07‏/02‏/2013

"مرتكزات السيطرة الشرقية" : التقدم والاضمحلال



مراجعة : عاطف عطية
عن جريدة النهار



لعل اهم ما يتميز به كتاب فردريك معتوق، "مرتكزات السيطرة الشرقية"(1) اعتماده على معطيات تاريخية لتفسير وتحليل المرتكزات الاساسية للحضارات الشرقية التي تتجلى في الممارسات العملية للحياة اليومية. هذه الطريقة في معالجة السلوك الانساني – المجتمعي جديدة على القضايا الفكرية العربية لأنها تعتمد على معطيات ليس من اجل ذاتها، او اظهار دلالاتها واهتماماتها باعتبارها محطات اساسية في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، بل لاستعمال هذه الدلالات والاهتمامات من اجل الوصول الى مكان آخر: مكامن البنية الذهنية المجتمعية بعناصرها الاساسية وتكويناتها المتراكمة من خبرة طويلة واعية ولا واعية في الممارسة الانسانية، وفي كيفية انتهاج مناهج بعينها في شتى امور الحياة، وربط هذه الممارسات بأفكار هي دائماً في طور التشكل والتبلور. ذلك ان هذه العلاقة الدائمة والمستمرة بين جملة العلاقات الاجتماعية والبنية الذهنية، او المعرفة العامة، الواعية واللاواعية، المشكلة للممارسة العملية، والمعيدة تشكيل نفسها من خلال هذه الممارسة، هي عملية تفاعلية بين ما نحن عليه وما يمكن ان نكون – مجتمعياً - بالمعرفة والممارسة.

ما قدمه فردريك معتوق في هذا الكتاب الذي اوحى به وفرضه كتابه الممتع "مرتكزات السيطرة الغربية"(2) يصب في منحى استنباط مرتكزات الحضارات الشرقية من خلال تجليات تاريخ الشرقيين الحضاري، ان على صعيد التنظيم السياسي وانبثاق السلطة، او على صعيد انتهاجهم سبل المعاش، او العلاقة مع العالم الماورائي، او في كيفية تنظيم الحياة العملية في كل وجوهها، او في علاقات الخصام مع المحكومين، سياسة وموقفاً ونظرة متبادلة.

هذا التوجه في المعالجة فرض على الباحث النظر الى الشرق ليس باعتباره واحداً كما كانت النظرة الى الغرب، بل باعتباره مجموعة من الحضارات الشرقية لها ما يميزها عن بعضها بعضاً، من ناحية، وما يميزها، مجتمعة، ومنفردة، عن الحضارة الغربية. ولكن هذا التميز لم يلغِ ما يمكن ان يكون متشابهاً في عناصر متعددة من الحضارات الشرقية، وخصوصاً ما يتعلق بمسألة الفردانية في الحكم واطلاقيته المتوحدة واهميتها في استمرارية الحضارة المعنية او في إنهائها، في تقدمها، او في دورانها حول الذات، في تراكم معارفها او في تراصف هذه المعارف وانفصالها عن بعضها بعضاً بحيث تبقى من المآثر الفردية او اللمعات المضيئة في فضاءات مظلمة لا تنتهي.

قسّم معتوق المرتكزات الاساسية للسيطرة الشرقية الى خمسة، وخصّ كل حضارة بمرتكز واحد دون ان يعني ذلك عدم وجود هذا المرتكز الى جانب مرتكز آخر في حضارة اخرى. وهذا ما استدركه الباحث في خاتمة قوله في هذه المرتكزات، وفي ما خص كل حضارة منها. فاذا المرتكز، او المحرك الذهني الاول، عند الفراعنة، الهيمنة، مرتكز اساسي ايضاً لدى الهنود من خلال الدين، وعند العرب من خلال المعرفة التي هي دينية في الاساس ومحفزة لكل انواع المعارف الأخرى، قبل ان تكبح الإيديولوجيا الدينية محرك المعرفة ذاته. كما ان منطق الهيمنة نفسه فرض على الترك الاستسلام الى منطق الجباية والالتزام للابقاء على قوة رأس السلطة وديمومته. وهاجس الربح ذاته قضى على استمرارية الدولة، مثلما قضى هاجس الخلود على الحضارة الفرعونية. واولوية المحرك الديني ابقت على الحواجز الطبقية في الهند من اجل تأبيد الوضع القائم. ولم يتفلت من هذا التوجه الا صرامة التنظيم الاجتماعي واولوية منطق الدولة، كمؤسسات، في الحضارة الصينية، حمل المثقفون "الماندرين" لواء استمراريتها، ما ادى الى تقدم المجتمع الصيني، وخروجه عن منطق الدوران والعود على بدء.

ما قدمه فردريك معتوق من خلال التركيز على محركات ذهنية مخصوصة في الحضارات الشرقية التي انتقاها، خصّ منها المصريين القدماء بمحرك الهيمنة والفصل التام بين رأس السلطة والعامة، والتواصل من خلال فئتين تعملان على الهداية والجباية: القيام بالمتوجبات الدينية وتجميع الموارد المادية وما يستتبع ذلك من دقة واحتراف في التنفيذ. كما خص الهنود بمحرك الدين الذي يعلو، بما لا يقاس، على اي معتقد آخر مهما كانت أهميته، ليس باعتباره ديناً كوني الطابع ملازماً للتصور الإيماني برمته في الهندوسية (ص 42)، بل لأنه، بالاضافة الى ذلك، المعبّر عن التقسيم الطبقي الذي لا مجال لمناقشته. وهذا التقسيم، على سبيل الممارسة، يعمل بشكل دائم ومستمر على تداخل المسائل القيمية والدينية والاجتماعية والثقافية بما لا يقبل الفصل، او التفريق.

اما بالنسبة للعرب، فان اعتبار المعرفة هي المحرك الذهني لحضارتهم مسألة في غاية الأهمية، وان كانت تخضع للنقاش. فالمعرفة عند العرب معرفة دينية في الاساس. وكل المعارف مرتبطة بالمسألة الدينية، او منبثقة من الدين ومن الإيمان بأن الله منبع كل المعارف. ذلك ان تقدم الحضارة العربية في المجالات المعرفية كافة، العلمية منها والأدبية، كان نتيجة انفتاح العرب وقوتهم، اللذين لم يتعارضا (الانفتاح والقوة) مع الدين والايمان الديني، ابتداء من القرن العاشر للميلاد، الرابع للهجرة، ونتيجة لتقدم العقل على النقل في الصراع الفكري الذي بدأ بين المعتزلة والاشاعرة، وهو لم يتعارض ايضاً مع الدين، قبل نضوج العقل الفلسفي والقيمي العربي، من جهة، ولدخول عناصر فكرية غير عربية، فارسية وهندية وتركية واندلسية، اغنت المعرفة العربية بعد أن جذبها سطوع حضارة العرب، وساهمت في إضفاء البعد العالمي عليها، وفي تأثيرها على الحضارة الانسانية. وأهمية ما قدمه معتوق في هذا المجال تجلت في اظهار فلتات الشوط العربية عندما خف تأثير بيت الحكمة، وتوقف العمل على تطويره، او على تأ‘مين استمراريته. فاقتصر الأمر، من بعد، حسب معتوق، على ما قدمه المفكر العربي ابن خلدون، وخصوصاً في مسألة ربط المعرفة وتطورها بالعامل الاقتصادي – الاجتماعي، وازدهار الصنائع والفنون، وما قدمه ابن رشد في فلسفته التي يرد فيها كل شيء الى العقل، والى اولويته حتى في المسائل الدينية نفسها.

فلتات الشوط هذه، جاءت، تحت قلم معتوق، كنتيجة لغياب التراكم المعرفي عند العرب في غياب المؤسسات الفكرية الضامنة لهذه العملية والعاملة على استمرارها، او باقفال ما كان موجوداً منها بدل تطويره. ولم يظهر هذا التوجه الا بعد عودة نهج النقل في الدين الى الامساك بزمام المبادرة، كمؤسسات، تاركاً النهج العقلاني والعلوم والبحوث العلمية الى مصيرها. وما ظهر في هذا الاطار العقلاني بقي محكوماً بالتوجهات الفردية (ص 83).

اما في ما يخص الحضارة الفرعونية، فقد أظهر معتوق، بنظرة ثاقبة، كيف عمل محرك الهيمنة من خلال العلاقة المفصلية والوثيقة بين ممثلي المجتمع المصري، فئة الجباة وفئة الكهنة في علاقتهما المترابطة مع صاحب البيت الكبير، الفرعون، من ناحية، ومع عامة الناس والمزارعين، من ناحية ثانية، علاقة مصيرية تربط المجتمع طوعاً بالفرعون باعتباره ممثل قوة السماء في استمرار حياتهم على الأرض، والعامل على زيادة الانتاج المرتبطة بغزارة الفيضان، وبالتالي باستمرارية الاستقرار والبحبوحة، ما يؤدي الى ترسيخ هيمنة الفرعون، والى ترسيخ اقتناع المجتمع بالنظام العام الذي يكفل استمراره واستقرار حياته.

هذا التوجه المعرفي العام خلق لدى المصريين دافعاً قوياً لخدمة الفرعون وترسيخ نفوذه وهيمنته باعتباره من سلالة الآلهة الذي عليه تقع مسؤولية الاتصال بالعالم الالهي كواحد منه. ولأنه كذلك، فعليهم تأمين استمرار الوهته، حتى بعد الموت، من طريق تخليده كإله بواسطة التحنيط، ومن ثم اسكانه في مقره الابدي المبني خصيصاً له: الهرم. لذلك جاء العمل في بناء الاهرام طوعياً وحماسياً من جانب العامة والخاصة على السواء، كما جاء العمل والاجتهاد مضطرداً من اجل زيادة المردود المادي للبيت الكبير. فاقتسم، بذلك، نظرات المصريين عنصران: النظر الى الارض لاستدرار خيراتها لتأمين كل ما يلزم من موارد للبيت الكبير، ومن مواد تحنيط لتخليد الرؤوس الكبيرة في البيت الكبير، والنظر الى السماء باعتبارها موطن الآلهة وموئل توجه الفراعنة، ومكان سكناهم الابدي بعد الانتقال من هذا العالم بواسطة الاهرامات.

استحوذت نظرتا الانسان المصري الى تحت والى فوق على بصره وعلى بصيرته. فلم يجد منفذاً للنظر الأفقي، على حد تعبير معتوق، النظر الذي عليه ان يلحظ امكانات التفاعل الاجتماعي بين المصريين، وامكانات ايجاد المساحة المشتركة التي يمكن ان تجعل من المصريين مجتمعاً واحداً متضامناً ومتعاوناً للخروج من مأزق الولاء المطلق، وان الطوعي، لنظام سياسي اجتماعي يعمل على تأبيد نفسه، وعلى جعل محور الحياة برمتها يدور حول الفرعون، كشخص ونظام.

هذا التحليل القيّم يبين هنا بعض اسباب عدم الاهتمام ببناء الجسور المعمرة على جانبي النيل، وهي اسباب لا تعود، في كل حال، الى قصور ذهني لدى المصريين، وهم الذين بنوا الاهرامات – معجزة البناء في كل العصور – بل لانتفاء الحاجة اليها. فبقي المجتمع المصري متراصفاً ومشتتاً تشغله النظرة الى تحت والى فوق، وهي النظرة التي وصلت في الاخير الى مرحلة العجز عن الاستمرار.

اذا كانت هذه حال المصريين، فان الهنود عملوا منذ البدء على تقاسم الطبقات، وبقوا الى ما لا نهاية اسراها بقيادة العالم الروحي الذي يختصره البرهمانيون. وهم لذلك اسياد النظام والعاملون على تأييده، بحيث تحافظ كل طبقة على كينونتها، وعلى عدم ذوبانها في اي نطاق آخر، ولو كان هذا النطاق الدولة ذاتها، قديمها وحديثها. لذلك جاءت الهندوسية كعقيدة دينية في كل تفاصيلها عصية على الذوبان، او التبعية لأي عنصر مجتمعي ثقافياً كان أو سياسياً. فظهر الدين، هنا، على انه "نظام طبقي ازلي من الأفكار والقيم… (ص 48) غير قابلة للمراجعة والنقاش" (ص 49).

اضاء معتوق على ما ظهر لدى العرب كثورة معرفية بمجيء الاسلام. وصوّر بشكل نافذ البنية المعرفية عند العرب قبل الاسلام، وهي البنية المحكومة بذاتية القبيلة والفرد فيها، مع كل ما يستتبع ذلك من النظر الى الذات والى الآخر في زمن السلم والحرب. وكيفية انتقالها الى فضاء معرفي جديد يستبدل مصالح القبيلة بمصالح الدين الجديد، ويحيل دوافع الحرب القائمة على الغزو والثأر وإعلاء شأن رئيس القبيلة الى دوافع سامية تنطلق من الايمان بالله الواحد وفي سبيله، وتعلي من شأن الدين ونشره في العالم (ص 72). كل ذلك، وغيره الكثير، دل على تقدم العرب المعرفي، وحفزهم على سلوك مسالك مغايرة في المجالات كافة، كان لها ان تنحرف عن مسارها بتعطل المحرك المعرفي لعدم القدرة على مأسسته، والعودة الى محرك العصبية الذي اعاد العرب الى دوران التاريخ تتخلله اضاءات ساطعة في محطات متباعدة.

لم يشذ العثمانيون عن اعتماد المرتكزات نفسها في علاقة السلطان مع المجتمع، وهي علاقة تقوم على الجباية. لذلك كان توجه الدولة واهتمامها ينصبّان بالكامل على ضبط مناطق الواردات وإحصائها بالتفصيل لإبقاء الجباية في أحسن حال ليبقى السلطان في أحسن حال… الى ان بدأ العجز ينخر مفاصل الدولة بملء الخزائن المثقوبة بواردات محسوبة بدقة، دون ان يكون لها شأن في رتق الثقوب لارتباط مفهوم المال العام بمال السلطان. وبفراغ خزائن السلطان انهارت الدولة بانهيار خزينتها. وتبقى شخصنة السلطة سيدة المواقف، اذ "كان السلطان يتحكم بالبنيان المعرفي العام للدولة العلية… (كما) كان محركاً كبيراً عاش طويلاً على التعطيل العام، حتى تعطل" (ص 114).

تجاوز الصينيون الدوران في التاريخ، على ما يوحي به معتوق، من خلال صرامة التنظيم في الدولة، من ناحية، و"انسانية" الملك، لا قدسيته، من ناحية ثانية. ومن خلال وظيفة "المعلمين"، او المثقفين (الماندرين)، صلة الوصل بين الدولة والملك، من جهة، وبين الشعب، صاحب القرار في ايمانه وعلاقاته الاجتماعية، من جهة ثانية. هذه الوظيفة اختصت بتنظيم شؤون الانتاج وتغذية موارد الدولة تقوم بها طبقة من المتنفذين المتميزين بتمثيلهم للامبراطور وبعلمهم الكبير وبأخلاقهم المبنية على فلسفة عريقة أنتجتها الحضارة الصينية (ص 121). وهؤلاء كانوا "المعدل السياسي والاجتماعي للانتظام العام" (ص 122). وهم الذين أطلقوا لأول مرة في التاريخ ما يعرف بمنطق الدولة (ص 123). أتاح لهم كل ذلك السهر على المصلحة العامة من منطلق اقتناعات فلسفية لا من منطلق واجبات ايمانية. وأثمر تضامناً اجتماعياً قل نظيره في التاريخ. لذلك جاء التنظيم الاجتماعي الصيني متماسكاً يقوم على ثوابت انسانية جعلت من كل فرد مسؤولاً عن الانتظام العام ومدافعاً عنه (ص 127). ولهذه الأسباب نفذت الصين، بحكم تغليب منطق الدولة على منطق الشخص، امبراطوراً كان، او ملكاً، أو سلطاناً، من دوران التاريخ والعود على بدء، الى التقدم في مسيرة الانسانية. فحظيت الصين، لذلك، بالاستمرارية، وتتهيأ اليوم لتتصدر العالم المتقدم في كل القطاعات.

ما قدمه كتاب مرتكزات السيطرة الشرقية يتجاوز ما تتصف به كل حضارة من حضارات الشرق المنتقاة الى التعمق في العناصر التي تنبني عليها كل حضارة، مع تأثير ما يمكن ان يحصل مع تغير الاحوال في العمران الذي يمكن ان يؤدي الى التطور والتقدم، او الى التوقف والاضمحلال. رأينا بعضاً من ذلك، سياسياً، في كيفية نشوء العصبية ونزعتها الى الملك، ومن ثم سنّتها في التحلل والاضمحلال لتقوم على انقاضها عصبية جديدة، حسب النظرة النافذة لابن خلدون في ما عرف بدوران التاريخ. ورأينا بعضاً من ذلك، اقتصادياً، في ما عرف بالاستبداد الشرقي عند ماركس، وسوسيولوجياً، في ما عرف بمرتكزات النظام الابوي العربي: الدين والقرابة والعصبية، عند هشام شرابي.

ساهم فردريك معتوق، عبر هذا الكتاب، في تأسيس سوسيولوجيا معرفية لمرتكزات السلطة في حضارات شرقية عريقة ومعتبرة كان لها وجود ساطع، ولا يزال لبعضها، في التاريخ، قديمه وحديثه. وقد أخذ من معطيات التاريخ ما يفيد معرفياً، وما يغني سوسيولوجيا المعرفة العربية.

---------------------------------------------
1- فردريك معتوق، مرتكزات السيطرة الشرقية، مقاربة سوسيو – معرفية، دار 

الحداثة، 2009، بيروت، 144 ص.
2- فردريك معتوق، مرتكزات السيطرة الغربية، مقاربة سوسيو – معرفية، دار

 الحداثة، 2007، بيروت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق