابصارنا في الكائنات وفي الأشياء
الأرضية غير أن ذلك لا يعني أن هذه الأشياء والكائنات خالية من النظام
ومن المعنى , فالكون يبدو لأرسطو كطبقات ( مستويات) من الواقع ينتظمها
تسلسل عظيم الإتساع تبطنه وتوجهه وتمتصه حركة جامعة نحو الكمال, وكل
فرد مزدوج التكوين فهو مركب من مادة ( هي قدرة على التغييرغير محدودة
ومبهمة ) ومن صورة أو قالب ( هي ميل إلى التنظيم والتحقيق البنياني للميزات
الطاقية للمادة) , ويستند كل مستوى من مستويات الواقع هذه إلى السابق مشكلا
في الوقت نفسه قاعدة للمستويات التالية , وهكذا يرسم الكون سلما مستمرا
يرتفع من حد إلى حد نحو المستويات العليا , واخيرا فإن هناك صورة الصور
( الإله أو المحرك الأول أو الخير )

أما قاعدة السلوك الإنساني التي ينتج عنها بشكل غير مباشر بلوغ المرء
السعادة فلا يمكن أن تكون بالتالي سوى انجازه ل "صورته" الخاصة به
على خير ما يمكن وتحقيقه ل "جوهره" وطبيعته إلى الحد الأقصى , ولما
كان المميز الإنساني هو العقل فإن الفاعلية الفاضلة تقوم على العيش طبقا
للعقل وهذا ما يعني انها ليست متوقفة علينا بشكل كلي بل يجب أن تكون
الظروف الخارجية ملائمة , أي يجب توفر (رضى الآلهة) ويعني ذلك
ايضا أن هذه الفاعلية تختلف بحسب الأفراد وبحسب استعداداتهم العقلانية .
وبالنتيجة فإن الفضيلة كما يحددها الكتاب الشهير "الأخلاق إلى نيقوماخوس"
لأرسطو هي عادة واستعداد راسخ مكتسب لتجنب أي تطرف والحفاظ في
كل شيء على "الوسط الصحيح" فلا ينبغي إلغاء الأهواء ( لأنها جزء من
طبيعتنا كما انها محركنا الداخلي) كما لا ينبغي اطلاق العنان لها( لأنها ستطغى
على العقل إذ ذاك , وهذا مظهر آخر من مظاهر طبيعتنا)ويطبق ارسطو
هذا المثال الأعلى للنظام والقياس والإنسجام على تحليل ما يجب أن تكونه
فضائل الحياة العملية :
السماحة : وهي المرحلة المتوسطة بين البخل والإسراف
العدالة: التي تقوم على الحفاظ على التوازن الإجتماعي بصورة متعاوضة احيانا
( العدالة الصارمة في المبادلات ) , وبصورة توزيعية احيانا اخرى ( التناسب
مع استعدادات كل واحد من ناحيتي العقاب والمكافاة )
الصداقة : وهي ان يهب المرء نفسه بشكل نزيه ومطلق , ولكن ايضا أن يكتسب
خير ما لدى الطرف الآخر اخلاقيا .

غير انه إلى الأعلى من هذه الأخلاق العملية تقع الحياة التأملية التي لا يمكن
بلوغها إلا للحكيم وحده , وتقوم على الإنصراف إلى الفكر المحصن وإلى
المعرفة النقية من كل شوائب الإعتبارات الأرضية وهي الوسيلة التي يقترب
بها الإنسان من الإله ويخلد نفسه ما امكنه الخلود خلال وجوده على قيد الحياة
وهذا ايضا حد متوسط بين الفضيلة اليومية وبين المشاركة المستقبلة في
الألوهية في الذكاء الأبدي .

وتكتمل هذه المفاهيم بسياسة اكثر "انسانية" بما لا يقاس من سياسة افلاطون :
الإنسان حيوان خلق لكي يعيش في مجتمع , وهو بالتالي درجة متوسطة بين
البهيمة والإله اللذان يوجدان منفردين , ولكن المجتمع - تلك الظاهرة
الطبيعية - ذو غاية واضحة ودقيقة هي تنمية الفضيلة لدى اعضائه ولذلك
فإن جميع الدساتير التي تميل إلى "تدعيم العقل بدون الهوى" لدى الفرد
صالحة , لكن تفضيل ارسطو ينصرف إلى الديموقراطية المعتدلة حيث
تعتدل الثروات في انسجام صحيح وكذلك الأمر بالنسبه للكفاءات كما هو بالنسبه للرغبات الخاصة , وهذه نتيجة منطقية لهذا التأمل الأخلاقي الذى يشكل
قاعدة لكنها" قاعدة رصاصية" قابلة للتشكل بحسب كل قالب من قوالب
الجزئيات الإنسانية كما انها رمز لما يجب أن تكون عليه الحياة الأصيلة :

أي التناسب المعقول بين النظام الكلي وبين المحل الذى يشغله فيه
الإنسان تبعا لطبيعته النوعية .


ج - الرواقية


هي مدرسة عرفت نجاحا كبيرا , فقد تأسست بحسب القول التقليدي من
قبل “زينون السيتيومي” حوالي عام 300 ق. م ووضع نهجها “كريسيب”
حوالي 250 ق. م وامتدت حياتها بصورة فعالة حتى القرن الثاني بعد الميلاد
عبر افكار “سينيك” و “إيبيكتيت”و “ماركوس أوريليوس” حوالي 160 ب. م
واثرت الرواقية في تأملات مختلفة عن بعضها كل الإختلاف كتأمل كل من
“ديكارت” و”باسكال” و “كانت” و “مين دي بيران” وذلك فضلا
عن غير الفلاسفة من امثال “كورناي” و ” فوفنارغ” و ” فينيي” و ” ميتيرلينك” .
وقد يميل المرء للوهلة الأولى إلى ربط هذه المدرسة بالمذهب الطبيعي
نظرا لكونها مبنية على اعتبار ” فيزيائي” خاص للعالم وتؤدي إلى هذه
القاعدة العامة : ( يجب العيش وفقا للطبيعة ) , ولكن من السهل أن نلحظ أن
“فيزياءها” المذكورة هي ماهيتها “ميتافيزياء دينية تقريبا” تنتمي إلى
ميتافيزياءات النظام المنسجم للكون , وإن “الطبيعة” فيها ( سواء في ذلك
طبيعة الفرد أو طبيعة العالم ) هي الفاعلية العقلانية الشاملة الوجود والتي
تبعث الحياة في كل ذرة من “الكل”, فالكون بالنسبة للوراقي “إلهي” بأكمله
لأنه وليد ” نفخة” أو ” نار”هي في الوقت نفسه الإله والعقل والحياة معا وكل
كائن ( ولا سيما الإنسان وروحه ) شرارة جزئية منها , اما المادة فليست
سوى تثاقل انتقالي في هذا “التوتر الخلاق” فهي ليست مبدأ يعارض الذكاء
الأعلى ولكن مجرد حالة دنيا لهذا الذكاء .

ولعل المفهوم القديم للوحدة الداخلية للأشياء يسود على أوضح ما يكون في
الرواقية وهي تلك الوحدة التي تجعل الكون يشكل جسما واحدا عظيم الإتساع
أو تكتلا منظما “يتضافر” كل ما فيه في سبيل هدف واحد ويتلاءم كل عنصر
فيه مع مجموع العناصر الاخرى تبعا لنظام عام , فالحكمة والحالة هذه تعمي
فهم هذا النظام وتقبله وما هو خير من ذلك المشاركة فيه طواعية واختيارا
من صميم الفؤاد , وأن يعثر المرء من داخل نفسه على الوحي الإلهي الذى
يتولد عنه كل شيء ثم يطور هذا الوحي ويقيه من كل هوى أو انانية أو رغبة
أي من كل ما هو “مادة” , وينبغي أن يكرر القول بأن المادة ليست سوى تخدر
موضعي في النار الكلية شبيه ( وهذه حالة من يرفض التعاون مع النظام , أي
الكافر أو الفاجر ) بالدوامات التي تتشكل في مجرى النهر وتحاول أن تجعل
من نفسها “افرادا” مستقلة .

وهكذا فإن الفضيلة تستند بشكل ماهوي إلى فعل وحيد هو التقبل النهائي للنظام
وهو فعل شبيه باللطف “الإلهي” المسيحي من حيث انه يحول طبيعة الكائن
ويمنحه دفعة واحدة ذلك الثبات … ذلك التجانس الداخلي … ذلك التوافق الذى
كان يفتقده مع العالم طالما كانت الأهواء هي التي تقود الكائن .. وقد استنتجت
الرواقية من ذلك (وبصورة منطقية تماما) نتائج تظهر فيها المفارقة كل الظهور
وكثيرا ما كانت الطبيعة المتكبرة ( كذلك الصعوبة الميتافيزيائية فيها : من اين
نبعت البادرة الأخلاقية أي ذلك الإنضمام التلقائي إلى النظام ؟ .. فإن كل مشكلة
الحرية الإنسانية - وهي المشكلة التي لم تستطع الرواقية ابدا اعطاء حل مرهق
لها - تكمن في هذه الصعوبة ) , تضع النتائج موضع الإنتقاد .
ليس هناك قياس مشترك بين الحكيم والاخرين كما لا يوجد ” نصف فضيلة”
فالفضيلة إما أن تكون كلاَ واحدا كاملا وشاملا أو ألا تكون على الإطلاق
( من هو حكيم مجنون ) , أما الفضائل الجزئية فتشكل مجموعة واحدة ومن
لا يمتلكها بأجمعها فهو لا يمتلك أية واحدة منها , كما أن من يمتلك واحدة
منها ما سبق فإن الإقفال أقل اهمية من الروحية التي ترافق القيام بها لأن
اتفاق الإرادة مع ذاتها وثباتها الداخلي العقلاني يشكلان ماهية ما يفرق بين
الحكيم والشخص العادي البسيط , واخيرا فإن المثل الأعلى القائم على
“المشاركة في الإله” يقود الرواقي إلى اللامبالاة المنهجية بكل ماهو
“جزئي” وإلى الإنعزال بالتالي عن العلاقات العائلية والإجتماعية
وهذا الإحساس يبدو للكثيرين غير منسجم مع الطبيعة الأصيلة للأخلاقية .
وفي الواقع فقد خفف الرواقيون عمليا بعض المتطلبات المنطقية لمبادئهم
بغية تسهيل التأثيرعلى معاصريهم , فأدخلوا إليها أولا مفهوم الأفعال
“المفضلة” و “الملائمة” التي تتيح ممارسة سلوك ” شبيه” بسلوك الحكيم
الحقيقي دون أن تشكل الفضيلة الحقيقية , ثم عمدوا بعد ذلك إلى تطوير فكرة
كان منهجهم يحتويها بصورة ضمنية , وهي فكرة أن جميع البشر( بما فيهم
الغرباء والعبيد ) اخوة بإعتبارهم جميعا وليدي نفس النفخة الإلهية , مما كان
من شأنه تعبيد الطريق لأخلاق اجتماعية مستوحاة من نظرة بشرية جامعة
ومحبة للانسانية مختلفة كل الإختلاف عن الإعتكاف المترفع الذى يستنتج
من مذهبهم نظريا لدى اعتباره من زاوية اخرى وألحوا ايضا على الجانب
الديني ( الذى يستطيع شمول جميع العبادات ويأذن بالصلاة , ذلك الفعل المعبر
عن التواضع الواثق تجاه ” الفاعلية المهيمنة” ) وهو الجانب الذى تتضمنه
فكرة العقل الكلي , واشاروا اخيرا إلى المعنى الأخلاقي للإستقلال الذاتي
الداخلي ( لا تتوقف الفضيلة والسعادة الأ على الرأي الذى نحمله عن الأشياء
وهذا الرأي من فعل ارادتنا وحدها ) كما اشاروا إلى باطل الخيرات المزيفة
كالثراء مثلا ( مما يجب ألا يستعمله الحكيم إلا كما يستعمل أثاثا في فندق )
وإلى عظمة الإستسلام الرفيع أمام الشقاء , الموت , الظلم .

وكان هذا المظهر الثلاثي والأخير هو الفكر الرواقي فأثر في 2000 عام
من التأمل الأخلاقي وهو الفكر المغلق من ناحية اخرى أمام مشكلة الإمكانيات
الواقية للإنسانية المتوسطة الضعيفة


د - الأفلاطونية المحدثة

شهدت القرون الأولى للمسيحية تطور تيار جديد في التأمل الفلسفي مركب
من الوحي الأفلاطوني , الفيثاغورثية , الميول التأملية والصوفية للحكمة
الشرقية . وتجسد هذا التيار ( حوالي عام 250ب. م) بتأسيس مدرسة
"أفلوطين" في الإسكندرية ( أثينا ذلك العهد)

وبحسب هذه الشمولية الإلهية أي وحدة الوجود ( الله هو الكل) الغامضة
والشاعرية فإن أصل كل شيء هو "الواحد" أي "الإلهي" .... وهو الخير
في كماله وتمركزه الأعليين ولكن فيه ميلا خلاقا داخليا جارفا يدفعه إلى
الإشعاع التلقائي متشعبا إلى قدر لا نهائي من "المُثُل" الخالصة , ثم إلى
التكرار في قدر لا نهائي من الأرواح الجزئية تحتفظ كل منها بجزيء من
ماهية "الكائن المطلق" ويرافق هذا التكرار بالضرورة تدن قوامه المادية
وظهور أفراد موجودين في الزمان وفي المكان .

أما الشر فهو التالي الإبتعاد عن " الإلهي" الأصلي , وأفدع من ذلك الإنغلاق
داخل هذه "النهائية" وهذا الإنحطاط وارتضائهما . وأما طريق الخلاص
فهي في حركة " تحول عكسي" هي عودة الروح تدريجيا نحو الإله حتى يتم
استغراقها فيه من جديد , وهذا ما تنجم عنه المراحل المختلفة للحياة الأخلاقية
وهي أولا ممارسة الفضائل المتواضعة ( التعفف , العدالة .... إلخ) التي تطهر
الروح بتحريرها إياها من الروابط المادية , ثم الحياة التأملية بعدئذ , أي البحث
في داخل الذات بواسطة " العين الداخلية" عن الحضور الإلهي , وهو بحث
صادرعن وحي جمالي أكثر منه عن وحي عقلي , لأن الجمال يشكل بحسب
"أفلوطين" الإنعكاس الأرضي للخصب الحي واللامتناهي للخير ويدل أخيرا
( لأن هذه المراحل ليست سوى تأهيل للحياة الإلهية ) نصل إلى الوجد
وهو الإتحاد العميق مع " الأحد " حالة الكمال والسعادة الكلية التي تُمنح
للحكيم وحده دون أن يتمكن من بلوغها إلا في العارض النادر , فهي تُمنح
له بنوع من اللطف الإلهي لا يستطيع هذا من أجله إلا انتظارا
( كما تنتظر العين المتجهة نحو الأفق الشمس التي ستشرق ) فيما يكون
قد علق في داخله كل فكرة وكل ما يتضمن تمييزا لذات أو لموضوع .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق